أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضياء حميو - بغداد شتاء 1986














المزيد.....

بغداد شتاء 1986


ضياء حميو

الحوار المتمدن-العدد: 3355 - 2011 / 5 / 4 - 14:29
المحور: الادب والفن
    


بغداد شتاء 1986

رصيٌف خَرِب يترامى على جوانب الطريق ،بضع صبية يصبغون الأحذية الطينية للجنود.
ينهمر المطر الغض فجأة... ،كئيباً وحلاً ،ليفتح مسامات جسد ما ..! ينزف عشقا قديما وحقلا لم يكتمل حصاده..!
ينهمر المطر على بزته العسكرية الكالحة اللون ،يرقب السيارات التي تذهب لساتر صوب الحدود، ينزف فيه وطن مؤلم.
أمراة في الخمسين ...تفترش رصيف "كَراج النهضة" الطيني ،طفل في العاشرة يركب زناجيل جزمات الجنود السوداء ،وآخر ينادي للشوربة:" شوربة عدس حلوة وحاره ،بيض بيض مقلي بالدهن الحر".
صبية حلوة تبيع الشاي للجنود تغمزهم ضاحكة ،يشربون اكثر من "استكان " ،يمازحونها كي تبتسم.
قد تكون آخر صبية يشاهدونها في حياتهم ،وابتسامتها هي الأخيرة ايضا.
سيدة تبيع "عباد الشمس" ...تقول انها من بغداد..!
وآخر يكذبها: "بل هي من البصرة"...ويضيف انه رآها الاجازة السابقة في "كَراج العلاوي"
وأمضى الليلة معها بخمسة دنانير.
كلهم ينتظرون السيارت الذاهبة الى البصرة، والبصرة تنتظر الجسد القادم من بغداد.
لم يهاجر البط هذا العام "لهور الحَمّار" ... فالقذائف الايرانية بنت اعشاشها واستوطنت المكان..!
من يدري ربما كان البط أذكى واكثر حظا بوطن حنون ورؤوف بمخلوقاته..!
يتراكض جنود "كَراج النهضة" حول الباصات الذاهبة الى البصرة ،يستفزه منظر القطيع الذي يركض خلف باص سيوصله الى جبهة القتال حيث النهاية.
قبل قليل كان هو ايضا ضمن القطيع يركض..!
يجلس على الرصيف المتسخ بعد أن أعياه الحصول على مقعد الى الموت ...يحدث نفسه:" ما كان لي ان اشرب اكثر من نصف زجاجة".
كان بحاجة لان يستقل باصا ما... الى جبهات الموت في البصرة.
أراد أن يتصاعد الى البصرة ،أراد رصاصة يطلقها الآخر تكون وداعا اخيرا ،تدفئة ويبرد.
مرت ذكرى امرأة وسبعة ارقام لهاتف جيران العمر،ما اقسى السبعة ايام من الاجازة العسكرية
تذكّره ان الرابض في جوفه انسان ،انسان يعشق ويحلم ويقدر ان ينهي حصاد حقل في الرأس،يتحسس يده الخشنه ،ويتأكد من ان ساعته اليدوية تعمل رغم المطر فيما عقاربها تشير الى منتصف الليل، أذنان صغيرتان وأنف رطب ،أرهف السمع وصار يسمع دقات قلبة التي نسيها..!
أخرج "عدم التعرض"... اليوم.. هو الاخير في الاجازة أن لم يلتحق سيدخل الهروب...وسيمسكون به ويعدموه وسيطالبون امه بثمن الرصاصات.
"ما أباس ان يقتلوني ويمنعوا اهلي من البكاء ويطلبوا ثمن الرصاصات ،ما أسعد "البط" وأذكاه بقراره الحكيم".
تحسس محفظة النقود التي افرغها الليلة في البار ،لم يبق سوى دفتر لأرقام تلفونات جنود لم ولن يعودوا...!.
رقم واحد محفوظ بلب القلب لهاتف جيران العمر،سبعة أرقام كالجمر.
"ما اعظم الكأس الرابعة من "العرق"،حين يتخدر اللسان ويغدو طعمها مالؤفا ووديعا ، اكثر رأفة بمليون مرة من هذه الوطن المر يلسعه مابين الشهقة والشهقة ".
كأس توصله للحلم الاول لبيت منزوي خلف عمارة كبيرة، ودعه من بعيد قبل ان يمضي للبار ظهر يوم الاجازة الأخير.
عب الكأس الخامسة ،تلك التي تروضه دوما ...كي يسير ضمن القطيع..!
لكن المطر المفاجئ اضاع السكرة ،وايقظ فيه أحساسه بالزمن اليابس..!.
"يا الهي ماذا افعل بالبصرة؟! ستتسع المستنقعات طينية مالحة ...وسيهجمون يوم غد او بعده"
يلحظ صبية الشاي وقد غمزها جندي إنفلتت شرائط جزمته ،تبتسم وتناوله "استكان" الشاي ،ياخذه مستكينا ويجلس قربها.
العمال المصريون ...تلك الطيبة والذلة .كم تمنى لو كان أحدهم..!
"...شوربة شوربة كويسة وحارة "
" ان لم احصل على رصاصتي الاخيرة من الآخر..! فسيان الامر على من اصوب طلقتي يوم غد.!!".
قرر ان يصوب طلقته على نفسة خلسة في المعركة ،ينتهي كل شيء دفعة واحدة ولن يفكر "بقناع الغاز" ثانية..!.
على الاقل سيترك لامه سيارة " تيوتا كرونا " ،هدية عائلة الشهيد من السيد الرئيس..!!
فكر في هذا الامر كثيرا ..افضل مليون مرة من ان يموت غريقا او مطمورا في الملح ولايجدوا جثته، ويدونوه مفقودا أو اسيرا ،وتظل امه تنتظر وهمَ عودته .
صار يرتجف الان فالمطر غزير ،لطالما احب المطر في "تشرين" تلك الايام ،اما الليلة فقد ضيع منه سكرته.
اقترب من صبية الشاي ،فابتسمت له ودفعت له بعلبة سمنة فارغة ليجلس عليها ،ناولته الشاي ،قال "لم يعد لديه نقود" ..! أومأت برأسها " لاعليك "،احس بالخجل ودفء انساني ،تناول الشاي واطرق رأسه ممتنا لها،قالت :" مطر " ،قال :" نعم ..مطر " وتمتم بكلمات لم تفهم منها شيء واكتفت بالابتسام ، فيما هو منشغل بالبحث في أحد جيوب بزته العسكرية :". فاليكن مايكون لقد ايقظني"..!أخرج ورقة اجازة مزورة احتفظ بها للطواريء عبأها بتاريخ يوم غد.
وضعها في جيبه ،نهض ملتفتا الى الصبية وهي تقول له " ترجع بالسلامة خوية " ،نزع الساعة ووضعها بكفها ،ردت باصرار وهي تحاول ان تعيد الساعة له " لا لا ليس ثمن الشاي" دفع يدها برفق قائلا: " ليس الشاي بل المطر "..!
وخلال ثوان كانت تراه يغادر "كَراج النهضة" بعيدا عن قطيع الجنود صوب الطرف الآخر من بغداد.

