أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية (الأبوية) السوفيتية















المزيد.....


الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية (الأبوية) السوفيتية


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3674 - 2012 / 3 / 21 - 18:57
المحور: مقابلات و حوارات
    


حوار مع الأكاديمي والمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان – الحلقة 2
ما بيني وبين النجف علاقة سحرية وسرّية يتعذّر تفسيرها،
هي أبعد مما تراه العين أو تتخيّله
الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية (الأبوية) السوفيتية
أجراه : توفيق التميمي

من تاريخ الأفكار
نواقص الماركسية
هناك جوانب نقص لم تعالجها الماركسية، ففي حين أولت اهتماماً كبيراً وطاغياً بالجانب الاقتصادي، لم تعطي هذا الاهتمام للجانب الروحي. بتواضع أقول هناك نقصاً ماركسياً في تناول موضوع الدين، وإذا كان ماركس نفسه لم يتحدث عن الدين باستثناء الكرّاس الذي كتبه عن المسألة اليهودية، فإن فيورباخ كان قد قدّم قراءة نقدية للدين تأثر بها ماركس. أما استخدام مقولة " الدين أفيون الشعوب" فقد كان قصد ماركس مختلفاً عن الاستخفاف بالدين، بقدر اعتباره مهدئاً ومسكّناً، بل ترياقاً أو مورفيناً مؤقتاً للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، وقد استخدمت هذه المقولة شهادة اعتراف لإدانة الماركسية من جانب خصومها، باعتبارها ضد الدين، كما استخدمت من بعض الشيوعيين المتطرفين، أو من بعض المتمركسين السطحيين، لإظهار "ماديتهم" باعتبارها معادية للدين في تحدي لما استقرت عليه الكثير من المجتمعات، الأمر الذي يتطلب فهم الدين كتراكم إنساني لا تهميشه أو تقديسه، لأن كلاهما يؤدي إلى نتائج ضارة، ولكن في كل الأحوال لايمكن للماركسي الاّ احترام الأديان والعقائد والتعاطي معها بما ينسجم أو يتعارض مع الوضع الاجتماعي وقضايا التقدم، وقد استغلت آيديولوجيا العداء للدين في منطقتنا لإصدار فتاوى التأثيم والتحريم.
هناك نقص أيضاً في التعاطي مع الجماليات لحساب الجانب الآيديولوجي، لاسيما في الأصول النظرية، وهذه مسألة لا بدّ من التوقف عندها مثلما قرأ ماركس خطأً دور العامل النفسي،وقد ظلّت المدارس الماركسية والجامعات بما فيها في الدول الاشتراكية تحجم عن تدريس علم النفس أو حتى الإعتراف به لغاية أواسط الستينيات، كما أن هناك نقصاً في فهم دور الميثولوجيا وغير ذلك.

لا بدّ من التوقف عند الفهم الخاطئ من جانب ماركس لجوانب من المسألة القومية عندما اعتبر شعباً، مثل الشعب التشيكي رجعياً (بالمطلق)، رغم أن أفق الحل الماركسي للمسألة القومية نظرياً كان صحيحاً بتأكيده: أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً، وهو ما بنى عليه لينين مبدأً صحيحاً "حق الامم والشعوب في تقرير مصيرها "، وبغضّ النظر عن ذلك فقد جرت محاولة روسية لـ" لنينة " الماركسية من موقع الدولة الاشتراكية البيروقراطية وهذه أدت إلى تصنيمها وجمودها، لاسيما باستخدام مصطلح " الماركسية اللينينية" وكأنها الحدود الفلسفية. وقد تم إهمال الدفاتر الفلسفية للينين والمادية والنقد التجريبي، وهما من أهم ما كتبه.
كما لم تولي الماركسية اهتماماً كافياً بالحريات الفردية وأخضعت الفردانية إلى حكم المجموع بالرغم من أن ماركسية ماركس الأصلية حسب جورج لوكاش أعطت حيّزاً لا يستهان به في موضوع الحريات، لكن علينا الاعتراف أن الماركسية حتى في عهد ماركس أعلت من شأن الجماعية باعتبارها تمثل موضوعية التطور وفقاً للحتمية التاريخية مبرّرة قصور الذات الفردية بكبواتها وتوهماتها.
