أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - محنة العراق بين الديمقراطية والحرية















المزيد.....



محنة العراق بين الديمقراطية والحرية


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3611 - 2012 / 1 / 18 - 19:09
المحور: مقابلات و حوارات
    


وجهاً لوجه:
محنة العراق بين الديمقراطية والحرية
حوار- جهاد فاضل مع عبد الحسين شعبان
يعرض هذا الحوار مع الدكتور عبد الحسين شعبان لثلاث قضايا فكرية وأدبية، أولاها محنة الديمقراطية في العراق القديم وفي العراق الحديث على السواء، إذ المعروف أن تجربة الديمقراطية في العراقين معًا كانت تجربة هشّة قصيرة العمر، وكأن هناك جينات أصلية في العراق ذاته، إذا جاز التعبير، تعيق نموّ وتطور الديمقراطية، فكرًا وممارسة. في العراق القديم كان زمن المأمون، ومن إليه مجرد ومضة في ليل دامس، في حين سادت أزمنة استبداد أخرى طويلة من رموزها الحجاج والسفّاح. فإذا أتينا إلى العصر الحديث، لاحظنا أن العراق ما أن يودّع عصراً استبداديًا حتى يستقبل عصرًا استبداديًا آخر مع بعض الاستثناءات التي تغيّر من المبدأ العام الذي أشرنا إليه.
فإلام نردّ أسباب هذه الظاهرة؟
ثانية هذه القضايا هي تجربة ودور الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري في تاريخ العراق الحديث. للدكتور عبد الحسين شعبان دراسة مطوّلة عن الجواهري، الشخصية المثيرة للجدل وخاصة حول مواقفه بين اليمين واليسار، وصراعه حول جنسيته العراقية مع ساطع الحصري مدير المعارف خلال فترة الملك فيصل بن الحسين، فكيف نقرأ الجواهري اليوم قراءة باردة ومنصفة في الوقت نفسه؟
ثالثة هذه القضايا هي قضية التسامح، وحول فقه التسامح في الإسلام، كتب د. عبد الحسين شعبان كتابًا جميلاً. فماذا يعني التسامح، وهو عنقاء حياتنا العربية اليوم، في حين أنه الفريضة الغائبة والواجبة معًا؟ ولكن هل يعني التسامح مساواة الضحية بالجلاد على سبيل المثال؟
الدكتور عبد الحسين شعبان مفكر وباحث وحقوقي عراقي معروف، له العديد من الدراسات والأبحاث التي تتوزع بين الفكري والأدبي، وأبرز ما تتصف به نزعتها الإنسانية والتنويرية. وقد بدأ الكاتب المعروف جهاد فاضل الحوار معه بسؤال عن محنة الديمقراطية والحريات في العراقين القديم.. والحديث. وكان هذا جوابه:
ـــــــــــــ
النص الكامل للحوار الموسع الذي أجراه الاعلامي اللبناني المعروف الاستاذ جهاد فاضل مع المفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، ونشر القسم الأكبر منه في مجلة العربي الكويتية العدد 638، كانون الثاني (يناير) 2012.


د. عبد الحسين شعبان أحب أن استوضح من حضرتكم أموراً تتعلق بتجربتكم الفكرية وفي نفس الوقت تجربة العراق باعتباركم مفكراً وباحثاً ومؤرخاً: يلاحظ دكتور أثناء قراءة تاريخ العراق قديمه وحديثه، إن تجربته الديمقراطية في القديم كما في الحديث، تجربة قصيرة العمر وهشّة الى حد ما، وكأن هناك جينات في ذات العراق لا تتمكن الديمقراطية من أن تتوطن أو تستوطن فيه، مثلاً في القديم نلاحظ في الدولة العباسية كانت فترات الحرية، لاسيما حرية الفكر محدودة جداً في حين أن أكثر تلك الفترات كانت مظلمة، وإذا أتينا الى العصر الحديث، لاحظنا أن العراق ما أن ينتهي من حكم استبدادي حتى يبدأ بحكم استبدادي آخر وإن فترة تنفّس الديمقراطية كانت قصيرة جداً، كيف تلاحظون ذلك وما هو رأيكم فيما قلته؟

د.شعبان- إن وجهة النظر هذه تمثل رؤية قريبة الى الواقع الى حدود غير قليلة علماً بأن الديمقراطية كمفاهيم وحقوق وقوانين ومؤسسات وبالتالي كنظام، لم يبدأ الحديث عنها الاّ في القرنين الماضيين، وجاء تدرّجياً وتراكمياً أي أنه لم يأتِ دفعة واحدة، حتى انتشر وإتسع بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استكملت أوروبا الغربية مسارها نحو الديمقراطية بعد القضاء على دكتاتورية سالار في البرتغال وتوجهت إسبانيا نحو الديمقراطية بعد وفاة فرانكو الذي حكمها نحو 40 عاماً، وانتهاء عهد الجنرالات في اليونان، وذلك في أواسط السبعينيات، ولحقتها أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات، لاسيما بانهيار جدار برلين في العام 1989 وتفكك المنظومة الاشتراكية ذات الأنظمة الشمولية وإنحلال الاتحاد السوفييتي في العام 1991.

