أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرحات فرحات - تدخين














المزيد.....

تدخين


فرحات فرحات

الحوار المتمدن-العدد: 3492 - 2011 / 9 / 20 - 02:19
المحور: الادب والفن
    



انتظرني أبي وقد نزلت عليه السكينة وبرودة الأعصاب حتى أعود إلى البيت من المدرسة. يعود سبب الانتظار إلى وشاية وصلته من زوج خالتي حين ضبطني أنا وشلة من الأولاد متلبسين بتدخين السجائر في كرمه المزروع بشجر الخوخ. أعتقد أنه استشاط غضبا ليس على تدخيننا السجائر فحسب, بل لأننا قطفنا أكثر من سطل خوخ لم يستو بعد من شجراته حيث فردنا الثمر على الأرض وغمسناه بكمشة كبيرة من الملح. كان بامكانه أن يضربنا, فقد وقعنا في يده متلبسين في الجريمة, لكنه وبـّخنا وقال إن الأمر لن ينته عند هذا الحد. كنا شلة من الأقارب والأصدقاء, في الصف السادس أو السابع, لا يتسع فضاء القرية لمرحنا وشقاوتنا. وصلتُ البيت وأبي ينتظرني وبجانبه دفتر صغير, أوراقه بيضاء بلا سطور, كنا نسميه دفتر الرسم. انفرجت أسارير أبي وعلت وجهه ابتسامة, إشارة ً منه كي أطمئن, ثم بدأ محاضرته العلمية التربوية عن مضار التدخين. وحتى يضمن أن محاضرته قد تغلغلت ووصلت أعماق إدراكي, كان لا بد من وسائل إيضاح. هنا بدأ دور دفتر الرسم, فقد انتزع صفحة منه ثم أشعل سيجارة بدون فيلتر, أعتقد انها من نوع " دوبك 10 ", امتص منها نفسا ً عميقا ً ثم قرّب الورقة إلى شفتيه مخرجا ً دخانا ً كثيفا ً جعل منها نقطة صفراء بفعل النيكوتين. نظر إلي وكأنه عالم في مختبره خرج للتو باكتشاف علمي عظيم : أترى مساوئ الدخان وما يفعله لرئتيك؟ قلت له بهدوء : ما دمت تعرف هذه الحقيقة فلماذا تدخن أنت ؟
من يومها انقطعت وسائل الإيضاح بيني وبين أبي بينما ترسخت علاقتي مع التدخين اللهم إلا بعض القطيعة هنا وهناك لم تدم طويلا ً.
لم يعد في هذا العالم موطأ قدم للمدخنين.أصبحنا منبوذين ومطاردين مثل القاعدة وطالبان. لا يخلو مكان لا توجد فيه إشارة ممنوع التدخين. باختصار, لا وجود لنا في هذا العالم المثالي. مثالية تقتل بقدر ما فيها من زيف ومغالاة. لا أحد يريد أن يموت من سحابة دخان سيجارة ترنحت بجانبه, لكنهم يموتون بالآلاف من وجبات الطعام السريع,junk food, المشبعة بالكولسترول وبالمواد الحافظة. وإذا مرت هذه الوجبات عليهم بسلام, لن يستطيعوا الإفلات من المبيدات الحشرية على مختلف الخضراوات والفواكه. وإذا نجوا بأعجوبة من ذلك, تلقتهم الشاحنات والمركبات الكبيرة وهي تنفث الوقود المحروق وكأنها حيوانات قديمة من الأساطير اليونانية ترشف النار أمام أي خطر يعترض طريقها. وإذا أفلتوا من ذلك فلا بد أن يواجهوا مصانع البتروكيماويات التي يعانق دخانها الملوث سماء العباد في احتضان أبدي. هل قلت شيئا ً عن اللحوم المطعمة بالمواد الكيماوية حتى تحافظ على نضارتها وطراوتها أو عن المفاعل النووية التي تنفجر من وقت لآخر لتذكرنا بهيبتها وسلطانها علينا؟ القائمة تطول وتطول وتطول وتبقى السيجارة المسكينة الوحيدة المستضعفة أمام برلمانات العالم أجمع.
