أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالله الداخل - هل صحيح أن الخطر على القطيع يأتي منه وليس من الذئاب حوله؟















المزيد.....


هل صحيح أن الخطر على القطيع يأتي منه وليس من الذئاب حوله؟


عبدالله الداخل

الحوار المتمدن-العدد: 3653 - 2012 / 2 / 29 - 21:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة
بسبب ما أثير مؤخراً في الأوساط المندائية من أفكار غير عصرية (كما يحدث بين الحين والآخر) وبسبب تلويح أحد الكتاب مرة بعد أخرى بعبارةٍ غريبة قالتها "لـَيْدي" دراور عن مستقبل رجال الدين وتأثر أبنائهم وعموم المندائيين بالحضارة، فقد عمدتُ ثانية ًالى مشاهدة محاضرة المفكر التقدمي عزيز سباهي (ألقاها في كندا 1996) مثلما كنتُ قد قرأتُ كتابه "أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتـُهم الدينية" بعد صدوره (دار المدى، دمشق 1996)1 ، فوددتُ أن أتحدث عن الفرق بين ما كتبَه عزيز سباهي من ناحية ومن الناحية الأخرى ما كتبتـْه السيدة أو "لـَيْدي" دراور (و"ليدي" Lady هذا لقب انكليزي تمنحه العائلة المالكة لمن تختار من النساء ويقابل لقب "لورد" للرجال، حيث لا بد للمرأة التي يقع عليها اختيار العائلة المالكة لنيل هذا اللقب أن تكون قد أدت خدمات معينة للتاج البريطاني) –لأن ما كتبتـْه في مؤلفها الأساسي، "مندائيو العراق وإيران" The Mandaean of Iraq and Iran، الى جانب أكثر من عشرين كتاباً آخر في الموضوع وما يتعلق به، هو خلاصة أبحاثها في المندائية.

القسم الأول
قد يصح اعتبار الفرق بين البحثين مثالاً لما يجب أن يكون عليه الفرق بين أنواع من هذه البحوث فكتابات المندائيين عن المندائيين عموماً من جهة وكتابات غير المندائيين عنهم من الجهة الأخرى قد تجعل من بحث عزيز سباهي مثالاً يُحتذى به، وهذا مجرد طموح مستقبلي لما ينبغي أن تكون عليه الدراسات الاجتماعية عموماً، فمعرفة هذا الفرق في رأيي المتواضع تتسم بتشخيص الدوافع، قبل الاعتبارات الأخرى، خلف أنواع البحوث عن المندائيين أو غيرهم من المجموعات البشرية. وما كنتُ سأقول مثل هذا الكلام لو كانت كل تلك البحوث دون استثناء قد أ ُنجِزت في عهود إنسانية أو ضمن أنظمة اشتراكية أو على الأقل من قبل كتاب ذوي التزام انساني سامي المستوى كعزيز سباهي، وكما ينبغي أن تكون.

وعلى أية حال إذا بقينا في هذا المثال (الفرق بين بحث سباهي وبحث دراور) نجد أن بحث سباهي يمتاز باسلوب فلسفي علمي تحليلي في غالبه بينما الدراسة الانثروبولوجية الدقيقة، الوصفية، الشاملة، للسيدة دراور تكاد تغلب عليها مسحة رمادية، إن صح التعبير، فعلى الرغم من أنها تبدو لنا "علمية"، هناك بضع مشاكل تجعلنا نعيد قراءة بحثها في أضواء جديدة.

