أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - رزاق عبود - البصره، وتموز، والعم اسكندر















المزيد.....

البصره، وتموز، والعم اسكندر


رزاق عبود

الحوار المتمدن-العدد: 996 - 2004 / 10 / 24 - 04:12
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


بمناسبة هجمات ألأرهابيين ألأجراميه على كنائس المسيحيين العراقيين
البصره، وتموز، والعم اسكندر*

كان ذلك في مدينة البصره التي يسميها العراقيون " البصره الفيحاء" . اما العم اسكندر القادم من القرى المسيحيه في كردستان، فكان يحب ان يسميها "المدينه السمحاء" . فهي مثل بقية موانئ العالم المفتوحه على الدنيا كلها. تجد فيها مختلف ألأديان، وألأجناس. فيها المسيحي، واليهودي، والمسلم، والصابئي . فيها المؤمن، والملحد، فيها العرب، وألأكراد، والفرس، والباكستان، وألأفغان، وألأتراك، والبلوش، والهنود، وألأخيرون يحملون معهم اجناسهم، واسواقهم، ودياناتهم، وعاداتهم المختلفه، ولا ننسى اغانيهم، وأفلامهم الممتعه. كان هناك الكاثوليك، والبروتستانت، واللوثريه، وألأرثوذكس، والكلدان، وألأشوريين، والنساطره وألأرمن. السنه، والشيعه، وحتى السبتيين، والبهائيين. لكن الجميع ،الجميع، كانوا يتعايشون معا، يتفاهمون، يحترم بعضهم شرائع البعض، دون اي محاوله للأستفزاز، والتعرض. يتزاورون، يتاجرون مع بعضهم، يحتفلون سويه، ويتزاوجون، يعيشون، ويعملون معا. كان هناك انسجام جميل بين الكنائس، والجوامع، ومعابد الصابئه، واليهود.

لازلت اذكر كيف كان الشيعه يحيون مأساة كربلاء كل عام "عشرة عاشور" ويقيمون ماتمآ بسيطا في محلتنا. فيجمع الشباب لهذا الغرض التبرعات حيث يوزعون المظاريف الفارغه مع دعوة طوعيه للدعم والمشاركه، فيضع الشخص "العائله" المبلغ الذي يريد ان يساهم به، و يسلمه الى شباب المحله في الموعد المحدد. واتذكر جيدا كيف احتح المسيحيون عندما علموا ان التبرعات اقتصرت على المسلمين . فأخذت المظاريف توزع على جميع البيوت دون استثناء... وستزدادون عجبا اذا عرفتم ان الشيعة كانوا يشكلون اقليه في محلتنا، وان المسيحيين كانوا اغلبية السكان فيها.

كان العم اسكندر مفصولآ سياسيآ من شركة نفط البصرة " رغم انه لم ينتم لحزب سياسي" . جريمته الوحيده، انه كان وطنيا شريفا. انظم الى، ودعم اضراب "عمال النفط" في اواسط الخمسينات، رغم انه كان "موظفآ". حاول ألأنحليز شراءه، فلم يفلحوا. ارادو استغلال مبدئهم "فرق تسد" فلم ينجحوا. انتحى به احد الموظفين ألأنجليز قائلآ:
ـ ولكنك مسيحي، وهؤلاء مسلمون؟ !

فرد باباء: "أنا عراقي، وهؤلاء عراقيون. اننا نعيش في هذا البلد منذ ألاف السنين ،دون ان نلمس تفرقه او تمييز. اما اذا اردت ان تحدثني عن السيد المسيح، فالمسيح دعا الى السلام على ألأرض، والمساواة بين البشر. وقف ضد الظلم، وألأضطهاد، والغبن. وانا اقف ضدكم كعراقي، ومسيحي معآ. أن المسيح لم يوص باحتلال اراضي ألغير، ولا قتل الناس، أوسرقة ثرواتهم، وعندما كان يطوف ليشفي المرضى، ويواسي الفقراء، لم يكن يسأل عن دينهم، ولا مرتبتهم ألأجتماعيه، ولا عن اصلهم. كان يردد ان البشر اخوه" .

