أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - إبراهيم أصلان والكتابة بلغة فن الهمس















المزيد.....



إبراهيم أصلان والكتابة بلغة فن الهمس


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3678 - 2012 / 3 / 25 - 10:04
المحور: الادب والفن
    


يعتمد الأديب الكبيرإبراهيم أصلان فى كتابة رواياته وقصصه القصيرة على تقنية فنية أثناء عملية الخلق الفنى ، هى الإبداع بأسلوب فن الهمس (إنْ جاز هذا التعبيرالمجازى) والمقصود ب (الهمس) هنا التأكيد على نفى النقيض ، أى أنّ (الهمس) ضد المباشرة وضد لغة الخطابة وضد كل ما هو العدو الأول للغة الفن ، وإذا كانت لغة الخطابة تزول وتتبخر بمجرد إطلاقها ، فإنّ فن الهمس هو الذى كتب لكل الأعمال الإبداعية البديعة البقاء . وإبراهيم أصلان لأنه أعطى لفن القصة والرواية عمره ، ولأنه أحبّ هذا الفن واحترمه ، لذلك نجده قارئًا من طراز رفيع للإنتاج الأدبى فى فن القصة والرواية العالمى . ويذهب ظنى أنه استفاد من روّاد الإبداع الروائى فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، أمثال أرنست همنجواى (1898- 1961) الروائى الأمريكى الكبير الذى تأثر به كثيرون (فى الغرب وفى الشرق) وهو مؤلف الروايات البديعة (سوف تُشرق الشمس) ، (وداعًا للسلاح) ، (لمن تدق الأجراس) ورائعته (العجوز والبحر) التى يبدو فيها صوت (الهمس) هو البطل الحقيقى لهذه الرواية البديعة والتى تأثربها كثيرون ، وهو الحاصل على جائزة نوبل عام 1954 . و(الهمس) نجده أيضًا فى إبداع الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف (1882- 1941) والتى يُصنفها النقاد على أنها من كتاب القصة التأثيريين . ورغم المعانى الإنسانية العميقة فى إبداع جيمس جويس (1882- 1941) الروائى الأيرلندى ، فإنّ (صوت الهمس) هو اللحن الأساسى فى كتاباته ، حتى عندما كتب روايته البديعة (عوليس) وأدان فيها اليهود وحذر من سيطرتهم على اقتصاد أيرلندا . و(صوت الهمس) نجده كذلك عند الروائى الفرنسى مارسيل بروست (1871- 1922) حتى وهويكتب رائعته الفلسفية (البحث عن الزمن الضائع) فى 16 جزء . ويُصادفنا (صوت الهمس) فى إبداع الروائى هنرى جيمس (1843- 1916) وهو واحد من أشهر الروائيين الأمريكان ، وتتميز رواياته بمعالجته الموضوعية الواقعية لشخصياته وبتحليلها والتعمق فى دوافعها الخفية ، دون أية مباشرة أو اللجوء للغة الخطابة . ورغم أسلوبه المعقد الدقيق فإنّ النقاد يعتبرونه من أساتذة الصنعة الفنية . ومن رواياته (صورة سيدة) ، (ما عرفته ميزى) ولعلّ أهم رواياته (جناحا الحمامة) ، (السفراء) ، (الإناء الذهبى) أما أشهر رواياته فهى ( دورة اللولب) وعندما نبحر فى عالم الإبداع العالمى ، لابد أنْ نتوقف أمام الكاتب الأمريكى هيرمان ملفيل (1819- 1991) الذى تمكن براعة فائقة من إعادة صياغة تجاربه الحقيقية فى مغامراته البحرية ، ونسج منها الجو الملائم لرواياته التى تدور حول حياة البحار وفى وصف البلاد النائية . ومن مؤلفاته (تيبى) ، (أومو) وفى هاتين الروايتين جسّد المغامرات فى بحار الجنوب . وقد أثارتْ هاتان الروايتان ضده عاصفة من النقد اللاذع بسبب وصفه الواقعى لحياة الأهالى المعدمين وهجومه على سلوك المبشرين . أما أهم رواياته فهى رواية (موبى ديك أو الحوت) نظرًا لما تنطوى عليه من رمزية فلسفية يُغلفها الحزن المرير ، ولكن كل ذلك تم بلغة (فن الهمس) .
******
يذهب ظنى إلى أنّ هذا التمهيد كان ضروريًا للدخول إلى عالم إبراهيم أصلان الروائى والقصصى . كما يذهب ظنى أيضًا إلى أنّ إبراهيم أصلان إذا كان قد استفاد من تجارب المبدعين الأوروبيين والأمريكان ، إلاّ أنه وضع بصمته الخاصة فى كل ما كتب . و (الهمس) عند إبراهيم أصلان يعتمد على بديهية يتغافل عنها بعض الكتاب ، بديهية هى المبدأ الأول عند كل مبدع أصيل : الإيحاء أشد بلاغة من الإفصاح ، والهمس أكثر تأثيرًا من الصراخ . ومثل أية متوالية موسيقية ، فإنه طالما انحاز ل (فن الهمس) فكان طبيعيًا أنْ يعتمد على أسلوب التجميع التراكمى ل (المنمنمات) ومن هذا التجميع التراكمى تكتمل اللوحة الإبداعية ، مثلها مثل اللوحة فى الفن التشكيلى ، يظل فضاؤها متسعًا ومتعددًا لكل التأويلات والمعانى والتفسيرات .
