|
تطورات الروح - من تعاليم التصوف
إبراهيم إستنبولي
الحوار المتمدن-العدد: 1067 - 2005 / 1 / 3 - 09:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
توجد في اللغة السنسكريتية ثلاثة مفاهيم خاصة : هاتما Atma– الروح الشاملة ، و كذلك الروح المحددة ، الفردية ، الشخصية الذاتية ؛ مهاتماMahatma - الروح العظيمة ، الكائن المستنير ، الشخصية الروحية ؛ و باراماتما Paramatma – الإنسان الإلهي ( المقدس ) ، الإنسان الذي يدرك ذاته ، الروح المُدرِكة للإله . كما هو مذكور في " هاي يان Gaiyan " : إذا قمتم بدراسة الإنسان فسوف تجدون الكثير فيه " – لذلك إن الإنسان ( و أنا اقصد كل إنسان ) يمتلك إمكانية كبيرة لأن يتطور في النواحي الروحية . بل إن العقل العادي عاجز عن تخيل وسع المجالات الروحية المتوفرة للإنسان . تحت مصطلح " الإنسان الإلهي أو المقدس " يقصد منذ القديم وبشكل أساسي الإنسان ، وفقط القليلون يدركون أن المقصود في الواقع هو الإنسان – الإله . السبب في ذلك هو أن جميع المؤمنين يفصلون الإنسان عن الله ، و هم يتلمسون بين الإنسان والإله هوةً عميقة لدرجة أنه تنشأ الحاجة لملئها بما يسمونه هم الدين . العقيدة تقف حاجزاً بين الله و الإنسان ، إنها تلصق جميع الخطايا بالإنسان ، وكل القداسة – لله . هذه الفكرة ليست سيئة ، لكنها بعيدة عن الحقيقة . على أساس المفهوم الأول – مهاتما – يمكن تقسيم البشرية إلى ثلاث مجموعات . تتألف المجموعة الأولى من البشر – الحيوانات ، الثانية – من البشر – الشياطين ، والثالثة – من الكائنات الإنسانية . عن هذا يقول أحد الشعراء الهنود : " كم هي كثيرة المصاعب في الحياة ، حتى الإنسان صعب عليه أن يكون إنسانا " . الإنسان – الحيوان يفكر فقط بالطعام والشراب ، لا تختلف تصرفاته في شيء عن تصرفات الحيوان المشغول بتأمين حاجاته الطبيعية فقط . أما الإنسان الذي يحمل صفات شيطانية - هو ذلك الذي " أناه " ، الأ يغو ، قد أصبحت عنده قوية و مؤثّرة لدرجة كبيرة جداً – ولذلك عمياء ، بحيث أن " أناه " قد أزاحت و طردت عملياً منه أي إحساس بالنبل ، بالخير و بالعدل . هكذا كائن يستمد لذته من تعاسة الآخرين ، يقابل الخير بالشر ، يشعر بالمتعة من تصرفاته الخرقاء . إن عدد المنتمين إلى هذه المجموعة كبير جداً . ثم هناك الإنسان العاقل – ذاك ، الذي لديه مشاعر سامية و أحاسيس متطورة . ربما إن الأطباء لديهم تصور آخر عن الإنسان السوي ، لكن من وجهة نظر التصوف فقط الإنسان الذي لديه يوجد توازن بين العقل والشعور ، فقط الإنسان المتيقظ لمشاعر الآخرين ، وذلك الذي هو يدرك جميع تصرفاته ويراعي نتائجها المتوقعة على المحيطين ، فقط هذا يكون إنسانا عاقلاً . غير ذلك من الصعب على الإنسان أن يصبح إنسانا ببساطة . وقد يتطلب ذلك الحياة بكاملها . المهاتما – هو الروح المستنيرة . إنه ينظر إلى الحياة من زاوية أخرى . هو يفكر بالآخرين اكثر مما بنفسه ؛ حياته مكرسة لفعل الخير و الإحسان . هو لا ينتظر التقدير أو المكافأة على كل ما يقوم به تجاه الآخرين ، لا يتوقع الشكر أو التكريم على كل ما يفعل ، إنه لا يبحث عن المديح و لا يخاف الانتقاص . وقد اتحد من جهة مع الله ، ومن جهة أخرى – مع العالم ، هو يعيش منسجما وفي هارمونيا بقدر المستطاع . لماذا هو يختار لنفسه طريق التقوى والعدل ؟ لماذا يقضي حياته وهو يعلّم البشرية ومبشّراً لها ؟ إنه يقوم بذلك لأن هذا طبيعيٌّ بالنسبة إليه ؛ كل قلب محبٌّ و مستنير يتعطش لرؤية الآخرين يظفرون بالانتصار . هناك ثلاثة مستويات للمهاتما . الأول يتحارب مع نفسه و مع الشروط من حوله وبالقرب منه . لماذا هو مضطر للقتال ؟ الجواب هو : دوما هناك صراع بين الإنسان الذي يسعى نحو التسامي وبين الريح المقابلة التي تدفع به إلى الوراء . كل فرد يخطو على درب التقدم يشعر بالمقاومة الدائمة لتلك الريح . الريح هنا – هي الصراع مع الذات ، الصراع مع الآخرين ، مع الظروف المحيطة ، الصراع الذي ينشأ من كل ما يحيط ، طالما أن كل جزء من المهاتما يختبر و يجرّب ، طالما أن صبره لما ينضب بعد بالكامل ، و" أناه " لم تختفِ بعد . إنها جلمود قاسٍ تتحول إلى عجينة ليِّنة . فالجندي قد يصاب أثناء الحرب بجروح كثيرة وبانطباعات اصعب وأقسى تبقى في الروح كما الجروح . هكذا هي حالة المحارب الذي يخطو على درب الروحانية ، لأن كل شيء ضده : الأصدقاء ، رغم انهم لا يعلمون بذلك ؛ الأعداء ، الظروف ، المحيط و " الأنا " . لكن الجراح التي يصاب بها في المعركة ، والانطباعات التي يحملها معه من هناك ، تجعله شخصية روحية ، شخصية يصعب الوقوف بوجهها ، شخصية لا يمكن الانتصار عليها . الصنف الثاني من المهاتما يقدم درسا في السلبية ، التسليم ، التضحية ، المحبة ، التبجيل والرضى . يحدث أن يكون الحب أشبه بلهيب الشمعة : انفخ و سوف تختفي . كل ما يمكنها – أن تضيء ، طالما لم ينفخوا عليها . فهي لا تستطيع الصمود في وجه النفخ . وهناك حب آخر يشبه الشمس ، التي تشرق وتبلغ السمت ، ثم تنحدر وراء الأفق وتختفي ؛ إنها تبقى فترة أطول . لكن هناك حب يشبه العقل الإلهي ، الذي كان موجوداً ، يوجد الآن وسيكون دائماً . فتح أو إغلاق العينين لا يُذهب العقل . الشمس قد تشرق و تغرب ، لكن حركتها في السماء لا تؤثر على العقل . عندما يُولد هكذا حب ، الذي يستطيع تحمل الريح والعاصفة بل ويصير اشد و أوثق بعد الارتفاعات والانكساريات ، عندئذ تصبح اللغة البشرية مختلفة – لا يعود العالم قادرا على فهمها . لمجرد أن تبلغ المحبة ملاك الحب ، عندئذ تصبح شبيهة بمياه المحيط التي ترتفع على شكل أبخرة تتجمع في غيوم فوق الأرض لتنزل مطراً عليها . لا يمكن تخيل أن هكذا قلب قد يخضع للتقلبات المتكررة ؛ ليس فقط الناس ، بل الطيور ، والحيوانات أيضا لا يمكنها أن لا تشعر بتأثيره . هذا حب لا يمكن التعبير عنه بالكلمات ، وهو يبرهن على دفء الأجواء التي يصنعها . وروح المهاتما الوديعة المستكينة قد تبدو ضعيفة لمن لا يعرفه و لا يستطيع فهمه ، لأن المهاتما يتقبل سوية الجائزة واللعنة ، وكل ما يعطى له : الاستحسان وعدم الاستحسان ، الفرح و الألم . هو يتلقى كل ما يأتي إليه بخشوع و بهدوء . بالنسبة للصنف الثالث من تلك الأرواح الفائقة التطور ، هناك صراع – من جهة ، وسكينة – من جهة أخرى . وهذه الطرق هي الأصعب من حيث التطور : خطوة إلى الأمام ، خطوة أخرى – نحو الخلف وهكذا . هذا التطور يخلو من الحركة ، لأن كل خطوة توازيها خطوة مقابلة مناقضة لها . من جهة – الروح تهتدي بالقوة ، من جهة أخرى ـ بالحب ، من جهة – بالهيبة وبالجلال ، من جهة أخرى – بخنوع عبودي . يقول الإمبراطور غز نوي في إحدى القصائد الفارسية : " كإمبراطور أنا لدي آلاف العبيد المستعدين لاستجابة ندائي . لكن منذ أن احرق الحب قلبي ، أنا أصبحت عبد عبيدي " . من جهة – عنصر نشط ، من ناحية أخرى – عنصر سلبي . الصنف