|
معاناة -السيد ياسين- ومغامراته في عالم -الصحيح الواقعي-
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1053 - 2004 / 12 / 20 - 10:08
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أود ان اعترف بحيرتي وارتباكي حيال كيفية التعليق على ما كتبه الأستاذ علي الشهابي عن مقالي "سوريا غير المتطابقة مع ذاتها"(سورية [ربما سورنة] سوريا..أين سوريا من هذا؟! الحوار المتمدن، 15/12/2004). ومصدر الحيرة والارتباك أن الأستاذ الشهابي يفسر مقالتي بطريقة لا أتعرف فيها على شيء قلته، ثم "يفحم" تفسيره هو بطريقة أجدها طريفة وغير مقنعة في الوقت نفسه. فمنذ السطر الأول في مقاله يقول إن "السيد ياسين"، الذي يُفتَرض انه أنا، يلفت النظر إلى "عدم ارتباط كل الأحزاب السياسية التي قامت في سوريا الحالية بسوريتها، وبالتالي فهي نتاج هزيمة كل المشاريع السياسية...إلخ". من لم يقرأ مقالي، بل ومن ليس المقال بين يديه وهو يقرأ مقالة الأستاذ الشهابي، يظن ان الترتيب المنطقي للصفة السورية على هزيمة كل المشاريع السياسية للأحزاب السورية المتطلعة إلى كيان أوسع من سورية الحالية هو شيء أقمته أنا في مقالي. الأمر ليس كذلك. هذا الترتيب الذي تشهد عليه كلمة "بالتالي" في الجملة المقتبسة للتو هو من اجتهاد الأستاذ الشهابي. ولا يلبث ناقدي أن يتحدث عن فشل مشاريع جعل "سوريا جزءا من منظومة اشتراكية أو أمة إسلامية او أمة عربية أو سورية (بالمعنى القومي السوري)" كأمر محتّم "للتفكير بحقيقية سوريا وسوريتنا فيها"، دون أن يكون واضحا هل هذا الحتم هو دافعي انا للتفكير في "حقيقة سوريا" أم دافعه هو. من جهتي اقول إن مقالي لم يتطرق إليه، ولم استخدم كلمة "فشل" البتة. كذلك يبدو أنني ارى أن "التأسيس لهذه السورية إنما يمر بمعاكسة اتجاه الفكر القومي" إلى اعتبار سوريا قطرا من أقطار الأمة العربية. والحال لست على خصومة مع الفكر القومي أيا يكن مفهومه، ولا أعمل على "معاكسته". أردت اهتماما أكبر بالواقعة السورية فحسب دون أن أكون معنيا بإثبات فشل أو سقوط اية مشاريع او نظم فكرية، ودون ان أكون كذلك "سورويا"، أي متحمسا لسوريا بطريقة تحمس قوميين عرب واكراد وسوريين وغيرهم لعقائدهم ومشاريعهم. لقد مارست نقدا يسمى عادة النقد الكانتي. ويقصد به كشف شروط إمكان مفهوم أو نظرية أو مؤسسة. والتساؤل الضمني في مقالي تنويع على الأسئلة التالية: ما هي الشروط التي يمكن كشفها لغياب التفكير بسوريا والتماهي السوري؟ ما هي المفاهيم أو النظريات أو العقائد او الهياكل السياسية والمؤسسية التي حالت دون تقبل الواقعة السورية وبلورة مفهوم للوطنية السورية؟ كيف أمكن أن الكيان السوري الحديث هامشي في عقائدنا ووعينا وتوقعاتنا للمستقبل؟ كيف نفهم أن "الكيان السوري لا يكاد يكون موضع تفكر سياسي ولا تماه ثقافي ومعنوي من قبل أكثرية السوريين". ولم اكن معنيا بإصدر اية احكام قيمة على اية إيديولوجيا أو اي مشروع. والواقع اني متعاطف مع بعضها كثيرا ومع بعضها قليلا، لكن هذا ليس ما شغلني في المقال. ما شغلني هو الأسئلة السابقة. وكان غرضي هو "إعادة الاعتبار للتعدد المكبوت للوطنية السورية". تحديث هيغل يستخدم الأستاذ الشهابي مبدئا فلسفيا موجها لنقده لمقال "السيد ياسين": "كل ما هو واقعي صحيح، وكل ما هو صحيح واقعي". جميل، لكن كيف نفهمه؟ إذا كان المقصود بصحيح مطابق للواقع فإن مبدأ الأستاذ الشهابي يغد حشوا: كل ما هو واقعي مطابق للواقع، وكل ما هو مطابق للواقع واقعي! أما إذا كان الصحيح هو المتسق منطقيا فإن المبدأ يغدو باطلا بجلاء. فليس الواقعي متسقا منطقيا وإلا لاستغنينا عن المنطق تماما، وليس من الضروري للمنطقي أو المتسق منطقيا أن يكون واقعيا. يبقى احتمال أن يكون المقصود بكلمة صحيح هو الجيد او الحسن، وهنا يغدو المبدأ محافظا: كل ما هو واقعي جيد، أو طوباويا: كل ما هو جيد واقعي! ولعل مبدأ الأستاذ الشهابي تحديث للمبدا الهيغلي المعروف: كل ما هو واقعي عقلاني وكل ما هو عقلاني واقعي، لكن مع إسقاط الوحدة الكينيونية (الأنطولوجية) للعقلاني والواقعي في فكر الفيلسوف الألماني. أخشى ان مؤلف "فينومينولوجيا الروح" يتقلب الان في قبره. فوق تحديث هيغل ثمة تقسيم عمل معرفي: "كل ما هو صحيح واقعي" هو المبدأ الموجه لمنطق البحث، أما منطق الصحافة فيوجهه مبدأ "كل ما هو واقعي صحيح". وإنه لمما يعزي الصحفيين أن المبدآن المذكوران "مقولة واحدة تتكامل في تناقضها" كما يقول الأستاذ الشهابي مواسيا.
"سوْرنة سوريا" يعتقد الأستاذ الشهابي أني أدعو إلى "انعطافة فكرية دافعة باتجاه سورنة سورية"، وهذا التعبير الأخير من ابتكاره رغم انه وضعه بين قوسين بما يوحي للقارئ انه مقتبس من نصي. لقد تحدثت فعلا عن انعطافة فكرية، مضمونها بسيط: من اعتبار سوريا قطرا من اقطار الأمة العربية (أقرب إلى مقاصد تفكيري القول: محض قطر من اقطار الأمة العربية..) إلى اعتبار العروبة عنصرا من عناصر الوطنية السورية، وهو ما يتضمن قلبا للمفهوم الشائع والمطلق للعروبة وتصالحا مع الكيان السوري الذي نعيش و،على الأرجح، سنموت فيه. أما "سورنة سوريا" فقد تكون شيئا ينتمي إلى عالم "الصحيح الواقعي" الذي يشعر فيه "الباحثون" بأنهم في بيوتهم، لا إلى عالم "الواقعي الصحيح" الذي يشعر فيه "الصحفيون" من أمثالي بالراحة. اعترف كذلك أني لم أفهم المقصود بـ "النقد الإيجابي" الذي "يأمل" الأستاذ الشهابي أن اقوم به لـ"الانعطافة الفكرية الدافعة باتجاه سورنة سوريا"، والذي يعتقد أنني سأصل بفضله إلى "نتائج مغايرة" عما وصلت إليه. والأستاذ الشهابي لم يشرح لي هذا المفهوم الذي يبدو أن له علاقة بـ"الصحيح الواقعي البحثي" لا بـ"الواقعي الصحيح