وأسلوب (المنمنمات) لايعتمد على أحداث بمعناها التقليدى . لذلك نجد الحدث / الأحداث عند إبراهيم أصلان تسرى مع تيار الحياة اليومية ، مثل الموجة التى تبدو عنيفة فى أحيان وهادئة فى أوقات أخرى . وهذه التقنية أتاحت للمبدع أنْ يبتعد تمامًا عن الفواجع الميليودرامية التى يتبخر تأثيرها سريعًا . وعلى سبيل المثال فإن الجدة (هانم) تختفى فى بداية الصفحات الأولى فى رواية (عصافير النيل) (الصادرة عن دارالآداب – بيروت عام 1999فى طبعتها الأولى ، وعن هيئة قصورالثقافة فى طبعتها الثانية عام 2000) ولكن لأننا لسنا إزاء كتابة تقليدية ، أى لسنا إزاء كتابة تهتم بالحادثة دون دلالاتها الإنسانية ، فإنّ إختفاء الجدة هانم فى ص 14 يظل صداه عميقًا ومؤثرًا فى مجمل المنمنمات التى كوّنتْ الإطار العام للرواية ، إلى أنْ نعثر عليها (= الجدة هانم) فى ص 225 فهى مازالت تبحث عن بيت ابنتها نرجس ، تدور مع الأزقه ، وتغيب فى الحارات ، تفتش فى وجوه الناس ((وإذا داهمها الليل تحتمى بالماء . تنام جالسة بجرمها الصغير تحت شجيرات الخروع بأوراقها العريضة المائلة على حافة النهرالساكن . تغفو. وتقوم على ارتجافة الفجر الفضى عند الكوبرى الحديدى القاتم . تُبلل وجهها ، وتمضغ قبضة من الأعشاب الرطبة وتحبو)) وإذا كان الطفل الإنسانى يبدأ ب (الحبو) فكذلك تنتهى حياة الجدة هانم بالحبو، ليس بسبب عمرها المتقدم الذى تجاوز التسعين عامًا عند البعض أو المائة والأربعين عند آخرين ، وإنما لأنها لاتريد أنْ تًصدّق أنّ ابنتها نرجس قد ماتت ، ولاتريد أنّ تُصدّق أنّ ابنها عبدالرحيم قد مات ، لذلك فهى ((تبحث عن مداسها لكى تلبسه وتروح لابنتها .. ثم تبحث عن المداس لكى تلبسه وتروح تبحث عن ابنها)) وهكذا تظل تبحث عن المداس لكى تروح لهما ، والسبب كما قالت دلال زوجة ابنها عبدالرحيم ((بيتهيأ لها إنهم عايشين)) (ص 18، 19) فالكاتب هنا تجاوز المعنى المباشر للحدث (إختفاء الجدة هانم) وإنما كثف الإضاءة حول دلالاته ومعانيه الإنسانية ، من خلال وعيه بمفردات الشخصية المصرية ومكوناتها ، إذْ أنّ الثقافة القومية المصرية التى توارثناها عبر آلاف السنين ، أثبتتْ عمق العلاقة الوجدانية داخل كيان منظومة الأسرة ، المُجسّدة للترابط بين الأجيال ، وهى ظاهرة متوارثة عن جدودنا المصريين القدماء . كما أنّ المبدع وهو يُمهد لاختفاء الجدة هانم ، استخدم آلية الإبداع الساخر بشكل فنى بديع ، إذْ أنّ الجدة هانم عندما رأتْ النعش المحمول عليه ابنها عبدالرحيم سألت ((همّ شايلين الواد عبدالرحيم ورايحين فين ؟)) ولأنّ أولادها وأحفادها تعمّدوا إخفاء خبر وفاته عنها ، خشية عليها من صدمة الفراق ، فلم يُصرّحوا لها بالحقيقة ، فقالت ((يخيبك يا عبدالرحيم .. لازم الانتخابات رجعت تانى)) وتتذكر أيام شبابها حيث أنّ ((المنشاوى باشا نجح)) (ص 10) وهكذا يلضم المبدع بساطة السرد بعمق الدلالة .
وكما حدث الخلط فى تداخل الأزمنة عند الجدة هانم ، نجد أنّ هذا التداخل يأخذ أشكالا عديدة ، وأيضًا بأسلوب الفن الساخر، حيث نجد (البهى عثمان) عندما أراد أنْ يشرب الماء ((تناول القلة من جنب التليفزيون)) (ص24) وعندما ذهبتْ نرجس لخطوبة البنت أفكار لشقيقها عبدالرحيم ، فإنّ أم أفكار قدّمت لها نصف تفاحة وللعريس النصف الآخر، كانت نرجس صريحة فقالت ((دى طعمها جاز يا ولاد)) فقالت أم العروسة ((آه والنبى .. دى ريحتها جاز بصحيح.. يمكن من السكينه)) وسأل خال العروسة عبدالرحيم ((أُمال إنت يا سى عبده .. كلتها إزاى ؟)) فقال عبدالرحيم ((أنا إفتكرتْ إنْ التفاح طعمه كدا)) وهذا – بالطبع – ما ضايق العروسة التى قالت له بعيدًا عن أهلها ((يعنى لازم تعرّفهم إنك كمان .. عمرك ما كلت تفاح ؟)) وعندما أكد لها ((أنا كنت بأهزر)) لم تستوعب دعابته (ص 86) وإذا كانت (القلة) الفخار التى تتولى تبريد الماء بجانب التليفزيون ، فإنه عندما انقطع تيار الكهرباء عن شارع فضل الله عثمان ، فقد تم اللجوء إلى اللمبة الجاز الموضوعة على التليفزيون (ص 178)
