أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد الحداد - قراءة في طبائع الاستبداد ج 7















المزيد.....


قراءة في طبائع الاستبداد ج 7


محمد الحداد

الحوار المتمدن-العدد: 3333 - 2011 / 4 / 11 - 02:39
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ثم يقول:
والأغرب من هذا وذاك؛ أنَّهم جعلوا للفظة العدل معنىً عُرفياً؛ وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء؛ حتى أصبحت لفظة العدل لا تدلُّ على غير هذا المعنى، مع أنّ العدل لغةً للتسوية؛ فالعدل بين النّاس هو التسوية بينهم، وهذا هو المراد في آية: إن الله يأمر بالعدل، وكذلك القصاص في آية: ولكم في القصاص حياةٌ المتواردة مطلقاً، لا المعاقبة بالمثل فقط على ما يتبادر إلى أذهان الأُسراء، الذين لا يعرفون للتّساوي موقعاً في الدِّين غير الوقوف بين يدي القضاة.
وقد عدّد الفقهاء من لا تُقبَل شهادتهم لسقوط عدالتهم، فذكروا حتّى من يأكل ماشياً في الأسواق؛ ولكنّ شيطان الاستبداد أنساهم أن يُفسِّقوا الأمراء الظالمين فيردّوا شهادتهم. ولعلّ الفقهاء يُعذَرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أخرى؛ ولكن، ما عذرهم في تحويل معنى الآية: ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إلى أنّ هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟ والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض؛ لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير؛ فخصّصت منها جماعات باسم مجالس نّواب، وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية، فتخلّصوا بذلك من شآمة الاستبداد. أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكّام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصّبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كلّ معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟!
اللهم؛ إنّ المستبدِّين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدِّين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوّة إلا بك! انتهى الاقتباس .

وكأن المؤلف يستطيع استقراء المستقبل، فها هي السعودية تنشأ هيئة الأمر بالمعروف والتي هي فقط لمحاسبة الناس على أفعالهم بالشارع دون الأمراء، وهي تحاسب النساء والرجال على نظرتها هي للدين وتفسير نصوصه وفق الهوى الوهابي المتطرف.

ثم يقول:
كذلك ما عُذر الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم أن يقولوا: لا يكون الأمير الأعظم إلا وليّاً من أولياء الله، ولا يأتي أمراً إلا بإلهام من الله، وإنه يتصرَّف في الأمور ظاهراً، ويتصرَّف قطب الغوث باطناً! ألا سبحان الله ما أحلمه! انتهى الاقتباس .

وهذا هو تقديس البعض للأولياء، وإعطائهم صفات الهية، وجعلهم فوق البشر، فلا يمكن محاسبتهم مهما فعلوا.

ثم يقول:
نعم؛ لولا حُلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيثُ أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسّس لهم أفضل حكومة أُسِّسَت في النّاس، جعل قاعدتها قوله: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّته»؛ أي كلٌّ منكم سلطانٌ عام ومسؤول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قاله مشرِّع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وعموميته؛ إلى أنَّ المسلم راعٍ على عائلته ومسؤول عنها فقط. كما حرَّفوا معنى الآية: والمؤمنون والمؤمنات بعضُهم أولياءُ بعض على ولاية الشهادة دون الولاية العامة. وهكذا غيّروا مفهوم اللغة، وبدَّلوا الدِّين، وطمسوا على العقول حتى جعلوا النّاس ينسون لغة الاستقلال، وعزّة الحريّة؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمّةٌ نفسها بنفسها دون سلطانٍ قاهر. انتهى الاقتباس .

فالمسؤولية جماعية، فالمستبد ليس وحده مسؤولا عن استبداده، بل حتى شعبه مسؤول، لأنه سمح للمستبد بالتمادي باستبداده.

ثم يقول:
وكأنّ المسلمين لم يسمعوا بقول النّبي عليه السلام: «النّاس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربيٍّ على أعجمي إلا بالتّقوى». وهذا الحديث أصحُّ الأحاديث لمطابقته للحكمة ومجيئه مفسِّراً الآية إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم فإنَّ الله جلَّ شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في المكرمة بقوله: ولقد كرَّمنا بنيَ آدم ثمَّ جعل الأفضلية في الكرامة للمتَّقين فقط. ومعنى التَّقوى لغةً ليس كثرة العبادة، كما صار إلى ذلك حقيقة عُرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير (عند الله)؛ أي في الآخرة دون الدنيا؛ بل التَّقوى لغةً هي الاتِّقاء؛ أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازاً من عقوبة الله. فقوله: إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم كقوله: إنَّ أفضل النّاس أكثرهم ابتعاداً عن الآثام وسوء عواقبها. انتهى الاقتباس.