أستطيع القول أن ماركس هو بداية الماركسية لا منتهاها، وقد آمن ماركس بحرية النقد لا دوغمائيته، ولعل هذا يدفعنا للقول إن المنهج الجدلي بحاجة إلى بنيوية جديدة تحليلية من داخل الماركسية، دون إغلاق الأبواب عليها أو حجرها في مناخ غير صحي، ولابدّ من الانفتاح على ما حصل من تطور لدى المدارس الاجتماعية المختلفة والاستفادة منها.
الماركسية نقدية جدلية وهي نظرية مضادة للمفهوم الميتافيزيقي للمعرفة، إذ أن الماركسية بلا نقيض هي مجرد أحلام نظرية، والوضعية النقدية تعني نقد الوضعيات، وهي المنظار الذي من خلاله أراد البعض رؤية الرأسمالية بتداعياتها وأفقها ومستقبلها، فضلاً عن قدرتها على تجاوز بعض معضلاتها البنيوية، لكن طيف ماركس وربما شبحه يظلّ يطلّ علينا، طالما ظلّت قضية العدالة الاجتماعية غائبة!!

س3- لكن أتريد إقناعنا أن حظّ الماركسية اليوم لا زال قائماً، وإنها ممكنة، بل أن المستقبل أمامها ؟ أليس ذلك "مملكة" عبد الحسين شعبان وليس صخرة الواقع؟
أعادت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية طيف ماركس الذي غاب لسنوات زادت على عقدين من الزمان، لاسيما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية التي كان بانهيارها إنهيار النظرة الجامدة (الستاتيكية) للماركسية، بل يمكنني القول أن الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية (الأبوية) السوفيتية وما شابهها التي طبعت فهمها وتفسيرها وقولبتها في ظل تطبيقات مشوّهة.
وفي ظل انهيار مؤسسات مالية وتأمينية ومصرفية عملاقة، عاد طيف ماركس الذي كان قد أصبح شبحاً لأوروبا العجوز في منتصف القرن التاسع عشر، ولا أبالغ إذا قلت أن بعض ما تحقق كان واحداً من قراءات ماركس التنبؤية لأزمة الرأسمالية العالمية " الدورية"، لكن ذلك لا يعني أننا سنشهد نهاية النظام الرأسمالي، فالرأسمالية لديها القدرة على تجديد نفسها وتجاوز أزماتها. لكن ما يحصل من تراكم ليس بدون ثمن.
هكذا عاد ماركس بقوة إلى المشهد السياسي والاقتصادي، وإلى مراكز الأبحاث والدراسات لا الاشتراكية فحسب، بل الرأسمالية أيضاً بحضور كثيف، واستعيدت مؤلفات ماركس، التي اعتبرت الأكثر قراءة خلال سنوات 2009-2010، في حين كان يُنظر اليه في السنوات الماضية باعتبارها جزءًا من "المتحفية التراثية" للقرن التاسع عشر، خصوصاً بعد أن انصرف عنها الكثيرون من مريديها، بل وغلاّتها المتطرفين، وولوا وجوهم صوب "الليبرالية الجديدة"، الأمر الذي بحاجة إلى وقفة مراجعة وجردة حساب بخصوص الماركسية واتجاهاتها، من زاويتها الفلسفية الفكرية، ومن زاويتها التطبيقية العملية.
غالباً ما يتم الحديث عن الماركسية بلحاظ سلبية المعنى التاريخي للممارسة، سواءً ممارسة ماركس نفسه وتجاوز الزمن للكثير من أطروحاته أو الممارسة الماركسية بعده، أما المنهج الماركسي وهو الأساس، فلعلّه الجزء المنسي من الماركسية، ونسيان أو تجاوز هذا الجزء من الماركسية يجعلها عند البعض شرٌ مطلق وعند البعض الآخر خيرٌ تام، فالأول يقيس على بعض التطبيقات والممارسات الخاطئة المحكومة بزمنها وبظرفها، أما الثاني فهو ينطلق من الكمال والعصمة والثبات، فبدلاً من استخدام المنهج الجدلي على نفسه أولاً، تراه ينغلق ويضيق بل يتشرنق على ذاته، بحكم ادّعاء امتلاك الحقيقة وبطلان ما سواها.