اللجوء إلى فن الهمس ساعد المبدع على تجميع تراكمات المنمنمات ، فنجده يُكثف آفة الميراث ، تلك الآفة التى شغلت البشرية وتسبّبتْ فى الكثير من المآسى ، كثافة صاغها إبراهيم أصلان فى أقل من صفحتين : أفراد العائلة يتساءلون من أحق بالأرض التى كانت فى الأصل ملكًا للجدة عزيزة ؟ وعزيزة ماتت . الثلث ورثته ابنتها هانم ، جدة عبدالله عثمان . والثلثان ورثهما ابنها عبدالعزيز، شقيق جدته . خصوصًا أنّ عبدالعزيز ظل يفلحها بنفسه . لكن عبد العزيز مات . والعمدة أعطاها لمستأجر من معارفه . أبناء عبدالعزيز لهم الحق فى ثلثى الإيجار، وهانم الثلث . لكن هانم ماتت . الثلث (إذن) يرثه أبناء هانم – نرجس وعبدالرحيم- ثلث لنرجس وثلثان لعبدالرحيم . ونرجس ماتت . المفروض أنْ يرثها عبدالله واخوته . وعبدالرحيم مات . والمفروض أنْ ترثه دلال (زوجته) وعيالها . ودلال أخبرته (= عبدالله عثمان) أنّ العمدة عبد الرحمن مات . والمستأجر القديم مات . وعياله ماتوا . ولا أحد منهم يعرف أين هى الأرض ، ولا من يركبها الآن . حكاية لا أول لها ولا آخر. صحيح أنّ كل حى منهم له حق ، ولو شبر فى هذه الأرض . لكن أين ؟ وكيف ؟ أفراد العائلة يتوسّمون فى عبدالله عثمان أنْ يذهب إلى القرية ويحصل لهم على حقوقهم . عبدالله عثمان يمشى بجوار النهر. كان النهر ساكنًا ، وبدتْ أضواء المصابيح التى انعكستْ عليه عكرة وذاوية . فكر عبدالله عثمان أنّ الماء نائم . وفكر ((يُسافر يقول يا من ؟)) وراح يمشى ويُفكر (ص 146، 147) هذه الكثافة الفنية أغنتْ عن الكثير من التفاصيل التى لا تُضيف وعيًا ولا تُعمّق الدلالة ، خاصة أنّ المنمنمات المتناثرة ، تضافرتْ مع هذه الكثافة فى تجميع الصورة الكلية لمأساة البشر المتمسكين بآفة الميراث ، بكل أبعادها الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ومع مراعاة أنّ كل ذلك تم من خلال فن الهمس .
الغموض الفنى :
ومثل المتوالية الموسيقية ، نجد أنّ كل مفردة فى تقنيات الكتابة ، تلتحم بالمفردة التالية لها وهكذا : فإذا كان المبدع قد انحاز إلى فن الهمس ، فهذا الفن أخذه إلى أسلوب المنمنمات ، وهذا بدوره صعد به إلى أعلى درجات الكثافة الفنية ، وهذه بدورها كان لابد ومن الطبيعى أنْ تفتح له آفاق الإبداع الأصيل ، والذى يُمكن تلخيصه فى كلمتين : الغموض الفنى ، لأنّ هذا الغموض الفنى لصيق بجماليات الإيحاء الذى هو أشد بلاغة من الإفصاح ، وأكثرتأثيرًا من الصراخ ، ولكن بشرط واحد : لابد للمبدع أنْ يضع مفاتيح حل شفرات الغموض ، وإلاّ تحول الغموض الفنى إلى مجرد (حلية) لامعنى لها ، لأنها لاتَضيف وعيًا ولاتتوقف عند أى مغزى إنسانى ، وبالتالى نكون إزاء (الغموض المغلق على نفسه) كما يفعل البعض ، وهو الأمر الذى وعاه إبراهيم أصلان فى كل كتاباته الإبداعية .
بعد المشهد السابق مباشرة ، الذى جسّد الموقف الدرامى لحيرة عبدالله عثمان ، الذى يتمنى ويرغب فى مساعدة أفراد العائلة للحصول على حقوقهم فى الميراث ، ولكنه لايعرف كيف ؟ ولا يعرف حتى اللجوء إلى من ؟ بعد أنْ أصبحتْ الأرض أشبه بالمشاع بين أكثر من فرد ، خصوصًا وأنّ العمدة أباح لنفسه توزيعها على بعض معارفه وخلصائه . بعد هذا المشهد فإنّ عبدالله عثمان يتذكر فترة مهمة من طفولته ، حيث كان أطفال القرية يصطادون العصافير بطريقة فيها الكثيرمن القسوة . وعبدالله عثمان الطفل لم يفلح مثلهم فى اصطياد ولو عصفورة واحدة . وذات مرة عثر على عصفورة جريحة تعرج . حملها ووضعها فى الفخ (مثل الذى كان الأطفال يستخدمونه) ليوهم أمه أنه نجح فى اصطياد العصفورة . أخرج العصفورة من جيبه وفتح حلقة الفخ . حاول أنْ يجعله ينطبق على رقبة العصفورة ، التى صوصوتْ من الألم . عند هذه اللحظة لم يُطاوعه قلبه . وقف يُفكر فى هذه المشكلة . فجأة .. رمقته عين العصفورة بنظرة لامعة. خمشته بأظافرها الرفيعة الحادة . جرحته . العصفورة قرّرتْ الهرب والتحرر من محاولة قيدها . وبعد عدة محاولات فى المطاردة ، أدرك عبدالله عثمان أنّ العصفورة هدّها الإعياء ، فأدرك أنها هالكة لا محالة . ثم رأى أنها تعلمت الطيران . وحوّمت مرتين ثم اندفعت تعبر الأسوار والأشجار، وتعلو فى براح السماء البعيدة .. وتختفى.. وينتهى هذا المشهد (الذى يتذكره عبدالله عثمان من بئر الطفولة) بيد أبيه تلامس كتفيه من الخلف .. فارتجف فى العتمة (من ص 150- 155) هنا نجد التوظيف الدرامى للغموض الفنى فى حركة القبضة المفاجئة وما تلاها من خوف فى العتمة . فهذه الحركة الأخيرة محملة بالكثيرمن الدلالات التى تتعدد بتعدد القراءات ، وإنْ كنتُ أعتقد أنّ حركة الخوف لصيقة بتحريك الضمير وهو يتذكر عذابات العصفورة ، ثم دلالة ذلك بإصرار العصفورة على الطيران ( = الإصرار على الحرية) وأنّ قيد العصفورة يُقابله قيد الميراث . وأنّ عذابات العصفورة يُقابلها حيرة عبدالله عثمان الذى لا يعرف كيف يحصل لأفراد العائلة على حقها فى الميراث .
