أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى الحاج صالح - الرسالة الرابعة عن موت التراب















المزيد.....

الرسالة الرابعة عن موت التراب


مصطفى الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3255 - 2011 / 1 / 23 - 22:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لا يموت التراب ولا تفقد الأرض قيمتها، مرة واحدة . تحضرني الذكريات في معزل عن أفكار تقدمية خطية متفائلة، ترى التاريخ يسير قدما نحو الأفضل ونحو الأحسن أفكار آمنت بها ردحا من الزمن وما زال بعضها أثير لدي، يحبها قلبي، ويـُعجبُ بها ذهني ، فيستعيدها متوسلا استحضار الماضي بألوانه وروائحه، بلياليه المقمرة وبأيامه المنتقاة، بألوان الغروب المـُحملة على جبال جرداء وبرائحة تراب ممطور ، وللتراب الممطور أناشيد ورائحة تنفذ إلى مستقر الذاكرة ولا تبرحها بعد ذلك، فمن الماء جعل الله كل شيء حي، ومن الماء أبدعت الطبيعة خلقها الأول وبالماء جبل الله تراب آدم وجعله بشرا سويا، في أحسن تقويم، والله أو الطبيعة، هو أو هي من جعل التراب ينتشي بالماء، فيهيج نباتا ، وورودا ، عشبا أخضرا وزرعا .

عشب ترتع فيه المواشي وكان لـ" الجرن" قبل موت ترابها مواش، كان لديها بهائم، وكان لديها من طيور الدجاج بنوعيه( الحبش أو المصري والدجاج البلدي) ما يكفي حاجتها، لتأكل لحما مع البرغل والمرقة، وما يكفي حاجتها لتأكل بيضا مما تنتج، وما يكفي أيضا لصنع وسائد مريحة من الريش، ولن أدع الكلام يأخذني للحديث عن مواشي القرى وعن منافعها، عن إنتاجها لـِما كانت تأكل وتشرب، فذلك موضوع حديث آخر، وما كان ذلك يقع دون ماء وماء " الجرن" لم يكن غورا بعيدا، كان قريب المنال ، بضعة أمتار ، فيأتي متدفقا في آباره، نقيا عذبا، لا يحتاج تصفية ولا مواد مطهرة. فما الذي أودى بماء القرى..؟ من أهلك ترابها..؟ ومن أزهق روحه..؟ من اغتال الحياة في برية كانت إلى وقت قريب من البراري الغنية المتنوعة والجميلة..؟. أهو الله الغاضب الزعلان الحردان، كما يزعم مروجون له، من آثر الانتقام على الرحمة، فأمر ملائكته بمنع السحاب عن تلك البرية، أغلق خزائن مطره ليعاقب فقراء الناس على فسق لم يرتكبوه بأنفسهم ، وليعاقب دوابا لا حول لها ولا قوة، في ما كان الفاسقون الفاسدون أهل السحت المرابون المرتشون الفاسدون أهل الأمن السدنة كتاب التقارير المنافقون المزورون.... يفعلونه، ليعاقب أطفالا لم يجدو أمامهم غير القائد الفرد إلها، إله تنشد له الأناشيد، تؤلف الموسيقا، تدبج الديباجات ، تخطب الخطب عن قدراته، عن إنجازاته ، عن عظمته.

في أوقات معينة، عندما يركبني اليأس ، وتصيب ذهني عتمة القنوط، أميل ميل هؤلاء، أُحـَمل الله ما لا ذنب له به، فالله عندي، عندما أثوب إلى رشدي من ضلالات الإحباط ، غفور رحيم، وهو ليس ملكا ولا رئيسا كي يضيق بأراء الناس وبمعتقداتهم [ وفق تصور ديني، قل إسلامي، أما كان قادرا على جعل الناس أمة واحدة..؟ لم يفعل ].

الله برئ مما يصفون وينعتون، الله لا يحجب أمطار ولا يعاقب شعوبا، لا يعذب الصالح بالطالح وإلا ما نفع جنته..؟ وما نفع جهنمه..؟ . أذا كان عذابه مستعجلا وفوريا، مثله في ذلك مثل ملوك ورؤساء لا يطيقون سوى سماع جوقات الهتاف وهي تردد أسمائهم، داعية للتأبيد والديمومة، فلا طاعة له في أعناق المـُفقرين المُملقين المنهوبين.
فقراء ما انفكوا يقيمون الصلاة في أوقاتها ، يصومون الشهر وأنصاف الأشهر، يدفعون زكاة النفس وهم أحوج ما يكونون إليها، لا يشربون الخمرة ، لا يقربون منكرا ، لكنهم ضعفاء، خائفون وجهلة.

