إبراهيم إستنبولي
الحوار المتمدن-العدد: 1037 - 2004 / 12 / 4 - 09:59
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
مع منتصف و نهاية التسعينيات من القرن الماضي بدأت تسرب إلى وسائل الأعلام المرئي و المكتوب أفكار و آراء تتعلق بالواقع الداخلي السوري لم تكن تطرح للعلن سابقاً ، و راحت تفتح ملفات يسمع بها الشارع السوري لماما و يهمس بها في الجلسات الضيقة ( في ذلك الحين كان السوريون يدعون بعضهم للاجتماع عند مَن ركّب صحناً لاقطاً من اجل مشاهدة و الاستماع إلى برنامج فيصل القاسم " الاتجاه المعاكس".. وغيره ) . كما بدأت تتسرب إلى الصحف ، بداية لبنانية ثم سورية ( المحرر العربي و الاتجاه الآخر ) مقالات و آراء كتاب و مواطنين لم يكن ليسمح لها سابقاً بالظهور .. ليبلغ النشاط الثقافي أوجه على صفحات جريدة " الثورة " السورية عندما تسلم رئاسة تحريرها الراحل يوسف سلامة ..
على تلك الخلفية بدأ السوريون يتململون ، وهم الذين اعتادوا على المشاركة السياسية الواسعة على مدى عقود ؛ خصوصاً و أن السلطة كانت قد تمكنت خلال ثلاثين سنة من ضرب جميع الأحزاب و الحركات السياسية المعارضة - سواء التي لجأت منها إلى العنف أو دعت إلى استخدام العنف ولم تستخدمه أو الحلفاء من أحزاب الجبهة ، التي راحت تتكاثر لا عضوياً ليس من دون مساهمة السلطة و "مباركة " الشقيق الأكبر السوفييتي ( من سخرية القدر أن اغلب الذين كانوا مسؤولين عن قسم الشرق الأوسط في اللجنة المركزي للحزب الشيوعي السوفييتي " البريجنيفي " كانوا من اليهود – بمن فيهم بروتينس – رئيس القسم ) .
إذن ، على تلك الخلفية ، راح المثقفون السوريون - من مختلف التيارات اليسارية بشكل خاص – بالشأن العام ( بعد أن امضوا العقد الأخير في ضياع تام مع انهيار الاتحاد السوفييتي .. ) .. فوجدوا ضالتهم في البيانات ،، التي راح يصدرها بعض المثقفين المعروفين على مستوى البلاد و المنطقة ( انطون مقدسي و طيب تيزيني و آخرون – بيان الـ 99 ) . فجاء بيان الألف الشهير كما لو تلبية لرغباتهم .. وراح يوزع على المحافظات السورية بشكل سري أو شبه سري . كان كل " مسؤول في اللجان يرسل فاكس لأحد من معارفه فيقوم هذا بعرضه على الآخرين لتوقيعه .. وراح يوقعه المحسوبون على اليسار و على الحركة الشيوعية ( أذكر أني عرضت توقيعه على أحد البعثيين فاعترض .. و اعتقد قدم إخباراً بذلك ) .. و قد جاء البيان كما نعلم مشبعاً بالروح الثورجية التي اعتدنا عليها في بداية و منتصف السبعينيات من القرن العشرين . جاء يتناغم مع التركيبة النفسية و الطبيعة الفيزيولوجية لأغلبية الساحقة ممن وقّعناه : الخائبين ، المهملين ، المأزومين و ربما العاطلين عن العمل و بالطبع اللاعبين . بالمناسبة ، لا بد من القول أن كل مَن كان يستلم نسخة من البيان ( و كان يستلمها أكثر من شخص في المدينة أو المحافظة الواحدة ) – كان يسارع إلى اعتبار نفسه ممثلاً " للمرجع الأعلى في المركز الذي زوده بالبيان " .. و كان لا يقبل بأقل من اعتباره " أميرا " على جماعة .. كالطالبان أو غيرها من الجمعيات السرية ( الله الله يا زمن العمل السري و النضال السري – لقد شوهت نفوس و عقول الكثيرين ! ) .. و على تلك الخلفية راح الكل يعلن شرعيته و ينزع الشرعية عن الآخرين .. راح كل شخص يدعي العصمة و يعتبر انه هو "ط الممثل الشرعي للمرجعية في دمشق – هذا يمثل ميشيل كيلو ، و ذاك يقيم علاقة مع عبد الرزاق عيد ، و ثالث يتعامل مع رياض سيف أو حبيب عيسى – مع حفظ الألقاب .. وذاك الله يعلم من يتعامل - مع الكل و ضد الكل .. ) ..و الحق يقال أن هؤلاء كانوا براء من سخافات مَن كانوا يتمسحون بهم .