وعبدالله عثمان (الأستاذ الذى يضع أفراد العائلة أملهم فيه) عندما مشى فى شارع فضل الله عثمان ، رأى البنت شربات الصغيرة التى كانت تلاحقه من زمان بعينيها الشقيتين ، والتى كانت تُشاركهم اللعب على شاطىء النهر بضفيرتيها.. ثم اختفتْ .. فى هذه المرة وجدها ((كومة كبيرة من اللحم .. تجلس على الأرض حافية فى مدخل أحد البيوت دون أن يعرفها .. ثم سمعها تقول بين الغناء والكلام : والله زمان يا سلاحى.. فعرفها من عينيها ومن ابتسامتها الجميلة القديمة.. ورأى وجهها يتهلل عندما أدركت أنه عرفها وقالت له (إتفضل) فهمس بكلمة (متشكر) وهويشعر بشىء من العار(ص 143- 144) عند الجملة الأخيرة التى ختم بها المبدع هذا المشهد ، لابد للقارىء أنْ يتوقف عند دلالة معنى الشعوربالعار. ولكن إذا رجع القارىء إلى بداية المشهد ، سيجد مفتاح حل شفرة الغموض ، إذْ بدأ المشهد ب (الست دلال) وهى تطلب منه أنْ يُطمئنها بعد أنْ يعود من البلد .. بينما شقيقه سلامه يقول له ((ما تنساش موضوع الأرض)) (ص 142) إذن فإنّ الكاتب من خلال الهمس وبواسطة المنمنمات وضع أمام القارىء صورتين متقابلتين ونقيضتين : صورة اللهفة على موضوع ميراث الأرض ، وصورة البنت شربات (التى يتذكر طفولتها وعينيها الجميلتين وضفيرتيها وهى تلهو وتلعب على شاطىء النهر) ثم صورتها الأخيرة وهى عبارة عن ((كومة من اللحم)) ومع ذلك تبتهج لأنّ شخصًا ما تذكرها .
الوعى بمفردات الشخصية المصرية :
فى مجمل أعمال إبراهيم أصلان ، وجدتُ لديه الوعى العميق بمفردات الشخصية المصرية ، بكل إيجابياتها وسلبياتها ، وهذا الوعى جمع بين العمق الوجدانى ، وبين التصرفات ذات الطابع النفعى المحض ( = براجماتية) حتى فى اللحظات التى تتطلب الخشوع أثناء تأدية فروض العبادة ، كما حدث ((حين تدحرجتْ بريزة فضية من جيب أحد المصلين واستقرت أمام محمد أفندى الرشيدى والبهى عثمان ، ولأنّ البهى عثمان كان يترصد ل محمد الرشيدى ، وبالتالى يعمل على رصد كل عيوبه ، لذلك عندما كانا يُصليان معًا ، لمح (أثناء الركوع) كف محمد الرشيدى وهى تنزل على البريزة بالضبط .. وقال : سبحان ربنا الأعلى ، ثلاث مرات . وسحب كل منهما يده واعتدل . كانت البريزة بقدرة قادر قد اختفتْ)) (ص 41) والبهى عثمان الذى كتب العديد من الشكاوى ضد المصلحة التى أخرجته على المعاش فى سن الستين ، بينما يرى أنّ حقه أنْ يخرج على المعاش فى سن الخامسة والستين ، وإذْ بلغ به اليأس مداه بدأ يسخر علانية من مشاعرالناس ولم يعد يهتم إطلاقًا بما يقوله فلان أو فلانة .. ثم توقف تمامًا عن الذهاب إلى الجامع (ص 51)
وعندما مات البهى عثمان (زوج نرجس) ومرّ أمامها محمولا فى صندوقه الخشبى ، رفعتْ نرجس وجهها بالعيون التى جفّ فيها الدمع وصاحت تُعاتبه (( كدا برضو تعملها يا بو عبدالله)) (ص 57) فرغم أنّ الوجدان المصرى شديد الإيمان بالقدر ، وأنّ ((الموت حق)) وأنه فى ((كتاب معلوم)) ومقدّر سلفًا بالمشيئة الإلهية ، رغم كل ذلك نجد أنّ كثيرين (خصوصًا بين الطبقات الشعبية) يُعبرون فى لحظة الوداع عن فاجعة الفراق ، بذات الكلمات التى نطقت بها نرجس وهو تودع زوجها ((كدا برضو تعملها يابوعبدالله)) كأنما هو الذى اختار وحدد لحظة وفاته وليس القضاء والقدر. ونرجس عندما سألتْ شقيقها عبدالرحيم عن أمه قال ((بتسلم عليكى)) طيب ((وستك عزيزة عامله إيه ؟)) فكانت إجابته ((زى القرده)) طيب ((وخالك عبد العزيز، قال ((حلو)) (ص 65) فإذا علمنا (من أحداث الرواية) أنّ عبدالرحيم لايكره جدته عزيزة ، بل هو يحبها ، وإذا علمنا أنّ شخصيته أقرب إلى البوهيمية ، وتعلقه الدائم بالجنس المتجسد فى تعدد زيجاته ، تقبلنا وصفه لجدته عزيزة وأنها (زى القرده) فهو وصف يجمع بين الفكاهة والسخرية ويحمل معنى القوة والعافية المتمثلتين فى نشاط القرود وخاصة عند الانتقال من شجرة إلى أخرى . ويؤكد ذلك بلاغته فى وصفه لحال خاله بأنه ((حلو)) .
