|
الهوِيّة الوطنية والربيع العربي
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3639 - 2012 / 2 / 15 - 18:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تقول أطروحة مهمة بشأن قلقها وربما إحباطها من الربيع العربي، إنه أدى وربما سيؤدي أكثر فأكثر إلى تصدّع الهويّة الوطنية، التي كانت على الرغم من وجود الأنظمة السلطوية والاستبدادية جامعاً مانعاً للوحدة الوطنية ورمزاً من رموز كيانية الهويّة والدولة، بغض النظر عن بعض التمايزات والاختلافات، الأمر الذي أدّى إلى صعود هويّات دينية إثنية وطائفية وعشائرية وغيرها .
ولعل الاتجاه المتحفّظ، بل والمُحبط من صعود تيار الإسلام السياسي، ينظر إلى الهويّة وكأنها صُبغت بلون إسلامي وستقود إلى حالة من التشظي والتشطير، ويستدلون على ذلك استقواء التيار الإسلامي في تونس فضلاً عن إحياء نوع من العشائرية التي لا تعرف تقاليدها مثل هذه الظاهرة، وإذكاء نار الصراع القبطي - الإسلامي في مصر، وإشعال فتيل المشكلة الجنوبية في اليمن التي ازدادت تعقيداً في السنوات الأخيرة، إضافة إلى مشكلة الحوثيين (الجاهزة) وبعض ذيولها المذهبية، وتعميق المشكلة الطائفية في سوريا، لاسيما بين السنة والعلويين، ومحاولة تسعير نار الصراع المسيحي- الإسلامي ، فضلاً عن انعاش المشاعر القومية الكردية المطالبة بحقوقها السياسية والثقافية والقومية، لاسيما حق المواطنة والمساواة وعدم التمييز، ناهيكم عن الحق في الجنسية، وكذلك تغذية المشكلة العشائرية والقبلية والمناطقية في ليبيا، وفي موريتانيا، وفي الأردن وغيرها، إضافة إلى المشكلة الأمازيغية في المغرب والجزائر، والمشكلة الطائفية والمذهبية في البحرين والمملكة العربية السعودية .
وإذا كان الأمر صحيحاً إلى حدود غير قليلة، لكن ثمة أسباب موضوعية لذلك وكان لا بدّ لها أن تظهر على نحو عاجل أو آجل مثل هذه المشكلات، فالنار كانت تستعر تحت الرماد كما يقال، حيث غذّت أغلبية الأنظمة العربية، الانقسام المجتمعي، تارة لأسباب دينية وأخرى طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو جهوية أو إثنية أو غيرها، بهدف الإبقاء على سلطة الحكام بأي ثمن .
ولعل من الطبيعي أن تظهر كل هذه النزعات بعد أي عملية تغيير، فقد أسهم النظام العراقي السابق الذي حكم البلاد بالحديد والنار في إضرام نار التعصب الطائفي والمذهبي بتهجير مئات الآلاف من العراقيين إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية، واضطهاد الكرد واستخدام أشد الأساليب وحشية ضدهم بما فيها الأسلحة الكيماوية المحرّمة دولياً، كما حصل في حلبجة وغيرها، وما يُعرف بعمليات الأنفال التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين الكرد، وما أن حصل الاحتلال وبمساعدة منه، خصوصاً ما عرضه الحاكم المدني الأمريكي في العراق بول بريمر في صيغة “مجلس الحكم الانتقالي”، حتى صعدت الهويّات الفرعية لتحتل مكانة الهوية العامة الجامعة التي كانت تشكل الوطنية العراقية سداها ولحمتها مع هويّاتها الخصوصية .
ولعل أسباب الاضطهاد والتمييز دفعت الجهات المتطرفة وغير المتطرفة باحتدام الصراع والبحث عن المكاسب إلى التمسك بل والتمترس بالهويّات الفرعية أو الاحتماء بها سواء في ظل الاحتراب والتقاسم الوظيفي، والمحاصصة المذهبية والإثنية والدينية وغيرها على حساب الهويّة العراقية الموحّدة، خصوصاً وقد عانت الهويّات الفرعية من التنكّر والإجحاف والتهميش لسنوات غير قليلة .