الصحافي". طيب. الواقع انني أدين بكتابتي وبدخلي لجهلي بالنقد الإيجابي لا لعلمي به؛ ولا أجد ما يغريني، لا علميا ولا اقتصاديا، في "النقد الإيجابي" التي يبالغ ناقدي في حسن ظنه بي حين يأمل اني ساصل إل "نتائج مغايرة" بتوسُّلِه. هناك "مشكلة"! يبدو أن "السيد ياسين" "يحاول أن يرفع هذا الواقعي الصحيح إلى مرتبة النظرية في الوقت الذي لا يمكن للواقع القائم أن يصير نظرية ذاته". واضح! لكن كيف يرتكب "السيد ياسين" هذا الخطأ المخزي؟ لا أدري، والأستاذ الشهابي لا يمد يد العون لأسرى "الواقعي الصحيح". لكن يبدو أن "السيد ياسين" غافل عن ثلاثة افكار "صحيحة واقعية": الأولى أن "سوريا الحالية (...) تحققت برغم أنف تلك المشاريع السياسية لا بفضلها". من جهتي لا أدري اي شرف في ذلك. إن سوريا الحالية بلد تحتل دولتان مجاورتان بعض أرضه، وتشعر فئات قليلة من شعبه فحسب بانه وطنها النهائي وليس معبرا نحو شيء مختلف. وإذا كنت قد دعوت في مقالي إلى ما قد اسميه الآن "انحياز ايجابي للواقعة السورية" فليس لأن سوريا عظيمة ولا للتقليل من شأن أي مشروع، ولكن لأن سوريا وطننا الذي ينبغي ان نتصالح معه، أن نفكر فيه ونتماهى معه دون الانزلاق نحو مواقف متشنجة منه أو ضده. سوريا هي ابنتنا العوراء الكتعاء، والمغتصبة فوق ذلك، لكنها ابنتنا. لا ينبغي ان تكون عظيمة كي نحبها، ولا ينبغي لعيوبها ان تدفعنا إلى النفور منها. الفكرة الثانية التي يبدو ان "السيد ياسين" غفل عنها هي أن سوريا "ما عادت قادرة على العيش مع هذه التهويمات الماضوية من شيوعية وإسلامية وقومية عربية او سورية القوميين السوريين". بل تعيش! نحن الذين نستسلم للفصام إذا ثابرنا على مقاربة سوريا، تحليلا وعملا وولاء، انطلاقا من تلك النظم الإيديولوجية المتقادمة. لم تعد الشبكات المفهومية لتلك النظم قادرة على اصطياد سمكة المعنى الماكرة والمراوغة. وسيكون صيدنا من الفهم محدودا إن لم نطور شبكات جديدة للفهم والحساسية والتخيل، وحتى الذوق. الفكرة الثالثة "بديهية": "لا يفيد التأمل في إيجابية هذه الحال او سلبيتها طالما أنها باتت واقعها وواقعنا فيها". ويكشف هذا القرار ثابتة من ثوابت تفكير الأستاذ الشهابي، أعني غرامه بالتشريع للعقل (التعبير لمحمد عابد الجابري): هذا يفيد وهذا لا يفيد، كذا "صحيح واقعي" وكذا "واقعي صحيح"، يجوز تحديد ماهية كذا فقط بعد البرهنة على كذا إلخ. وللأسف تشريعه مصاغ باسلوب أوامري، مراسيمي، غير ديمقراطي، دون براهين ودون "بينات نظرية" إذا استخدمنا لغته هو. لماذا يا سيدي لا يفيد التأمل في إيجابية أو سلبية سوريا الحالية؟ وما المقصود بالفائدة هنا؟ وإذا بدت لنا الحال السورية شيئا مقبولا فلم لا تسمح لنا بان نضفي عليها قيمة إيجابية؟ على أية حال، هذا كله حجاج شكلي من قبلي، ولا علاقة له البتة بشيء قلته في مقالي الأصلي.