ونرجس طوال أحداث الرواية تُعامل شقيقها عبدالرحيم كما لو كانت أمه وليست شقيقته ، فهى شديدة العطف عليه والإهتمام بكل خصوصياته ، لذلك عندما مرض ، فإنه لم يهدأ إلاّ بعد أنْ أعدّتْ نرجس كوبًا من الشاى ودعكتْ جبهته بنصف ليمونة (ص 72) تمامًا كما تفعل الأم المصرية مع أطفالها ، وتمامًا مثلما هى عادة شعبية تندرج تحت ما يُسمى بالطب الشعبى .
ولأنّ إبراهيم أصلان غاص فى الوجدان الشعبى ، لذلك نجد تحايا المصريين تتردد على ألسنة شخصياته فى كل صفحات الرواية مثل (العواف) عند دخول شخص على شخص آخر، فعندما زارتْ نرجس دلال زوجة شقيقها عبدالرحيم قالت لها ((عواف يادلال)) فكان رد دلال ((الله يعافيكى يا عمتى)) (ص 161، 162 ، 176) وهذا التعبير ((عواف .. يعافيكى)) كان شائعًا لدى غالبية شعبنا قبل غزو التعليم والإعلام للعقل والوجدان المصرى ، وفرض تحية واحدة ، تجسيدًا للشمولية والأحادية ، لنفى التعددية التى تميّزتْ بها الشخصية المصرية ، حتى فى ابتكار شتى التعبيرات الدالة على هذه التعددية ، ومنها تعدد التحايا ، مثل تحيا الصباح المتعددة وتحايا المساء ، وتحايا الخروج من الحمام (نعيمًا) وتحايا الانتهاء من إخراج ما فى المعدة (شُفيتم) وبعد الإنتهاء من الصلاة (حرمًا) إلخ . أما لفظة (عمتى) فهى تعبيرمصرى مجازى تقوله الزوجة لشقيقة زوجها ، وهذا التعبير يحمل معنىً إنسانيًا عميقًا ، إذْ أنه يجعل العلاقة الأسرية أقرب إلى صلة الدم منها إلى مجرد صلة النسب .
ومن بين العادات المصرية التى وعاها المبدع ، خصوصًا فى الأحياء الشعبية ، أنّ أبواب الشقق غالبًا مفتوحة ، لذلك عندما زار محمد أفندى الست نرجس.. ومدّ إصبعه ونقر على باب الشراعة قالت ((أدخل يا اللى بتخبط)) (ص 169) ومن ملامح الشخصية المصرية التى انتبه إليها المبدع ، اقتحام أية مشكلة وعدم التردد فى ممارسة أية مهنة حتى ولو كان الشخص غير متخصص فيها مثلما حدث بعد وفاة عبدالرحيم ، إذْ أنّ من تولى غسل الجسد بعد الوفاة أبوخالد وهو شخص ليست له أدنى علاقة بهذه المهنة ، وكان المبرر ((إنها ليست شغلانه .. وأنّ أولاد خاله أولى بالمصاريف التى سيأخذها المغسل الغريب)) (ص 207) ولكن أحد الذين حضروا الغسل ألحّ على أنْ تكون ((الليفه ناعمه)) والسبب لأنّ الليفه ((لو خشنه ممكن تجرح جسد الميت ، لإنْ البنى آدم مننا طول ما الروح فيه ممكن يستحمل .. لكن أول ما ربنا يفتكره ، جلده يبقى رُهيف ، وأى شىء ممكن يؤثر فيه)) (ص 210) ورغم أنّ هذا الكلام عكس الحقائق العلمية ، فإنّ غالبية المصريين (وهو ما شاهدته بنفسى) يحرصون على ضرورة أنْ تكون ((الليفه ناعمه حتى لا تجرح جسد الميت)) ولأنّ الشخصية المصرية شديدة الإيمان بالغيبيات ، لذلك كان لابد من خروج أى شخص غير طاهر ، لأنّ ليس له الحق فى حضور غسل الميت ((ولا مؤاخذه يا جماعه.. إحنا فى حضرة ملائكه)) (ص 211)
والوعى بمفردات الشخصية القومية لابد أنْ يرتبط بالإبداع الشعبى (مجهول المؤلف) الذى صاغته الجماعة الشعبية الأمية ، لذلك تترنم نرجس على رحيل شقيقها بتلك الترنيمة العذبة ((نادى المنادى وسمعته بودانى .. من مات شقيقه ما يعوضوش تانى)) (206)
وعن الصورالفنية البديعة نجد أنّ الشخص الذى يجهش دون صوت ((كأنما هو يمضغ البكاء)) (ص 206) ودلال (زوجة عبدالرحيم ) عندما سألتها الجده هانم عن عبدالرحيم أخفتْ عليها خبروفاته ، فقالت الجدة من جديد ((إنتى سامعانى يادلال ؟)) فقالت دلال ((سامعاكى)) كان رد دلال بصوت مخنوق .. وهالها وجه العجوز وهو يطفو مضيئًا بالخضرة.. فى الجو المعتم وراء الزير ويختفى)) (ص 220)
ويمزج المبدع الخرافة بالسخرية ضمن مكونات الشخصية القومية ، إذْ أنّ نرجس تقول لزوجها ((ياريتك يا أبو عبده لما أموت ، توصل لى سلك بلمبه فى التربه)) ولكن زوجها يُبرر الرفض والدهشة قائلا ((دى تضرب (أى اللمبه) يا وليه)) فترد عليه ((أبدًا.. والنبى ما يجرى لها حاجه)) زوجها سكت وتهيأ له أنّ اللمبه لن تضرب . وفكر بينه وبين نفسه ((صحيح : إيه اللى يخليها تضرب ؟)) لكن عقله راح ناحية الملكين : وهل يصح أنْ يكون الحساب فى نور لمبة الكهرباء أو لا يصح.. استغفر ربنا وهرش رجله الشمال وبدا له أنّ الموضوع غريب.. ولكن نرجس ألحتْ فقالت ((أسبوع واحد .. لغاية ما آخد على الضلمه)) (ص 28، 29) وإذا كان العلماء يُفرّقون بين الأسطورة والخرافة ، فإنّ كثيرين لايزالون يؤمنون ببعض الخراريف ، مثل ذلك الرجل الذى وجد فى إحدى المقابر أسفل منزله قطعة من الرخام ((وحواليها فرخة وسبع كتاكيت دهب)) (ص 109)