الدولة العراقية المعاصرة
وإذا أردنا الحديث عن الدولة العراقية المعاصرة، سنلاحظ ان تشكيل هذه الدولة شابه الكثير من النواقص والثغرات، بل أن تشكيلتها بحد ذاتها منذ التأسيس كانت تمثل إشكالية تفرّعت عنها مشكلات تعتّقت مع مرور الأيام، وانكشفت بالتدريج، بعد تراكم طويل الأمد: ولعل المشكلة الاولى التي عانت منها الدولة العراقية تتلخص في أن التراكيب الدولتية "الحكومية" لم تؤسس وفقاً لأسس صحيحة الديمقراطية، بل كانت هشة وناقصة ولم تأخذ بنظر الاعتبار، إرادة السكان بمختلف تنوّعاتهم الثقافية وتعدديتهم، وازداد هذا الأمر ضيقاً وانحساراً مع تطور الدولة وبيروقراطيتها من خلال التجربة العملية. لاحظ أن دستور عام 1925 كان دستوراً متقدماً على زمانه، على الرغم من أن البريطانيين ووزارة المستعمرة البريطانية، هي التي هيأت الظروف لكتابته.
بتقديري لم يكن هناك مشروعاً ديمقراطياً في العراق، بقدر ما يمكن اعتباره توجّهاً جنينياً لبعض آليات الديمقراطية، والأقرب عندي هو إرهاص ديمقراطي حاول واضعو الدستور العراقي الأول (القانون الأساسي 1925) بثّه في بعض ثناياه، الاّ أن هذا الدستور وضع على الرف تدريجياً، بل أهمل في السنوات الأخيرة لاسيما في الخمسينيات، حين تمت تهيئة الأجواء لمشروع النقطة الرابعة الأمريكي والمعاهدات البريطانية- العراقية والأمريكية - العراقية لعام 1954 التي تكيّفت لما بعد معاهدة العام 1930 ومعاهدة بورتسموث العام 1948 التي أسقطها الشعب.
وكانت تلك الإجراءات تحضيراً لحلف بغداد (حلف المعاهدة المركزية – السنتو) الذي انعقد في العام 1955 وانضم اليه العراق وإيران وتركيا وباكستان وبريطانيا، وكان الحلف رأس حربة ضد الاتحاد السوفييتي من جهة، لاسيما بدفع بلدان المنطقة لتكون جزءًا من النفوذ الغربي والصراع الدولي في عهد الحرب الباردة، مع إهمال وجود " إسرائيل" كبؤرة توتر وعدوان في المنطقة، ومن جهة أخرى ضد حركة التحرر الوطني، لاسيما بصعود دور جمال عبد الناصر، بعد كسر احتكار السلاح بشرائه من تشيكوسلوفاكيا في العام 1955، فضلاً عن نقطة انطلاق ضد التيار الماركسي والتيار الديمقراطي والتيار القومي العربي من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن مشروع القانون الأساسي (الدستور) أعدّ في وزارة المستعمرات البريطانية من قبل المستر يونيك والسير بونهام إدوارد (مستشار وزارة العدلية العراقية) وكذلك المندوب السامي برسي كوكس، ومشاركة عراقية ضمّت وزير العدلية ناجي السويدي ووزير المالية ساسون حسقيل، وفيما بعد لجنة برئاسة عبد المحسن السعدون وعضوية السويدي ورؤوف الجادرجي، فقد كان متقدّماً في عهده، الاّ أن المستوى المتدني من الممارسات اللاديمقراطية أفرغته من محتواه، فإضافة إلى تزوير الانتخابات شهد العراق فترة الخمسينيات قمعاً مكثفاً بإصدار قوانين ذات عقوبات غليظة، لما سمّي مكافحة الأفكار الهدّامة، حيث كان بالإمكان إتّهام كل وطني عراقي بها، من المنتمين إلى اتحاد الطلبة و إلى منظمة أنصار السلام ورابطة المرأة، إضافة إلى أعضاء الحزب الشيوعي والأحزاب الوطنية الأخرى، وكانت الأحكام العرفية حالة شبه دائمة، كما تقلّصت حرية التعبير إلى حدود كبيرة جداً، وساءت علاقات العراق مع سورية ومصر.
وبموجب هذه القوانين تم سحب الجنسية العراقية عن عدد من الشخصيات العراقية المعارضة بينهم كامل قزانجي وتوفيق منير اللذان أبعدا الى تركيا وعزيز شريف وكاظم السماوي وعدنان الراوي وآخرين، وجرت الهيمنة على البرلمان كلياً، وألغيّ الرأي الآخر تماماً، الأمر الذي هيأ الظروف لانقلاب عسكري، حدث يوم 14 تموز (يوليو) عام 1958، والذي أيّده الشعب، وهكذا اكتمل بثورة حظيت على دعمه وإسناده.
أما المشكلة الثانية فهي المشكلة الكردية، التي ظلّت مستفحلة، وشهدت كردستان ثورات وانتفاضات عديدة، فبعد معاهدة سيفر العام 1920، التي أعقبت ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية العام 1919 والتي اعترفت ببعض حقوق الأكراد، حصلت المساومة الدولية في معاهدة لوزان العام 1923 مع تركيا، وتم التنكّر للقضية الكردية التي غابت من الأروقة الدولية حتى العام 1991 عندما عادت بصدور قرار مجلس الأمن 688 في 5 نيسان (ابريل) القاضي بوقف القمع الذي تعرّضت له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، معتبراً هذا القمع تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين.
أما المشكلة الثالثة التي عانت منها الدولة العراقية فهي بعض الممارسات الطائفية التي ابتدأت مع تأسيس الدولة بصدور قانون الجنسية الأول رقم 42 لسنة 1924. ومن المفارقات أن هذا القانون صدر قبل الدستور، والذي وضع درجتين للجنسية "أ" و" ب"، ولم يعتمد على كون العراقيين هم المواطنون بالتأسيس طبقاً لمعاهدة لوزان لعام 1923، وإنما جعل من هم من التبعية العثمانية عراقيين، أما غيرهم فعليهم اكتساب الجنسية العراقية، والأكثر من ذلك حين اشترط القانون "شهادة الجنسية" كوثيقة داعمة للجنسية، وحرم القانون الكثير من عرب العراق من الجنسية العراقية الأصيلة، ممن لم يكن لديهم تبعية عثمانية، وبذلك بذر بذرة التمييز الطائفي قانونياً، علماً بأن مفهوم الجنسية كرابطة قانونية وسياسية حديثة لم يكن قد استقر آنذاك، فقد اعتبرت عشائر عربية معروفة كانت ترفض الجنسية العثمانية للتخلص من الخدمة العسكرية، غير عراقية أو أدنى " عراقية" من عراقيين آخرين قبلوا بالجنسية العثمانية، سواءً من الأرمن أو الأتراك أو الكورجيين أو الهنود أو غيرهم، في حين أن قبائل بني كعب وبني أسد وآل مالك الذين ينتقلون ما بين العراق وإيران على الحدود الشرقية، أصبح بعضهم عراقيين من الدرجة الثانية، بعد اكتسابهم الجنسية، ولكن حتى هذا الدستور الذي حدد الحريات والحقوق بشكل أولي جرى التراجع عنه لاحقاً.
جهاد/ أثيرت كل هذه الأفكار بفترة المشكل بين الجواهري وساطع الحصري؟
د. شعبان: بالضبط كان هذا في عام 1926-1927 وذلك يوم تقدّم الجواهري بطلب للحصول على وظيفة معلم، حينها طولب بالجنسية العراقية، فاحتار الجواهري: فما معنى الجنسية وهو العراقي وما المقصود بالجنسية وما هي امتيازات الجنسية؟ واتّضح ان جنسيته هي جنسية إيرانية، فطُلب منه أن يتقدم لاكتساب الجنسية العراقية، فوافق على الفور، علماً بأنه لم تكن له علاقة لا بإيران ولا بالجنسية الإيرانية، والتي كما أشرت حصلت عليها بعض العوائل والأسر العربية العريقة، لاعتبارات لا علاقة لها بالانتماء أو الهوية.
أزمة كتاب في التاريخ
أما القضية الثانية التي تصدّرت المشهد السياسي، فهي تتعلق بكتاب ألفه مدرس التاريخ اللبناني- الفلسطيني الأصل أنيس زكريا النصولي، وقد أثار ردود فعل كثيرة، عندما حاول فيه تمجيد الدولة الأموية بما اعتبر مساساً بآل البيت وبالثورة الحسينية، الأمر الذي وقف ضدّه بعض أصحاب الاتجاهات الطائفية مثلما دافع عنه الاتجاه الطائفي الآخر، في حين انتصر لحرية التعبير بعض الشباب من مختلف الانحدارات الطائفية، وقد ساهمت حكمة الملك فيصل الأول، بفضّ الاشتباك بشأن قضية الجواهري، فقام بتعيينه في تشريفات البلاط الملكي لوقف الفتنة الطائفية المندلعة، لاسيما بين ساطع الحصري مدير المعارف آنذاك وعبد المهدي المنتفجي وزير المعارف في حينها، والذي كان مادتها الجواهري، كما عبّر عن ذلك في مذكراته وفي حواراته معي وهي منشورة في كتاب لي عنه.
جهاد/ على الرغم من أن أصوله إيرانية فارسية
د.شعبان – بعض الذين حصلوا على الجنسية الإيرانية كانوا من أصول فارسية، ولكن بعضهم كان من آرومة عربية، لكنهم قبلوا أو فضّلوا اكتساب الجنسية الإيرانية للاعتبارات والامتيازات التي أشرت اليها. وفي كتابي " من هو العراقي؟" رويت كيف دار الحوار بين الرئيس الأسبق عبدالسلام محمد عارف وبين الوزير حسن الدجيلي، وذلك على هامش مناقشة دستور العام 1964، وعندما دار الحديث بينه وبين الرئيس عارف حول مفهوم الجنسية أو علاقة بعض عرب العراق بالجنسية، روى له الحادثة التالية وأرويها إليك الآن: ومفادها إن والده كان قد جاء الى النجف للدراسة في الحوزة العلمية، وعندما عرض عليه القنصل الإيراني الحصول على الجنسية الإيرانية وافق على ذلك، وذهب لإملاء الاستمارات للحصول عليها فلم يجد القنصل الإيراني، وفي المرة الثانية تقاعس عن الذهاب.
وأردف الدجيلي قائلاً يا سيادة الرئيس أنا بمحض الصدفة "عربي"، فردّ عليه الرئيس عارف ولكنك من خزرج فقال الدجيلي نعم، ولكن لو كان والدي قد أخذ الجنسية الفارسية لأصبحت إيرانياً الآن، وكذا أشخاص من قبائل عربية معروفة، أخذوا الجنسية الإيرانية، ليس حبّاً بإيران أو حتى لاعتبارات مذهبية، وإنما للتملّص من الذهاب الى الخدمة العسكرية، حيث كانت الدولة العثمانية تسوق أعداداً غفيرة الى سوح المعارك ويذهب الغالبية الساحقة منهم بلا عودة، وتختزن ذاكرة ذلك الجيل من العراقيين بقصص وروايات مؤثرة بعضها نقلها عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي، خصوصاً ما حصل في الحرب العالمية الأولى وخلالها.
ظلّت الجنسية مشكلة تعاني منها الدولة العراقية منذ عام 1924 ولغاية العام 2003، لاسيما وقد صدر عدد من قوانين الجنسية أو أجريت بعض التعديلات عليها، لكنها جميعها امتازت بالتشدد والابقاء على الفقرات التمييزية بشأن فئة " أ" وفئة "ب" مثل صدور قانون عام 1963 رقم 43 وهذا القانون، هو الآخر كرّس التمييز واشترط مرّة أخرى، وجود شهادة للجنسية العراقية، مثل القانون رقم 42 لسنة 1924، وصدر العديد من قرارات مجلس قيادة الثورة التي شدّدت على هذا الموضوع لغاية العام 2003، وكان أخطر هذه القرارات هو القرار رقم 666 الذي صدر في 7 أيار (مايو) عام 1980، والذي تم بموجبه سحب الجنسية عن عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين بحجة التبعية الإيرانية المزعومة، وقسم منهم عرب أقحاح أو خدموا اللغة العربية والأمة العربية مثلما هو الجواهري بعمارته الشامخة التي زادت على 20 الف بيت، وقسم من آل الحيدري أيضاً، وقسم منهم من آل الخليلي من أعلام الثقافة والآداب في العراق، وظلت هذه المشكلات تعاني منها الدولة العراقية وما زالت تعاني حتى الآن، خصوصاً وقد تداخل بعضها بالمعكوس أحياناً.
جهاد/د. إذا عدنا الى موضوع ديمقراطية العراق أو العراق والديمقراطية وأنت تعرف صدور موسوعات عن تاريخ التعذيب في الفترة العباسية، فإذا عدنا الى العراق الحديث وجدنا أن من الممكن أيضاً، أن يعتبر الباحثون أو المؤرخون على موسوعة أخرى مثل التعذيب في العراق الحديث، خصوصاً إذا أخذنا فترة ما بعد ثورة 14 تموز(يوليو) والصراع الحزبي بين القوميين والشيوعيين، ونلاحظ أن الاثنين هم زهرة العقل العراقي أو زهرة النخب العراقية، اصطدموا وتلاشت أي فكرة أو ممارسة للديمقراطية في تلك الفترة، أود أن أتعرف لماذا لم يستطع العراق أن يعمل هل التسوية ما بين الديمقراطية والتقدم.