خلطة "السيد ياسين" الفكرية مسلحا بـ"خلطة فكرية لرؤية العالم الواقعي" مكونة إما من الوقوف في وجه العولمة او تاييدها او بينهما، ومتصورا او غير متصور ان "الحاصل" الآن هو "تحالف مسيحي –يهودي للإجهاز على الإسلام مع العروبة أو دونها"، ومندفعا مع هذه الرؤية او تلك نحو "نمط مختلف من الفعل" خاص بكل منها، ما يسبب "تعاكس الأفعال" و"الشلل السياسي"؛ أقول إن "السيد ياسين"، مسلحا بكل هذه "الخلطة" و"بالقفز عنها" معا، يدعو إلى "تشكيل تكوين سوري جديد يعيد تكوين كل مواطني سوريا الحاليين، هذا الذي سيقضي على عناصرهم القومية عبر تمثلها إيجابيا في هذا التكوين". واضح ومتميز على سنة ديكارت! لي ملحوظتان عديمتا الأهمية على خلطات "السيد ياسين" وقفزاته. أولاها إن "السيد ياسين" مخلوق "للسيد علي"، لا أعرفه ولم التق به يوما، ولا تتقاطع مقالتي "سوريا غير المتطابقة مع ذاته" مع عقائده الغريبة التي يبدو انها تنتمي إلى مملكة "الواقعي الصحيح". فمقالتي لم تذكر حرفا واحدا عن "العولمة" ولا عن "التحالف المسيحي اليهودي" ومؤامرته، دع عنك "تعاكس الأفعال" و"الشلل السياسي". لكن لا مخرج "للسيد ياسين"، إذ انه إن لم يكن مزودا بتلك "الخلطة الفكرية" فهو مزود "بالقفز عنها". ويبدو أن من قوانين عالم "الصحيح الواقعي" أن حمل الخلطات والقفز عنها يقودان إلى النتائج ذاتها. في عالمنا، نحن "الواقعيين الصحيحين"، نعتبر ذلك من المعجزات. الملحوظة الثانية: إن "القضاء على عناصرهم [مواطنو سوريا الحاليين] القومية عبر تمثلها [العناصر] في هذا التكوين السوري الجديد"، الذي يبدو اني أدعو إليه غريب على ذوقي وتفكيري في آن معا. غريب على ذوقي لأن لدي نفورا شبه فطري من كل اشكال العنف اللفظي، من شاكلة الدعوة إلى القضاء على أو تحطيم كذا أو سحق كذا او تصفية كذا إلخ. وغريب على تفكيري لأني شديد التحفظ حيال النظريات الاندماجية والتمثُلية المفرطة، القومية والقومية الجديدة، وأرى ان الدعوة إلى تحطيم البنى الاجتماعية ما قبل القومية كالعشيرة والطائفة والرابطة الجهوية (وفقا لما كان رائجا في ستينات وسبعينات القرن الماضي)، او القضاء على "العناصر القومية عبر تمثلها" أو تصفية ما لست أدري .. كلام لا معنى له، لكنه يمكن أن يولد سلطة استبدادية فتاكة وقاتلة. إلى ذلك فإن سوريا التي أنوه بوجوب العناية بها هي سوريا تعددية إثنيا ودينيا ومذهبيا، وبالطبع إيديولوجيا وسياسيا. واللطيف ان الأستاذ الشهابي نجح في عدم إيراد الجملة التي أتحدث فيها عن "إعادة الاعتبار إلى التعدد المكبوت للوطنية السورية". والوطنية السورية التي أعنيها وطنية دستورية وليست وطنية مطلقة، استعيابية الهوية لا استبعاديتها. (في حدود علمي ان برهان غليون اول من استخدم مفهوم الوطنية السورية في أيلول 2001). ولا أرى كيف تستوي دعوة "القضاء على.." التي نسبها الأستاذ الشهابي "للسيد ياسين" مع ماكان نسبه للسيد ذاته قبل سطور فقط من أنه "يستنتج ضرورة تفعيل هذه المكونات بطريقة تبعد سوريا عن السعي إلى اي مشروع قومي، عربي او كردي، أو اي مشروع من النمط الإسلامي أو الشيوعي". هل "تفعيل المكونات" و"القضاء على العناصر" يعنيان الشيء ذاته في لغة "الصحيح الواقعي"؟ أياً يكن، ليس لي علاقة لا بما يقوله الأستاذ الشهابي ولا بدعوات "السيد ياسين".