كما يعى المبدع المتغيرات التى حدثتْ فى الشخصية القومية ، من ذلك تغلغل الأصولية الدينية مثلما حدث مع أحمد الرشيدى الذى كان لايعيبه إلاّ عدم الصلاة التى أغضبتْ السنية فى الجامع ((إلى أنْ قام أولاد الحرام الذين لايعرفهم أحد بالاعتداء عليه ، وبهدلوه ، فى الشهر الكريم وساعة الإفطار.. وهوّ قاعد مع أولاده على الطبليه.. البيت كله سمع الصوت وهو يُنادى مستغيثًا ((يا عم أحمد .. يا عم أحمد يا رشيدى)) والرجل قام من على الأكل واندفع يُلبى النداء صائحًا ((جاى لك)) وفتح باب الشقة ليُفاجأ بضربة من (بونيه) حديد هرست ذقنه وكسرتْ عدة أسنان )) (ص 176) أى أنّ الجماعات الإسلامية المتشددة ، ترى أنّ إقناع الناس بالصلاة يكون بواسطة العنف المادى (الضرب بالبونيه الحديد) وليس بالموعظة الحسنة ، مثلما كان الواقع المصرى ، قبل تغلغل الأصولية الدينية وخاصة فى طبعتها الوهابية.
وإبراهيم أصلان لأنه أطلق عقله ووجدانه للسباحة داخل الوجدان الشعبى ، لذلك فهو فى سرده الأدبى ، يكون مترجمًا أمينًا (ولكن بلغة الفن) وهو يُحاكى أسلوب شعبنا فى بداية الحكى ، من ذلك مثلا عندما كتب ((مرة النور انقطع فجأة على نرجس وهى قاعدة تتفرج على التليفزيون)) (ص23) وعن الخال الكبير عبدالعزيز الذى صنع أرجوحة من حبال وربطها فى عروق السطح العالية ، كتب عنه ((مرة أكل ثمرة باذنجان رومية ، عسلية اللون ، قطفها بنفسه من شجيرة قصيرة خضراء)) وكذلك ((مرة دخل حقلا ورأى صبية يجلسون فى شبه دائرة وهم يمضغون أوراق الرجلة ، ويُدلكون أعضاءهم المنتصبة العارية ، أخبره سالم أنهم يريدون أنْ يعرفوا هل بلغوا وصاروا رجالا أم لا)) وأيضًا ((مرة كان شباب يُهيجون العصافير التى تبيت فى سقف حوش الدار الكبيرة ، يقبضون عليها بالطواقى المفتوحة ، ويعطونه واحدة ، لاتلبث هى الأخرى أنْ تطير)) (ص 149) إنّ الأديب هنا أعاد صياغة الأصل الشعبى ، إذْ يبدأ شعبنا حكاياته قائلا ((كان مرة فيه كذا)) ويبدأ الكاتب الفصل الثالث هكذا ((الدنيا صيف.. والبلح الأحمر طلع)) (ص61) كناية عن أنّ البلح ظهر فى الأسواق .
يرتبط بأسلوب الحكى الشعبى ، انحياز المبدع للغة المصريين المنطوقة ، أى لغة الحياة اليومية التى يتعامل بها الأمى والمتعلم ، وحتى رجال الأزهر على حد قول عميد الثقافة المصرية (طه حسين) فى كتابه مستقبل الثقافة فى مصر. ولأنّ شخصيات إبراهيم أصلان من الطبقات الشعبية ، وخصوصًا من حى إمبابة والكيت كات وشارع فضل الله عثمان إلخ ، لذلك فإنه يمتلك شجاعة كتابة الحوار بلغة المصريين الحية ، فى كل رواياته وقصصه القصيرة . بينما يأنف كثيرون من لغة شعبهم . فعندما اختفتْ الجدة هانم ، قال البعض أنها ربما تكون قد سافرت إلى البلد ، فيكون السؤال (هىّ تعرف تسافر؟) وتكون الإجابة ((يمكن سألتْ حد ودلها)) (ص 19، 20) فإذا ترجمنا هذه الجملة إلى اللغة العربية تكون هكذا : ((ربما سألتْ شخصًا ما وأرشدها على الطريق)) وعندما انقطع تيار الكهرباء ، فإنّ ((نرجس وقفت (تنكش) فى علبة الكبريت)) (ص23) فكلمة (تنكش) هنا كناية بلاغية عن البحث عن شىء ما فى الظلام . ويستخدم تعبير أنّ فلانًا ((هبد الباب)) (ص 26) أى أغلقه بعنف فى الترجمة العربية . ويستخدم لفظة (دوشة) (ص29) كبديل للكلمة العربية (إزعاج) ونرجس عندما كانت مشغولة ، فالسبب كما قالت ((أنا بأروّق الدولاب)) (ص54) أى أنها تُعيد تنظيم ترتيب الملابس فى الدولاب . وعبدالرحيم جلس على الكنبة ونشف عرقه (ص61) أى جفف عرقه بالعربى . والبهى عثمان عندما عاد من البوستة ((قلع بدلة المصلحة)) (ص63) كبديل للكلمة العربية (خلع) ونظرًا لأنّ كلمة (قلع) الهدوم تتكرر فى كل مناسبة فى الرواية ، كبديل عن كلمة (خلع) العربية ، فإنّ هذا يؤكد أنّ المبدع ينحاز عن عمد للغة المصريين ، وليست المسألة مجرد مصادفة لم تتكرر. وعبدالرحيم يسأل عبدالله ((إزيك يا واد يا عبدالله)) فتكون الإجابة ((كويس)) (ص 64) فلفظ (إزيك) يقابله فى اللغة العربية (كيف حالك) ولفظ (كويس) يقابله (أنا بخير أو بصحة جيدة