أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - إبراهيم منصوري - تسمم غامض بمدينة التراب الغالي















المزيد.....

تسمم غامض بمدينة التراب الغالي


إبراهيم منصوري

الحوار المتمدن-العدد: 3629 - 2012 / 2 / 5 - 23:05
المحور: الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
    


كان ذلك اليوم آخر جمعة من شهر يناير/كانون الثاني 2012. كانت السماء ملبدة بغيوم تنذر بهطول أمطار غزيرة. كان إبراهيم معتكفا في بيته بمدينة مراكش وهو يعاني من مغص هضمي ودوخة زائدة. هاتفه عبد الرزاق فجأة داعيا إياه إلى المقهى المجاور للتداول حول أمور آنية. اعتذر إبراهيم عن الخروج مقترحا أن يزوره عبد الرزاق في المنزل. بعد ما يربو عن نصف ساعة من تجاذب أطراف الحديث، اتفق الاثنان على السفر إلى مدينة خريبقة التي تبعد أكثر من 220 كيلومترا عن مراكش وذلك لزيارة أحد الأصدقاء هناك والترويح عن النفس.

ركب إبراهيم وعبد الرزاق السيارة وكان يرافقهما إدريس الملقب ب"زريويل". وفي الطريق، بدأت الأمطار تهطل بغزارة معلنة بداية موسم فلاحي ممنون بعد جفاف كاد يهلك الحرث والنسل. بعد اجتياز مدينة قلعة السراغنة بكيلومترات معدودة، عرجت السيارة إلى ضيعة فسيحة يسكن بجوارها السيد محمد وهو مالك الضيعة ومساعده الأقرب السيد عمر. تولى السيد محمد قيادة السيارة واتجهنا جميعا إلى مدينة خريبقة. وصلنا ليلا والسماء ما زالت تذرف أمطارها. استقبلنا صديقنا إبراهيم الملقب بالأنواري والساكن بحي أبي الأنوار بضواحي المدينة. يا ليتهم ما سموا ذلك الحي بأبي الأنوار! اسم على غير مسمى! بنية تحتية متردية، بطالة هيكلية، فقر مدقع، هشاشة وتهميش في كل مكان وفي منطقة معروفة عالميا باحتياطيها الضخم مما سماه صديقنا محمد بالتراب! إنه تراب فعلا ولكنه ليس كأي تراب؛ إنه التراب الغالي، تراب الفوسفات المطلوب في كل أنحاء العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه؛ ليس فقط لتخصيب الأراضي الفلاحية ولكن أيضا لتصنيع أجزاء من الحواسيب المتطورة من وادي السيلكون حتى شانغهاي وتايوان.

بعد حديث شيق ومفيد مع صديقنا إبراهيم الأنواري برفقة "براد" من الشاي المنعنع اللذيذ، ودعناه وداعا حارا والأمطار ما زالت تهطل بغزارة. ركَبنا نحن الخمسة السيارة متجهين إلى حيث لا ندري. بعد برهة، اقترح علينا محمد تناول طعام العشاء في أحد المطاعم الخريبقية يستمد اسمه من أحد أسماء جنات العلا. أثنى محمد على ذلك المطعم ثناء جما واصفا إياه بأشهر المطاعم المتخصصة في الدجاج المشوي بالمنطقة.

دخلنا المطعم وكان غاصا بمستهلكي الطيور. كل يلتهم حصته من الطير مصحوبة بكمية من شرائح البطاطس المقلية وحبات زيتون غليظة الحجم وسلطة طماطم وخليط كزبرة وبقدونس وكرفس مطهو بعناية. انتظرنا وصول حصصنا من الطير بعض الوقت فإذا بالنادل ذي الوجه البشوش يتجه صوبنا محملا بصحون تفور دخانا وكان الجوع قد بلغ منا ما بلغ. بدأنا نلتهم الطعام في جو من المرح جالسين على كرسي متصل مستطيل طويل واضعين صحوننا على طاولة موازية للكرسي. وبما أنني لا أحب البطاطس المقلية فلم أستهلك منها إلا قطعة واحدة واكتفيت بقليل من الدجاح المشوي والسلطة والزيتون وخليط الكزبرة والبقدونس والكرفس. شرب كل واحد منا كأسا من مشروب غازي ثم أدينا لنادل المطعم ما بذمتنا وخرجنا للمبيت بمنزل شقيق محمد بخريبقة.