و على هذه الأرضية بدأت التهم تارة بالخروج عن الخط الصحيح لحركة لجان إحياء المجتمع المدني ، فإذا ما قلت شيئاً لا يتفق مع رأيهم كانوا يعنون " فصلك ؟ من المجتمع المدني ؟! " ( كما قالوا لي يوماً و كما أعرب عن موقف مماثل معه الأستاذ المفكر طيب تيزيني لدرجة انهم أبعدوه عن المشاركة اللاحقة في اجتماعات " الزعامة " ) .. وتارة راح الكل يتهم الكل بالتعامل مع أجهزة الأمن السوري .. ( مش احسن من الأعلام و المخابرات السورية ، التي راحت تتهم المثقفين السوريين بالتعامل مع المخابرات الأجنبية ) .. و كان إذا قام أحد " المراجع العليا " في اللجان بزيارة إلى أحد الأفراد لا على التعيين ، يسارع هذا الأخير إلى مجموعة من " الأصحاب " ليؤكد لهم انه هو الممثل الشرعي للمرجعية دون غيره .. و للعلم لقد كانوا هؤلاء الأصحاب هم هم عند هذا أو ذاك ينقص واحد هنا و يزيد واحد هناك . باختصار ضاعت الطاسة و صارت الحكاية أشبه بشلل نسوان الحارة ( مريم صحبة هي و أميرة و خديجة ، و عليا صحبة هي فاطمة و سهيلة ، و سوسو صحبة مع مريم و بتحكي على عليا و حين تجتمع مع عليا بتحكي على مريم .. ) . و جاء خلاف الأستاذ عبد الرزاق عيد مع جمال باروت ليزيد من شماتة المخابرات و البعثيين المستفيدين من النظام و المطبّلين له و من لف لفّهم بمثقفي المجتمع المدني .. و نجح الأمن بتحويل لقب " من المجتمع المدني " إلى نكتة على لسان البعض هنا و هناك !!.
و على هذا الأساس كنت قد كتبت مقالة في جريدة " الاتجاه الآخر " للسيد اسعد الجبوري ( لم يكن ينشر لنا أحد قبل ذلك .. بل و لازالوا ) بعنوان " لعنة الشفافية أم أزمة الشمولية " أشرت فيها إلى الطابع الطفولي اليساري للحراك المندرج تحت شعار " لجان إحياء المجتمع المدني " .. و بالطبع على اثر ذلك تم تصنيفي بالعدو و بالذي تجب مقاطعته من جهابذة الفكر الحر و المنادين بالتمدن و بحرية الرأي .. وإذ بنا أمام ذهنية أسخف و أكثر ظلمة من ذهنية السلطة .. " طالبان حقيقيون " .
ثم جاءت اعتقالات العشرة المعروفين .. و على رأسهم الدكتور عارف دليلة و رياض سيف و مأمون الحمصي و حبيب عيسى و الآخرين .. بدون أي وجه حق ( ربك ما بيعرف ليش السلطة ما بتطلق سراحهم – ربما عم بترفههم على طريقة الأستاذ نبيل فياض ؟ - يا لها من سخافة و مهزلة للعقل و بحق الوطن ، إذ يذكرني اعتقالهم بالإعتقالات التي كانت تقوم بها الأجهزة السوفييتية للكتاب و الأدباء و المفكرين في الستينيات و بداية السبعينيات من القرن الماضي .. لكن هذا موضوع آخر ) . و كان سبقه اعتقال رياض الترك من جديد ( و رغم أنني كنت و لازلت ممن يحترم هذا المناضل الكبير و يمكن القول أنني تربيت على مواقفه و في كنف ثقافته منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين و لما أنا تلميذ فقط في الثانوية .. حيث التقينا به على شاطئ بحر طرطوس في عام 1974 .. و كانت لقاءات أخرى – إلا أنني أقول أن الأستاذ و الرفيق رياض الترك كما كان " مبدئياً " قبل اعتقاله الكبير بقي كذلك " مبدئياً " بعد إطلاق سراحه .. بالرغم من كل ما حصل في العالم من تغيرات و بالرغم من أن الحياة و السجن يُكسبان المرءَ دروساً و خبرة جبارة في العمل السياسي ! و السياسة و الأخلاق شيئان مختلفان .. وإن كانا يحتاجان إلى بعضهما من حين لآخر ) .