حلاوة للأسنان وبيّنات للفعل التخليفي لا يكتفي "السيد ياسين" الذي لا يكف عن توجيه الدعاوي وإطلاق الادعاءات بالدعوة إلى "ضرورة سورنة سوريا"، بل ويمتنع عن تقديم اية بينة او اي دليل على ادعائه. هذا بينما من المعلوم أن "أبسط مبادئ الدليل العقلي" وليس "ابسط مبادئ القضاء فحسب" هو المبدا الذي يقول: "البينة على من ادعى، والدليل على من أنكر"، وفقا لمشرع العقل الأستاذ الشهابي. لكني أكرر هنا ايضا أني أبرأ إلى "الصحيح الواقعي" و"الواقعي الصحيح" معا من ادعاءات "السيد ياسين" ودعواته. إني أنكره ثلاثا! "السيد ياسين" وخالقه الأستاذ الشهابي "موقنان" بسقوط الشيوعية والمشروع القومي العربي، لكن "السيد ياسين" وحده "يقطع حلاوة على قد أسنانه". هذا لأنه ينفرد، رغم شراكة اليقين مع الأستاذ الشهابي بسقوط مشروعهما الاشتراكي القومي، بمطالبة "القوميين الأكراد في سوريا والإسلاميين السوريين بالكف عن برامجهم لينخرطوا في هذا التكوين السوري". ليس هذا فحسب، بل هو يمتنع عن ان "يبين نظريا صحة ادعائه بأن استمرار هذه المشاريع سيفعل فعله في تخليف سوريا سوريا". من جهتي، سأثابر كما فعلت في مقالي موضوع نقد الأستاذ الشهابي على إخفاء ما أنا موقن من سقوطه عن كل من "السيد ياسين" والأستاذ الشهابي. أما مطالبات "السيد ياسين" للأكراد والإسلاميين بالكف عن برامجهم، وبخاصة حرمانه لهما حتى من شم رائحة الحلاوة التي يقطعها على قدِّ أسنانه، فلا اراها عادلة وإن كنت لا استغرب منه شيئا. ثم إني أدين بصورة خاصة امتناعه عن "التبيين النظري لصحة ادعائاته". ف"تخليف سوريا" ليس لعبة، لا للأدعياء ولا للدعاة. لكن ربما نظلم هذا الدعيّ، المدعو "السيد ياسين"، حين نزعم انه لم "يبين نظرية صحة ادعاءاته". الأستاذ الشهابي يبرهن بالدليل القاطع أنه فعل: "إذ لولا قناعته بالفعل التخليفي لهذه المشاريع، وبان انتظار الحياة نقْضها سيجر في أعقابه الويلات، لما دعا اطرافها إلى التخلي عنها". طيب، لنرتب أفكارنا: السيد ياسين (1) دعا الأكراد والإسلاميين إلى التخلي عن مشاريعهم؛ (2) هذا لأنه يعتقد ان لها فعلا "تخليفيا" على سوريا؛ (3) سوريا التي يطالب بضرورة "سوْرنتها". ما أعرفه بصفتي كاتب مقالة "سوريا غير المتطابقة مع ذاتها" اني لم أدع إلى شيئ من هذه القائمة الثلاثية، ولم أطالب أحدا بالتخلي عن اي شيء. لكن لا شك ان "السيد ياسين" قد فعل مادام الأستاذ الشهابي يقول إنه فعل. فكل ما هو صحيح شهابياً واقعي سيدياسينياً.