بغداد 1987
هامش
ظل " كَراج النهضة " احد مواقف السيارات التي يودع فيها الجنود الحياة بحدها الادنى صوب جبهات الموت التي استمرت ثمان سنوات.
عدم التعرض ـ هو ورقة الاجازة العسكرية لسبعة ايام ،بعض الاحيان في اوقات الهجوم تتأخر اشهرا وحين تأتي فهي فرصة الحياة وتأجيل الموت لايام معدودة.




#ضياء_حميو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رقصةٌ أخرى
- الكفّ التي تعرفه
- ثورة عض الأصابع البنفسجية
- صفعة تونس ومصر لسياسات إقتصاد السوق
- الصين حجبتْ كلمة مصر
- قائد شيوعي حقيقي التونسي حمه الهمامي
- نعم..حق الأكراد العراقيين بالانفصال
- أعزائي الشيوعيين، أنا أفتقدكم
- الأمم المتحدة ونصفُ لتر الماء
- لعنة الماركسية
- - مدينة - غير مقدسة
- وداعٌ متأخر -لمنى علي-
- طلب إنتماء لحزب الحمير العراقي
- الرأسمالية وتمويل استيراد الرز من القمر
- نقد الحزب الشيوعي العراقي
- الفنان طارق هاشم:-أفرح لكل منجز سينمائي عراقي أينما كان -
- هل الشيوعيون العراقيون أسوأ من البعثيين؟
- ( أبو كاظم والبنك الدولي )
- هل يشبه الفيل الثعبان أم الحائط!؟
- الشيوعيون العراقيون ، طبيب واحد وعشرون صندوق دواء


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ضياء حميو - بغداد شتاء 1986