أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حاتم عبد الواحد - التحليق تحت سماء واطئة














المزيد.....

التحليق تحت سماء واطئة


حاتم عبد الواحد

الحوار المتمدن-العدد: 3546 - 2011 / 11 / 14 - 02:07
المحور: الادب والفن
    




قال رفائيل البرتي مرة " رحلت في الثلاثين من عمري وعدت في الخامسة والسبعين ، هذا امر رهيب حقا عندما تعيش الشعور بالعودة المستحيلة تدرك جيدا ماهو المنفى "
عندما كان راسي الصغير مثل جوزة غير ناضجة ، روادتني بلاد بعيدة بسواحل براقة وناس يمخرون الشوارع مثل ضوء شفيف ، لم احلم بهذه البلاد المفترضة بديلا عن بلادي ولكن جعلتها اضافة مكملة لمشروع حياتي المؤجل بسبب تابواهات الدين و قناعات العائلة الصارمة ، ما كنت مشاكسا لحدود العرف الاجتماعي او الالتزام الاخلاقي كي ابحث عن ارض اخرى تتقبل مشاكساتي ، ولكنني كنت مثل طائر اعمى يحلق تحت سماء واطئة ، وعندما اطلع والدي على قصائدي الاولى وبخني على كتابتها لان الشعر خصلة من خصال الكذابين وفعل من افعال الشيطان حسب قناعته ، لم يكن امامي من طريق للخلاص سوى الانكباب على دراستي علني اظفر بمنحة دراسية خارج البلاد وقبل ذالك خارج البيت الذي هرس وجودي واحلامي برحى القناعات المتوارثة.
كنت في السادسة عشرة حينها عندما استولت على قلبي بنت جارنا ، كلامنا كان بلا كلام ، وطريق المدرسة هو الممر الاكثر اتساعا وجمالا في حياتي لانه يتيح لي فرصة النظر اليها كلما تصادفنا في مجيئنا وذهابنا للدراسة ، وضفة النهر القريبة من بيتي كانت ملاذي الارحب لأدون ما يعتمل في روحي من احلام ولوعات لم تزل تلازمني حتى اللحظة رغم تلاشيها وراء غيوم شعري الابيض وغشاوة عيني ، تلك كانت اولى خطواتي في دوامة البحث عن ارض تتقبل بذوري وتمنحها الرعاية كي تنبت.
واذا كانت المعاجم وعلماء الاجتماع يعرفون " النفي " بانه الابعاد القسري عن الارض التي يعيش فيها الانسان ، فانني منذ وقت طويل وضعت تعريفا اخر للمنفى يتوافق و حاجاتي النفسية والحياتية ، فالافلات من قبضة الموروث الديني والعرف الاجتماعي كان يستوجب فتح نافذة في اقصى جدار الوطن لكي اطل منها على انماط وسلوكيات اجتماعية و ثقافية تلغي الفواصل بين انسان وانسان مهما اختلفت انتماءاتهم العرقية والسوسيولوجية والعقائدية ، لم يكن الامر ميسورا بذات البساطة التي كنت احلم فيها، ولكنني كنت احاول تكييف نفسي مع عالم اخر اخترعته وعشته حتى حدود المرض ، فبلغت بي المعاناة الى كتابة وصية اقول فيها " استحلفكم بالله ان مت فلا تدفنونني في مقبرة مدينتي او او مقبرة اخرى تشبهها واوصي بنقل عظامي خارج هذه البلاد عندما تسنح الفرصة لذلك " ، فقناعاتي كانت مؤسسة على الرفض المعزز بالحجج لكل ما يؤثث حياتي ، فالالتزام الديني الذي كان علي ان اظهره امام عائلتي لم يكن سوى استرقاق طوعي في مملكة السماء ، وضيق عائلتي المادي لم اره سوى سرقة لحقوق المواطنة المسحوقة ببنود قانونية غير عادلة ، وضعف تاثير الكلمة في مجتمع يقدس القوة البدنية كان بمثابة اعظم شتيمة ارمى بها ، كل هذا الخليط وضعني على حافة الجنون ، فغدوت متمردا على كل ما اراه واسمعه ، ناقدا بدون وعي لكل سلوك يبدر من صديق او فرد من