بعض فضائل الأساس النظري ما يبدو انه فات "السيد ياسين" المتحمس لدعوة الناس إلى "سورنة سوريا" هو أنه "لو لم تكن النخب السياسية، المرتكزة على الحوامل الاجتماعية لهذين المشروعين [ الكردي والإسلامي]، مقتنعة بصحتهما النظرية لسقطا واقعيا". هذا برهان مفحم بالفعل. فالسقوط الواقعي للمشاريع مرهون بالاقتناع النظري لاصحابها بعدم صحتها، وهذا ما لا يبدو ان "الواقعيين الصحيحين" قادرون على إدراكه. ولو ثابر القوميون العرب والقوميون السوريون والشيوعيون على الاقتناع بالصحة النظرية لمشاريعهم لما سقطت واقعيا. الإستاذ الشهابي لا يوضح، للأسف، ما إذا كان هناك نوع آخر من السقوط غير السقوط الواقعي، سقوط صحيح مثلا، ولا ما إذا كانت العلاقة بين السقوط الواقعي وأنواع السقوط المحتملة الأخرى مثل العلاقة بين "الصحيح الواقعي" و"الواقعي الصحيح". ترى، "بأي حق" يدعو "السيد ياسين" الأطراف الكردية والإسلامية "إلى التخلي عن مشاريعها، اي عن ذاتها؟" أليس "بديهيا ان النخب لم ولن تتخلى [عن مشاريعها] لمجرد أن السيد ياسين دعا"؟ ولو كان لدى "السيد ياسين" بيّنة، على الأقل، على سقوط مشاريعها لدفعها إلى التخلي عنها او لأجبرها على تقديم الدليل على ان مشاريعها لم تسقط. والبينة بالطبع على من ادعى وفقا "لأبسط مبادئ الدليل العقلي" المعتمدة في المحكمة الشرعية للأستاذ الشهابي. وفوق شحّ بيّناته، يبدو أن "السيد ياسين" يظن ان ما يقوله هو الصواب لمجرد أن نخب المشروعين "لا تناقشه"، دون ان يخطر له ببال ان "أحد اهم اسباب" امتناعها عن مناقشته هو "أنها لا تأبه لما يقول". ومن حسن حظ "السيد ياسين" أن الأستاذ الشهابي يأبه لما يقول ويحاول أن يكشف أمام بصيرته سر عدم مناقشة النخب له. وهذا رغم أن الاستاذ الشهابي قد يكون "اكثر قناعة من السيد ياسين بتهافت هذين المشروعين". لكن المطلوب إقناعهم ليسوا من طرازه للأسف، بل أناس لا يقتنعون بهزيمة مشاريعهم دون "إرساء اساس نظري يمهد الطريق أمام توضيح الهزيمة الفعلية لهذين المشروعين على أرض الواقع". "توضيح الهزيمة"؟ كنت أظن أن المطلوب إثبات الهزيمة بالبينات أو السقوط الواقعي للمشاريع. لكن ما المقصود بتوضيح الهزيمة: نظرية تفسر السقوط وتشرح اسبابه...أم برهان على ان السقوط قد وقع أو أنه سقوط واقعي؟ لا اعرف الإجابة، وتطابق سوريا مع ذاتها لا يحتاجها ولا يمر بها، لكن ربما يحتاجها "السيد ياسين" لتدعيم دعوته إلى "سورنة سوريا". "السيد ياسين" ايضا مدعو إلى يستوعب ما خفي عنه من فضائل "الأساس النظري": (1) بفضله "يمكن ان تقتنع إحدى هذه النخب او بعضها بالدور التخليفي لمثل هذه المشاريع"؛ و"الأهم" (2) "هذا الأساس النظري سيرسي الأساس لفعل سياسي يرتكز على حوامل اجتماعية في سوريا تحمل هذا المشروع السياسي [المقصود على الأرجح: مشروع "سورنة سوريا"] المناقض لهذين المشروعين". وزبدة القول إن "على السيد ياسين ان يبين - لا ان يقرر- إن كانت الحياة قد اسقطت كل المشاريع القومية أم انها اسقطت المشروعين القوميين العربي والكردي، وكذا الحال بالنسبة للمشروع الإسلامي". إذ لا يمكنه الحديث قبل ذلك عن "ماهية السورنة"، كما يبدو ان بروتوكولات "الصحيح الواقعي" تقرر. أما إن أرسى "الأساس النظري"، وتجاوز التقرير إلى التبيين، فإن الأستاذ الشهابي موقن بان "ماهية السورنة" "ستختلف عما هي عليه عنده الان، هذا إن لم تنتقض". وأنا