لم أستهلك يوما ً أكثر من خمس عشرة سيجارة يوميا ً, ولم أعتبر نفسي على مرّ السنين, مدخنا ً من العيار الثقيل. اليوم, يمكن اعتباري non smoker أو light, إذا صح التعبير. فقد خنت العهد وهجرت السجائر لصالح الغليون لفترة قصيرة, سرعان ما اكتشفت بعدها أنه غير عملي أولا ً, وثانيا ً وهو الأهم, أنه يوحي بالفوقية والترفع وهذا ما أردت والعياذ بالله الابتعاد عنه. لم يبق أمامي سوى السيجار. أعتقد أن حبي له تزامن مع سيجار كلينتون الشهير ولكن لأسباب لا تمت للرئيس بصلة,أهمها أنك تستطيع التمتع بنكهته دون ابتلاع الدخان مع الحفاظ على رئتين نظيفتين . وبما أني أدخن عددا ً قليلا ً منه يوميا ً وبحجم سيجارة عادية, فلا أعاني أية عوارض جانبية كالسعال والإحساس بانقباض الصدر. أما متعتي الحقيقية فهو السيجار الكوبي الذي يصاحبني في نهايات الأسبوع وفي جلسات الأصدقاء الحميمة برفقة كأس من النبيذ أو الويسكي. من قال إن الحياة ليست جميلة؟ لكن هناك من يريد أن ينغص علينا عيشتنا. إنها أمريكا, مصدر الشر في هذا العالم, فهي التي تحلل وتحرم, تجعلك تولع بالشيء ثم تحرمك منه. هل تذكرون صور نجمات هوليود الفاتنات بشفاههن الحمر وهن يحتضن سيجارة أشعلت للتو؟ أو ذلك الرجل على الحصان وسط غابة كثيفة, ينبض حيوية ورشاقة وهو يدخن مالبرو؟ لقد مات المسكين جراء مرض السرطان والله يعلم إن كان يدخن أصلا ً.
في أواخر التسعينات من القرن الماضي, كان بإمكان المدخن في أمريكا أن يجد بعض المقاهي والمطاعم داخل المجمعات التجارية, ممن سمحوا بالتدخين. كنت أفتش عن هذه الأماكن " بسراج وفتيلة " بغض النظر عن نوعية الطعام الذي يقدموه كي أسعد بسيجارة وفنجان قهوة بعد الوجبة. مع بداية الألفية الثانية, كان منع التدخين في الأماكن العامة المغلقة شموليا ً. كنت أشفق على الموظفين في نيويورك, ضعاف النفوس, هؤلاء الذين لم يستطيعوا الإقلاع عن عادة التدخين. تخيلوا موظفا ً يعمل في الطابق الخمسين, ينزل إلى الشارع شتاء, بدرجة حرارة دون الصفر لكي يدخن سيجارة, هذا إذا استطاع إشعالها في طقس عاصف. وكأن رؤساءهم في العمل لم يسمعوا عن زاوية للتدخين أو عن ماكينة لامتصاص الدخان وروائحه. دائما ً كانوا قساة قلوب هؤلاء الأمريكان. ولمن لديه شك, فقد مـُنع المدخنون في الفترة الأخيرة من التدخين في حديقة السنترال بارك في منهاتن, نيويورك وليذهب المدخنون إلى الجحيم!
باختصار, نشعر باختناق شديد وليس بفعل سحابة دخان سماوية من سيجارة مشتعلة.
طلب أحدهم من بائع السجائر علبة, فناوله واحدة كتب عليها التحذير الآتي : "التدخين يسبب ضعفا ً جنسيا ً ". أعاد المشتري العلبة إلى البائع : لا أريد هذه, أبدلها بأخرى مكتوب عليها " الدخان يسبب السرطان ".
يا مدخني العالم اتحدوا !



#فرحات_فرحات (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضيف شغف
- خطاب مستعار لمعمر وبشار
- أبي
- ثورات
- ظلال وأشياء أخرى
- مقطوعتان
- شذرات
- - سته أكتوبر -
- ثلاثة مقاطع
- خمس ُ خطوات ٍ من الهاويه
- قاهريات
- شرود
- أبراج 2
- أبراج
- أ ُحاورك ِ بيني وبيني
- أبكي لها أبكي عليها
- دزينة ٌ هي قُبلتي
- من وحي شوبنهور
- صَوتُك ِ
- نظره على العنف


المزيد.....




- -ذخيرة الأدب في دوحة العرب-.. رحلة أدبية تربط التراث بالحداث ...
- قناديل: أرِحْ ركابك من وعثاء الترجمة
- مصر.. إحالة فنانة شهيرة للمحاكمة بسبب طليقها
- محمد الشوبي.. صوت المسرح في الدراما العربية
- إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري! ...
- ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع ...
- كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا ...
- شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش ...
- -الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل ...
- -أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرحات فرحات - تدخين