إلخ) والخال عبدالعزيز كان يُعانى مشاكل صحية فى المثانة ، ولكن البهى عثمان يصف حالته الصحية قائلا ((لسه الميه بتحرقه)) ثم يُضيف ((آهى ساعات تحرقه وساعات يروق)) (ص 65) فتعبير (الميه بتحرقه) هى المرادف للتعبير المصرى عن (حرقان البول) كبديل عن (ألم المثانة أثناء التبول) أما كلمة (لسه) التى تتردد كثيرًا فى صفحات الرواية ، فهى تتردد مئات المرات فى حوارات شعبنا فى اليوم الواحد ، ولها أكثر من استخدام ، رغم دلالة (الزمن) فى معظم الاستخدامات ، لأنها مستمدة من اللغة المصرية القديمة فى مرحلة تطورها الثالث ، أى مرحلة اللغة القبطية ، للتعبيرعن الزمن ، لذلك نجدها (أى كلمة لسه) منتشرة فى القبطية الصعيدية فى هذا التعبير ((الواد لساه ماشى)) أى أنّ الولد انصرف منذ وقت قصير وهكذا . ومن استخداماتها كذلك ((الواد لسه ما جاش)) ، ((الواد دا لسه خام)) (أى عديم الخبرة بالحياة) كما كتب إبراهيم أصلان على لسان الست أم أفكار ((يا بت دا لسه خام.. إنت علميه)) (ص 81) ((هوّ أنا لسه ح أستنى)) (أى كم من الوقت سوف أنتظر بعد مكوثى مدة طويلة) ، ((الواد دا لسه صغير)) كما كتب المبدع ((أصلها لسه صغيره)) (ص 83) وكتب ((مراته لسه هربانه)) (ص 141) كناية عن الفترة الزمنية التى انقضت دون العثور عليها ، وأنها مازالت هاربة باللغة العربية . وعبدالرحيم عندما يسأل ((أختى نرجس جت ؟)) تكون الإجابة (لسه) (ص160) وليس لها أية ترجمة عربية غير (لا) أى أنها لم تحضر بعد . وأم عبدالرحيم تسأله عن صحة نرجس المريضة ((الحكيم شافها ؟)) ((آه)) ((يعنى قامت ولاّ لسه ؟)) (ص204) فيكون المعنى المقصود هنا هل شُفيتْ أم مازالت مريضة ؟
كما يستخدم الكاتب كلمة (بس) التى ينطقها شعبنا مئات المرات فى اليوم الواحد بمعانيها المتنوعة : ((هوّ حر بس لما العيال تضحك عليه .. ماليش دعوه)) (ص 67) فهى هنا بمعنى (لكن) العربية ، مثلما جاء على لسان عبدالله ((بس عصفوره لونها أزرق)) (ص 71) وفى سياق آخر تُستخدم بمعنى (فقط) مثال : موظف يعترض على مبلغ المكافأة فيقول ((همّ دول بس)) فكلمة (بس) هنا جمعت بين كلمة (فقط) العربية والمعنى الأشمل وهو الاعتراض على المبلغ الممنوح له. ويستخدم الكاتب كلمة (وله) كبديل عن كلمة (ولد) العربية ، مع مراعاة أنّ (وله) ، (واد) تحوير حديث للأصل الهيروغليفى (ياد) للدلالة عن كلمة (الولد) وإبراهيم أصلان يمتلك جرأة كتابة الحوار كما ينطقه المصرى دون أى تدخل ، فعبدالرحيم حجز تذاكر السينما له ولخطيبته أفكار(صالة) وليس (بلكون) فقالت تعاتبه ((وقاطعهم صاله كمان ؟)) (ص 80) والخال عبدالعزيز يعترض على زواج عبدالرحيم من امرأة مطلقة ، فيُصر على تطليقها منه ((وضرب عبدالرحيم بالمداس)) (ص 98) وكلمة (المداس) تكرّرتْ فى كل مناسبة فى الرواية ، أى أنّ الكاتب يستخدمها عن قصد وليست المسألة مجرد صدفة ، والكلمة هى البديل لكلمة (الحذاء) ونرجس تخجل وترفض أنْ (تشلح) وتقضى حاجتها أمام البط والفراخ (ص 108) وكلمة (تشلح) كبديل عن (ترفع جلبابها) وعبدالرحيم يطلب من زوجته دلال أن تكف عن الحديث فيقول لها ((أسكتى)) فترد عليه ((آدينى سكت)) (ص 160) أى ((ها أنا قد صمتتُ)) أو ها أنا قد توقفت عن الكلام إلخ . ويقول عبدالرحيم لزوجته أيضًا ((إتلهى)) (ص 167) أى إخرسى وفقًا لسياق الحوار. ويستخدم تعبير((زى الفل)) (ص 190) كبديل للتعبير العربى (مثل الفل) ويستخدم (كلمة (قارحه) (ص 223) فى وصف المرأة التى لاتخجل ، وتفعل كل ماهولا أخلاقى وتعتبره شيئًا عاديًا . ونرجس عندما اعتقدت أنّ شقيقها عبدالرحيم قد مات وهى بجواره على سرير المرض ، بينما هو كان فى غفوة عميقة قالت ((إخص عليك يا عبدالرحيم)) (ص 168) فكلمة (إخص) هنا بمعنى (خضتنى يا عبدالرحيم) والكلمة لها استخدامات أخرى مثل الأم التى تعاتب طفلها على شقاوته وعلى أفعاله غيرالمتوقعة ، فتقول له ((إخص عليك)) بدلا من ((لقد أفزعتنى)) كما أنّ هذه الكلمة تنم عن الحميمية فى أحيان كما فى المثال السابق ، وتعنى السب كما فى المثال الآتى ((إخص عليك وعلى اللى خلفوك)) أى ( يا لك من سافل أنت ومن أنجبوك) ويقول أحد شخصيات الرواية ((وأنا إيه اللى يودينى البيت ؟)) (ص132) أى (ما هى الأسباب التى تجعلنى أذهب إلى البيت ؟) لو أردنا ترجمتها إلى اللغة العربية.