أخمن أن علاقة التقرير بالتبيين مثل علاقة النقد السلبي بالنقد الإيجابي، و"الواقعي الصحيح" بـ"الصحيح الواقعي" و"الخلطة الفكرية" بـ"القفز عنها". غير أن التخمين لا يغني عن "الأساس النظري" شيئا. ويبدو ان السورنة التي أبدعها "السيد ياسين" الذي أبدعه الأستاذ الشهابي هي "قومية جديدة"، وهي تاليا "لا بد ان ترتكز على معاينة قابلية الحياة لتوليد مثل هذه القومية". إذ رغم ان المواطنين السوريين يعيشون معا قبل ان يدعوهم "السيد ياسين" إلى ذلك فإن "تفعيل هذه العناصر [ماهي، عدا العيش معا قبل دعوة "السيد ياسين" لهم؟] لتكوين تكوين سوري قائم بذاته، بغض النظر عن مواصفاته، في ظل العولمة أراه طوباويا". لنرتب افكارنا مرة اخرى. "السيد ياسين" إياه (1) يدعو إلى "سورنة سوريا" دون ان يرسي لدعوته "اساسا نظريا"؛ (2) ماهية هذه السورنة "قومية جديدة" أو "تكوين سوري قائم بذاته"؛ (3) هذا التكوين "طوباوي" في ظل "العولمة المباشرة"؛ (4) هذا كله موجود في مقالة اسمها "سوريا غير المتطابقة مع ذاتها". غير ان المقالة المذكورة لكاتب هذه السطور، وهو يزعم انه غير متطابق مع "السيد ياسين"، وانه ما من "نقد إيجابي" ولا "خلطة فكرية" ولا حتى "القفز عنها"، يمكنها إقناعه بتبني "سورنة سوريا". يختم الأستاذ الشهابي مقاله ببرهنة ثلاثية الأسباب على طوباوية "تكوين سوري قائم بذاته" مما يبدو أن "السيد ياسين" دعا إليه: أولا "تغير مفهوم الوطن". وللأسف لا يقول لنا ماذا كان وماذا صار. لكن بالنتيجة "ما عادت الوطنية تفعل فعلها في دمج العناصر المتنافرة باتجاه قومية جديدة". لا يشرح الأستاذ الشهابي ما يعنيه بالوطنية: الإيديولوجية ام العلاقة الحقوقية ام الإطار الدستوري والمؤسسي، ولا يقدم "بينة نظرية" على كلامه. لكنه يبلغنا ان "السيد ياسين يرسمها بطريقة يحذر فيها من أن تحيد مليميترا واحدا عن مسارها". فلنهمل "السيد ياسين" وحكاياته، إذ لا شك أن القارئ لم يعد يفاجئه شيء منه ومن أمثاله. وثاني اسباب طوباوية "تكوين سوري قائم بذاته" هو "ميل الحياة باتجاه ترسيخ الفردية بمحتوى إنساني عام يتجاوز المفهوم القومي". أين "الأساس النظري" لهذا الميل؟ بدلا من إرسائه يقول الأستاذ الشهابي إن "مصطلح مواطن بات بعيدا جدا عن ارتباطه بالوطن والوطنية بمعناهما التقليدي". ما هذا المعنى التقليدي؟ واين صار مفهوم المواطن بعد ابتعاده عن الوطن والوطنية؟ ربما في مملكة "الصحيح الواقعي" ذات "الأسس النظرية" الراسخة! ثالث اسباب الطوباوية ذاتها هو أن "تشكيل هذا التكوين السوري، المتمحور على ذاته، اي غير الساعي باتجاه الاندماج مع احد، لا بد ان يقوم في صلبه امتلاك سوريا لإمكانات التطور الاقتصادي.." القارئ مطالب بان لا ينسى ان "السيد ياسين" هو الذي يدعو إلى هذا التكوين "المتمحور حول ذاته" و"غير الساعي للاندماج مع احد". فإن لم يجد شيئا من ذلك في مقالة "سوريا غير المتطابقة مع ذاتها"، فإنه يُنصَح بأن يطور "اساسه النظري" ويتعلم شيئا من التمييز بين مملكتي "الواقعي الصحيح" و"الصحيح الواقعي"، ويحفظ بعض مواد دستور المواطنة فيهما. العلم المكتمل يغني عن الفهم ترى ما السر في هذا الفهم الحر او الكيفي لمقالي؟ لا أعرف، لكن الفهم الحر مميز لأصحاب العقائد المتيقنين من صحة مذاهبهم، والذين يعتقدون أن العين هي التي تضيئ الأشياء الكامدة، وأنه لولاها لبقيت هذه (لا العين) في "عماها". هذا هدر لدرس ابن الهيثم العظيم الذي حررنا من مثالية العين والذات والاعتقاد الذاتي منذ قرون. لقد منح ابن الهيثم البصر للأشياء، وحرر الذات بأن أسس استقلال الموضوع و"ذاتيته". لقد اسس الموضوعية العلمية بالفعل. ليس الأستاذ الشهابي عاجزا عن الفهم، وسنخطئ في فهمه إن ظننا انه لم يفهم المقال؛ الواقع أنه لم يتنازل للفهم ولم ينحن للقراءة (والقراءة فعل انحناء للروح والعقل قبل الجسد) ولم يتعاطف (ولا نفهم شيئا دون تعاطف منهجي اولي). لقد خدعته نظريته عن الصحيح الواقعي، وجعلته يعتقد ان الأشياء توجد بفضل رؤيته لها، وأن لا قوام للواقع دون نسخته الصحيحة التي يملكها هو. إن فهمه المكتفي بذاته، "الصحيح"، هو الذي أعاق فهمه "الواقعي" لما كتبت في مقالي. فالعثور على الحقيقة هو على الدوام اشد العقبات في وجه البحث عنها. أو ربما ينبغي ان نقول إن الإقامة في "الصحيح الواقعي البحثي" هي التي عرقلت فهم الأستاذ الشهابي لـ"الواقعي الصحيح الصحفي". وفي الغالب ليس الجهل هو ما يمنعنا من الفهم بل "العلم": "العلم" أو "النظرية" هو "العقبة الأبستمولوجية" (باشلار) التي تمنعنا من الفهم ومن التفكير ومن العلم! لذلك يحصل ان نزداد حرية ومعرفة حين نخسر "نظرية" و"علما"! لا شك لدي، ختاما، أن "السيد ياسين" قد غرر بالأستاذ الشهابي وساعده على عدم الفهم. هذا ديدن المخلوقات منذ إبليس! دمشق 18/12/2004
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مفهوم لخط الفقر السياسي
-
عن الحرب العادلة والإرهاب والدولة
-
سوريا ممكنة دون معتقلين سياسيين!
-
قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سوريا
-
المستحيلات الثلاث في -الشرق الأوسط-
-
سوريا غير المتطابقة مع ذاتها
-
حلفاء ضد التحليل: التبريريون والتشريريون في معركة الإرهاب
-
أجهزة أمن اكثر = أمن اقل؛ والعكس بالعكس
-
موت آخر المحاربين
-
مشاركة في انتخاب الرئيس الأميركي!
-
اي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 2 من 2
-
أي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 1 من 2
-
إصلاح حزب البعث والإصلاح السياسي في سوريا
-
حول الطريق الثالث ... مرة ثالثة
-
اسحقوهم بتناسب، وحطموهم برفق، واقتلوهم بلطف!
-
الاستقطاب والاختيار: حول مفهوم السياسة 2 من 2
-
الاستقطاب والضعف : حول الخط الثالث مجددا 1 من 2
-
ماضي الخط الثالث ومستقبله في سوريا
-
مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي
-
فليستقل مدير عام مؤسسة الاتصالات!
المزيد.....
-
تحذير سوري من انهيار سد تشرين في ريف منبج بعد استهدافه خلال
...
-
أولمرت: لم ألتزم قط قبل المفاوضات بالانسحاب من الجولان وعلين
...
-
الإعلام العبري يطرح سيناريوهين -مثيرين- لمستقبل سوريا لما بع
...
-
فلكي يلتقط مشاهد فريدة تُظهر -كرات نارية- تسقط على سطح القمر
...
-
بلينكن يعلن عن حزمة مساعدات عسكرية أمريكية جديدة بقيمة 500 م
...
-
السفارة الروسية لدى اليونان: الغرب يشهد مرة أخرى ولادة الفاش
...
-
إعلامي مصري: إذا سقطت دمشق فعلى القاهرة أن تستعد لمعركة المص
...
-
خبيرة روسية: سيكون هناك حوالي 41 مليون متقاعد عام 2025
-
سوريا : صرافة العملات الأجنبية من السر إلى العلن وتخبط التجا
...
-
ترامب يفوز بلقب شخصية العام 2024 من مجلة -تايم-
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|