د.شعبان- نعم دعني ألفت انتباهك الى أن أحد المؤرخين والتراثيين الجاديين أيضاً كتبوا عن تاريخ التعذيب في الاسلام وهو هادي العلوي، وكانت موسوعة قد صدرت عن عبود الشالجي إسمها موسوعة العذاب وتتألف من سبعة مجلدات وهي مهمة جداً، وبالإمكان الآن كتابة عدد من المجلدات إستكمالا لتاريخ التعذيب في العراق واحتدام وحدّة وشراسة الصراع ما بين القوى السياسية والاجتماعية في العراق.
الثورة أوقفت التطور
للأسف الشديد أن ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 قطعت خط التطور التدريجي في العراق على الرغم من كل السلبيات التي تحدثنا عنها في العهد الملكي، ولكن كان بالإمكان أن يحدث تطور وتراكم تدريجي، وإنْ كان بطيئاً، لكنه طويل المدى لإرساء دعائم توجهات نحو الديمقراطية حتى وإن كانت جنينية أو ملتبسة، لاسيما من خلال تدخّلات السلطة التنفيذية، خصوصاً فيما يتعلق بالانتخابات التي كانت تزوّر بأشكال مختلفة، لكنها كانت تشكل أساساً كان يمكن البناء عليه.
لقد توقفت ثورة 14 تموز (يوليو) في الأشهر الأولى من عمرها ولم تستطع أن تتقدم الى الأمام بخصوص قضية الديمقراطية، فبعد أن أنجزت انسحاب العراق من حلف بغداد ومن الكتلة الاسترلينية وحررت الاقتصاد العراقي من تأثيراتها، وألغت المعاهدات والاتفاقيات مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وأقامت علاقات متوازنة مع العالم بما فيه الدول الاشتراكية السابقة وغير ذلك، لكنها أبقت على فترة الانتقال التي زادت على أربع سنوات ونصف، وقد تبخّر كل حديث عن الديمقراطية واجراء انتخابات ودستور دائم، وبقي الدستور المؤقت الذي كتبه طيب الذكر الشخصية الديمقراطية البارزة حسين جميل يحكم العراق من 14 تموز(يوليو) 1958 لغاية 8 شباط (فبراير)1963 عندما حصل الانقلاب البعثي الأول، ولعل الدستور المؤقت الأول كان أقرب الى إعلان دستوري وليس دستوراً بما تعنيه الكلمة من معنى.
وبعد الانقلاب سنّ قانون المجلس الوطني وكان "مؤقتاً " أيضاً وبعد الانقلاب الذي حصل مجدداً في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 سنّت حكومة عبد السلام عارف دستوراً جديداً مؤقتاً آخر في عام 1964، وعندما حصل الانقلاب البعثي الثاني سنّ دستور جديد مؤقت أيضاً في أيلول (سبتمبر) عام 1968، وسنّت حكومة الانقلاب دستوراً مؤقتاً آخر عام 1970 واستمر هذا الدستور يحكم العراق 33 عام وهو دستور مؤقت الى أن وقع العراق تحت الاحتلال عام 2003!
للأسف الشديد أن النخب السياسية والفكرية العراقية لم تكن علاقتها إيجابية مع الفكر الديمقراطي ومع قضية الديمقراطية، ولا استثني حزباً أو جماعة أو تياراً منها، فقد كانت القوى الرئيسية بقضّها وقضيضها بعيدة عن التوجه الديمقراطي، وهي أميل الى الشمولية، وإنْ كان هناك استثناءات محدودة جداً ودعني أتحدث عن الحزب الوطني الديمقراطي ودور كامل الجادرجي وحسين جميل ومحمد حديد ونخبة من المثقفين اليساريين الديمقراطيين مثل عبد الفتاح إبراهيم وامتدادت جماعة الأهالي وعدد من أساتذة الجامعات بما فيهم ابراهيم كبة، ومحمد سلمان الحسن، ولكنها كانت نخباً محدودة التأثير.
أما التيار الأساسي الذي سيطر على الشارع آنذاك فقد كان الحزب الشيوعي يقابله التيار القومي بقيادة حزب البعث والأحزاب الناصرية، وكان الصراع ما بين التيارين قد دفع البلاد الى جادة العنف المفتوح والمستمر، ومارست الحركة الشيوعية ونظام عبد الكريم قاسم عنفاً فكرياً وسياسياً ضد الحركة القومية، كما نظمت محاكمات افتقرت الى المعايير القانونية الدولية لشروط المحاكمة العادلة، وقد عرفت "بمحاكمات المهداوي" وكانت أحكامها اعتباطية وأصدرت أحكاماً غليظة وكانت قاعة المحكمة عبارة عن منتدى للخطابات ومهرجاناً صاخباً، الأمر الذي وفّر تربة لبذرة العنف مجدداً في العراق بعد أن كان نوري السعيد قد هيأ لها، لاسيما بإعدام الضباط الأربعة الذين شاركوا في حركة رشيد عالي الكيلاني وهم: يونس السبعاوي وفهمي سعيد ومحمود سليمان وكامل شبيب وقد سبق هذه الموجة الدموية انقلاب بكر صدقي العام 1936 وهو أول انقلاب عسكري في العالم العربي، وفيما بعد قمع التظاهرات منذ عام 1946 وسقوط أول شهيد شيوعي إسمه شاؤول طويّق، ومن ثم إعدام قيادة الحزب الشيوعي عام 1949 فهد (يوسف سلمان يوسف) وحسين الشبيبي وزكي بسيم وآخرين.
ولعل ما حصل العام 1959 من عنف وإقصاء فكري وسياسي، قد تضاعف على نحو فظيع بعد انقلاب العام 1963، حيث شهدت البلاد موجة صارخة من أعمال العنف والارهاب والتعذيب،خصوصاً في مقرّات الحرس القومي، لاسيما الاعدام خارج القضاء، فضلاً عن كيدية وأعمال ثأر وانتقام.
أعتقد أن أحد الأسباب الأساسية لغياب الديمقراطية في العراق هو ضعف الثقافة الديمقراطية وشحّ الوعي الديمقراطي، لاسيما عدم الإقرار بالتعددية والتنوّع وقبول الآخر والاعتراف بحق الاختلاف والمنافسة الشريفة، الأمر الذي غلّب الاحتكام الى القوة والسلاح أحياناً لفرض الرأي.
ولعل السبب يعود أيضاً الى أن الوسائل التربوية ومناهج الدراسة والتعليم كانت بعيدة عن التوجّه الديمقراطي، ناهيكم عن الكوابح الاجتماعية البدوية والقبلية والعشائرية التي تشكّل عقبة أمام التوجه الديمقراطي، في ظل شحّ الحريات ولاسيما حرية التعبير وحجب الحق في تشكيل الجمعيات والنقابات وضعف أو انعدام المشاركة وغير ذلك.
جهاد/ إن غياب الديمقراطية في العراق أدى الى نتائج كارثية على العراق وعلى الأمة العربية، لاسيما وقد كانت العين على العراق ليصبح بروسيا العرب، وأنه سيوحّدهم وغيرها من الأحلام، ولذلك وإن انهيار العراق الديمقراطي، انهارت معه كل الاحلام العربية سواءً للعراق أو للأمة العربية في آن معاً، حتى وصلت للفترة الراهنة، حيث سنجد الصراع المذهبي الرهيب بين العراق الشيعي والعراق السني، ولعل ذلك نجم عن غياب الديمقراطية هل لديك تفسيراً لهذا الانشطار الذي حصل؟
د. شعبان إن غياب الديمقراطية يعود في جزء منه الى الصراع الدولي، الذي كان سائداً، في فترة الحرب الباردة، ولاسيما الصراع الآيديولوجي بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، وقد أدى ذلك الى انحيازات واستقطابات شديدة، خصوصاً لما أطلقنا عليه توجه "بلدان التحرر الوطني" الذي لعب فيه الجيش والعسكريون دوراً كبيراً في قيادة التحولات والتغييرات والثورات والانقلابات فيها، وبسبب السيطرة الاستعمارية الطويلة الأمد وما عانته هذه البلدان على يد المستعمرين فقد اختارت نموذجاً آخر للتنمية، هو الأقرب الى النموذج الاشتراكي وهذا ما حصل للعديد من بلدان آسيا وأفريقيا وأمركيا اللاتينية.
وبدأ الأمر لدى مصر وعبد الناصر عام 1952 حيث تم تهيئة التربة على صعيد العالم العربي وعندما بدأت ثورة 14 تموز(يوليو) اختارت هذا الطريق كجزء من المعادلة السائدة آنذاك، خصوصاً بصعود دور الجيش في عملية التغيير، ومن جهة ثانية لم تكن النخب الفكرية والسياسية ناضجة آنذاك، كما أشرت قبل ذلك. وكانت علاقتها بالديمقراطية ضعيفة، فضلاً عن أن قناعاتها بشأن التغيير، كانت تعتمد على القوة والعنف، وكان الإعتقاد السائد أن الاستحواذ على السلطة هو المهمة الأولى، التي يبدأ بعدها تثوير المجتمع وتغيير القوانين وإعادة بناء العلاقات بما فيها علاقات الانتاج وفقاً لأرادوية وأفكار جاهزة ومسبقة، ولعل قيادات معظم أطراف الطيف السياسي كانت محدودة الثقافة وكان وعيها بسيطاً، سواءً الشيوعيين أو البعثيين والقوميين، والأمر يتعلق بأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، لاسيما في ظروف العمل السري والقمع والملاحقة. فمثلاً بعد ثورة 14 تموز (يوليو) كانت قيادات الحزب الشيوعي قد جاءت من ثلاث روافد.
الرافد الأول: جاء من السجون وهو يكاد يكون منقطعاً عن العالم لعشر سنوات، أو أكثر مثل زكي خيري وعزيز محمد وآرا خاجادور وعزيز الحاج، وبهاء الدين نوري، وصادق جعفر الفلاحي وآخرين وكان تيار السجون منعزلاً عن الحياة العامة واليومية، ولا علاقة له بالدولة ولا يعرف كيف تُدار مؤسساتها وليس له خبرة بذلك، ثم كيف تصاغ المشاريع والبرامج وكيف تطبّق؟.
الرافد الثاني : جاء من الخارج وهو أيضاً منقطع عن العراق، ناهيكم عن الدولة ومراتبيتها، وقد كان عبد القادر اسماعيل مغترباً لنحو عقدين خارج العراق، ومحمد حسين أبو العيس وآخرين، وأصبح هؤلاء دفعة واحدة في القيادة ويقررون مصائر البلد.
الرافد الثالث: جاء من الأوكار السرية الحزبية مثل سلام عادل الأمين العام للحزب الشيوعي وعامر عبدالله وناصر عبود وجمال الحيدري الذي هرب من السجن وآخرين وهؤلاء لم يستطيعوا أن يتصوّروا أو يستوعبوا الزخم الجماهيري الذي حدث بعد الثورة، فضلاً عن أن رؤيتهم للدولة والادارة كان يشوبها الكثير من الأوهام، وإذا كانوا رجال سياسة محترفون وناجحون في العمل السري، لكنهم لم يكونوا رجال دولة.
أما التيار القومي العربي وخصوصاً القوى المؤثرة فيه فلم يكن يدرك معنى الدولة ومعظم أفراده وشخصياته من طلاب الجامعات، أو تخرجوا لتوّهم في أحسن الأحوال، فمثلاً كان الأمين العام لحزب البعث فؤاد الركابي لم يتجاوز عمره 28 عام يوم تم استيزاره، وكان علي صالح السعدي وحازم جواد وطالب شبيب ومحسن الشيخ راضي وهاني الفكيكي وحميد خلخال وستار الدوري وأبو طالب عبد المطلب، وشمس الدين كاظم وسعدون حمادي وتحسين معلّة وآخرين لا زالوا شباباً لا علاقة لهم بتجربة الدولة، وقد انخرط هؤلاء بالصراع متأثرين بمراكز القوى، وبالنسبة للبعثيين والقوميين، كان مركز القوى بالنسبة لهم عبد الناصر ودولة الجمهورية العربية المتحدة، فاندفعوا ضد الشيوعية التي اعتبروها مرادفة للصهيونية في مفارقة فكرية ساذجة وفي إطار الصراع السياسي الأعمى، وبالنسبة للحزب الشيوعي كان ثقل الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، قد دفعه الى شيء من الغرور والتعالي إزاء الآخرين.
وبسبب انخفاض مستوى الوعي الثقافي وارتفاع موجة الكراهية ومحاولات تصفية الآخر، ارتفعت شعارات صبيانية الى الواجهة، فقد كان البعثيون يهتفون بشعار الوحدة العربية الفورية خصوصاً بعد مجيء ميشيل عفلق الى بغداد وتبنّي هذا الشعار، والشيوعيون كانوا يهتفون بشعار الاتحاد الفدرالي والصداقة السوفيتية، وهكذا احتدم الصراع ليس على القضايا الأساسية التي تتعلق بالتحول الديمقراطي وبإنهاء فترة الانتقال لإجراء انتخابات لتأسيس مجلس تأسيسي أو لإنتخابات البرلمان أو للدفاع عن خبز الناس والسعي لتحسين وسائل عيشهم ورفاههم، بل ساد العراق صراع عبثي لا معنى له ووفقاً لشعارات معوّمة: الاتحاد الفيدرالي والصداقة السوفيتية أم الوحدة الفورية والقضاء على الشيوعية؟
وانعكس هذا الأمر على الواقع العراقي على نحو حاد، خصوصا ما صاحب ذلك من أعمال دموية وعنفية في الموصل وكركوك العام 1959، وما حصل في أقبية الحرس القومي عام 1963 وإعدام قيادة الحزب الشيوعي والعشرات من المثقفين والكوادر العلمية بما فيها اعتقال رئيس جامعة بغداد العالم عبد الجبار عبدالله، وهو ثاني رئيس جامعة في بغداد وكان من الطائفة الصابئية (المندائية) وسبقه الى رئاسة الجامعة متي عقراوي من الديانة المسيحية.
النقطة الرئيسة بتقديري هي سياسة الإلغاء والتهميش والعزل والإقصاء التي ظلّت مستمرة، فقبل ثورة 14 تموز (يوليو) كان نوري السعيد يريد أن يقصي الآخرين، لاسيما الحركة الشيوعية تحت عنوان مكافحة الأفكار الهدّامة، وكان يحتسب كل من انتمى الى منظمات نقابية أو اتحادات أو جمعيات مثل أنصار السلام ورابطة المرأة واتحاد الطلبة والشبيبة ينطبق عليه سيف الملاحقة القانونية وليس للحزب الشيوعي فقط، ومارس الشيوعيون هذا الدور بعزل الآخرين، أي القوميين والبعثيين، فكرياً وسياسياً، وخصوصاً خلال العام 1959، في فترة ما سمّي " بالمدّ الأحمر" .
وبعد العام 1963، مارست الحركة القومية، ولاسيما حزب البعث على نحو شديد البشاعة ظاهرة العزل متجسدة بقرار إبادة الشيوعيين المعروف بالبيان رقم 13 الذي صدر يوم 8 شباط (فبراير) 1963. وعمل حزب البعث على عزل الحركة الشيوعية والأكراد وبقية الوطنيين العراقيين بما فيه من حلفائه الناصريين، واستمرّ حال عدم الاعتراف بالآخرين حتى بعد الإطاحة بهم وتأسيس ما يسمى بتنظيم الاتحاد الاشتراكي بعد العام 1964.
وعلى الرغم من حصول نوع من الإنفراج، حيث بدأت بعض الأجواء تضغط للتلاقي الوطني بعد العام 1968، ولكن للأسف كانت الفترة محدودة وقصيرة ورافقها الكثير من المشكلات، وكان يمكن لجبهة العام 1973 أن تتطور لولا توجّهات انفرادية واستئثار بالحكم وبمؤسساته ومحاولة فرض الهيمنة من جانب القيادة المتنفذة في حزب البعث، عبر الاتجاه الواحدي الاطلاقي، الذي شمل حزب البعث ذاته وقاد هذا الاتجاه البلاد نحو كارثة حقيقية بالحرب العراقية - الإيرانية، وتوّجت بعملية غزو الكويت في 2 آب (أغسطس) عام 1990 وما بعدها حرب قوات التحالف، حيث تعرّض العراق الى محق حقيقي بفرض الحصار الدولي عليه وصولاً الى الاحتلال عام 2003.
لقد ساهمت الحرب العراقية- الإيرانية في تأجيج نار الصراع الطائفي في العراق، لاسيما بتهجير عشرات الآلاف من العوائل العراقية الى إيران بحجة التبعية الإيرانية، لكن الذي كرّس الطائفية وأعطاها بعداً سياسياً وملمحاً اجتماعياً هو بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد العام 2003، لاسيما بإقرار صيغة المحاصصة والتقاسم المذهبي والأثني، وهو ما أضفى على الصراع بُعداً جديداً، خصوصاً من خلال الامتيازات التي حصل عليها أمراء الطوائف. لقد كان الصراع بين الحكومات السابقة وبين فئات واسعة من السكان، لاسيما من خلال قوانين الجنسية السيئة الصيت والتمييز في بعض مرافق الدولة، حتى وإن اتخذ شكلاً سياسياً، لكنه وجهه الآخر، لاسيما ملمحه الطائفي أحياناً، انفجر بعد الاحتلال.
جهاد/ كيف تفسّر مواقف القوى السياسية من الديمقراطية في إطار مشروعك الفكري وقراءتك الانتقادية؟
مثلما أخطأت قوى يسارية، ماركسية وقومية بمعاداتها للديمقراطية وتعطيلها مسيرة التنمية ودفعت ثمناً باهظاً، فإن القوى الاسلامية لا تزال تسرف في موقفها السلبي من الديمقراطية لا في العراق وحده، بل في العالم العربي كلّه- وإن كان هناك بعض المراجعات، لكنها محدودة جداً ولم تختبر بما فيه الكفاية-، متذرعة بحجج شتى، فتارة بمبرر الخصوصية، وأخرى لزعم تعارضها مع الإسلام والأديان بشكل عام، وهو "الحل لكل شيء" حسب قناعتها، وثالثة بإدعاء أنها "اختراع غربي وبدعة مشبوهة"، خصوصاً عندما يجري تصويرها باعتبارها من وحي الثقافة المسيحية، ورابعة بمساواتها مع الشورى وأهل الحل والعقد، وإنْ كانت تلك قواعد مهمة للاقتراب من مفهوم المشاركة واستمزاج الرأي، الاّ أن الديمقراطية شيء آخر، وخامسة بتقديم ديمقراطية خاصة، تعارض قواعدها العامة التي وصل اليها المُنتظم الانساني، وفي أحيان أخرى جرت محاولات للجمع بين الديمقراطية والدين، واليوم يتم تقديم النموذج التركي، بدولته العلمانية ولكن بخلفية إسلامية، لكنه قد لا يكون نموذجاً قابلاً للتعميم أو للاستنساخ.
إن التعكّز على الخصوصية القومية والدينية والثقافية وهي مبررات استخدمتها جميع القوى الماركسية والعروبية والاسلامية، وإن كان لكل منهم أسبابه، لكنها لا ينبغي أن تكون في تعارض مع مفهوم الشمولية والكونية والمشترك الانساني. وإذا كانت الخصوصية مسألة ينبغي مراعاتها، الاّ أنه لا ينبغي أن تسير باتجاه تقويض بعض المبادئ العامة الديمقراطية بدعوى الخصوصية، بل بالعكس فإن الخصوصية، لا بدّ لها أن تتوجّه لتدعيم المعايير العالمية، والإضافة إليها وليس الانتقاص منها.
إن الخصوصية تؤكد التنوّع الاجتماعي والثقافي والديني والتاريخي وفي العقلية والتقاليد بين شعوب وبلدان العالم وثقافاتها المختلفة، لكنها لا ينبغي أن تكون عقبة في طريق المعايير الكونية، كما لا ينبغي استخدامها حجة للتحلل من الالتزامات الدولية، التي أصبحت شيئاً فشيئاً قواعد آمرة- ملزمة، وأحياناً يتم منح الحق، ثم يتم تقييده أو حتى حجبه أو تلغيمه.
الإتجاه الانكاري للديمقراطية يعتبرها صناعة غريبة، ولعله يرفض تأكيد الرافد الاسلامي والعربي للديمقراطية، باعتبارها منجزٌ بشري وأسلوب وآلية لعلاقة الحاكم بالمحكوم، وعلى الرغم من أنها نتاج الثقافة الغربية خلال القرنين الماضيين، الاّ أن قراءة متأنية لحضارات الأمم والشعوب بما فيها للمنطقة العربية، ستكشف أنها لا تخص الغرب وحده وإنما إنعكاس على تفاعل الثقافات والحضارات، ولكل حضارة رافدها الثقافي، مثلما يوجد رافد آخر عكسي بالضد منها، سواءً في الغرب أو في العالم العربي.
الديمقراطية بهذا المعنى هي نتاج ما أنجبه العقل البشري وهي ليست حكراً على شعب وأمة أو دولة أو مجتمع أو دين أو ثقافة أو حضارة، وإنما هي معايير عامة يمكن للأمم والشعوب والمجتمعات والاستفادة منها وتكييفها وتطبيق قواعدها العامة طبقاً لخصائصها وتطورها التاريخي. وقد ذهبت الأمم المتحدة.
وإذا كانت الديمقراطية بناءً تراكمياً طويل الأمد وتطوراً تدرجياً سلمياً ، فهي بحاجة إلى مؤسسات، مثلما هي بحاجة إلى قوانين وآليات ، وقبل كل ذلك هي بحاجة إلى توّفر إرادة في الإصلاح والتغيير، ولعل تجربة أمريكا اللاتينية في الانتقال إلى الديمقراطية تشكّل نموذجاً مهماً بحاجة إلى الدراسة كما هي تجربة جنوب أفريقيا إضافة إلى أوروبا الشرقية، وهي تجارب ليست للاستنساخ أو التقليد، بل للاطلاع والاستفادة.
ويمكن إلفات النظر الى المرجعية الدولية المهمة على هذا الصعيد، والتي يمكن التمسك بها من خلال قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 81 الصادر في 4 كانون الأول ( ديسمبر ) عام 2000. وهو القرار الذي حمل عنوان " حول تعزيز الديمقراطية وتوطيدها"، وتكمن أهمية هذا القرار كونه حظي بموافقة جميع البلدان العربية ، ولم يعترض عليه أحد أو يتحفظ عليه كلاً أو جزءًا ، بما يمكن إعتباره وثيقة مهمة يمكن التعكّز عليها من جانب كل بلد عربي وبخاصة قواه الحيّة المؤمنة بالإصلاح الديمقراطي، في السلطة وخارجها ومن معارضتها أيضاً ، في تكييف ظروفها لإنجاز مشروع تعزيز الديمقراطية وتوطيدها استناداً إلى قرار الأمم المتحدة .
وقد أكدت المرجعية الدولية على:
1- لا وجود لنموذج عالمي واحد للديمقراطية.
2-الديمقراطيات تتقاسمها خاصيّات مشتركة، أي أن هناك مشترك إنساني من خلال تفاعل الثقافات وتداخل الحضارات وتشارك الفلسفات في التطور الدولي لإنضاج الفكرة الكونية حول الديمقراطية.
3- الطبيعة الغنيّة المتنوّعة للمجتمعات البشرية، أي تقدير الخصوصيات ودورها في رفد الفكرة الكونيه للديمقراطية .
4- الحكم الصالح وسيلة للوصول إلى الديمقراطية من خلال المراقبة والمحاسبة والشفافية ومكافحة الفساد (المالي والإداري والسياسي) وكذلك في المجال التشريعي والقضائي وغير ذلك.
5- المجتمع المدني والدور الذي يمكن أن يلعبه، وهنا يمكن القول إن المجتمع المدني يمكن أن يسعى لكي يؤدي دوراً توافقياً وليس تعارضياً حسب، ومتوائما وليس ارتيابياً أو تشكيكياً حسب، واقتراحياً وليس احتجاجياً فقط ، وإنْ كان هناك تكامل بين الأدوار والمهمات وخصوصاً من خلال العمل والنشاط والظرف التاريخي والمهمات المطروحة .
في إطار آخر يعتقد البعض أننا لسنا بحاجة الى "استيراد" الديمقراطية، فكل شيء موجود في الشريعة الإسلامية، ولا يوجد شيء خارجها، لأنها تمثل الريادة والأفضلية والتميّز على جميع القوانين والقواعد الوضعية. ولعل تلك الأطروحة لا تعني سوى عدم التفاعل مع منجزات التقدم البشري، لاسيما في عصر العولمة وذلك بمحاولة ارجاع كل شيء الى الماضي على اعتبار "بضاعتنا ردّت إلينا"، بل تفسير كل ما هو راهن ومعاصر بأدوات الماضي، وعلى الرغم من أن ذلك غير ممكن وليس صحيحاً، وهو لا يعني سوى محاولة لإسقاط الرغبات الإرادوية على الواقع الزاخر المتحرك، وعلى التراكم والتطور الذي شهده العالم فيما يتعلق بأنظمة الحكم والمسألة الديمقراطية.
وحاول بعض الاسلاميين وبعض الماركسيين والعروبيين بحسن نية أو دونها التوفيق بين الاسلام وسواه من النظريات الحديثة أو حتى تكييفها لأحكامها أو تكييف أحكامه لتنسجم معها، وجوهر الفكرة هو محاولة التوليف بين التراث والمعاصرة، سواءً كانت بانتقائية أو محاولة إزالة أو حتى تجميد بعض نقاط الخلاف، وقد جرت مثل هذه المحاولات في الخمسينيات في إطار العروبة والاسلام ومن ثم الاشتراكية والدين أو الماركسية والإسلام وقيل حينها مركسة الاسلام أو أسلمة الماركسية، واليوم يجري الحديث عن الديمقراطية وحقوق الانسان والاسلام، وإن كان لهذه الاطروحات بعض الإيجابيات، لكنه أحياناً يتم الخروج الى شكل هجيني لا يجمعه جامع مع هذا أو مع ذاك، لاسيما إذا تم التجاوز على بعض القواعد العامة للديمقراطية وحقوق الانسان بحجة الخصوصية، ولكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار القيم والمثل المشتركة، فيمكن البحث عنها في الأديان والأفكار والفلسفات، وذلك هو ما ينبغي إعلاء شأنه، خصوصاً إذا وقفت الدولة محايدة ووضعت مسافة واحدة من جميع الأديان وتعاملت على أساس المواطنة والمساواة.
ويقابل المفهوم الانتقائي مفهوم اغترابي يرفض التراث بحجة الانطلاق الى عالم الحداثة والديمقراطية ، وحسب وجهة نظره فإن التراث سيكون مسألة عقيمة ومعيقة، وإذا ما أريد دخول عالم الحداثة، فينبغي الانقطاع عن الماضي غير الديمقراطي، وهو ما يمثل تاريخنا العربي والاسلامي. ولعل تلك نظرة عدمية الى التراث من زاوية سلبية.
أما المفهوم الحضاري فهو يختلف عن الدعوات الانكارية أو التغريبية، ويأخذ الاسلام حضارة كاملة، لا يمكن تجاهل تأثيرها السابق واللاحق على الانسانية والفكر البشاري وهو يتفاعل ويتداخل مع الحضارات المختلفة، حتى إزاء بعض الأفكار التي رفدت الفكرة الديمقراطية على المستوى الكوني.
لهذا لا يمكن إختطاف التضحيات الجسام ولسنوات طويلة بخصوص الإصلاح والدعوة إلى الديمقراطية على المستوى الداخلي، وتصويره وكأنه فعل إراده خارجية أو سعي جهات مشبوهة أو معاديه، خصوصاً بإجراء فصل مصطنع بين جدلية الداخل وجدلية الخارج، التي لها تأثيرات متبادلة، موضوعياً وذاتياً، وبصورة مباشرة أو غير مباشرة .