لعل الاتجاه الاول ينطلق من رؤية مغالية في التبديد، في حين أن الاتجاه الثاني يأخذ بالتأييد، وبين المدّنس والمقدّس يضيع المنهج الجدلي، كما ارتآه وكشف عنه ماركس بعد جهد ومعاناة، باعتباره بداية وليس نهاية، منهجاً ديالكتيكياً وليست أحكاماً جاهزة.
ان اعتبار الماركسية علماً كاملاً ونظرية تامة مخالفة لجوهر منهج ماركس الجدلي، فهو أول من قال بعدم القطع بتمامية وكمال كل شيء، الأمر الذي جعل اعتبار كل شيء نسبي، وهو ما ذهب اليه عالم الفيزياء باسكال الذي تحدث عن النقص في العلم والفكر والفلسفة. وكان ماركس نفسه يردد:" لا علم كامل الاّ في مملكة النحل"، وإنّ كل علم ناقص، وفي نقصه سرّ تقدمه التاريخي، ولعل ذلك يذكرنا بالفيلسوف العربي الكبير الصوفي الاتجاه العلاّمة محمد بن عبد الجبار النفري الذي قصد من قول " كلّ علمِ مستقر" يعني " جهلاًَ مستمراً " وذلك لأن كل شيء متغيّر وغير كامل ولا تحتسب الاشياء الاّ بنسبيتها.
ولا يمكن اعتماد قانون : وحدة وصراع الاضداد دون الحديث عن قانون نفي النفي، فالجدلية الماركسية دون القانون الثاني تتحول إلى ثنوية ومثنويات: خيرٌ وشرٌ، جمالٌُ وقبحٌ، نهارٌ وليلٌ، حياةٌ وموتٌ وهكذا. وإن الجدل منهجياً يعني الحفاظ على الجدلية، لا تصنيمها أو تحنيطها، وبقدر كون الماركسية احتراماً وتقديراً لجهد ماركس الكبير والخلاّق، فينبغي اعتبارها أولاً وقبل كل شيء مثالاً لحرية النقد لا دوغمائيته، فالجدل المنهجي الماركسي، بحاجة إلى نقدية من داخله، إضافة إلى من خارجه.
وبهذا المعنى تكون ماركسية ماركس هو بداية الماركسية لا منتهاها، الأمر الذي نحتاج فيه إلى نقد الماركسية السائدة بمنهج ماركس، ونقد ماركس وتطبيق منهجه الجدلي عليه وعلى أحكامه، لاكتشاف ما يتناسب مع أوضاعنا، لا تطبيق تعاليمه، لأن الكثير من تعاليمه وإستنتاجاته وأطروحاته لا تصلح لعصرنا، لاسيما وبيننا وبينه نحو 150 عاماً، وإذا كانت استنتاجاته تعميماً لمعرفة القرن التاسع عشر وعلومه، فالماركسية اليوم، وبخاصة المستقبلية تجاوزت علوم القرن العشرين، لاسيما ما بعد العولمة والحداثة، وهي تسير الخطى حثيثاً في القرن الحادي والعشرين.
هناك نوعان من الماركسية، الماركسية الاولى بإنسابها إلى ماركس " الاصلي" وانجازاته الكبرى، ولعلها في الكثير منها ماركسية نصيّة، لاسيما إذا أخضعت للقراءة المنهجية في إطار حقبتها التاريخية ، ماركس الشاب الهيغلي، وماركس ومخطوطات 1844، وماركس ما قبل رأس المال، وماركس والثلاثية الأثيرة 1848-1852، وماركس ورأس المال، ولا ينبغي أن يؤخذ ماركس كلّه مأخذ الجد، وبهذا المعنى لا ينبغي أخذ " الماركسية الممكنة" عند ماركس كلّها باعتبارها اكتمالاً أو تماماً، فلم يكن ماركس كلياً في عمله النقدي، بل كان نقدياً في عمله الكلي، وهو ما ينبغي أن نفهمه أولاً في نقد هيغل أو تعديله نقدياً.