وكان الأديب الكبير إبراهيم أصلان موفقًا (فى أكثر الأحيان) وهو يكتب الكلمة المصرية حسب نطقها الصحيح وفقًا لقواعد كتابة اللغة المصرية ، فيفصل الحرف عن الفعل وعن الضمير، كما فى اللغة القبطية واللغة الإنجليزية ، فيقول (( ح يشوفونى)) (ص 132) ، ((أمال ح تروح فين)) (ص 133) وفلان ((ح يروح فى داهيه)) (ص 135) وزوجة سلامة تسأل زوجها ((ح تنام ؟)) (ص 136) ويكتب على لسان دلال ((برتقان)) (ص 162) بدلا من (برتقال) ثمرة الفاكهة المعروفة. ويكتب ((عمل لك كباية شاى ؟)) (ص 170) لأن كثيرين ، وخصوصًا من يزعمون أنهم شعراء ، فإنهم يشبكون الفعل مع الضمير، فيكتبون ((عملك كباية شاى ؟) ويتصوّرون بذلك أنهم يكتبون ما يُطلقون عليه (العامية المصرية) ويكتب إبراهيم أصلان ((كان البهى ح يموت)) (ص 177) فى حين أنّ كثيرين يكتبونها ((حيموت)) وطريقة كتابة إبراهيم أصلان هى الأصح ، لأنّ حرف ال (ح) حرف مستقبلى فى اللغة القبطية ، ويتم فصله عن الفعل فنقول (ح أروح.. ح أذاكر إلخ) ورغم ذلك فإنه لايلتزم بطريقة هذه الكتابة ، إذْ يكتب على لسان الحاج شوقى (مش حتلاقى معلقه قد دى)) (ص 191) لأنّ الصحيح ((موش ح تلاقى)) ويكتب على لسان نرجس ((حتركب قطر كام يا عبدالرحيم ؟)) (ص 90) والأصح (ح تركب) .
ورغم هذه الملحوظات القليلة ، فإنّ الأديب الكبير إبراهيم أصلان واحد من المبدعين المصريين الذين وعوا خصائص شعبنا الثقافية ( بمعنى الثقافة القومية) التى ينتجها شعب من الشعوب عبر تاريخه الممتد ، كما فى حالة شعبنا المصرى . وهو وعى يشمل مجمل العادات والطقوس والإبداع الشعبى ، فهو مثلا عندما تطلب دلال من زوجها عبدالرحيم (اللباس) الذى يرتديه ، لتذهب إلى العيادة الخارجية ليكشف عليها الطبيب ، لأنها نسيتْ أنْ ترتدى اللباس الخاص بها ، وإذْ يعترض عبدالرحيم على طلبها تقول له ((يا خويا قيمة ما أنزل لغاية الدكتور وأطلع)) (ص 163) فالكاتب هنا استخدم تعبير المرأة المصرية التى تقول لزوجها (يا خويا) وهو تعبير مستمد من الحضارة المصرية ، ناهيك عن روح الفكاهة الساخرة فى هذا المشهد بين دلال وزوجها الذى كان على فراش الموت . كما أنه تمكن ببراعة فائقة من إعادة صياغة الواقع جماليًا ، فمع أنّ إبداعه ينطلق من الواقع ، إلاّ أنّ الكتابة ليست هى الواقع المباشر، فقدّم للقارىء (الواقع الفنى) إنْ جاز التعبير ، وكل ذلك تم من خلال الإبداع بفن الهمس وبتقنية المنمنمات التى تصنع التراكم الكلى ، وعندما يصل القارىء إلى نهاية العمل الإبداعى ، تكون هذه المنمنمات قد تغلغلتْ داخل عقله ووجدانه ، فتظل الشخصيات حية نابضة لزمن طويل ، كما فى كل عمل إبداعى أصيل .
*******



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محجوب عمر والترانسفير الصهيونى
- نداء الحرية فى مواجهة بطش العسكر
- العلاقة بين التدين والإبداع الشعبى
- الروائى الأيرلندى جيمس جويس واليهود
- الصحافة المصرية وحجب المعلومات
- الدبلوماسية المصرية بعد يوليو52
- الآثاروالسياحة واللغة المصرية القديمة
- بورتريه لإنسان لا أعرفه
- أخناتون بين التوحيد والتفريط فى حدود الوطن
- فتاة صينية (مشهد واقعى)
- روبابيكيا ( مشهد من الحياة)
- الشروط الموضوعية لتحدى الإدارة الأمريكية
- عادل وحلم الطيران- قصة للأطفال
- صديقان - قصة للأطفال
- من يفتح الباب - قصة للأطفال
- السياسة والإبداع
- تاريخ مصرمن ساويرس إلى عبدالعزيزجمال
- هديل الحمام - قصة للأطفال
- نزوات الموج - قصة قصيرة
- ميتافيزيقا الاستشراق


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - إبراهيم أصلان والكتابة بلغة فن الهمس