جهاد/ لديّ سؤال أخير عن كتابكم عن الجواهري، قرأت هذا الكتاب بعناية شديدة لأنني أعتبر نفسي أحد المتخصصين في الجواهري، وأعتبره أهم الشعراء العرب في القرن العشرين الى جوار صوته وعمالقة آخرين. أحب أن أستوضح منكم أمرين لم أجد أن لهما تفسيراً وقد تكون قد عالجتموها في هذا الكتاب أولهما الجواهري بين اليمين واليسار ثم الجواهري ومدى علمانيته، إن جاز التعبير، لأنني أعرف أن علاقة قوية بالشيوعيين سنوات طويلة وكان له صلات ثقافية وسياسية باليساريين العراقيين وبالحزب الشيوعي العراقي وبالكتلة اليسارية وألمح أحياناً بعض تلوثات مذهبية في صلته أو سفره الى إيران في حين لم نشاهده إصطف، في تأييد حركة رشيد عالي الكيلاني مثلاً أو تأييد الحركة القومية العربية بالدعوة الى الوحدة العربية، وأشعر أن عراقيته كانت أحياناً تراها مطعمة بنزعة شيعية إن جاز التعبير وليس العراق العربي القومي مثلما نعرفه، أحب أن أستوضح رأيك في هذا الموضوع؟.
مدرسة الجواهري
د. شعبان/ هذا الموضوع مثير حقاً، فالجواهري بحد ذاته مدرسة خاصة ومتميّزة، ليس في الشعر والأدب بشكل خاص، بل في السياسة والوطنية بشكل عام، لاسيما حفاظه على استقلاليته. وهذه المدرسة لا تصنّف الاّ بذاتها ولذاتها، لأنه يستعصي على المرء الذي يريد اختزاله بوضعه أو تصنيفه مع هذا الفريق أو ذلك، أو مع اليسار أو مع اليمين.
يمكنني القول أن الكثير من المشتركات تجمعه بالتيار العلماني بمعنى أنه أقرب الى فصل الدين عن الدولة، وهو أقرب الى دولة مدنية فيها مواطنة وحريات ومساواة، وكان اليسار في الثلاثينيات والاربعينيات هو أقرب الى هذه الفكرة، وهو الذي روّج لها في العراق، لاسيما عبر تيار جماعة الأهالي، التي تأسست في العام 1932، وكان أبرز قادتها عبد الفتاح ابراهيم الذي كتب كراس الشعبية العام 1933 وحسين جميل وعبد القادر اسماعيل ومحمد حديد، ثم انضم اليها كامل الجادرجي ومحمد جعفر أبو التمن، وقد عاش الجواهري عنفوان اليسار لحظة صعوده وتألقه في الأربعينيات، وكتب قصائده الشهيرة بتمجيد الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، لاسيما سواستبول وستالينغراد وغيرهما.
أما عروبة الجواهري، فهي ليست محل مزاودة من بعض الشوفينيين، فقد أرّخ لفكرة العروبة شعراً، ونظم آلاف الأبيات وعشرات القصائد التي كتبها، فعن مصر وحدها أكثر من 1500 بيتاً من الشعر وهو أول من كتب عن فلسطين، وأكثر من كتب عن قضايا الوحدة العربية، حتى وإن اتهم بالشعوبية أو بالانحياز اليساري، لكن عروبة الجواهري هي عروبة غير آيديولوجية.
الجواهري كان عروبياً غير آيديولوجي، وقد تحوّلت العروبة الآيديولوجية، خصوصاً مع السلطات الحاكمة الى دكتاتورية والى الغاء الآخر، في حين أن العروبة هي رابطة تربط أبناء الأمة بلغتهم وتاريخهم وتراثهم ومستقبلهم، ومن أكثر من الجواهري من ربط أبناء الأمة باللغة والتاريخ والتراث، ومن أكثر منه من استشرف المستقبل.
إن عروبة الجواهري هي عروبة منفتحة، هي غير سلطوية، الأمر الذي ننتمي اليه جميعاً إذا جاز لي التعبير، لأنه انتماء طبيعي ووجداني وعاطفي، سواءً كان البعض آيديولوجيين أو غير أيديولوجيين، ولكن الآيديولوجيين وظفوا هذا بالاتجاه الذي يخدم الصراع السياسي الذي كان دائراً آنذاك.