وهل هناك سوء اكبر واشد من الاستبداد، حيث به تزداد كل الرذائل الأخرى وتتمادى، وتجد لها تربة خصبة للنمو والتكاثر.

ثم يقول:
وقد ظهر مما تقدَّم أنَّ الإسلامية مؤسسة على أصول الحرّية برفعها كلّ سيطرة وتحكُّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، وبحضِّها على الإحسان والتحابب. وقد جعلت أصول حكومتها: الشّورى الأريستوقراطية؛ أي شورى أهل الحلِّ والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي؛ أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد. وقد مضى عهد النبي (عليه السلام) وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتمّ وأكمل صورها. ومن المعلوم أنّه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل إقامة شعائر الدين، ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة وحُكم، كلُّها من أجَلّ وأحسن ما اهتدى إليه المشرِّعون من قبل ومن بعد. ولكن؛ واأسفاه على هذا الدين الحرّ، الحكيم، السهل، السمح، الظاهر فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه، الدين الذي رفع الإصر والأغلال، وأباد الميزة والاستبداد. الدين الذي ظلمه الجاهلون، فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان. الدّين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخيار، فسطا عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد، واتَّخذوا وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيَعاً، وجعلوه آلهة لأهوائهم السياسية، فضيّعوا مزاياه، وحيّروا أهله بالتقريع والتوسيع، والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان السائرة، حتى جعلوه ديناً حرجاً يتوهّم الناس فيه أنَّ كلَّ ما دوَنَّه المتفنون بين دفَّتي كتاب يُنسَب لاسم إسلامي هو من الدين، وبمقتضاها أن لا يقوى على القيام بواجباته وآدابه ومزيداته، إلا من لا علاقة له بالحياة الدنيا؛ بل أصبحت بمقتضاها حياة الإنسان الطويل العمر، العاطل عن كلِّ عمل، لا تفي بتعلُّم ما هي الإسلامية عجزاً عن تمييز الصحيح من الباطل من تلك الآراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة؛ وما افترقوا إلا وكلٌّ منهم في موقفه الأول يظهر أنه ألزم خصمه الحجّة وأسكته بالبرهان؛ والحقيقة إنَّ كلاً منهم قد سكت تعباً وكلالاً من المشاغبة. انتهى الاقتباس .

وهنا أؤيد المؤلف وأخالفه بآن واحد، فنعم أن الدين الاسلامي هو المأخوذ عن النص القرآني، والتدين هو تطبيق المسلمين لهذا النص حسب فهمهم، ولكن ما يعايشه الناس يومياً هو التدين وليس الدين، لذا فإن ما وجد من مشاكل، ومنها الاستبداد موضوع نقاشنا الحالي، نابع أساساً من كيفية تفسير النص الديني ليشكل التدين لدى العامة والخاصة، وهذا التدين هو سبب الآلام الكثيرة والمآسي الكبيرة التي تعانيها المجتمعات الإسلامية، وحتى يأتي اليوم الذي يتطابق فيه التدين مع الدين سنبقى نرى آلام ومذابح هنا وهناك باسم الدين .

ثم يقول:
وبهذا التّشديد الذي أدخله على الدّين منافسو المجوس؛ انفتح على الأمّة باب التلوّم على النفس فضلاً عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنِّظام. وهذا الإهمال للمراقبة، هو إهمال الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وقد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوزَ الحدود. وبهذا وذاك ظهر حُكم حديث: «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليستعملنّ الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب»، وإذا تتبعنا سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع الأمّة، نجد أنّهما مع كونهما مفطورَين خير فطرة، ونائلين التربية النبوية، لم تترك الأمة معهما المراقبة والمحاسبة، ولم تطعهما طاعةً عمياء. انتهى الاقتباس .
وهنا أخالف المؤلف حول سيرتي أبي بكر وعمر، فلا أعتقد أنهما مفطورين خير فطرة وإلا لما كانا على الكفر ثم آمنا، هذا أولاً، ثم أن فترة حكمهما لا تخلوا من مآسي كثيرة حدثت بسبب تدينهما، أي فهمهما الشخصي والآني للنص الديني، فما حروب الردة كما تسمى تاريخياً إلا حروب دينية، غرضها جبر الناس على البقاء في الدين، وما الفتوحات الاسلامية إلا غزوات على شعوب لم تتعرض للدولة الإسلامية لا من قريب ولا من بعيد .