في المنزل، استحممت بماء ساخن مستعملا حماما يشتغل بالغاز وكان البرد قارسا. دخلت غرفة أنيقة واستلقيت على سرير وثير منهمكا في قراءة جريدة وطنية بينما نام الأربعة الآخرون كلهم في صالون مقابل للغرفة. خلدت للنوم بعد ذلك وكانت الساعة تشير إلى ما يقارب الثانية عشرة والنصف ليلا. بعد أقل من ساعة ونصف، دخل عبد الرزاق ينبئني أن إدريس مريض جدا. كنت أغط في النوم ولم أكن أريد أن يفوتني أحد هذه الفرصة المواتية للراحة معتقدا أن إدريس يعاني من صداع بسيط وأن قرصا من الباراسيتامول يكفيه ليشفى. واصلت نومي وبعد برهة عاد عبد الرزاق يخبرني أن الأربعة كلهم سقطوا مرضى. لم أكترث بهذا الخبر ظانا أن عبد الرزاق يمازحني.

بعد ذلك جاء شقيق محمد يخبرني أن الأربعة كلهم ذهبوا إلى المستشفى لأن صحتهم ليست على ما يرام. استيقظت بسرعة هذه المرة متيقنا أن شيئا ما قد حدث تلك الليلة. ركبت السيارة مع شقيق محمد متجهين صوب المستشفى. وجدت الأصدقاء الأربعة في حالة صحية مزرية وهم ملفوفون في بطانياتهم الدافئة. لم أفهم الأمر جيدا. كيف يدنو المرض من شبان أصحاء في لحظة واحدة ودفعة واحدة؟ لماذا استثناني هذا المرض وقد لازمتهم في ذلك اليوم نهارا وليلا؟ أيكون الطعام الذي التهموه في المطعم الذي يستمد اسمه من أحد أسماء جنات العلا هو الذي سممهم وكاد يجعلهم كعصف مأكول؟ أيسممهم ذلك الطعام ويستثنيني أنا؟ ومن أكون حتى يستثنيني الطعام المسموم ويسمم الآخرين؟ أسئلة وأخرى كانت تتناسل في ذهني. كان الأربعة المسمومون يأخذون حصصهم من الدواء المتدفق عبر عروقهم وأنا أفكر في الأجوبة الشافية عن أسئلتي المتناسلة. بعدما سمع بعض الحاضرين في المستشفى عن قصة الطعام الذي تناولناه في ذلك المطعم الشهير، دافعوا بشدة عن فرضية التسمم الغذائي قائلين إني أتمتع بمناعة عالية جدا. إلا أن هذا التفسير لم يشف غليلي. من أكون حتى تكون مناعتي أعلى مما عند بقية عباد الله؟ أأكون مخلوقا خرافيا أم كائنا منقرضا عجيبا انبعث للتو ولا يعرف عنه علماؤنا شيئا؟

سكتت لهنيهة وفكرت ويقال إن السكوت حكمة. زارتني فكرة يمكن للحاضرين والطاقم الطبي أن يتقبلوها: "لو أعملنا العقل والذاكرة معا لفككنا لغز التسمم إذا افترضنا أن هناك تسمما. فالأربعة المسمومون التهموا كلهم ما كان بحوزتهم من شرائح البطاطس المقلية بينما لم استهلك منها إلا قطعة واحدة ووحيدة. وبما أن البطاطس تقلى في الزيت فيمكن أن يكون هذا الأخير فاسدا أو تم استعماله في القلي من قبل ولعدة مرات. إذن، بلغة المنطق، فالزيت هو الذي سممهم، رغم أن بعض الظلاميين يرون أن من تمنطق فقد تزندق ومن تزندق فمصيره إلى النار!". استحسن الحاضرون الفكرة وأثنوا على عرضي لهذا الرابط العجيب.

