|
أدواء ... ودواء من الشرق
أحمد أوحني
الحوار المتمدن-العدد: 3588 - 2011 / 12 / 26 - 00:15
المحور:
الادب والفن
في الآونة الأخيرة يظل صديقي شارداً لمعظم الوقت . يضع يده على خده ويغرق في بحر من الأفكار اللامنتهية تأخذه إلى وجهة غير معلومة . قلت له غير ما مرة إنها عادة سيئة وتوحي بالفشل واليأس والاستسلام ، يتراجع عنها ولكن سرعان ما يعود إليها من جديد . سمعته يتكلم لوحده فظننته يغني ليرفه عن نفسه حتى تأكدت من أمره . من يا تـرى يخاطب وماذا تـراه يقول لمخاطبه الافتراضي ؟ من لا يعرفه يظن أنه أحمق ، ولكنني يقن على أنه يمر بحالة مرضية أوضائقة خانقة ما ، إما مالية أو عاطفية أو متصلة بعائلته الكبيرة أوالصغيرة . وددت من باب الفضول أولاً أن أعرف هذا الشيء الذي جعله يعيش هذه الحالة الكئيبة ، ثم إنني رغبت في الوقوف إلى جانبه ومساعدته كصديق لتجاوز أزمته .
ترددت كثيراً قبل أن أسأله ، ولكن بعد أن أصبح يثير شفقتي عليه وملاحظات الآخرين ، خاصة عندما علمت أنه لم يعد ينام إلا قليلاً ، وأن شهيته للأكل أصبحت غائبة تماماً ، زد على ذلك بعض العصبية التي تنتابه من حين لآخر وتصرفاته التي تغيرت وساءت ، وما كانت تلك عادته من قبل . أعرفه منذ سنوات ، رجل طيب الخلق والناس في محيطه يشكرون له خصاله الحميدة . قلت له ونحن راجلان خارج البلدة كعادتنا أيام العطل : - " ما هو هذا الشيء الذي يستحق أن تتعذب من أجله إلى هذا الحد ؟ اعلم يا صديقي أن لا شيء ينبغي أن تشقى لأجله ويحولك إلى ما أنت فيه الآن من هـمّ وغـمّ وسلال وهزال ". - " هل تشكو من مرض ما ؟ هل تحتاج إلى عون مالي ؟ أهو الأمر متعلق بشؤون الأسرة ؟ " - " إنني أراك تدنو من الموت من العجف ، أودّ مساعدتك حتى تخرج من هذا المَضِيق وتعود كما كنت في سابق الأيام " .
سكت كثيراً وبالغ حتى جعلني أندم على استفساراتي التي حسبتها ثقيلة عليه ، وبدأت في لوم نفسي لهذا التدخل في حياة شخص وهذا التطاول على سرائره التي لا يريد ربما أن يحجوها للغير . أخيراً ، جلس على جذع شجرة وطلب مني الجلوس إلى جانبه . زفـر بعمق ، وما كاد يحدثني حتى دفـق دمعه مثل طفل يفعل من أجل أمه .
تذكر كيف عاش يتيماً منذ طفولته الأولى رغم وجود والديه آنذاك ، وكيف اغتصبت منه طفولته في وقت مبكر ، وكيف كان يعامله أقرانه ، ذكوراً وإناثاً ، حيث وفد على حيهم من البادية ولم يكن يحسن الحديث مثلهم ، وكيف كان رجال الحي يلقبونه على مسمعه ب : الغريب أو " البرَّاني" ، وكيف اتخذته نساء الحي سخرياً لأحمالهن ، وكان يفعل ذلك مقابل ريال أبيض أو قطعة حلوى أو بدون مقابل ، وكيف صفعته ذات مرة امرأة لأنه فقد في الطريق قطعة نقدية من خمسين فرنكاً ، وكيف كانت تجبره زوجة أحد الأغنياء على حمل محفظة ابنتها الجميلة والأنيقة من وإلى المدرسة ، وكيف كان مُلزماً على غسل ملابسه في الساقية أيام الجُمع والآحاد منذ ربيعه التاسع ، وكيف كان يتسلل منتصف الليالي أو قبيل الفجر إلى أشجار الزيتون ويسرق كمية يلفها في سترته ويبيعها في الصباح الموالي مقابل عشرين فرنكاً أو أقل ، وكيف قضى إحدى الليالي في مقبرة هرباً من العقاب لفعل لا يستحق هذا الهلع في نفس طفل صغير ، يقول إن الخوف فارقه إلى الأبد منذ تلك الليلة ، وكيف بات ليله بدون وجبة عشاء مرات عديدة ، وكيف ... وكيف ... وكيف ...
كل هذا وأشياء أخرى عندما تطفو الآن على سطح أفكاره ، يتألم ويودّ لو كان بإمكانه إعادة حياته من جديد ، لعله يسلك سبلاً أخرى قد تكون أحسن لتصنع منه رجلاً أفضل منه . اليوم وقد أخذ المشيب منه ، يتذكر هذه الأدواء المؤلمة التي لا تزال تلازمه في كل وقت . قال لي وهو يبتسم : " لقد وجدت لنفسي وصفة سحرية عجيبة ستشفيني عما قريب " . قلت له : " هكذا أتمنى أن تكون ، ولكن ماذا تكون هذه الوصفة ؟ " . أجاب في استحياء : " دواء شاف يوجد في جوف قلب فتاة شرقية " . ------------------------------------------ • كل ما وافق وطابق الواقع ، فهو من نسج الخيال وسبيل الصدفة . أحمـد أوحنـي – مراسل وكاتب صحافي - أفـورار - المغرب
#أحمد_أوحني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دياجير الزمن
-
لمَّا العيدُ فات
-
أخيراً وجدتُ الكنز
-
عيد مباركٌ لاَ سعيدٌ
-
عندما عاد الصباح وأشياء أخرى
-
الطاغية والوديع
-
المخزن كاين ... المخزن ما كاين
-
?L’exemplarité : un choix ou une prescription
-
نجباء و لكن خنازير
-
الذي أبكى الملايين يبكي
-
عندما لا يُذكر الأموات بخير .
-
عندما يتضاءل الكبار
-
قصة قصيرة : مشاريع فاشلة في أزمان آفلة
-
بقايا رجل
-
قصة قصيرة : عند أمّ حازم
-
رجلٌ للبيع
-
أغبى رجل في العالم
-
قصة قصيرة جداً : البحث عن موجود
-
امرأةٌ ونصف رجل
-
لمَ عُدتَ أيّها الشيء الجميل ؟
المزيد.....
-
-خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
-
موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي
...
-
التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
-
1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا
...
-
ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024
...
-
-صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل
...
-
أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب
...
-
خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو
...
-
في عيون النهر
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|