ثم يقول:
وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم، وليس هو من دينهم بالنّظر إلى القرآن والمتواترات من الحديث وإجماع السلف الأول فقال:
(اقتبسوا) من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية، و(ضاهوا) في الأوصاف والأعداد أوصاف وأعداد البطارقة، والكردينالية والشهداء والأساقفة، و(حاكوا) مظاهر القديسين وعجائبهم، والدعاة المبشّرين وصبرهم، والرّهبنات ورؤسائها، وحالة الأديرة وبادريتها. والرهبنات ورسومها والحميَّة وتوقيتها، و(قلّدوا) الوثنيين الرومانيين في الرّقص على أنغام الناي والتغالي في تطييب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وتسريح الذبائح معها، وتكليلها وتكليل القبور بالزهور. و(شاكلوا) مراسم الكنائس وزينتها، والبِيَع واحتفالاتها، والترنّحات ووزنها، والترنُّمات وأصولها، وإقامة الكنائس على القبور، وشدّ الرِّحال لزيارتها، والإسراج عليها، والخضوع لديها، وتعليق الآمال بسكانها. و(أخذوا) التبرّك بالآثار: كالقدح والحربة والدستار، من احترام الذخيرة وقدسية العكاز، وكذلك إمرار اليد على الصّدر عند ذكر الصالحين، من إمرارها على الصدر لإشارة الصليب. و(انتزعوا) الحقيقة من السرّ، ووحدة الوجود من الحلول، والخلافة من الرّسم، والسّقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء المصدَّرة بالنّداء على الجدران من تعليق الصّور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة من التوجّه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام. و(منعوا) الاستهداء من نصوص الكتاب والسُنَّة كحظر الكاثوليك التفهّم من الإنجيل، وامتناع أحبار اليهود عن إقامة الدّليل من التوراة في الأحكام. و(جاءوا) من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك، وبخشية أوضاع الكواكب وباتِّخاذ أشكالها شعاراً للملك، وباحترام النار ومواقدها. و(قلّدوا) البوذيين حرفاً بحرف في الطريق والرياضة وتعذيب الجسم بالنار والسلاح، واللعب بالحيّات والعقارب وشرب السموم، ودقّ الطبول والصنوج وجعل رواتب من الأدعية والأناشيد والأحزاب، واعتقاد تأثير العزائم ونداء الأسماء وحمل التمائم، إلى غير ذلك مما هو مُشاهد في بوذيي الهند ومجوس فارس والسّند إلى يومنا هذا. انتهى الاقتباس .

وهذا كله نتيجة اختلاط الشعوب مع بعضها، فنادراً أن يبقى تابعي دين معين على طبيعته الأولية دون ادخال رتوش وأعياد واحتفالات هنا وهناك تأثراً بمن جاورهم من أقوام، وما حال المسلمين إلا نموذج حقيقي لهذا التأثير .