ما أن غاب الكابوس، حتى ظهر المجتمع على حقيقته، بقاعه وسقفه بل بفضائه من دون حدود أحياناً، والثورات تنجب أنبل القضايا وأشرفها وأكثر جمالاً وفي الوقت نفسه أحقرها وأذلّها وأقبحها وهو ما عرفته تجارب الشعوب في المراحل الانتقالية بعد إطاحة الأنظمة السلطوية والدكتاتورية، ويعتمد الوضع الجديد على توازن القوى ودور القيادات الدينية والمدنية في إثبات جدارتها واختيارات الناس لها .
وإذا كانت مرحلة الانقلابات العسكرية قد دفعت الأحزاب العروبية واليسارية إلى الواجهة، فإن دورها بسبب عوامل موضوعية وأخرى ذاتية قد تراجع ونكص إلى حدود كبيرة، ولا يبدو أن أفقاً سريعاً وواعداً سيكون لمصلحتها في المدى المنظور على أقل تقدير، لأسباب تتعلق بقصور ذاتي أصبح معتّقاً فضلاً عن منهجيات متخشبة من جهة ثانية، وفي ظل اختلالات دولية وإقليمية من جهة ثالثة، ولهذا فإن الدور الجديد سيكون لهيمنة القوى الإسلامية التي طبعت المشهد السياسي بعد الربيع العربي بلونها، لا في البلدان العربية فحسب، بل على المستوى الإقليمي، بغض النظر عن تقاطعاتها المذهبية والطائفية وتوجهاتها الراديكالية ومشاريعها السياسية . وعلينا النظر أن تركيا يحكمها إسلام معتدل وفي دولة مدنية وعلمانية، ولكن بخلفية وقيادة دينية، والسيف التركي لا يريد الدخول في غمده النووي الأطلسي، بعيداً عن الطموح العثماني . كما أن إيران تحكمها جماعة راديكالية إسلامية وفي إطار دولة فيها التمذهب معلناً، دون أن ننسى الطموح القومي الفارسي . والعراق محكوم بقسمة طائفية وإثنية حيث تكرست التوجهات المذهبية في إطار مرجعية الدولة وممارساتها، ناهيكم عن الخريطة الإسلامية السنية والشيعية بعد إطاحة نظام صدام حسين، وغزة محكومة من حماس في حين تستمر السلطة الفلسطينية في رام الله . وأفغانستان وباكستان تحكمان بقيادات وبتوجهات إسلامية في السلطات والمعارضات .
أما بعد الربيع العربي فقد حقق الإسلاميون فوزاً ساحقاً لاسيما حزب النهضة في تونس، والإخوان والسلفيون في انتخابات مصر، وفازت القوى الإسلامية في المغرب، وجاء اليوم دور التيار الإسلامي في البرلمان الكويتي، مثلما يستمر دور حركة الوفاق الإسلامية الشيعية في الحراك الشعبي في البحرين، ويتواصل دور حزب الله الإسلامي في لبنان في المقاومة والممانعة وفي التأثير في القرار اللبناني، ويظهر اليوم بقوة دور حركة الإخوان في سوريا، خصوصاً في إطار المعارضة مثلما شهدت صعوداً لدورها في الثمانينات، كما عادت الحركة الإسلامية إلى الانتعاش في الجزائر وليبيا وموريتانيا، ولا ننسى دورها في الأردن ودول الخليج، خصوصاً أنها تشكل ثقلاً في المعارضات السياسية، وإذا احتسبنا دورها في السودان فسيكون المشهد مطبوعاً بهذا التوجه الجديد .