وهكذا بالتدريج تراجع الاهتمام بالشان العام من جديد في أي إطار تنظيمي .. و صار الناس لا يلقون بالاً مطلقاً لما تعلنه أو تدعو إليه لجان إحياء المجتمع المدني .. و جاء تصريح ميشيل كيلو من على شاشة التلفزيون " بوقع على عماها " و مواقف أخرى كالشعرة التي قسمت ظهر البعير .
الخلاصة :
1 – اثبت الواقع أننا كبنية مجتمعية لسنا مستعدين لقبول الآخر .. و لسنا على درجة كافية من الثقافة لكي نبدأ حراكاً سياسياً و مدينياً و ننجزه ، لأن مجتمعاتنا ببساطة غير مؤهلة معرفياً لذلك .. وقد أشار إلى ذلك المفكر الكبير طيب تيزيني اكثر من مرة : فقد ذكر انه قام و تلامذته في كلية الفلسفة بإجراء استبيان حول مفهوم " المجتمع المدني " في أحد إحياء دمشق .. فتبين لهم أن نسبة ضئيلة جداً لا تتجاوز 1 – 3 % قد سمعوا بذلك و لا يعرفون ماذا يعني هذا المصطلح . من هنا نستنتج انه لا بد لنا في البداية من نشر الوعي المعرفي و ثقافة التمدن و المجتمع المدني و قبل الاختلاف قبل أن ننادي بتغيير السلطة .. لا اعتقد أننا نريد تكرار تجربة يوغوسلافيا و تشيكوسلوفاكيا .. بل السلطة هلي التي دفعت الأمور في هذا الاتجاه و بهذه الثورجية لكي تسيء لفكرة المجتمع المدني .. وقد ابتلعنا الطعم و ركب رأس البعض وهم " القبض على اللحظة التاريخية " فظنوا انهم صاروا أسيادا .
2 – لقد اظهر نشاط لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا خلال 3 - 4 سنوات ما يلي : جميع من شارك في الحراك السياسي ذاك هم من خلفية يسارية شيوعية أو بعثية عروبية . ما عدا بعض الاستثناءات .. و الأهم أن اللجان كانت مرآة للواقع السياسي السوري و بشكل خاص لواقع المعارضة السورية بكل أطيافها : مشتتة ، شللية ، قمعية ، مع ميل طاغٍ نحو الفردانية .. و الأكثر أهمية أن المسؤولية في نشوء هكذا معارضة هزيلة مبعثرة تتحملها السلطة التي كمّت الأفواه و أفرغت السياسة من محتواها و عملت على إبعاد الناس عن الشأن العام خلال عقود طويلة .. فحصلنا على ذهنية نمطية قوامها الثورجية الانقلابية و العقلية التآمرية والببغائية .. و حب الزعامة – " الموروث الستاليني و البريجنيفي عالمياً و البعثي و الناصري أو البكداشي - إقليميا و محلياً .
3 - " نجحنا " في تفريغ مصطلح المجتمع المدني من جوهره و ألحقنا إساءة كبيرة بالمفهوم و بالحراك .. كما سبق و " نجحنا " في الإساءة إلى مفاهيم الاشتراكية و الوحدة والحرية ، و الديموقراطية و العلمانية .. الخ . لدرجة كأن مصير هذه المفاهيم أن تتشوه بين أيدينا و في بيئتنا .. في حين ننجح في استيراد و استعمال سيارات المر سيدس و الشبح و الـ ب.م.. دبليو ، و في تمثل الويسكي و الهمبرغر و الهوت دوغ .
و أخيراً ، أريد أن أقول أنني كتبت ذلك لأنه يؤلمني أن تكون مجتمعاتنا مفتوحة لمختلف أشكال الضغط الأمريكي أو غيره .. دون أن نتمكن من تطوير بنية مجتمعية و خلق حركة مجتمع مدني قادر على الوقوف بوجه الأخطار ، التي تتهدد الوطن – مهما سمعنا و قرأنا من تطمينات .. فالتاريخ يقدم لنا أمثلة حية لصالحنا أو ضدنا ، بدءاً من فنزويلا و مروراً بالعراق و انتهاء بأوكرانيا ، في احسن الحالات – أن نكون عرضة لتدخلات ليس همها الأول – مصلحة الوطن السوري .
#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