ماذا اعني بـ"مسحة رمادية"؟
سوف أركز على بحث دراور الوصفيّ، رغم أني كنتُ قد قرأتُ النص الانجليزي عام 1973 وقارنتـُه آنذاك بالترجمة التي صدرت للكاتبَين المندائيَّيْن التقدميَّيْن نعيم بدوي وغضبان رومي في 1969، وذلك لأسباب شخصية ولغوية تتعلق بكتابة تقرير في أحد المعاهد العراقية عن اللغة المندائية أشرف عليه وراجعه في أوانه الدكتور عباس الوهاب، أحد تلاميذ تشومسكي، هذا وسوف أعتمد على ذاكرتي، وعلى لمحاتي لكتاب السيدة دراور على الانترنت، في الحديث عن المشاكل التالية التي تجعل بحث دراور يلي بحث سباهي في الأهمية العلمية والانسانية (رجاءاً لاحظ أني لا أناقش بحث عزيز سباهي هنا بنفس التفصيل).

قد يعترض أحدٌ فيما يتعلق بالمشكلة الأولى أدناه قائلاً: "لكن عزيز سباهي ليس أنثروبولوجياً هو الآخر" وهو قولٌ وجيه، فالباحث كاتبٌ سياسي يساري، وللدقة أقول أنه مفكر اشتراكي ويكتب في المسائل الشيوعية وتأريخها وقضايا الكفاح الوطني والعدل المجتمعي، وهو رجل أمين في ما يكتب ويقول، وليس له هدف شخصي بحت كأن يكون لتحقيق منفعة مالية، فهذا النوع من الاهداف المالية ليس من أهداف المفكرين الاشتراكيين بل هو في مقدمة ما يفكر به الكتاب الرأسماليون والبورجوازيون ورجال الدين وشعراء المديح وأدعياء العلم والفن والأدب وغيرهم من رجال ونساء الميديا في العالم الرأسمالي والشرقي المتخلف ممن أفسد المالُ ضمائرَهم، فالمعروف عن الكتاب الشيوعيين، على العموم، أن همهم الأول والأخير هو تغيير المجتمعات والعالم نحو عالم أفضل، عالم خال ٍمن استغلال الانسان لأخيه الانسان، إذ تصعد الغالبية الساحقة منهم من الطبقات الفقيرة، يصعدون ليس مالياً وإلى الطبقات الاقتصادية العليا، كما هو حال الكتاب البورجوازيين، بل يصعدون في سلـّم التقدم الاجتماعي وينشرون ما يكتبون لقاء لاشيء أو ربما بأجور رمزية أو قليلة بالكاد تسد رمقهم، ونادراً ما نجد مَن يشذ عن هذ القاعدة.

لذا فإن دافع عزيز سباهي على البحث يختلف كلياً عن دوافع "ليدي" دراور، وأعتقد أن هذا الفرق بين شخصيّتـَيْ الباحثـَيْن هو السبب في الفرق بين البحثين، وهو ما وددتُ أن ألفت النظر إليه.

فما هي مشاكل بحث السيدة دراور؟
(ملاحظة: طرحتُ في البدء خمس مشاكل لمجموعة خاصة بينهم رجال دين مندائيين، ثم اكتشفتُ المزيد منها عند إعادة كتابتي للموضوع مما توجب بعض المراجعات والمطالعات الجديدة. أناقش في هذا القسم المشاكل الخمس الأولى، لكن القارئ أو المختص سيكتشف أن المشاكل الأخرى، في القسم الثاني الذي سوف يليه قريبا، لا تقل عنها أهمية أو إثارة!)