أتكون البطاطس المقلية هي التي سممت اليافعين الأربعة؟ في تلك الليلة قبل البدء في التهام الطعام ونحن نمرح ونتمازح جميعا، كنت سأغني للحاضرين أغنية ريفية تقول في مطلعها "وخلي عليك البيض راه الدجاج مريض!"، لكني انصرفت عنها بعد تدخل محمد ليتحفنا بمزيد من مستملحاته المثيرة. أيكون ذلك ضربا من ضروب الحدس؟ هذا ممكن ما دمنا نؤمن بالحدس. في المستشفى، تذكرت أيضا نصا مشهورا لمؤلف الكتب المدرسية في السبعينات من القرن الماضي، الأستاذ أحمد بوكماخ. يقول النص: "قالت الأم للولد: كل البطاطس. قال الولد: أنا لا آكل البطاطس. قالت الأم للعصا: اضرب الولد. قالت العصا: أنا لا أضرب الولد. قالت الأم للنار: أحرقي العصا. قالت النار: أنا لا أحرق العصا. قالت الأم للماء: أطفئ النار. قال الماء: أنا لا أطفئ النار. قالت الأم للبقرة: اشربي الماء. قالت البقرة: أنا لا أشرب الماء. قالت الأم للسكين: اذبحي البقرة. قالت السكين: أنا لا أذبح البقرة...". لو فعل الأربعة المسمومون ما فعله "ولد" بوكماخ وامتنعوا عن أكل البطاطس مع افتراض أنها السبب في تسممهم ما تسمموا! والله أعلم! ولو تخلى المطعم الذي يستمد اسمه من أحد أسماء جنات العلا عن استعمال الزيت الفاسد مع افتراض أن البطاطس المقلية هي التي سممت اليافعين الأربعة ما تسمموا! والله أعلم! والحمد لله على نجاة اليافعين وكل عام وأنتم بطاطس! ! !...



#إبراهيم_منصوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في رثاء الدكتور عبد المجيد الكوهن
- الثورات في العالم العربي وفساد النخبة المثقفة
- هيا رخمي صوتك فأنت امرأة
- رأس كبش العيد تصبح رأس فتنة
- بابليون حول قطر المربع
- عندما تتسطح القدمان ويلام الغدير
- رجل سلطة يفلسف تاريخ القمح
- أحمق يهزم عاقلا
- عندما يحتضر الفرس وتلام المرأة
- ...وسار على الدرب عاما حافي القدمين
- أربع وعشرون ساعة في أمستردام
- قصة قصيرة ولكنها من الواقع: (الفحام الوقح الجريء: زوجته وأتا ...
- بوكماخ في بلاد السنغال
- ذكرى الوالدة
- في مدح النمو: أشعار في مفهوم غير مفهوم
- قصيدة شوق جديدة: من اللسان الأمازيغي إلى لغة الضاد
- في مدح صاحب الجلالة أصل النمو: حفنة أشعار في مفهوم الادخار
- شركات الأمن الخاص بالمغرب: احترافية متدنية واستغلال بشع للعم ...


المزيد.....




- حفل -ميت غالا- 2024.. إليكم أغرب الإطلالات على السجادة الحمر ...
- خارجية الصين تدعو إسرائيل إلى وقف الهجوم على رفح: نشعر بقلق ...
- أول تعليق من خارجية مصر بعد سيطرة إسرائيل على الجانب الفلسطي ...
- -سأعمل كل ما بوسعي للدفاع عن الوطن بكل إخلاص-.. مراسم تنصيب ...
- ذروة النشاط الشمسي تنتج شفقا غير مسبوق على الكوكب الأحمر
- مينسك تعرب عن قلقها إزاء خطاب الغرب العدائي
- وسائل إعلام: زوارق مسيرة أوكرانية تسلّح بصواريخ -جو – جو- (ف ...
- الأمن الروسي: إسقاط ما يقرب من 500 طائرة مسيرة أوكرانية في د ...
- أنطونوف: روسيا تضطر للرد على سياسات الغرب الوقحة بإجراء مناو ...
- قتلى وجرحى خلال هجوم طعن جنوب غرب الصين


المزيد.....

- الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2) / عبد الرحمان النوضة
- الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2) / عبد الرحمان النوضة
- دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب / محمد عبد الكريم يوسف
- الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج ... / محمد عبد الكريم يوسف
- ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج / توفيق أبو شومر
- كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث / محمد عبد الكريم يوسف
- كأس من عصير الأيام الجزء الثاني / محمد عبد الكريم يوسف
- ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية / سعيد العليمى
- الشجرة الارجوانيّة / بتول الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الصحة والسلامة الجسدية والنفسية - إبراهيم منصوري - تسمم غامض بمدينة التراب الغالي