أما الماركسية الثانية فهي ما بعد ماركس فيمكنني أن أقسّمها إلى قسمين:
القسم الأول – ماركسية النموذج الاشتراكي الاستبدادي في الانظمة التي حكمت الاتحاد السوفيتي منذ العام 1917 حتى انهياره العام 1991 والبلدان الاشتراكية الاخرى، التي اعتمدت الموديل ذاته، وإن اختلفت في التفاصيل في شرق اوروبا أو آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. والقسم الثاني الماركسية المستقبلية "ماركسية ما بعد الحداثة" وكانت ارهاصاتها الاولى مدرسة فرانكفورت وإعادة قراءة تأثيرات هيغل على ماركس.
إن الماركسية وضعية نقدية جدلية، وهي مضادة للمفهوم الميتافيزيقي عن المعرفة والعالم، وهي تكوين يناقض الواقع، وعندما تصبح الماركسية بلا نقيض ستكون مجرد أحلام، وبإعمالها يتأكد ويتأتّى النقيض. لقد جرت محاولات لاختزال ماركس والماركسية إلى تبسيطية، بحيث أصبح فهم التاريخ كلّه ماركسياً بحذف نقيضه الضروري وجدله الخلاّق، وذلك دون مراعاة باحتمال تقديم الضد لضدية أخرى جديدة ، ولعل ماركسية ماركس نفسه كانت وحياً من النقيض، فكيف يتم إلغاء النقيض في الخطاب الماركسي الذي ساد بضعة عقود وما يزال بعضه يصارع على البقاء رغم نقوصه وتقهقره!؟
لا اعتقد بوجود ماركسية نقية أو كاملة على غرار هيغيلية مطلقة أو كليّانية نسقية، ولعلي أميل إلى اعتبار كل عمل ماركسي صرف هو عمل هيغلي بشكل عام، وقد سعى ماركس إلى احتواء نقدي للمتناقضات، وكان هو أكثر من يكره إضافة المزدوجتين اللاحقتين اللغويتين " Marxist " و" Marxisizm"، وكان يرفض اعتبار بعض استنتاجاته وقوانين الكشف التي قام بها مثل منهجه الجدلي في دراسة تاريخ تطور البشرية واستغلال الانسان للانسان عبر فائض القيمة، نظرية كاملة أو نهاية لمعرفة نظرية خالصة، وكان يردد عندما كان أحدهم يخاطبه " أنتم الماركسيون" بالقول: كلُّ ما أعرفه أنني لست ماركسياً!!
وبهذا المعنى لا بدّ من وضع مسافة بين نقد البديل الآيديولوجي ماركسياً، وبين البديل الماركسي للآيديولوجية، أي عدم الاكتفاء بماركس وماركسيته، باعتبارها كل ما لدينا من الماركسية، وذلك باعتماد منهجه النقدي الوضعي المفتوح.
إن اقتصار قراءة الماركسية على ماركس ذاته دون المدارس الاخرى سيكون مأخذاً على الماركسيين، فالمتمركسون بألوانهم وحدهم هم الذين قفلوا خزانتهم على الكتب المدرسية الماركسية التاريخية، ووضعوا مسافة بينهم وبين تجديد الفكرة الماركسية ذاتها، ولعل رد الاعتبار للجدل والمنهج الماركسي النقدي الوضعي قبل تحويله إلى لاهوت وأحكام وقوانين ثابتة ومنزّلة، سيكون مساهمة في إحياء الماركسية بعد أن تصحّرت روحها وتم سلب جوهرها من خلال تطبيقات مشوّهة.