العم اسكندر هذا، انقذني، واخي من الضياع ,وألأميه. كنت في بيتهم معظم ألأمسيات، والعطل، وألأعياد. احل المسائل الحسابيه، واقرا الكراريس المدرسيه، والعب مع اطفاله. ولكونه "محاسبآ" تفطن لمقدرتي في العمليات الحسابيه فسألني في احد ألأيام:
ـ في اي صف انت؟
واستغرب، ولم يصدق عندما جاء جوابي انني تعلمت القراءه، والكتابه، والحساب مع ابنائه، وانني لا اذهب الى المدرسه، لأنني اعمل في معمل نجاره، رغم ان عمري ثمان سنوات. تفجر الدم في عروق العم اسكندر، واحتقن وجهه حتى خفت ان يتفجر في وجهي. ولكنه، وبعصبيه، ارتدى سترته، وانتعل حذائه وسحبني بهدوء من ذراعي نحو بيتنا المقابل لبيتهم في بستان احد ألأقطاعيين. طرق بابنا، ولا زال ممسكآ بيدي. وعدل هندامه منتظرآ خروج ابي بعد ان ناداه من وراء الباب . وبقيت حائرآ بين احترامي للعم اسكندر وخوفي من أبي، وأنا مذهول من تصرف العم الطيب . خرج ابي مبتسمآ على غير عادته، واختفت ابتسامته بسرعه، عندما عندما رأى احتقان وجه العم اسكندر، وهو يمسك بيدي، وتصور انني قمت بمشاغبه، او حماقة ما في بيتهم.

حاول ابي ان يسحبني بحركه تنم عن انه تهيأ لضربي .لكن العم اسكندراعترض يده ممسكآ بها بقوة وقال: أعذرني يا ابو جاسم، ولكن انت من يستحق الضرب، وليس هو. كيف ارضاك ضميرك ان تبقيه بلا مدرسه. الفقر ليس تبريرآ كلنا فقراء، وكلنا نعرف ان عائلتكم فقيره، والكل يسميه الشاطر، وانت تحرمه من نعمة القراءه؟ انا مسيحي، ولكني اعرف ان اول سورة نزلت في قرآنكم الكريم هي: "اقرا باسم ربك الذي خلق". فكيف ارتضيت ان تخالف مبادئ دينك، وانت المؤمن التقي؟

كان ابي يحترم العم اسكندر كثيرآ. خاصة وهو يعرف مواقفه الوطنيه، وألأنسانيه. ولم يعتبر حديثه اهانة له، او تدخلآ فضآ في شوؤن العائله. بل كانت مسحة حرج، وشعور بألأمتنان تعلو معالم، وجه ابي الصارمه. ففي مقاييس ذلك الزمن كان للجار حق التدخل، بل حتى تأنيب، و تأديب اطفال جاره، وتوجيه الملاحظات للكبار. الأكبر في العمر كان له قدره، والجار له حرمته. ولكن اتضح ان لأبي عذرآ قويآ غير ما كان يعلنه بأن ألأكبر منه لم يفلحوا، ويقصد اخوتي ألأكبر. حيث اتضح انني، واخي ألأصغر، بلا شهادة ميلاد كمعظم الناس، وحتى بلا "جنسيه" كأغلبية الفقراء، وكان استصدارها متأخرا، يكلف مالا وجهدا.