تحطيم المرايا
توجد في العراق مشكلتان رئيسيتان في قضية العروبة، حاولت أن أعالجهما أنا في كتابي " تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف"، وقلت أن هناك ماركسياً غير عروبي، بمعنى من المعاني هو ينظر الى العروبة كأيديولوجيا وهو الوجه المقلوب للعروبة الآيديولوجية، وبالتالي يتخذ موقفاً منها في حين هي تمثل فضاءً ورابطة لا علاقة لها بالآيديولوجيا، وهو جزء منها، لكن القراءة الخاطئة لفكرة العروبة دفعت الأمور بهذا الاتجاه من الفريقين.
وبقدر شوفينية واستعلائية بعض الذين يحوّلون العروبة الى قومية أو قوموية، يوجد ماركسيون استنكفوا من فكرة العروبة. لعلي ألتقي باستمرار مع ماركسيين أو شيوعيين من أمم شتى، وكنت ألاحظ أن الماركسي التركي يعتزّ بتركيته ومثله يفعل الماركسي الفارسي الذي يعتز بفارسيته والماركسي الروسي يعتز بروسيته والماركسي الفرنسي يعتز بفرنسيته والماركسي الكردي يعتز بكرديته، في حين أن الماركسي العربي هو أقل إعتزازاً بعروبته، وأحياناً مستنكفاً من عروبته لإعتقاده خطأ أن هذه العروبة شوفينية، ولعل المقصود بها هو "العروبة الآيديولوجية"، في حين أن العروبة هي انتماء، ورابطة حقوقية طوعية طبيعية متكوّنة بغض النظر عن إرادة البشر أحياناً.
وبسبب بعض هذه المواقف فهناك من ينظر الى الماركسية باعتبارها فكرة وافدة، وتياراً غربياً اغترابياً يتناقض مع فكرة العروبة، في حين يمكن للمرء أن يكون ماركسياً وأن يكون عروبياً صميمياً، ولذلك كنت أنا على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من الزمان، دائماً أُشعر الآخر إعتزازي بعروبتي وانتمائي الى هذه الأمة العظيمة وشعوري أن ذلك لا يتعارض مع ماركسيتي أو مع علمانيتي التي دعوت وأدعو إليها، بل هي من صميمها. ولعلّي كنت الأكثر انتقاداً لما أسميته للماركسية البدوية أو الريفية تلك التي وصلتنا بطبعة معلّبة أو حاولنا قراءتها بما ينسجم من تكييف أو تشويه لقيمها المعيارية الجمالية، بإضفاء شيء من البهارات عليها، على نحو مخطوء ولا علاقة له بالماركسية.
وإذا أردت أن تحسب هذا الأمر على الجواهري ففيه محطتين رئيسيتين، المحطة الأولى كانت في بدايات شبابه وتفتح وعيه الأول خلال الحرب العالمية الأولى، وكنت أحاور الجواهري وسألته، كيف سمع بثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، حيث كنّا نطلق عليها آنذاك، قال لي لأول مرة كنت قد استعرت كتاباً من الشيخ عبد الحميد الدجيلي في النجف، وكان ذلك في أواخر عام 1917 أو عام 1918، وعرفت لأول مرة أن هناك حكومة للعمال: قلت مع نفسي يا ألله حكومة للعمال، كيف هذا، حكومة للفقراء وأنا منهم فقير، فتأثرت عاطفياً ووجدانياً لفكرة أن يكون للفقراء في يوم من الأيام حكومة، وأنا أعرف أن الحكومات للأغنياء دائماً، ولعل هذا التأثير الوجداني العاطفي كان التأثر الأول.
أما التأثير الثاني فقد كانت انتصارات الجيش الأحمر حيث كان يجري مقارنة بينه وبين سلوك البريطانيين والألمان، وكان يجد في الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ومبادئ المساواة الأقرب اليه من الأفكار والمفاهيم الأخرى، وكان إنهيار الفاشية والنازية قد هزّه من الأعماق، وهو الذي تنبأ في قصيدته التي يأتي بها على ذكر ستالين:
يا ستالين وما أعظمه في التهجّي أحرفاً تأبى الهجاء
وعلى الجرفين عظمان التقى رمز عهدين انخفاضاً وإرتقاء
ويقصد بذلك صعود الاشتراكية وسقوط النازية، وما زاد من هذا التأثر هو محاولة الشيوعيين إحتواء الجواهري، ودفعه للمزيد من الراديكالية، وهو العصيّ، لكنه أحيط بأجواء مشجعة وداعمة، وذلك ما ساعد على إقامة جسر بينه وبينهم، لاسيما في مناكفة العهد الملكي له ومناكفته للعهد الملكي، ويمكن استذكار قصيدته آي طرطرا التي يسخر فيها من الاصطفافات التي تسبق الدولة وتتجاوز عليها، لاسيما الشيعية- السنّية.