المشكلة الأولى: السيدة دراور لم تكن باحثة أنثروبولوجية أصلاً.
كانت الى ما قبيل أن تبدأ كتابها "مندائيو العراق وإيران" كاتبة ًلقصص لاهادفة وروايات عاطفية Romance تدور أحداث بعضها في الشرق، قصص غير واقعية وليست بنفس مستوى أو نضج القصص التي كانت تـُنشـَر في عصرها، (وليست بمستوى بحوثها فيما بعد)، فلقد نـَشرت العديد من تلك القصص الفاشلة (ستة عشر كتاباً) ويبدو أنها بعد ذلك قررت أن تجرب حظها في حقل آخر. وقد كـَتـَبَتْ بعضَ القصص التي تدور أحداثها اللاواقعية (كما أسلفتُ) في الشرق وفي بغداد، أي على نمط أجاثا كرستي التي نشرت ثمانين رواية أو مجموعة قصص قصيرة وأصبحت ثرية جداً. عاشت دراور وكرستي في نفس العصر تقريباً، وربما أصبحتْ كرستي التي تصغر دراور بعشرة أعوام، تقلدها مستفيدة من أخطائها، فكتبت جريمة في قطار الأكسبريس، جريمة على النيل، جريمة في بغداد، جريمة...وسواها من الروايات اللاهادفة التي تفشت فيما بعد (القصص الغرامية والبوليسية، وما شابهها)، أي بعد أن ضرب الركود الاقتصادي، 1929 stagnation، أطنابه، حيث يبدو أن تلك القصص لم تدر على السيدة دراور أرباحاً كافية من نشرها، وقد حصل أن راجت سوق القصص بالطبع بعد أن تخلت السيدة دراور (وا حسرتاه) عن الرواية والقصة القصيرة متجهة ًنحو جانـْرَ مغايرdifferent genre . بعبارة أخرى: ان سوق الكتب التجارية والروايات ذات القيمة الفنية والانسانية الضئيلة أصبحت أكثر رواجاً بسبب نمو النزعة الانهزامية لدى القراء عموماً وذلك بعد سنوات من تحوّل دراور عن الرواية نحو دراسة الانسان وحياة الشعوب anthropology.

المشكلة الثانية: لم يكن دافع بقائها مدة طويلة في العراق بسبب البحث أو البحوث التي أنجزتها، لأنها كانت زوجة ضابط في جيش الاحتلال البريطاني في العراق. يقول غضبان الرومي (مذكرات مندائية ص 62) أن السيدة دراور:
"..هي زوجة المستشار القانوني لوزارة العدل وكانت يهودية الدين متزوجة من مسيحي.."
وهذا ما ساعدها على المكوث فترة أطول من بقاء الكتـّاب الأنثروبولوجيين الغربيين الآخرين في العراق مما منحها فرصة أكبر للاتصال برجال الدين المندائيين وكسب ودِّهم بشتى الطرق بهدف الحصول على المعلومات الثمينة عن الدين المندائي والتي كان رجال الدين المندائيون يتكتمون بشأنها أمام الباحثين الآخرين، حيث تصف دراور المندائيين بأنهم shy and secretive؛ ومن الطبيعي أن كونها إمرأة أولاً وزوجة لمسؤول بريطاني، وفي العراق بالذات ثانياً، من أهم عوامل فوزها بثقة بعض رجال الدين.

الثالثة: لم تكن السيدة دراور تبخل بالمال لشراء المعلومات والمخطوطات التي حصلت عليها من بعض رجال الدين ومن غير رجال الدين (من العامة) أو من "المتهيمنين" (أي المتدينين غير الكهان) الذين كانوا يكتبون المندائية ويتكلمونها بطلاقة ويحفظون القصص مثلما كانوا يمتلكون الكتب الدينية والتراثية النادرة، حيث لم يصعب عليها الحصول على نسخ من جميع الكتب الدينية والتراثية المندائية من هؤلاء المتهيمنين قبل رجال الدين لأن رجال الدين المندائيين يمتازون عن المتهيمنين عادة ًبأنهم أبعد نظراً وأشد حذراً، وكمثال مهم على ما أقول هو أن "هرمز بن خضر" لم يكن رجل دين بل "متهيمناً"، وأعتقد أن ما قيل عن مساعدة رجال الدين لها أمرٌ مبالغ به وبحاجة إلى إثبات، فحرص رجال الدين تقليدٌ متوارَث يعود إلى طبيعة الالتزام الديني ونوع المسؤولية الاجتماعية والقـَسَم، فالقسم (العهد) يؤديه الآخرون أيضاً، لكن قسم رجال الدين أكبر وأكثر تعقيداً وتكراراً؛ لكن عموماً فإن ما زودها به "المتهيمنون" كان بحد ذاته كافياً لأن يمنح بحثـَها نوعاً من الشمولية في ما يتعلق بالمندائية وبالمندائيين آنذاك. صارت لديها ثروة تراثية من المخطوطات الخاصة، سواءاً كانت هذه المخطوطات أصلية، أي قديمة ربما تم استنساخها قبل وصولها الى العراق بمدة ما، أو أنها استنسخت لها حسب رغبتها، حيث كان تعذر حصولها على الأصلية، خاصة التي منها بحوزة رجال الدين يرجع للقدسية الخاصة في نفوسهم لتلكم المخطوطات.