الماركسية هي جزء من التاريخ وليس التاريخ كله، ولعل فهم التاريخ ماركسياً لن يكون فهماً تاريخياً نقياً الاّ إذا أرادت الماركسية السائدة التعالي عليه، فلا يمكن ان يكون هناك وعي بالتاريخ دون تاريخ للوعي، والوعي في الغالب موقف من التاريخ، فبأي وعي ماركسي أصبح التاريخ كله خاضعاً لفهمه الماركسي؟
كان ماركس في إطار عمره البيولوجي ومعارف عصره مهرجاناً لقوة الفكر والسطوع واحتدام العاطفة والجرأة والقراءة النقدية بانتاج فكر جديد نقيض، ولذلك لا ينبغي اختزال ما قام به بمقولات " فوق بشرية "، والماركسية التي سادت في الانظمة الاشتراكية، أو حتى التي وصلتنا مسكوبة بإناء بدوي وبمذاق ريفي، هي غير الماركسية الحداثية، المدنية، المنفتحة، وكانت عبارة عن جمل وشعارات عفا عليها الزمن من كثر التكرار، لهذا السبب أصيبت بالشيخوخة وأحياناً بالعقم، ولم تكن سوى ما تحت أو ما دون الماركسية الحيّة، وغالباً ما كانت تقدّم، من خلال لغة شحيحة وباردة أحياناً وإذا أريد تسخينها فمن خلال حرارتها الثلجية، وكانت في الكثير من الأحيان متكلّفة، مليئة بالاستشهادات المقحمة.
الماركسية المستقبلية الحداثية، الحيّة، القادرة على العيش والقراءة والاستنباط، ستكون متحرّرة من زمانها، وهي تجسيد للواقع وانعكاس له، أي: ماركسية لا تتثاءب في الصباح، لتغطّ في كسل عميق في المساء، لأنها ماركسية غير فائضة أو مرتشية أو خشبية أو ماركسية الديجيتل. ولعل ثمة كوابح وتعقيدات لا تعدّ ولا تحصى تقف أمام هذه النظرة الانتقادية فهي لا تريد الاستيقاظ ولا نفض غبار الزمن، بعد استرخاء في نوم عميق يقترب من السبات، ولا زال بعض أصحابنا لا يعرفون من الماركسية وعلم الاقتصاد السياسي، أكثر من فهم مبتسر لما كتبه نيكيتين في الخمسينيات والذي تم تعميمه على المدارس الحزبية، لا كما كتبه ماركس قبل وبعد كتاب رأس المال.
وتشعر أحياناً بالحرج حد الشفقة على ماركسيين طقوسيين لا يعرفون من الماركسية سوى الأجندة التي في حوزتهم عن الاحتفالات بالمناسبات المختلفة، مثلما يفعل بعض أقرانهم المتدنيين الشكليين أو الطقوسيين، وبالطبع فإن الشعائر وحدها ليست دليلاً على ماركسية الماركسي، أو إيمانية المتديّن.
وللأسف فإن الماركسية المدرسية الذرائعية التي كانت سائدة ظهر عليها عامل جديد عولمي، لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي أصبح بسهولة نقل الولاء من موسكو إلى واشنطن تحت مبررات البرغماتية والواقعية وعدم الانعزال وغيرها من التبريرات التي تقدمها بعض القيادات، وأحياناً تحاول أن تصبّها بإناء " ماركسي" على الرغم من الصدأ الذي يلفّه.
تلك هي الحقيقة التي نبحث عنها أحياناً لدرجة الجنون على حد تعبير أندريه مارلو.

س 4- لننتقل من التجربة الفكرية النظرية إلى التجربة السياسية الملموسة: أسألك ما هي الملامح المتبقية في ذاكرتك من نشأة صبي شغف باليسار وأفكاره مبكّراً في مدينة تُعدّ عاصمة دينية للعالم الإسلامي والشيعي منه على وجه الخصوص، كما أنها مشهورة بأنها تضم أكبر مقبرة في العالم وتكتنز أزقتها الضيقة جوانب سرية لحياة أناسها العاديين وعمائمهم السوداء والبيضاء ....متى حصلت عندك شرارة الوعي بهذا اليسار ؟ و إلى أي حد أثّرت أجواء هذه النشاة في ذلك وتوجيه المسارات اللاحقة من حياتك؟
** كنت دوماً أسعى لتحريض السيد هاني فحص لكتابة النجف التي في داخله، ذلك الماضي الذي عبّر عنه بقوله: "ماضي لا يمضي"، ولعلّي كنت وأنا أستمع إليه، كأنني أطالب نفسي بإخراج النجف التي في داخلي، بصورتها المرئية وصورتها اللامرئية، إلى حيث المعنى والدلالة. هكذا كنتُ أشعرُ أن النجف متغلغلة في داخلي، ولكأنني في فضاء من الحب واللانهايات الأبدية، عاشق ولا شيء يروي ظمأه وشوقه لمعشوقته.
