|
عميد شعر السخرية
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 3358 - 2011 / 5 / 7 - 10:34
المحور:
الادب والفن
ما أزال أتذكر بيتا من الشعر، ظللتُ أردده كلما خلوتُ إلى نفسي، بدون أن أعرف قائله، ظللت أردده عندما كنتُ أشاهد عملا عبثيا، وجهدا ضائعا لا فائدة تُرجى منه. بيتُ من الشعر التصق بلساني زمنا طويلا، واستعصى على عمليات الغسل والإحلال التي كنتُ أقوم بها بين الحين والآخر، وأخير أعلنتُ فشلي في العثور عن مزيل نافع لهذا البيت الشعري! كنتُ أسأل نفسي: هل يعود سبب التصاق البيت بلساني إلى أن هذا البيت الشعري هو حكمةٍ أزلية؟ أم لأن في البيتِ صورةً مَرِحةً طريفة، تدلُّ على قدرة الشاعر وسعة أفقه؟!! والبيت الشعري عن الذين يحجون إلى مكة، بمالٍ مغصوب مسروق، فهم في الحقيقة لا يحجون، بل يُحسبُ ثوابُ الحجِّ للدواب التي ركبوها يقول البيت: إذا حَجَجْتَ بمالٍ أصلُهُ دَنَسٌ ..... فما حَجَجْتَ، ولكنْ حَجُّت العيرُ لم أكن أعرف بأن هذا البيت الذي التصق بلساني منذ عقود من السنين، هو لشاعرٍ ظريف خفيف الظل، أغفلته كتبُ الأدبِ، وجَنَتْ عليه خِفَّةُ ظِلَّه، وطول قامته، وسخريتُهُ المُرَّة، وفقرُه وتشرده، وسوءُ حظّهِ، وتهديدُه للشعراء وابتزازُه لهم، وسلاطةُ لسانِه، وهجاؤُهُ المرير للبخلاء من الولاة والأمراء، إلا بعد سنواتٍ طويلة. إنه الشاعر الفَكِهُ الظريف أبو الشمقمق( مروان بن محمد) ولقب بالشمقمق لطول قامته، وهو قد عاش في زمن بني أمية في القرن الثالث الهجرى، أو التاسع الميلادي، شاعرٌ ليس كغيره من الشعراء، عاش صعلوكا، ومات صعلوكا أيضا! أبو الشمقمق استخدم الشعر سلاحا فتَّاكا لينال به قوت يومه، بطُرُقٍ شَتَّى فهو لا يمدح إلا الكرماءَ ممن يُجزلون له العطاء، أما البخلاءُ فالويل والثبور لهم، فهم منفِّرون، حتَّى أنهم نتنو رائحة الإبط: وإبْطُكَ قابضُ الأرواحِ يرمِي ... بِسُمِّ الموتِ من تحتِ الثيابِ. وهو الذي هجا ابن منصور بأبشعِ هجاءٍ في الأدب العربي كلِّه على الرغم من أن كتب الأدب تجعل الحطيئة هو الهجَّّاءُ الأول في أدبنا العربي.غير أن أبا الشمقمق قد تفوّق في هذه الأبيات على الحطيئة: ما كنتُ أحسبُ أنَّ الخبزَ فاكهةٌ.... حتَّى نزلتُ على أرضِ ابن منصورِ الحابس الروثَ في أعفاجِ بَغلتهِ.... خوفا على الحبِّ من لقطِ العصافير يَبُس اليدينِ فما يسطيعُ بسطهما.... كأن كفيْهِ شُدَّا بالمساميرِ ( الأعفاج هي الأمعاء) نعم إنه شاعرٌ يستحقُّ من نُقَّادنا أن يُتوِّجوهُ زعيما لشعراء الفكاهة،وعميدا لشعراء السخرية. فهو يهزأ بنحول جسده يقول: ولقد أُهزلتُ حتى.... محتْ الشمسُ خيالي مَن رأى شيئا مُحَالا.... فأنا عينُ المُحالِ ولقد أفلَسْتُ حتَّى.... حلَّ أكلي لعيالي أبو الشمقمق صاحبُ حظٍّ عاثرٍ، وبيت مُقْفِرٍ، فالياقوتةُ الحمراءُ تتحوَّل عنده لسوء حظِّه إلى زجاجةً رقيقةً ، لا قيمةَ لها يقول : ولو أنّي وضعتُ ياقوتهً ... حمراءَ في راحتي لصارتْ زجاجا ولو أني وردتُ عذبا فُراتا... عاد لا شكَّ فيه مِلحا أُجاجا وهو يعيش في بيت بلا أبواب ، لا تسكنه حتى الفئران يقول: وأقامَ السِّنَّورُ في بيتي حولا.... ما يرى في جوانب البيتِ فاره ويقول: فأنتَ إذا أردتَ دخلتَ بيتي.... عليَّ مُسلَّما من غيرِ بابِ لأني لم أجدْ مِصراعَ بابٍ .... يكون من السحاب إلى التُرابِ نعم هو شاعرٌ ليس كمثله شاعرٌ آخر، يجعل من نفسه أضحوكةً، ليُضحكنا ويزيدنا بهجة وسرورا، فهو يصف خوفه من الفيل الذي رآه لأول مرة في حياته فيقول: رأيتُ بيتا، لهُ شيء يُحرِّكُهُ .... فكدتُ أصنعُ شيئا في السراويلِ لم يكن أبو الشمقمق شاعرا فقط، بل كان حكيما فيلسوفا ساخرا متمكنا من الشعر،قادرا على جعل القصيدة حِكما ودُعاباتٍ وطرائفَ، وقصصا ، فهل يستحقُّ هذا الشاعرِ العربي الأصيل ، أن تطويه كُتبنا ومقرراتُنا المدرسيةُ من صفحاتها؟!! فقد اختبرتُ ذات يومٍ المختصين في اللغة العربية وآدابها فسألتُ: من منكم يعرف أبا الشمقمق؟!! أكثرُهم لم يسمعوا بالشاعر، حتى أن بعضهم رجَّح أن يكون ( أبو الشمقمق) مطربا أو مغنيا أو بهلوانا، يعيش في عصرنا، أو لقبا منحوتا للسخرية!!!
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هجوم بسلاح المربوط النووي
-
من مناجم الأشعار
-
الانتفاضة العربية
-
أدب مضغوط
-
من القبائل إلى الغروبات
-
صرخة بعث لفاروق جويدة
-
غسيل العار
-
الفئران وصاروخ القبة الحديدية
-
من دُرر المُبدعات
-
من قتل الملك داود
-
اغتيالات تكنلوجية
-
من يوميات مكتوم
-
ما سرُّ عبقرية محمود درويش؟
-
مرض القهر التراكمي
-
المستبدون في كتاب محظور
-
كاوبوي إسرائيل
-
هل سيصمد مفاعل ديمونا للزلازل؟
-
ألفية صراع الأعراق
-
من مقامات الحاكم بأمره
-
ذكرياتي مع العقيد
المزيد.....
-
لولا يونغ تلغي حفلاتها بعد أيام من انهيارها على المسرح
-
مستوحى من ثقافة الأنمي.. مساعد رقمي ثلاثي الأبعاد للمحادثة
-
جمعية التشكيليين العراقيين تستعد لاقامة معرض للنحت العراقي ا
...
-
من الدلتا إلى العالمية.. أحمد نوار يحكي بقلب فنان وروح مناضل
...
-
الأدب، أداة سياسية وعنصرية في -اسرائيل-
-
إصدار كتاب جديد – إيطاليا، أغسطس 2025
-
قصة احتكارات وتسويق.. كيف ابتُكر خاتم الخطوبة الماسي وبِيع ح
...
-
باريس تودّع كلوديا كاردينال... تكريم مهيب لنجمة السينما الإي
...
-
آخر -ضارب للكتّان- يحافظ في أيرلندا على تقليد نسيجي يعود إلى
...
-
آلة السانتور الموسيقية الكشميرية تتحدى خطر الاندثار
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|