أيْ طرطرا تطرطري
تقدّمي، تأخّري

تشيَّعي تسنّني
تهوَّدي تنصَّري

تكرّدي تعرَّبي
تهاتري بالعنصرِ

تعممي، تبرّنطي
تعقلّي، تسدّري


ولعل التغيير الكبير الذي حصل للجواهري هو بعد أن أراد أن يصبح نائباً، وقد تحقق له ما أراد، لكنه إستقال، بعد 40 يوماً حين حصلت وثبة كانون ثاني (يناير) عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث، حيث قتل شقيقه جعفر، ولعل هذه الحادثة ألهبت حماسة الجواهري ودفعته بالاتجاه اليساري الراديكالي، لكنه لم ينتظم في هذا الإطار، وكان قبل ذلك على صلة وثيقة مع عبد الفتاح ابراهيم، ودخل معه في حزب واحد أُسمي حزب الاتحاد الوطني، وكان عبد الفتاح ابراهيم معروفاً براديكاليته اليسارية وبانفتاحه الديمقراطي أيضاً، وكان ميل الجواهري له أكثر من الآخرين، فإنتمى الى حزبه عام 1946، مثلما أسسا مع بعضهما الحزب الجمهوري عام 1959 بعد ثورة 14 تموز عام 1958، وأعتقد أن سنة 1948 كانت حدًّا فاصلاً في حياة الجواهري، لاسيما قصيدته النارية:
أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فمُ
فمٌ ليس كالمدّعي قولةً وليس كآخر يسترحم
وفي هذه الفترة حصل مؤتمر اتحاد الطلبة العراقي العام في 14 نيسان عام 1948، الذي كان بدعم من الشيوعيين، ودعوهُ الى المؤتمر، والجواهري ينتهز هذه الفرص، فقال قصيدة نارية أيضاً في هذا المؤتمر، ورفع إسمه الى الأعلى.
في رواية تقول أن بعض الشيوعيين أرادوا من الجواهري أن ينتظم معهم، أو أرادوا أن يؤطروه، فما كان من أمين عام الحزب الشيوعي فهد أن يقول لا، لا تطلبوا من الجواهري أكثر مما يمكن أن يقدمه، هاتوا إنتفاضة يغنّي لها الجواهري، لا تطلبوا من الجواهري أن يتخذ موقفاً لكي نسير خلفه، نحن علينا أن ننظّم شيئا سيكون الجواهري حاضراً آنذاك، أو كما قيل الشعب يثب والجواهري يغني أو يغرّد.
ولعل هذه الأجواء وانفتاح الجواهري وسفره بدعم من الشيوعيين الى العالم، وحضوره مؤتمر المثقفين، ولقاءاته مع بيكاسو وبآخرين، دفعته الى الاقتراب أكثر فأكثر من التوجه اليساري، لكنه ظل يضع مسافة بينه وبين الحزب الشيوعي، وكان يرفض أن ينصاع أو ينضوي في إطارات داخلية تابعة للحزب الشيوعي، ومع أنه اقترب منهم في فترة الخمسينيات، الاّ أنه ظل قلقاً، وحين حصلت ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 كان في مزرعته في علي الغربي، وحاول عبد الكريم قاسم استقطاب الجواهري، ولكنه كأيّ قائد سياسي لا يرتضي أن يكون مثقفاً بموازاته، وكان الجواهري يقود السلطتين الإعلامية والثقافية (رئيساً لنقابة الصحفيين ورئيساً لاتحاد الأدباء) في حين كان قاسم قائد السلطة السياسية والعسكرية، فحصل الاحتكاك المشهور الذي رويته في كتابي " الجواهري-جدل الشعر والحياة"، الأمر الذي حصل نوع من التصدع في العلاقة، فاضطرّ معه الجواهري الى مغادرة العراق بنصيحة من جمهورية المانيا الديمقراطية ليحلّ، حيث التقاه ممثلها في بغداد وطلب منه مغادرة العراق، لأن هناك خطراً على حياته، وغادر الجواهري الى لبنان لحضور حفل تكريم للأخطل الصغير، وقال قصيدته المشهورة:
لبنان يا خمري وطيبي هلاّ لممت حطام كوب
هلاّ أعدت لي الهوى نشوان يرفل في الذنوب
الى أن يقول:
أبشارة وبأيِّما
شكوى أهزّك يا حبيبي

شكوى القريب إلى القريب
أم الغريب إلى الغريب؟

هل صكَ سمعك أنني
من رافديّ بلا نصيب


غادر بعدها الى جمهورية تشيكوسلوفاكيا، وكانت الطائرة تمر عبر صوفيا- براغ – برلين وعندما وصل الى جمهورية تشيكوسلوفاكيا جاءه مَن يستقبله من اتحاد الأدباء الجيك واعتبره ضيفاً على جيكوسلوفاكيا وبقى فيها السبع العجاف كما قال، وفي هذه الفترة حصل انقلاب 8 شباط (فبراير) عام 1963، وقد استمر الانقلابيون اتهامهم للجواهري بالشعوبية، وحرّموا ومنعوا دواوينه، وصادروا من المطبعة ديواناً كان يطبعه بما فيه قصيدة:
حييتُ سفحك عن بعدٍ فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين
فاتخذ الجواهري موقفاً منهم وانخرط في لجنة الدفاع عن الشعب العراقي التي أسسها الحزب الشيوعي بالتعاون ما بين عدد من الشخصيات بينهم د. نزيهة الدليمي، د. فيصل السامر، وعزيز الحاج وآخرين، ولكن سرعان ما اختلف مع الحزب الشيوعي لتدخلاته، في حين هو الذي كان يرأس هذه اللجنة، وكنت قد سألته وماذا كان هناك يا أبا فرات في الغربة: زمهرير المنفى أم فردوس الحرية؟ قال لي الاثنان معاً أي والله، وبعد انقلاب 17 تموز 1968 حصل نوع من تبادل الرسائل والزيارات بينه وبين قيادة الحكم الجديد، خصوصاً بينه وبين صالح مهدي عماش وذهبت إليه وفود كثيرة، فعاد الجواهري معزّزاً مكرّماً الى العراق آنذاك ومنح راتباً مقطوعاً بمعايير تلك الأيام كان أكثر من راتب وزير (150 دينار عراقي)، وهذا شيء بسيط بالنسبة للجواهري، لكنه كان تكريماً من الحكومة آنذاك له واعترافاً بمنزلته ورغبة في تصحيح العلاقة معه واستمرت هذه العلاقة الى نهاية العام 1978 أو بداية العام 1979.
كتب الجواهري بعد عودته الى العراق قصائد كثيرة، أول قصيدة كتبها كانت:
أرح ركابك من أين ومن عثر
كفاك جيلانِ محمولاً على خطرِ

كفاك موحشُ دربٍ رُحتَ تقطعهُ
كأن مغبرَّهُ ليلٌ بلا سَحر

ويا أخا الطير في وردٍ وفي صدر
في كلِّ يوم له عشٌُ على شجر

عُريانَ يحملُ منقاراً وأجنحة
أخفَّ ما لمَّ من زادٍ أخو سفرِ


وكتب على القافية ذاتها صالح مهدي عماش وزير الداخلية، قصيدة يقول فيها:
أرح ركابك من أين ومن عثر فمالك بعد اليوم من سفرِ ،
قال له الجواهري "يعني تمنعني من السفر؟"، وقد نشرت مطارحات بين الجواهري وعماش، أشهرها قصيدة (الميني جوب) وربطته علاقة ودية مع الرئيس أحمد حسن البكر كما أعرف، وكتب قصيدة عن ابن البكر "محمد" الذي قتل حينها، لكنه بعد افتراق عقد التحالف الوطني في العراق وتوجّه الحكم لإقصاء الآخرين وملاحقتهم واعتقال نجله د. كفاح وكريمته الدكتورة خيال الجواهري، غادر العراق ولم يعد.