ما بيني وبين النجف علاقة سحرية وسرّية يتعذّر تفسيرها، هي أبعد مما تراه العين أو تتخيّله، ترتبط بالذكرى والذاكرة والرغبة المستمرة والصيرورة والحلم المتصاعد، لذلك ظلّت النجف تسكن مخيلتي، كقصيدة متواصلة الإبداع، لغتها غير قابلة للانقطاع، كنص شامل تعانقت حروفه وتكاثرت معانيه.
الحوار بيني وبين النجف يتواصل منذ عقود من الزمان، بوتيرة مستمرة تارة، ومنقطعة تارة أخرى، لكن هذا الحوار العفوي لم يكن بلا نظام، أنه يأتي أحياناً مكثّفاً بصور متناسقة، وأحياناً أخرى مفاجئاً بصور متنافرة، لكنها منسجمة فكراً ولوناً، متجانسة حتى باختلافها وتنوّع طيفها الأدبي والفني والاجتماعي.
باستمرار كنت أتحدّث مع النجف التي أعرفها، أتحدّث معها بصفة الحضور بالرغم من الغياب، كنت أريدها دائماً حاضرة، حتى ولو كانت على صورة برقٍ أو شعاعٍ، بايحاء وإيقاع سرعان ما أدرك كنهه، بإشاراتها الغامضة المحببة، اللذيذة.
ألتجئ إلى النجف كنص أدبي وقراءة جدلية، ألتجئ إلى قبابها الذهبية، للحكمة والفلسفة المزدانة، لصوت المواكب الهادرة، ولنسائها الجميلات، للمناشير السرّية والجنائز المستوردة والعمائم المصدّرة، حسب الشاعر أحمد الصافي النجفي، فسرعان ما أعرف الباطن من الظاهر والخفي من المكشوف والغامض من الواضح، حين تلتبس فيها بعض الأمور ويستشكل الفكر والدين والجمال والأمل.
متعتان للجمال في النجف، متعة العقل ومتعة الشعر، حيث يتنامى الفكر المنفتح في مجتمعها المنغلق، حسب تعبير السيد مصطفى جمال الدين، والانغلاق الظاهري، يحمل تحت ثيابه انفتاحاً وتطلّعاً للتغيير والتجديد وحركة تمرّد وانعتاق وتوق للحرية بلا حدود، ولعل هذا التجلّي ليس سوى ما تختزنه النجف من طاقة إبداعية- عقلية خلاّقة، ووهج شعري متدفق مثل شلال!!.
لا أستطيع إغلاق أبواب النجف في رأسي فقد ظلّت مشرّعة تدخلها الريح من كل الاتجاهات، فعند كل قراءة نقدية وضعية، تتجاوز الآني إلى المستقبلي، والماضي إلى الحاضر، وهي قراءة أبعد من حدود السلطة والسياسة بمعناها الديني- الثيوقراطي والآيديولوجي. ويخطأ من يتوهم أن بإمكانه حصر النجف بقالب أو بمجموعة أو فئة أو طائفة، فالنجف هذا المعهد الدراسي المفتوح، ظلّت تتوالد فيها أكثر من ألف عام منصّات الفقه والفكر والفلسفة واللغة والأدب والشعر بشكل خاص، منذ أن جاءها الإمام الطوسي هارباً من بغداد العام 449 هجرية، حيث نظّم حوزتها العلمية وأضفى على منهجها الدراسي حركية ودينامية، احتفظت بها على الرغم من محاولات تقييدها وتجميدها أو حبسها بأطر معينة.