الرابعة: يبدو لقارئ بحث دراور الذي لم يترك شاردة أو واردة في وصف كل ما يتعلق بالمندائيين وما يتعلق بالمجتمع المندائي والدين المندائي وطقوسه والوصف الدقيق جداً لرجال الدين وكل حركة من أبدانهم في حياتهم عموماً، وأثناء ادائهم لطقوسهم خصوصاً، ووصف الرجل المندائي والمرأة المندائية وعادات كل منهما بشكل مسهب – أقول يبدو للقارئ أن هذا البحث يستهدف دراستهم المفصلة، لكنه (اي القارئ) يجتاحه شعورٌ أن هذا البحث لا يختلف في أهدافه القريبة أو البعيدة عن الأهداف التي كتب عنها المثقفون والمفكرون والمؤرخون العراقيون وعن كونها كانت تكمن وراء نشاط المبشرين المسيحيين الأوربيين الأوائل، لذا فإن من الواقعي إعتبار بحثها قد تم إنجازه ليس بهدف تحسين ظروف حياة المندائيين أو لتطوير أساليب معيشتهم أو حمايتهم من الاضطهاد، فهي بحكم كونها زوجة ضابط احتلال لم تكن وظيفتها في العراق سوى مرافقة زوجها، والدليل هو نوع ومستوى مؤلفاتها السابقة لهذا البحث، فالباحثة لم تكن بالطبع تعارض احتلال العراق أو تفكر في الدعوة الى أي نوع من التحرر أو التحرير لأية فئة أو شريحة من المجتمع العراقي سواءاً كانت دينية أو غير دينية، لذا فإن مصير العراق أو مصير شعبه، بضمنهم المندائيون، لم يكن يهم السيدة دراور، بل لم تكن تجرؤ، في اعتقادي، على التفكير فيه ناهيكم عن مناقشة هذه الأمور على هذا المستوى مع زوجها أو غيره، ولا بد إذن من النظر بعين التدقيق إلى المهمة التي عَهَدَتْ بها الى نفسها أو، ربما، عُهِدتْ إليها في دراسة المجتمع المندائي باعتبارها جزءاً من مواصلة البحوث التي ساعدت وتساعد القوى السياسية والعسكرية البريطانية على إدامة احتلالها للعراق.