جهاد/ كنت أعرف أن فرات كان يشتغل بجريدة الجمهورية
د. شعبان/ فرات كان أكبرهم وظل في العراق، لكن الجواهري بعد تصدّع علاقته غادر العراق وكان قبلها بين براغ وبين بغداد، وبعد أن عرض عليه وزير الاعلام السوري أحمد اسكندر استضافته في دمشق بطلب من الرئيس السوري حافظ الأسد أصبح مقرّ إقامته، لاسيما الشتوية في دمشق، وظلّت علاقته ببراغ مستمرة.
الجواهري وعبد الناصر
كان انتماء الجواهري للعراق صميمياً، وحتى عندما دعيّ الى مؤتمر المعارضة عام 1991، في البريستول في بيروت، قال كلمة دافع فيها عن الوجود العراقي وضد العدوان على العراق وضد العمليات التي استهدفت تحطيم الكيان العراقي أو القضاء على العراق على الرغم من أن موقفه كان ضد النظام الدكتاتوري الاستبدادي آنذاك وما وصلت اليه البلاد، وهذا الأمر يجعلني أقول أن الجواهري له علاقة متوازنة الى حد ما مع الكتل والتيارات السياسية العراقية، ولكن يعتمد على حساسيته كشاعر لموقف هذه الكتل منه أيضاً، ولم يهاجمه أحد من الشيوعيين على سبيل المثال مع أنه يختلف معهم وينتقدهم، وظلّوا يحترمون خياراته حتى عندما مدح بعض الملوك، فكانوا يجدون له التبريرات، أما القوميون والبعثيون فقد هاجموه في مرّات غير قليلة، فاضطر للردّ عليهم.
من أهم قصائد الجواهري عن عبد الناصر:
أكبَرتُ يومك أن يكون رثاء
الخالدون عهدتهم أحياء

لا يعصم المجد الرجال، وإنما
كان العظيم المجد والأخطاء

تحصى عليه العاثرات، وحسبه
ما كان من وثباته الإحصاء


كنت قد سألته لمن كنت أن تتمنى أن تكتب هذه القصيدة لو لم تكتبها عن عبد الناصر قال كنت أتمنى أن يكتبها أحد عني، وهي من أجمل القصائد وأرقاها، وكان في منهجه واتجاهه عروبياً، لكنه عروبي غير آيديولوجي، غير عنصري، غير شوفيني مثلما اندفعت بعض الاتجاهات القومية، وكانت عداوته بالطبع مع ساطع الحصري، عدواة لا يمكن أن ينساها، ولا أظن أن قضية جرحت الجواهري أو آذته في الأعماق مثل هذه القضية فهو الذي خدم اللغة العربية والأمة العربية بقصائده، وإذا به يصبح موضع شبهة أو تشهير، ولعل موقفه الى جانب الشعب الكردي وحقوقه العادلة والمشروعة كان سبباً آخر للتشكيك بعروبته أو محاولة النيل منها.
وللأسف الشديد فإن بعض المتشددين والمتعصّبين والمثقفين الشوفينيين يضربون على الوتر الحساس بالنسبة للجواهري، وكأن هذه القضية هي التي تشكل مشهد الجواهري ويتناسون أو يهملون ما قدّمه في تاريخه الذي إقترب من مئة عام وهو أطول من تاريخ الدولة العراقية عندما تأسست الى أن توفي في 27 تموز (يوليو)1997. أريد أن أقول أن عائلة الجواهري التي عاشت في العراق وكان أحد أعلامها وهو الذي ينتمي إليه إسم الجواهري، جدّه الذي كتب كتاباً فقهياً اعتمد للتدريس في الحوزة العلمية اسمه "جواهر الكلام"، وهو الذي ينتمي إلى الجواهري وهذه مسألة طريفة، وجدّه مدفون في العراق عام 1850 (في منطقة العمارة- القباب الزرق)، كما أن جامع الجواهري في النجف مضى عليه أكثر من 200 عام.
لاحظ أن رؤساء مثل الرئيس الأمريكي أوباما ينتمي الى جيل قبل هذا الجيل الى أفريقيا، ورئيس فرنسا ساركوزي من أصل هنغاري، إضافة ووزراء خارجية الولايات المتحدة ومستشاريها مثل مادلين أولبرايت( التشيكية الأصل) الى كيسنجر (الألماني الأصل) الى بريجنسكي (البولوني الأصل) مستشار الأمن القومي، كلهم ينتمون الى أمم أخرى ولجيل أسبق، وأن بعضهم مولود في بلدان أخرى، ويصبحون رؤوساء ووزراء دون أن يتنابز معهم أحد بالألقاب أو الأصول العرقية، في حين أن عائلة الجواهري مضى عليها أجيال في العراق تعيّر أحياناً أو يعاب عليها أو يتم الغمز لها، لأنها كانت كذا وكذا وكذا ... وللأسف فإن هذا الأمر دليل إنحطاط في الرؤية إزاء الابداع أولاً وإزاء الانتماء ثانياً لاسيما الانتماءات الضيقة والاعتبارات الآيديولوجية، وإزاء فكرة الهوية ثالثاً، تلك التي لا يزال البعض يتشبث بأسسها الشوفينية أو بالانتماء العرقي أو الاثني أو يذهب البعض الآخر للتمترس بالانتماء المذهبي أو الديني أو غير ذلك.
فقه التسامح في الإسلام

جهاد / د. كما انقسم العراق بعد ثورة تموز 1958 انقسم الصراع السياسي للبلد الى صراع بين القوميين والشيوعيين، نجد أنه بعد زوال صدام حسين يتحول الصراع في العراق الآن الى صراع مذهبي أو طائفي بين ملّتين، بين جماعتين، طائفتين مسلمتين، أنا أريد أن أستوضح هذه المشكلة في دار الإسلام بين سنّة وشيعة فهل يفترض في بلد طبيعي وحضاري وتقدمي بشكل عام كالعراق، أن تكون القضية الطائفية هي المستحوذة على العقول ووجدانات النخب أم أن المفروض تكون هذه ضمن اختصاص أكاديمي في قسم التاريخ مثلاً في الجامعات بحيث يدرس الصراع الشيعي – السنّي عبر العصور؟ ولعل هذا الأمر لا يحتاج الى أكثر من حصص دراسية معينة بالجامعة لا أكثر ولا أقل، فإذا به يحتل وجدان الناس وعقولهم ليلاً ونهاراً بدون انقطاع منذ سنوات، هل لديك وصفة سحرية لكي ننتقل نحن العرب والمسلمين من هذه المناخات الطائفية المتشنجة الى أنظمة مدنية ديمقراطية صرفة.

د.شعبان الطائفية كما تعلم مرض اجتماعي خطير وهو مثل " دودة الإرضة" التي تأكل في جسد مجتمعاتنا، الأمر الذي يحتاج الى درجة متقدمة من الوعي وإرادة سياسية حازمة للتخلص منها أو الحد من تأثيراتها، ولعلك تعرف أنني كنت قد طرحت منذ سنوات مشروعاً لقانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، ولكن قبل أن أتحدث عن هذا المشروع أريد أن أشير الى مسألتين أساسيتين:
المسألة الأولى: أن العراق خلال فترة الحكم السابق عانى من التنكّر للتعددية الفكرية والسياسية والقومية والدينية، الى حدود غير قليلة، وبسبب الحروب والمغامرات لاحقاً ضاق الفضاء السياسي والفكري في العراق، واستعادت الأمية السياسية والأبجدية مكانتها، خصوصاً وأن البلد انصرف باتجاهات أخرى، وما زاده خطورة هو الحصار الدولي الجائر الذي فرض على العراق لمدة 13 عام، وقبله الحرب العراقية- الإيرانية التي تركت آثار خطيرة على واقع العراق، وستبقى هذه التأثيرات مستمرة الى زمن غير قصير، وكانت عملية التهجير التي طالت نحو نصف مليون عراقي بحجة " التبعية الإيرانية" قد زادت الطين بلّة، لاسيما ارتفاع نبرة الخطاب السياسي الموظّف طائفياً، ثم وجود إيران كدولة، استقطبت قسماً من النخب الدينية العراقية ووظفتها بالاتجاه الذي يخدم توجهاتها ويرضي بعض أطرافها ولعب هذا كله دوراً في تأجيج نار الصراع الطائفي.
المسألة الثانية الذي تناولها تتعلق بالثوب السياسي الذي ارتدته المشكلة الطائفية، فهذه ظهرت على نحو صارخ بعد احتلال العراق، لاسيما بصيغة بول بريمر التي تمت الاشارة اليها، وذلك حين شكّل مجلس الحكم الانتقالي، فحدّد عدد من المقاعد للشيعة 13 وخمسة للسنة وخمسة للأكراد وواحد للكلدوآشوريين وواحد للتركمان، الأمر الذي دفع المجتمع العراقي باتجاه الخنادق الطائفية والمذهبية، بحيث كرّسها واستفاد منها أمراء الطوائف، بزعم أنهم " حماة" الطائفة، وهناك فرق كبير بين الطائفة والطائفية، فالأولى هي تكوين تاريخي واجتماعي نشأ خلال مئات السنين، عبر عادات وتقاليد وطقوس ومعتقدات، أما الطائفية فهي تريد توظيف ذلك، بما يؤدي الى كيانيات منفصلة عن الأخرى،تحت حجج ومزاعم مختلفة، الأمر الذي يضعف الوحدة الوطنية والهوية العراقية الجامعة، لاسيما في ظل التمترسات الطائفية والاحترابات المذهبية.
الصراع بالعراق ليس بين الشيعة والسنّة وإنّما هو صراع بين أمراء الطوائف، ممن يدّعون تمثيل هذه الطائفة أو تلك، تارة بإسم المظلومية وأخرى تحت يافطة الأغلبية وثالثة بعنوان الانسحاق والإقصاء والعزل، وقد ساهمت هذه البيئة التقسيمية في خلق نماذج للمحاصصة والحصول على الامتيازات، وهكذا وظّف الدين والمذهب بالاتجاه الذي يخدم الصراع السياسي، واستعانت بعض القوى السياسية من الفريقين بمراجع دينية لخدمة أغراضهما السياسية.
لاحظ أن انتخابات عام 2005 كيف تم توظيف إسم السيستاني باعتباره المرجع الأعلى للشيعة، باتجاه خدمة أطراف سياسية، الأمر الذي شعر فيه بالإحراج لاحقاً، وحاول أن ينأى بنفسه عن الانحيازات المسبقة لاحقاً، وإن كان الأمر قد حصل والضرر قد وقع، وبعض القوى السياسية استشعرت أنه ليس بإمكانها أن تحظى على ثقة الشارع دون اللجوء الى هذه المرجعيات.
وقد استفاد من هذا الصراع كلا الفريقين وحصل أمراء الطوائف، على امتيازات وهم يريدون اليوم الاستمرار بها، ولهذا يعارضون إلغاء نظام المحاصصة ونظام التقسيم المذهبي والطائفي، لأن ذلك يجرّدهم من امتيازاتهم أو يضعفها، الأمر الذي يضع المسألة على نحو سياسي يتعارض مع مفهوم المواطنة.
وذهبت بعض القوى من الفريقين لطرح مشاريع انعزالية تحت يافطة الأقاليم أو الفيدراليات، على أساس طائفي أو مذهبي أو اثني، وليس باعتبار النظام الفيدرالي متطوراً ويمكن أن يلائم بلداً مثل العراق عانى من مركزية صارمة وشديدة، ويمكنه توزيع الصلاحيات بما يؤدي الى تعزيز اللامركزية جغرافياً في الإدارة والتوجّه، لاسيما لمجالس المحافظات.
لقد حاولت أن أطرح ذلك في المشروع الذي قدمته والذي يتعلق بقانون تحريم الطائفية وتعزيز المواطنة، لاسيما منع وتحريم الطائفية التي تعتبر بمثابة جريمة ترتقي من الجرائم العظمى، ومحاسبة كل من يمارسها أو يروّج لها أو يدعو اليها أو يتستر عليها، الأمر الذي يعتبر بمثابة ارتكاب جرم يرتقي الى مصاف الجرائم العظمى في البلاد.
لعل الوجه الثاني من مسألة تحريم الطائفية له علاقة بتعزيز المواطنة، عندما أقول المواطنة، فأعني الاستناد الى قيّم الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، وهذه هي التي تعطي للهوية العراقية المانعة الجامعة أبعادها الحقيقية، وذلك في خضّم مواجهة هذا السيل العارم من الاحتدامات الطائفية، وهو بنفس الوقت يعيد للدولة العراقية هيبتها ومكانتها ومرجعيتها التي يمكن الاستناد اليها، وليس بالاستناد على الطائفة أو المذهب أو الدين أو غير ذلك.
ربما كان لحل الجيش العراقي والقوات المسلحة وشرطة الحدود وقوى الأمن وشرطة النجدة وشرطة مكافحة الجريمة وغيرها وتعويم الدولة العراقية، سبباً لإندفاع الناس للحصول على غطاء سياسي لحمايتهم، حيث إلتجأوا إلى المرجعيات الدينية أو العشائرية أو المناطقية، لاسيما في ظل غياب مرجعية الدولة.
لقد كانت المرجعية الدينية موجودة في العراق، على الرغم من أن دورها كان محدوداً ومقنناً، وصعد دور المرجعيات الفرعية- الطرفية بغياب مرجعية الدولة، لاسيما في ظل عملية التجهيل التي عاشها المجتمع العراقي وفي ظل الحصار الدولي الجائر وانقطاع سبل المعرفة والعلم وروافده الكثيرة عن المجتمع العراقي. وقد نشطت مرجعيات شتى غير مقتصرة على الدين فقط أو المذهب، وإنما ببعض الذين وظفوا الدين أو المذهب بوسائل وأساليب لا علاقة لها بالدين مثل استخدام الشعوذات والسحر والكثير من الترهات والخزعبلات وغيرها من الأمور، وأظن أن حل المشكلة يعتمد بالدرجة الأساسية على مبادئ المواطنة والمساواة التامة وتلبية الحقوق كاملة وتحريم التقسيمات الطائفية والمذهبية أو اللجوء اليها كأساس، فضلاً عن تعزيز الوعي الحقوقي والثقافي باتجاه الديمقراطية، ولاسيما من خلال دور المجتمع المدني وفي إطار دولة مدنية عصرية، ولو توفر اعلام حر ومستقل فإنه يمكن أن يؤدي وظيفته المهنية على أحسن وجه في التصدّي للطائفية وذيولها التي تتستّر تحا واجهات وأسماء مختلفة.