افراد العائلة ، ناقما على الصحافة والقانون ونظام التدريس وكل مفردات العقد الاجتماعي التي تربطني بحياتي ، وعندما حانت فرصة تحقيق حلمي بالرحيل الى خارج البلاد كي اواصل تعليمي الجامعي والانتماء الى حضارة ووطن اكثر رقيا من ذلك الذي اورثني الحرمان والكبت والشعارات الجوفاء كانت الحرب مع ايران قد قرعت طبولها ، ومن لم يلتحق بخنادقها من الشباب فان مصيره الموت المشرع بقانون ، من لم يحارب فهو خائن ، والخونة نصبت اعمدة اعدامهم في الشوارع والساحات العامة.
حملت غربتي طفلا اطعمه من احلامي كي يكبر بسرعة ، وادفأه بلوعتي كي يبقى معافى وسط حقول الفكر المتجلد ، وعندما تسرح عيناي طويلا في الافق الممتد امامهما كنت اتلمس كتفيّ علني اجد جناحين قد نبتا فوقهما ، ولكنني في الوقت ذاته كنت اخشى ان اصبح مسخا اذا نبتت فوق كتفي اجنحة نسر عملاق فانا حينها كنت لم ازل طيرا زغِباً لا يستطيع الاستغناء عن والديه.
واتخذ منفاي بشكليه الخارجي والداخلي ممرا للهروب من سطوة عالم لا ننتمي اليه وانما نعيشه مرغمين ، فانا وانت لم نختر مكان ولداتنا ولا نوع جنسيتنا ولا ديننا ولا اسماءنا ، فلماذا انت حر وانا عبد او انت عبد وانا حر؟
ولان كل هذه المفاهيم راسخة في راسي الصغير كنت اتعذب كثيرا لعدم قدرتي على ابتكار بلاد تلائمني خارج حدود البلاد التي ورّثني اياها والداي ، وعندما بلغت الثالثة والعشرين قلت لبنت الجيران انا بلا وطن هل توافقين على ان تكوني وطني ، وهربنا الى اول قاضٍ كي يعقد قراننا بعيدا عن تقاليد العشيرة ، وعشنا احدى وعشرين سنة متحدين الى ان جاءت الحرب الاخيرة لتدمر ما بقي من اطلال تلك البلاد ولتلاحقنا بنادق الطائفيين و السلفيين الدينيين والانتهازيين السياسيين فاصبحت عائلتي المكونة من خمسة اشخاص موزعة على اربعة بلدان.
حلمنا بالاغتراب لاننا نتاج حضارة تشمخ قامتها لعشرة الاف سنة في بابل واريدو و نينوى فحصلنا على المنفى لاننا لم نحترم اسس تلك الحضارة ولم نعمل على ديمومتها ، اي اننا ابدلنا سجنا بسجن ، فالتمرد الذي كنت امارسه في بلادي اختيارا اصبحت امارسه مرغما كي احافظ على هويتي ومرجعتيي اللغوية والعاطفية ، والايام السوداء التي شتمتها طويلا بدأت اشعر بالحنين اليها بعد ان اصبحت حياتنا شتيمة يومية وتهمة لم نقترفها وريبة موسومة بجواز سفر ولسان غير محببين لاهل بلاد المنفى الذين حافظوا على حياتنا مقابل سلب انسانيتنا.



#حاتم_عبد_الواحد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متى يموت المهدي لكي نعيش؟ 4
- إني بريء منك !
- سادة وعبيد
- متى يموت المهدي لكي نعيش؟ 3
- متى يموت المهدي لكي نعيش؟ 2
- متى يموت المهدي لكي نعيش ؟؟؟
- اقليم الطفل العراقي
- الجنرالات المحمديون
- الشعب العراقي الجبان!!
- اليابان ... سلام خذ
- عشرة اسباب لفساد بيضة الثورة العراقية
- رياح التغيير وسفن العرب الغارقة
- افتحوا ابوابكم لبابا عزرائيل
- خصيات نووية
- من اجل لطيف الراشد
- وزراء الحسين
- الرب الاسلامي ينافس الفقراء
- تسع كلمات قتلت العراق
- ما هذه الطغمة المقدسة ؟
- 11 شجرة خارج السياج


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حاتم عبد الواحد - التحليق تحت سماء واطئة