من الطبيعي أن بحثها استخدمه ويستخدمه ضباط الهجرة البريطانيين المعنيين بشؤون المندائيين في مختلف الأوقات من عصرنا، خاصة بعد هجرة مندائيين عراقيين الى المملكة المتحدة قبيل وأثناء العام 1978 وما تلاه، أي بعد انفراط عقد ما سُمّي بـ"الجبهة الوطنية والقومية التقدمية" الفاشلة التي عُقدت في العراق عام 1973 بين الحكومة البعثية وبين عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي آنذاك، وفرار كثير من العناصر اليسارية من الموجة الفاشية الجديدة التي كانت في ذلك العام قد قطعت شوطاً بعيداً قبل إتمامها تغطية كل العراق في الأعوام التي تلت 1978، ولا بد أنهم (أعني ضباط الهجرة البريطانيين، وبالتأكيد نظراءَهم في دول مماثلة) استخدموا بحث السيدة دراور لا لمساعدة المندائيين وإنما على العكس للتدقيق في شؤونهم وللبحث عن امكانية رفض ما تقدموا به بسبب التعليمات التي كانت تردهم بصدد التشدد في قبول اللاجئين، مندائيين وغيرهم، عراقيين وغيرهم، بسبب الضائقة المالية الناجمة عن الأزمات الاقتصادية المتواصلة، وكذلك لأسباب أمنية وسياسية (سياسية بمعنى الأخذ بعين الاعتبار علاقات الحكومة البعثية مع الدولة المعنية، بريطانيا في مثالنا)، فبعض المندائيين من حديثي العهد بشؤون الهجرة آنذاك طلبوا اللجوء على اسس دينية فكان جواب ضباط الهجرة: "نحن نعرف أنكم غير مضطهدين دينياً فبيت ’القس‘ المندائي ملاصق لسفارتنا في بغداد"، وهم يعنون طبعاً بيت الشيخ عبدالله أبي عبدالجبار. (في الانجليزية priest تعني "قس" وتعني "رجل دين"، كلمة عامة، وقد ترجمتـُها "قس" كي أكون دقيقاً في نقل ما سمعتُ!) ولكن مَن من المندائيين كان يفكر مرتين؟ فإنّ مَن ينظر في طلب اللاجئ هو ضابط تابع للنظام الملكي البريطاني (المزيج من الرأسمالية والاقطاع) الذي كان يحتل العراق ثم كان له دورٌ أساسي في إسقاط الحكومة الوطنية التي وصلت الى السلطة في تموز 1958، ويتطلع إلى تطوير وتجديد مكانته في العراق، خاصة بعد تأميم عمليات شركة النفط البريطانية (ذات الإسم العراقي) من قبل حزب البعث في 1972، ذلك التأميم الذي أعلنته حكومة أحمد حسن البكر لأهداف مالية حزبية صرفة تتعلق بالدرجة الأولى بتخطيط حزب البعث الحاكم لتطوير نفسه وأدواته وقوته العسكرية والدعائية والتجسسية وإحكام سيطرته على الجيش ثم المجتمع والانطلاق من هناك نحو السيطرة على المنطقة بعد أن يتحول إلى ذراع ضاربة للبورجوازية العربية العراقية؛ فالنظام البريطاني كان يراقب، عن قرب، كامل التطورات السياسية التي تحدث في العراق، خاصة ما حدث في تموز 1979، أعني أحداث قاعة الخلد وما تلاها (ما حدث في قاعة الخلد هو تصفية العناصر البعثية غير اليمينية وإعدامهم ضمن أسيجة المبنى).
فمَن كان ينظر في طلب اللاجئ، إذن، هو ضابط ٌ كان قد قرأ أهم بحث في حياة المندائيين آنذاك وهو بحث "الليدي" دراور كي يقرر مصير الطلب الذي قـُدِّمَ على أسس دينية في ضوء ما قرأه في الليلة الماضية من كتاب دراور لكونه أحد أهم المصادر (ربما الوحيد لديه) بالاضافة طبعاً إلى الاعتبارات الأخرى المتعلقة بقضية اللاجئ.