ثم يقول:
وقد قيل إنّه نقله إلى الإسلامية: جون وست، وسلطان علي منلا، والبغدادي، وحاشية فلان الشيخ وفلان الفارسي، على أنّ إسناد ذلك إلى أشخاص معينين يحتاج إلى تثبيت. و(لفَّقوا) من الأساطير والإسرائيليات أنواعاً من القربات، وعلوماً سمّوها لدنيات.
كذلك يُقال عن مبتدعي النصارى، من أنّ أكثر ما اعتبره المتأخرون منهم من الشعائر الدينية- حتى مشكلة التثليث- لا أصل له فيما ورد عن نفس المسيح عليه السلام؛ إنما هو مزيدات وترتيبات قليلها مُبتدَع وكثيرها متَّبع. وقد اكتشف العلماء الآثاريون من الصفائح الحفرية الهندية والآشورية ومن الصّحف التي وُجدت في نواويس المصريين الأقدمين، على مآخذ أكثرها. وكذلك وجدوا لمزيدات التلمود وبدع الأحبار أصولاً في الأساطير والآثار والألواح الآشورية، وترقّوا في التطبيق والتدقيق إلى أن وجدوا معظم الخرافات المضافة إلى أصول عامة الأديان في الشرق الأدنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لنحل الشرق الأقصى، وقد كشفت الآثار أنّ الاستبداد أخفى تاريخ الأديان وجعل أخبار منشئها في ظلام مطبق، حتّى إنَّ أعداء الأديان المتأخرين أمكنهم أن ينكروا أساساً وجود موسى وعيسى عليهما السلام، كما شوّش الاستبداد في المسلمين تاريخ آل البيت عليهم الرضوان؛ الأمر الذي تولّد عنه ظهور الفِرَق التي تشيَّعت لهم كالإمامية والإسماعيلية والزيدية والحاكمية وغيرهم.
والخلاصة أنّ البِدَع التي شوَّشت الإيمان وشوَّهت الأديان تكاد كُلُّها تتسلسل بعضها من بعض، وتتولّد جميعها من غرض واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد. انتهى الاقتباس.

وهنا لا أعتقد أن الحكام كان بمقدورهم فعل كل ذلك لوحدهم، ولكن هي الرغبة الجامحة لدى كل فرد أن يعرف كيف يتعبد جيرانه المخالف عنه، فيأخذ عنه شيئاً، وبمرور الوقت تصبح من أساس التدين ذاك، وهنا كان المستبد هو العامل المساعد كي تتفرق الناس الى ملل وطوائف، كل فرح بما لديه، وينازع غيره حول فكره وتدينه، وبذا يسهل حكمهم جميعاً.