الأول من المهاتما يمكن أن يُسمى المعلِّم ، الثاني – المقدس ، الثالث – النبي . باراماتما – هذه هي أعلى مراحل يقظة الوعي . الإنسان العادي يولي أهمية اكبر للعالم واقل للإله ؛ المستنير – أهمية اكبر للإله واقل للعالم . أما الباراماتما ففي نفس الوقت يقيم و لا يقيم أهمية للإله وللعالم . إنه هو ما هو . وإذا قيل له : " هذا كله حقيقة " ، - فسوف يجيب : " نعم ، إن كل هذا حقيقة " . وإذا قال له أحدهم : " هذا ليس حقيقة " ، - سيجيب : " نعم ، هذا ليس حقيقة " . وإذا قيل له : " كل شيء حقيقي وغير حقيقي في نفس الوقت "، - سيجيب : " نعم ، كل هذا حقيقي وغير حقيقي في نفي الوقت " . يصير كلامه غير مفهوم و أشبه بلغز . إذ من الأسهل التعامل مع الذين يتكلمون لغتنا ، علما أن معنى الكلمات لا يتغير تقريباً ، فإن اللغة تتعرض للتغيير أيضا ، فهي تصبح غريبة ، كما لو لغة أجنبية مقارنة مع الكلام العادي . فالكلمات لا تعني شيئاً بالنسبة للباراماتما ، ما يهمه هو المضمون الجواني للكلمات . بل حتى لا يجوز القول انه يفهم المعنى : إنه هو نفسه المعنى . هو يصير ذاك الذي يسعى إليه الآخرون .
المصدر : - كتاب " من تعاليم الصوفيين " - للمتصوف الهندي الكبير ، المعلّم حضرات عنايات خان ( 1882 – 1927 ) . - من رسائل المتصوفين - نشرة الكترونية .
#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متى ستزور - لحظة الحقيقة .. - اتحاد الكتاب العرب ؟
-
كلمات رائعة .. - باقة - لنهاية العام 2004
-
سوريا تتسع للجميع - حول إغلاق حانة في دمشق
-
أشعار حزينة من روسيا - للشاعر ايفان غولوبنيتشي
-
الصحافة الإلكترونية .. و الأخلاق الحوار المتمدن مثالاً يُحتذ
...
-
لماذا أخفقت حركة المجتمع المدني في سوريا ؟ وجهة نظر على خلفي
...
-
على نفسها جَنَتْ براقش .. هزيمة جديدة لروسيا .. في عقر دارها
...
-
كل عـام و العالـم مع .. جنون أكثر - خبطة آخر أيام العيد
-
عــام عــلى رحيــل رسول حمزاتوف
-
تعليق على تعليق سناء موصلي ...
-
مارينا تسفيتاييفا - شاعرة الحب و المعاناة
-
الفيتو الأمريكي : صفعة للجميع - معارضة و موالاة
-
حجب الحوار المتمدن في السعودية - شهادة له لا عليه : أليسوا ض
...
-
حول - نظرية المؤامرة - - قصص المؤيدين
-
حكي فاضي أو صداع نصفـ ديموقراطي - يعني - شقيقـة -
-
يا للعار ... تباً لكم ايها الارهابيون - العرب -
-
استحضار مايكوفسكي .. في الزمن العاهر
-
بمناسبة مرور مائة عام على وفاة الكاتب العظيم تشيخوف
-
بوشكين .. في ذكرى ميلاده
-
تحيــة إلى العفيف الأخضر مثقفاً منسجماً مع ذاته
المزيد.....
-
مصدر يوضح لـCNN موقف إسرائيل بشأن الرد الإيراني المحتمل
-
من 7 دولارات إلى قبعة موقّعة.. حرب الرسائل النصية تستعر بين
...
-
بلينكن يتحدث عن تقدم في كيفية تنفيذ القرار 1701
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
داعية مصري يتحدث حول فريضة يعتقد أنها غائبة عن معظم المسلمين
...
-
الهجوم السابع.. -المقاومة في العراق- تعلن ضرب هدف حيوي جنوب
...
-
استنفار واسع بعد حريق هائل في كسب السورية (فيديو)
-
لامي: ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية
-
روسيا تطور طائرة مسيّرة حاملة للدرونات
-
-حزب الله- يكشف خسائر الجيش الإسرائيلي منذ بداية -المناورة ا
...
المزيد.....
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
المزيد.....
|