من الطبيعي أن الهدف الأساسي وراء أي بحث يبدو واضحاً ليس فقط من طبيعة البحث نفسه، وإنما أيضاً من طبيعة استخدامه الذي يلي تأليفـَه، اي عندما نسأل أنفسَنا أولاً لماذا تم تأليف ونشر هذا البحث؟ وثانياً عندما نسأل أنفسنا من الذي يستخدمه ولماذا؟
أوَ ليس هذا التساؤل مشروعاً؟
إن لم يكن مشروعاً فعلى أي أساس قد بُني مثل هذا البحث إذن عندما نرى بأم أعيننا كيف يُستخدم؟


المشكلة الخامسة: يروي المربّي الكاتب غضبان الرومي في كتابه "مذكرات مندائية" (دار المدى 2007) حادثة مهمة يُمكن استنتاج الشيء الكثير منها عن شخصية السيدة دراور فقد قال انه في عام 1930 كان معترضاً على أحد مشاريع السيدة دراور بالنسبة للمندائيين (عريضة تأييد عصبة الأمم التي قدمتـْها بنفسها لرؤساء المندائيين في اجتماع في قلعة صالح شمل ثلاثين منهم طالبة اليهم التوقيع عليها) ويبدو أن اعتراض الرومي (هو والد الدكتور صهيب سكرتير الاتحاد العام للجمعيات المندائية في المهجر) قد سبّب اعتراض رؤساء المندائيين على المشروع لأنهم حذوا حذوَه بعد ان استشاروه.
يقول الكاتب:
"وعلى أثر ذلك طوت مسز دراور عريضتها وقالت ’الأمور مرهونة بكم فاذا كنتم لا توافقون على تقديمها فالأمر يعود لكم.‘ وعلى اثر ذلك انفض الاجتماع وسافرت هي الى العمارة وشكتني عند مدير معارف العمارة وكان وقتئذ السيد خالد الهاشمي. عندما سافرتُ بعد فترة الى العمارة واتصلتُ بالسيد خالد لبعض الشؤون أخبرني أن مسز دراور شكت مني، فشرحتُ الامر له وكيف انها جاءت بعريضة شكوى ضد الحكومة العراقية تريد تقديمها الى عصبة الامم. فاستغرب كل الاستغراب من فحوى ادعائها السابق وما بينته أنا له."*

لا يتوفر لدينا للأسف نص تلك العريضة، ولا نعرف بالضبط ما هي الوعود التي تحتويها، لكننا نعرف الكثير عن طبيعة الوعود البريطانية التي لم ينفذ منها سوى ما يهم المصالح الاستعمارية للدول الرأسمالية الغربية، نعرفها من خلال معرفتنا لتأريخ العراق وليس فقط من خلال الاعترافات والسير الذاتية كما نرى في كتابات الجاسوس لورنس عما وعد به اعرب شبه الجزيرة وغيرهم من الذين جنـّدهم ابان الحرب العالمية الاولى للمساهمة في تفكيك الامبراطوية العثمانية، ولورنس هذ هو "كاتب" أيضاً!
مرة ًعندما طرحْتُ أمام مجموعة كبيرة نسبياً تلك القصة المهمة التي رواها غضبان الرومي علق أحدُ مندائيي المهجر قائلاً ما معناه أنه كان يُفترَض بشيوخ المندائيين المجتمعين في قلعة صالح ذلك العام أن يوقعوا على عريضة السيدة دراور الموجهة إلى عصبة الأمم! هنا ينبغي أن نفهم جيداً لماذا كانت دراور راغبة بجمع تواقيع المندائيين تأييداً لعصبة الأمم علماً أنها قالت للرومي أن ذلك سيساعد على الاعتراف بالمندائيين وبحقوقهم! ذلك التعليق ليس فقط قاصراً عن فهم نوايا وأهداف واساليب "عصبة الأمم" إنما هو أيضاً قاصرٌ هذه الأيام عن فهم أهداف ونوايا وأساليب "الأمم المتحدة" التي هي في الواقع أداة ٌوامتدادٌ أكبر لمنظمة وأداة أخرى سبقتها، وهي عصبة الأمم التي كانت هي الأخرى تفرض الحصارات الاقتصادية والعسكرية وتسبب انهيار أمم صغيرة وكبيرة على حد سواء لما فيه صالح الأنظمة الغربية. والواقع أن هذا الرأي يُعتبَر اليوم، للأسف، عادياً، يمر دون اعتراض عليه، وحتى مقبولاً أحياناًً، وهذا يحصل كثيراً هذه الأيام بعد تفسّخ المبادئ والمفاهيم الوطنية لدى كثيرين، وحلول البدائل الكوسموبوليتية خلال العقدين الماضيين، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث يبدو هذا التفسخ أكثر وضوحاً في نفسيات بعض المهاجرين؛ ففي عصر الوطنية والإستقلال، العصر السابق لانتصار الرأسمالية الحالي، أي قبل حلول عصر العولمة والاحتلالات والجواسيس والتغلغل الصهيوني والإمعان في تخريب وامتصاص بلدان العالم المتخلف، وإشراف الرأسمالية الغربية المباشر على نشر الفكر الديني في العالم العربي بشتى الوسائل القديمة والجديدة، كان المثقفون العراقيون والمصريون والعرب عامة أكثر إدراكاً وأكثر علميةً وواقعيةً لمفاهيم الحرية والوطنية والاستقلال والديمقراطية والتقدم والسلام، وبالتأكيد أكثر احتراماً لها، حيث أن ما يثير الاستغراب الآن، وفي كثير من الأحيان، ظهور كتابات وأحاديث في منتهى الجرأة والخطورة وعدم الاحساس بالمسؤولية، فإلى جانب المقالات الصهيونية الصريحة والمقنـّعة، والسماح من قبل الإعلام العربي لنشر مثل هذه الأفكار، نجد "كتـّاباً" يحرضون دول الغرب حتى على ضرب بلدانهم المستقلة وبلدان أخرى وقصفها بالطائرات والصواريخ!
(يتبع)





#عبدالله_الداخل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مختارات من -الوصايا-
- أسماك الزينة - إلى كتّاب الإنترنت
- لماذا وقعت زوجة القس في حب ملحد (قصة مملة!)
- مقدمة في -سودونية- أحمد شوقي
- ملاحظات في العلمزيف 2 Notes on Pseudoscience
- القصيدة
- أربع كلمات غير قابلة للقراءة
- ملاحظات في العلمزيف Notes on Pseudoscience
- التفتيش
- الدين والجنون 3- زفاف الغراب - نسخة عادية للإستهلاك المحلي
- -قدر- الشعب العربي
- ومَضاتٌ في ظلام الذاكرة
- الدجل في نقد الدجل
- الدين والجنون -2- المدينة
- في الله والعلم
- الدين والجنون - زفاف الأمير – مختارات من النسخة الخاصة التي ...
- غربان البي بي سي والقطط وقطعة الجبن
- مقاطع غير صالحة للنشر من الوصية الثالثة -4-
- مقاطع غير صالحة للنشر من الوصية الثالثة 3
- تساؤلات ليست من -الرأي الآخر-!


المزيد.....




- رئيس وزراء فرنسا: حكومتي قاضت طالبة اتهمت مديرها بإجبارها عل ...
- انتخاب جراح فلسطيني كرئيس لجامعة غلاسكو الا?سكتلندية
- بوتين يحذر حلفاء أوكرانيا الغربيين من توفير قواعد جوية في بل ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 680 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 13 ...
- رئيس جنوب إفريقيا يعزي بوتين في ضحايا اعتداء -كروكوس- الإرها ...
- مصر تعلن عن خطة جديدة في سيناء.. وإسرائيل تترقب
- رئيس الحكومة الفلسطينية المكلف محمد مصطفى يقدم تشكيلته الوزا ...
- عمّان.. تظاهرات حاشدة قرب سفارة إسرائيل
- شويغو يقلّد قائد قوات -المركز- أرفع وسام في روسيا (فيديو)
- بيل كلينتون وأوباما يشاركان في جمع التبرعات لحملة بايدن الان ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالله الداخل - هل صحيح أن الخطر على القطيع يأتي منه وليس من الذئاب حوله؟