بعد فترة صمت قصيره استدار العم اسكندر نحو بيتهم، وعاد يحمل معه خمسة دنانير. لم يصدق ابي ما يراه، وازداد خجلآ، وحرجآ. فراتبه الشهري كله لا يتعدى سبعة دنانير، وهذا الرجل يقدم له خمسة دنانير بلا مقابل. صحيح "ان الفقراء اخوة" وصحيح ان المسيح يولد كل يوم ليوزع خبزه على الجائعين . رفض ابي استلام المبلغ ليس فقط لأنه يمس كرامته، ويجرح اباءه ، بل لأنه يعرف عسر حال العم اسكندرالذي تعيله ابنته المعلمه بعد ان فصله ألأنجليز من عمله... وانقذ احد اقاربنا الموقف بزيارة مفاجئه . ولأنني كنت احمل اسمه شكر، العم اسكندر، وعاتب ابي، وتعهد ان يتولى ألأمر بأكمله. كان قريبنا يعمل في سلك الشرطه، وله معارف فاختصر المشكله بأن جعل سنة ميلادي، هي ذاتها مع اخي ألأصغر. وبقينا حتى هذا اليوم توأم في دفتر النفوس. مع اننا ولدنا بسنتين مختلفتين...

وكان للتاريخ احكامه، فجاءت ثورة تموز عام 1958 وأزداد عدد المدارس، فدخلها ابناء الفقراء بالألاف . ومع ثورة تموز، وبجهود العم اسكندر، دخلت مدرسة "14 تموز ألأبتدائيه" . وعاد العم اسكندر الى وظيفته.

فشكرا للعم اسكندر، وشكرا لتموز الجميل، وشكرا للبصره السمحاء.

رزاق عبود
السويد

* نشرت هذه المادة عام 1991 في مجلة " صدى المعرفه" التي تصدر بالعربيه في السويد ويراس تحريرها ألأب الدكتور يوسف متي اسحق. واعتقد ان اعادة نشرها مناسبة لظروف بلدنا بعد ان كانت صورة جميله لوطننا نحتفظ، ونفتخر، بذكراها في الغربه المفروضه.( ر.ع)



#رزاق_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لو كنت كرديآ لما رضيت بغير الدوله المستقله!!
- بصراحة ابن عبود حول ألأعتداءا ت ألأجراميه على الكنائس المسيح ...
- وجه ألأسلام القبيح في العراق!!
- جائزة نوبل للأداب تمنح لأمرأه ماركسيه من النمسا
- شكوى في حضرة السياب
- بصراحة ابن عبود: سقط الصنم، وبقيت نجماته!!
- بصراحة أبن عبود . من بيتر الكبير الى بوتين الصفير، ومن الشيش ...
- هيئة اركان المجرمين
- كردستان يا وطني
- الموت المجاني في بلد الحياة
- كيف يدعوا المثقفون الى القتل؟؟!!
- بيوت ألأشقاء والحيران الزجاجيه
- نداء استغاثه لأستعادة ألشهداء
- زمن الشيوعيين الردئ
- ليش با مدربنه الورد
- صدام شردنا وعلاوي ابعدنا
- من المستفيد من التصعيد ألأمريكي في النجف؟؟؟
- بصراحة ابن عبود: السيستاني مريض، ام اسير، ام رهينه، ام متواط ...
- من ابو طبر الى الزرقاوي، نفس اللعبه، ونفس المجرمين
- بصراحة ابن عبود الشيوعيون، والكلدانيون شموع البصره ايها الظل ...


المزيد.....




- بالأسماء والتهم.. السعودية نفذت 3 إعدامات السبت بحق يمني ومو ...
- -أمام إسرائيل خياران: إما رفح أو الرياض- - نيويورك تايمز
- صدمتها مئات الاتصالات -الصعبة- في 7 أكتوبر.. انتحار موظفة إس ...
- مفاوضات -الفرصة الأخيرة-.. اتفاق بشأن الرهائن أم اجتياح رفح! ...
- مذكرة أمريكية تؤكد انتهاك إسرائيل القانون الدولي في غزة
- زيلينسكي يخفي الحقيقية لكي لا يخيف الشعب
- الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع -حماس-
- ميزات جديدة تظهر في -تليغرام-
- كيف يمكن للسلالم درء خطر الموت المبكر؟
- كازاخستان تنفي بيعها مقاتلات خارجة عن الخدمة لأوكرانيا


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - رزاق عبود - البصره، وتموز، والعم اسكندر