ثم يقول:
والنّاظر المدقّق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدّين من الخلفاء والملوك الأولين، وبعض العلماء الأعاجم، وبعض مقلّديهم من العرب المتأخرين أقوالاً افتروها على الله ورسوله تضليلاً للأمة عن سبيل الحكمة، يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور الله، ولكن؛ أبى الله إلا أن يتمّ نوره، فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحكم من أن تمسّه يد التحريف؛ وهي إحدى معجزاته لأنَّه قال فيها: إنّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظون فما مسّه المنافقون إلا بالتأويل، وهذا أيضاً من معجزاته، لأنه أخبر عن ذلك في قوله: فأما الَّذين في قُلُوبهم زَيغٌ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وإني أُمثِّل للمطالعين ما فعله الاستبداد في الإسلام، بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسِّروا قسمَي الآلاء والأخلاق تفسيراً مدقِّقَاً، لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغُفَّل السالفين أو بعض المنافقين المقرَّبين المعاصرين، فيُكفَّرون فيُقتَلون. وهذه مسألة إعجاز القرآن، وهي أهم مسألة في الدِّين لم يقدروا أن يوفوها حقّها من البحث، واقتصروا على ما قاله فيها بعض السّلف قولاً مجملاً من أنَّها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته، وأنّه أخبر عن أنّ الرّوم بعد غلبهم سيغلبون. مع أنه لو فُتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الرأي والتأليف، كما أُطلق عنان التخريف لأهل التأويل والحُكم، لأظهروا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات الإعجاز، ولرأوا فيه كلّ يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله: ولا رَطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين ولجعلوا الأمة تؤمن بإعجازه عن برهان وعيان لا مجرد تسليم وإذعان.
ومثال ذلك: أنَّ العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تُعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوربا وأمريكا؛ والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التّصريح أو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرناً؛ وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنّه كلام ربٍّ لا يعلم الغيب سواه؛ ومن ذلك أنّهم قد كشفوا أنّ مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: ثمَّ استوى إلى السماء وهي دخان وكشفوا أنّ الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول:وآيةٌ لهم الأرض الميتةُ أحييناها إلى أن يقول:وكلٌّ في فلكٍ يسبحون.
وحققوا أنَّ الأرض منفتقةً في النظام الشمسي، والقرآن يقول: أنَّ السّموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما.
وحققوا أنَّ القمر منشقٌّ من الأرض، والقرآن يقول: أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها. ويقول: اقتربتِ السّاعة وانشقَّ القمر.
وحققوا أنَّ طبقات الأرض سبع، والقرآن يقول: الله الذي خلق سبع سمواتٍ ومن الأرض مثلهن
وحققوا أنّه لولا الجبال لاقتضى الثّقل النوعي أن تميد الأرض؛ أي ترتجّ في دورتها، والقرآن يقول: وألقى في الأرض رواسيَ أن تميد بكم.
وكشفوا أنَّ سر التركيب الكيماوي- بل والمعنوي- هو تخالف نسبة المقادير وضبطها، والقرآن يقول: وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار.
وكشفوا أنَّ للجمادات حياة قائمة بماء التبلور والقرآن يقول:وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حي.
وحققوا أنّ العالم العضوي، ومنه الإنسان، ترقّى من الجماد، والقرآن يقول: ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طين.
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات، والقرآن يقول: خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض ويقول: فأخرجنا به أزواجاً من نباتٍ شتّى، ويقول: اهتزّت وربَت من كلِّ زوجٍ بهيج. ويقول: ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين.
وكشفوا طريقة إمساك الظِّل؛ أي التصوير الشمسي، والقرآن يقول: ألم تَرَ إلى ربِّك كيف مدَّ الظِّلَّ ولو شاء لجعله ساكناً ثمَّ جعلنا الشّمسَ عليه دليلاً.
وكشفوا تسيير السّفن والمركبات بالبخار والكهرباء والقرآن يقول، بعد ذكره الدواب والجواري بالريح: وخلقنا لهم من مثله ما يركبون.
وكشفوا وجود الميكروب، وتأثيره وغيره من الأمراض، والقرآن يقول:وأرسل عليهم طيراً أبابيل؛ أي متتابعة متجمعة ترميهم بحجارةٍ من سجّيل؛ أي من طين المستنقعات اليابس. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية. وبالقياس على ما تقدَّم ذكره؛ يقتضي أنَّ كثيراً من آياته سينكشف سرُّها في المستقبل في وقتها المرهون، تجديداً لإعجازه عمّا في الغيب مادام الزمان وما كرَّ الجديدان؛ فلا بُدَّ أن يأتي يوم يكشف العلم فيه أنَّ الجمادات أيضاً تنمو باللقاح كما تشير إلى ذلك آية ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زوجين. انتهى الاقتباس .
وبذا يكون قد انتهى فصل الاستبداد والدين، وفي المقال القادم سنبدأ بفصل الاستبداد والعلم .



#محمد_الحداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 6
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 5
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 4
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 3
- ماذا قال مبارك لوزرائه في أعقاب يوم الغضب؟
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 2
- قراءة في طبائع الاستبداد ج 1
- بحث مقارن ج 14
- قصيدة مجهولة النسب
- بحث مقارن ج 13
- بحث مقارن ج 12
- بحث مقارن ج 11
- بحث مقارن ج 10
- بحث مقارن ج 9
- بحث مقارن ج 8
- بحث مقارن ج 7
- بحث مقارن ج 6
- بحث مقارن ج 5
- بحث مقارن ج 4
- بحث مقارن ج 3


المزيد.....




- أجزاء من فئران بشرائح خبز -توست- تدفع بالشركة لاستدعاء المنت ...
- مسؤولون يوضحون -نافذة فرصة- تراها روسيا بهجماتها في أوكرانيا ...
- مصر.. ساويرس يثير تفاعلا برد على أكاديمي إماراتي حول مطار دب ...
- فرق الإنقاذ تبحث عن المنكوبين جرّاء الفيضانات في البرازيل
- العثور على بقايا فئران سوداء في منتج غذائي ياباني شهير
- سيئول وواشنطن وطوكيو تؤكد عزمها على مواجهة تهديدات كوريا الش ...
- حُمّى تصيب الاتحاد الأوروبي
- خبير عسكري: التدريبات الروسية بالأسلحة النووية التكتيكية إشا ...
- التحضير لمحاكمة قادة أوكرانيا
- المقاتلون من فرنسا يحتمون بأقبية -تشاسوف يار-


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد الحداد - قراءة في طبائع الاستبداد ج 7