وقد تركت المدرسة النجفية تأثيراتها العلمية والثقافية والأدبية على مختلف الأوساط والحقول والفئات، وكانت ملتقى الأعراق والقوميات، فيها تتفاعل الثقافات وتتداخل الحضارات، في إطار إنساني وبُعد إسلامي وهوية عربية، وفيها يتعايش المتديّن واللا متديّن، اليساري واليميني، ولكل رافده ولونه وطيفه الذي أضفى على النجف هذه الفسيفساء المتّحدة – المتناسقة- المختلفة في إطار مؤتلف.
علّمتني هذه النجف كيف أوالف بين الماء والشجر، وأؤاخي بين الهواء والحجر، بين المادة والخيال، وبين الشعر والواقع، فبتُّ أشعُر أني أولد فيها كل يوم من جديد، بل في كل يوم، هي تعيد خلقي، وكأنني مولودها الذي ما زال مربوطاً بحبلها السري فما هي قطعته ولا أنا أردت قطعه.
هي ليست الماضي حتى وإن كان حاضرها ملتبساً، تتشوّش فيه المرآة وتضطرب الرؤى وتتلبّد الغيوم، هي المستقبل فقد استعصت وظلّت مكابرةً، ولعلها كانت قد عقدت معاهدة صداقة تاريخية بينها وبين التمرد. هي النجف استعصاءٌ واستثناءٌ في الآن ذاته، وتلك ليست فكرة، بل عبرة لمن يريد أن " يعتبر" منها!
هذه النجف تُعيدُني إلى طفولتي، وفي الآن نفسه تجرّني إلى الأمام، وتحركّني باتجاه القادم، المفاجئ، الجديد، الذي كان وجهاً من وجوهها المُدهشة، المفعمة بالحيوية!
لعلي كلّما إزددتُ غوصاً في النجف، إزددتُ قدرة على التواصل مع الآخر، وقدرة على تفهّم وقبول التعايش، وحين تكون الهوية من القوة والفاعلية تكون مفتوحة وحيوية وقابلة على التلاقح مع الغير.
هذه النجف ظلّت على مرّ الأيام فاتحة ذراعيها كالبحر تستقبل كل فكر جديد، رافعة رايات الحرية لجدل بلا قيود، ومثلما تستقبل النجف البشر والفكر وكل ما هو جديد، فهي تستقبل أيضاً الأموات حيث تضم مقبرتها "الغري" – وادي السلام – وهي أكبر مقبرة في العالم رفات الملايين من شتى أنحاء العراق، بل والعالم الاسلامي، الذين يريدون أن يدفنوا قرب قبر الإمام علي. النجف ذلك الفضاء الفضي المفتوح والسراب اللامتناهي، فليس لصحرائها المترامية الأطراف حدود.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حلبجة: العين والمخرز! - شهادة عربية حول حلبجة والأنفال
- “إسرائيل” . . من حل الصراع إلى إدارته
- البارزاني في ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين..الكاريزما الشخصية ...
- الأمن أولا والحرية أخيراً.. والعنف بينهما
- العدالة وإرث الماضي
- الجنادرية والروح الجامعة
- العدالة الانتقالية وخصوصيات المنطقة العربية
- العدالة الانتقالية: مقاربات عربية للتجربة الدولية!
- كلام في ثقافة التغيير!
- الهوِيّة الوطنية والربيع العربي
- الربيع العربي منظور إليه استشراقياً
- فريضة التسامح وجدلية القطيعة والتواصل!
- مصير الإمام موسى الصدر: متى خاتمة الأحزان؟
- التواصل والقطيعة في فريضة التسامح
- مقهى وروّاد ومدينة: ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!
- العنف واللاعنف في الربيع العربي
- محنة العراق بين الديمقراطية والحرية
- الربيع العربي وردّ الاعتبار إلى السياسة
- تعويم الدستور العراقي
- إشكاليات ما بعد الربيع العربي


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - الماركسية تحررت واستعادت عافيتها بعد تخلّصها من البطريركية (الأبوية) السوفيتية