ولو سعت السلطات الحاكمة منذ تأسيس الدولة العربية المعاصرة، لاسيما بعد الحرب العالمية الأولى، لاحترام الهويّات الفرعية في إطار مواطنة متكافئة ومساواة تامة، لما لجأت التيارات الأشد تعصباً للتنكر إلى الهويّة الجامعة، مع حقها في التمسك بخصوصيتها وهويتها الفرعية، والأمر يصل إلى هذه الدرجة، بل وأشدّ منها هو ما حصل في جنوب السودان ، بعد استفتاء نال بموجبه الجنوبيون على أكثر من 98% من الأصوات تأييداً للانفصال والاستقلال . ولو أجرينا أي استفتاء في كردستان العراق وفي ظروف طبيعية وسلمية، فستكون النسبة كبيرة لمصلحة دولة مستقلة .
وهنا أود أن أشير أن لا خشية من هيمنة التيارات والأحزاب الإسلامية، إذا كان ذلك عبر صندوق الاقتراع وفي ظل دستور وانتخابات ديمقراطية، وهو ما ينبغي أن يدرك أبعاده اليساريون والعروبيون، لاسيما إذا تبنّوا مطالب شعبية واقعية وتعبّر عن هموم وحاجات الناس، وتركوا الأبراج العاجية والمكاتب وتوجهوا إلى الشارع والحارات، بل وتسابقوا في تقديم الخدمات للناس كما كانوا يفعلون بتواضع في السابق، لا الحصول على بعض الامتيازات .
لقد كان الإسلاميون أكثر من غيرهم هدفاً لقمع منظم قبل الثورات العربية، وعندما يحصل مثل هذا وتنغلق الطرق أمام الجماهير لتحقيق آمالها وأحلامها، فإنها تتجه من جنة الأرض إلى ملكوت السماء، لاسيما إذا غابت إمكانات التغيير على الأرض .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الربيع العربي منظور إليه استشراقياً
-
فريضة التسامح وجدلية القطيعة والتواصل!
-
مصير الإمام موسى الصدر: متى خاتمة الأحزان؟
-
التواصل والقطيعة في فريضة التسامح
-
مقهى وروّاد ومدينة: ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!
-
العنف واللاعنف في الربيع العربي
-
محنة العراق بين الديمقراطية والحرية
-
الربيع العربي وردّ الاعتبار إلى السياسة
-
تعويم الدستور العراقي
-
إشكاليات ما بعد الربيع العربي
-
الشيخوخة
-
اللحظة الثورية وربيع التغيير
-
الإسلاميون والعلمانيون
-
ماذا بعد الربيع: العرب والجوار والعالم؟
-
الانسحاب الأميركي من العراق.. من الأقوى؟
-
ليبيا من الثورة إلى الدولة
-
اليونيسكو والثقافة بالمقلوب
-
بانتظار بايدن
-
الفدرالية العراقية والكثبان المتحرّكة
-
الدرس التونسي: القطيعة والتواصل
المزيد.....
-
هل نقل طائرات أمريكية إلى أوروبا يُعتبر تمهيدا لضربة ضدّ إير
...
-
نوع من القهوة يزيد من خطر الإصابة بالتنكس البقعي لدى كبار ال
...
-
التقاط أدق صورة لمجرة -معمل النحات- بتدرجات ألوان مذهلة!
-
كيف تؤثر الأطعمة الحارة على فقدان الوزن؟
-
المغرب يستقبل 7.2 ملايين سائح حتى نهاية مايو بزيادة 22%
-
بوتين: لدينا خبراء في بوشهر وإيران لم تطلب دعمنا العسكري
-
فيديو: إيران تطلق دفعة جديدة من الصواريخ على إسرائيل
-
-أي بي سي نيوز-: ترامب يفكر في ضرب منشأة -فوردو- النووية
-
كوريا الشمالية: هجمات إسرائيل على إيران -جريمة لا تغتفر-
-
أميركا تنقل أصولا عسكرية في الشرق الأوسط تحسبا لهجوم إيراني
...
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|