جهاد /د. لكم كتاب جميل وتفكيري عن فقه التسامح، يكاد يقترب من الأحلام هذه الأيام، ما هو برأيك السبيل لتعزيز التسامح في الواقع العربي والاسلامي الراهن أم أنها أفكار تظل نوعاً من الأحلام لا أكثر ولا أقل؟؟

د.شعبان/ الحلم صفة ملازمة للإنسان، وفي كل فلسفة حلماً والاّ ستتحول الى يباب، ولعل الانسان من دونه ليس له مستقبل، الحلم مرادف للإنسان وملازم له، وكل الأفكار الجميلة كانت في عالم الأحلام ، حتى وإن كان الحلم أقرب الى السراب أحياناً، لكن علينا أن نستمر نحلم، لأن الحلم يمثل حصيلة منظومة قيمية. كان مكسيم غوركي يصف أحد كبار ثوريي عصره قائلاً: إن نصف عقله يعيش في المستقبل، وقد كان العالم الكبير اينشتاين يردد : المُثل التي أنارت طريقي ومنحتني المرّة بعد مرة الشجاعة لمواجهة الحياة، هي الحب والجمال والحقيقة. الحلم وحده هو الذي يمنحنا إذاً هذه القدرة العجيبة على الاستمرار على الرغم من المرارات والخيبات.
عندما أدعو الى التسامح يعني أنني أدعو الى التمسك بالحقوق وعدم التنازل عنها، وهنا لا بدّ من توضيح مهم، لأن بعض الأفكار المسبقة أو الدارجة حول مبادئ التسامح قد تنصرف، إلى أنه يعني إمكانية التنازل عن الحق أو المساومة مع العدو، لاسيما فيما يتعلق في إطار الصراع العربي الإسرائيلي.
إن فكرة التسامح لا تعني المساواة بين الجلاد والضحية، إنها تعني عكس ذلك، لاسيما التمسك بالحقوق، أي أن يتمسك الجميع بحقوقهم وقيمهم ذات الأبعاد الإنسانية المدنية الحضارية والثقافية، لأنها تمثل المشترك الانساني بين بني البشر. ولهذا لا ينبغي أن ينصرف الذهن مرّة أخرى الى أن مفهوم التسامح هو صناعة غربية مريبة أو مشبوهة، لاسيما فيما يتعلق بالتطبيع أو التنازل عن الحقوق أو المساومة مع العدو.
أستطيع أن أذكر على الأقل خمس محطات رئيسية بالتاريخ العربي والاسلامي في قضية التسامح ، هي:
المحطة الأولى- حلف الفضول: الذي كان قبل الاسلام، عندما اجتمع فضلاء مكة في دار عبدالله بن جدعان واتفقوا على أن لا يدعوا شخصاً من أهلها أو ممن دخلها، يعني "مواطن" أو "غير مواطن"، إلاّ ونصروه على ظالمه وأعادوا الحق اليه، ولعل إعادة الحقوق بمعناها السياسي والمدني والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ستعني التعامل مع الإنسان بصفته إنساناً، وهذه المسألة في غاية الأهمية، فعندما سُئل الرسول محمد (ص) عن حلف الفضول الذي أبقى عليه من بين جميع أحلاف الجاهلية قال لو سئلت عنه في الاسلام لأجبت.
المحطة الثانية- دستور المدينة الذي سنّه الرسول محمد (ص) وكان دستوراً تعددياً، يقبل بالتنوّع، وبإقرار وجود الآخرين واحترام حقوقهم، أي قبولهم واحترام عاداتهم وشعائرهم وطقوسهم الدينية والاجتماعية، أما المحطة الثالثة فهي صلح الحديبة الذي اعترف بالآخر حتى وإن كان مشركاً وأسس لنظرية جديدة في إطار العلاقات الدولية أيضاً.
وكانت المحطة الرابعة - العهدة العمرية التي منحت للبطريرك صفيرنيوس عام 15 هـ للمسيحيين، تحديداً، لاسيما الحق في ممتلكاتهم وشعائرهم ودينهم وطقوسهم وعدم التجاوز عليهم، وعندما حان موعد الصلاة رفض الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رض) أن يصلّي في كنيسة القيامة خوفاً ممن سيأتي بعده ليعتبرها أرضاً للمسلمين، فصلّى بجوارها في مكان بني عليه جامع سمّي جامع الخليفة عمر بن الخطاب بناه أو وسعه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، ويمكنني أن أشير الى المحطة الخامسة، وأعني بها وثيقة القسطنطينية وهي شاهد كبير على الاعتراف بحقوق الآخرين مسيحيين أو غير مسيحيين لاسيما حياتهم وحقوقهم وطقوسهم وشعائرهم الى آخره.
وفي التاريخ المعاصر أيضاً هناك أمثلة غير قليلة، لكن للأسف فإن نبرة اللاتسامح والعنف والتعصب والغلو والتشدد والتطرف والإقصاء سادت لاحقاً، لدرجة وصلنا الى تبرير للإرهاب والعنف والقتل تحت باب "الجهاد" وهو ما روّج له تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن وهو أمر لا علاقة له بالجهاد، وعلى الأقل كما نفهمه، مثلما ورد في التعاليم الاسلامية وفي إطار الدين الاسلامي الحنيف.
الدعوة للتسامح بتأصيلها الفكري الديني والاجتماعي والسياسي هي دعوة للمستقبل أيضاً هي دعوة لرفض العنف، والتبشير بضده لثقافة اللاعنف، ويمكن استخدام المقاومة باللاعنف أيضاً، والمقاومة باللاعنف هي مقاومة مدنية سلمية، ونعني الاعتراف بالآخر كما أشرت، والاعتراف بحقوق الآخر، وهذه مسألة مهمة ليس على صعيد أوضاع الحاضر، وإنما على صعيد أوضاع المستقبل، هي تبنى لبنة لبنة.
توجد الآن نخبة حيّة بدأت تؤمن بثقافة التسامح وثقافة السلام المبني على العدل بالطبع وثقافة اللاعنف، ولعل أمراً مفرحاً وجود عددٍ من الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني التي بدأت تقوم على اللاعنف وأن هناك جامعة تم تأسيسها مؤخراً بإسم جامعة اللاعنف وحقوق الانسان Non violence and Human rights university .
جهاد /د. أنا شاكر جداً هذه المقابلة الثمينة لما فيها أكثر من فائدة وممتعة جداً جداً .
مجلة العربي العدد 638، كانون الثاني 2012.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الربيع العربي وردّ الاعتبار إلى السياسة
- تعويم الدستور العراقي
- إشكاليات ما بعد الربيع العربي
- الشيخوخة
- اللحظة الثورية وربيع التغيير
- الإسلاميون والعلمانيون
- ماذا بعد الربيع: العرب والجوار والعالم؟
- الانسحاب الأميركي من العراق.. من الأقوى؟
- ليبيا من الثورة إلى الدولة
- اليونيسكو والثقافة بالمقلوب
- بانتظار بايدن
- الفدرالية العراقية والكثبان المتحرّكة
- الدرس التونسي: القطيعة والتواصل
- ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق!!
- جدل دستوري عراقي وغواية الانقلاب العسكري
- بغداد واشنطن: انتبهوا الوقت ينفد!
- صناعة الدستور
- الأردوغانية: زواج كاثوليكي بين الإسلام والعلمانية
- إسرائيل- والمياه
- مشكلة المياه العربية


المزيد.....




- مصور بريطاني يوثق كيف -يغرق- سكان هذه الجزيرة بالظلام لأشهر ...
- لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس ...
- عمرها آلاف السنين..فرنسية تستكشف أعجوبة جيولوجية في السعودية ...
- تسبب في تحركات برلمانية.. أول صورة للفستان المثير للجدل في م ...
- -المقاومة فكرة-.. نيويورك تايمز: آلاف المقاتلين من حماس لا ي ...
- بعد 200 يوم.. غزة تحصي عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية
- وثائق: أحد مساعدي ترامب نصحه بإعادة المستندات قبل عام من تفت ...
- الخارجية الروسية تدعو الغرب إلى احترام مصالح الدول النامية
- خبير استراتيجي لـRT: إيران حققت مكاسب هائلة من ضرباتها على إ ...
- -حزب الله- يعلن استهداف مقر قيادة إسرائيلي بـ -الكاتيوشا-


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - محنة العراق بين الديمقراطية والحرية