وهل الجهل والخوف معصية..؟

تشرق شمس الماضي في نفسي ، تضيئ عتمة القنوط، تبددها، أرى التل وهو يرتفع بقبوره أخضرا مزهرا، أصعده مع أقران لي وفي نفسي أشياء لا تحصى من اللعب والعبث، أسلم على الموتى بلغة فصيحة يفهمونها، فالموتى، على حد علمي حينئذ ، يتكلمون لغة أهل الجنة ولغة الجنة هي لغة القرآن والقرآن أنزل بلسان عربي، أهديهم صورة الفاتحة، فيصبرون على عبثنا وصراخنا، بل ويقرضوننا من حجارتهم، حجارة مسطحة نستخدمها في لعب (الطاش) ، حتى يحين وقت آخر والوقت الآخر في الربيع المدرسة أو الحليب، وفي الصيف هو وقت التوت والرمان، وهو وقت للسحر والمجون، يقع على هامش القطن أو بين حقلين من ذاك النبات الآفة الذي أودى بالماء ، أودى بروح التراب، أهلك الأرض، أفقدها أرضيتها ولم تعد كما كانت أرضا غنية بمكنوناتها الكامنة والظاهرة ..

قبل انتهاء الثورة الانقلابية إلى استبداد مديد ، بعد الهزيمة بثلاث سنوات، لم يكن القطن زراعة أساسية، لم يكن مستبدا ومسيطرا على كل مساحات الأرض القابلة للزراعة، ولم يكن هو المنتج الوحيد، مع ما تعنيه هذه الوحدانية من استئثار ومن ارتهان لدور الدولة أو نظامها الحاكم من خلال المصارف وأجهزة الحكم الأخرى بما في ذلك الأجهزة الأمنية التي مارست دورا مباشرا في نهب جهد الفلاح وفي استنزاف الأرض بطرق متوحشة خلت من كل عقلانية ومنطق .

كنت حينئذ فتى مراهقا في الخامسة عشر ولم أكن شيوعيا. كنتُ حالما ساذجا وبي ثلاث خصال عنيدات لا يقبلن البوح ، ليس منهن التناوم أسفل شجرة التوت لرؤية مناطق الغموض والالتهاب المثيرة للخيال المجددة للحياة الملعونة المذمومة بين أفخاذ الصبايا وهن يتسلقن الشجرة الكبيرة ففي ذاك الزمن المستقل عن آفات التعصب لم يكن السروال إجباريا ولم يكن اللعب المختلط بأنواعه محرما، بما في ذلك لعبة الزواج ، وليس من تلك الآفات التسلل في غفلة من المرأة البطة لسرقة الرمان الفج، فذلك أمر شائع ، وليس بينها سرقة ثمار البطيخ ، فتلك سرقة محللة .

في تلك الفترة أو بالأحرى في ذاك السن ، كنت أرى القطن ظاهرة انتاج تقدمية ، ظاهرة لا تثغو ولا تنهق ، ظاهرة خضراء، بيضاء الصوف، لا تحتاج إلى راع بل تحتاج إلى فلاح والفلاح في عرف ذاك العهد أعلى مرتبة وأكثر تقدما من راع جاهل، راع يركب الحمير، ويقود القطيع إلى المراعي ليس أكثر ، إلى هذا وذاك لم يكن القطن مـُكلفا ، ولم يكن مُستبدا وشموليا، كما أصبح عليه الحال فيما بعد، بعد استيلاءه على كل الأراضي وعلى كل الجهود المتوفرة لصالح انتاج خاسر ، إنتاج مثقل بالديون والقروض، بالربا والرشوة ، بالبيروقراطية والفساد، بخطط النظام المرتجلة وبأجهزة أمن أمست مسئوله عن نوعيات الإنتاج وعن مستوياته..

كان للقطن التقدمي في قريتنا حفريتان والحفرية ليست بئرا وإن كانت مثله قائمة على حفر الأرض إلى عمق معين، حيث يتوفر الماء بكمية كافية، فالبئر يستخدم للشرب، فيما الحفرية تستخدم بشكل أساسي من أجل سقاية المزروعات وفي مقدمة تلك المزروعات المستهلكة للمياه الجوفية "الذهب الأبيض" كما كانوا يسمونه أو " الثروة القومية الأولى"، والحفرية مستطيلة الشكل فيما البئر دائري وهي أكثر عمقا في العادة.

تكاد الوساوس أنْ تطفإ نور الذأكرة وهي تستحضر الحفرية لتقرأ من خلالها أبعاد الماضي والحاضر، ولتتهجى دور الجهل والاعتباط في فساد الأرض، وفي موت التراب، فأنهل من الحضرة وجوه أهلي، استدعي الأعشاب في عيون والدتي، اهتف باسم أبي ، فيحضر جدي متوسلا الفهم وهو شبه عاري، لا يستر جسده الجسيم الصلب سوى سروال أبيض طويل و" خاجية" سوداء والخاجية تشبه العباءة لكنها تشف عما خلفها، تشف عن جسد جدي العاري وجدي في زمنه ذاك كان من المتشددين دينيا، والمتشدد جدي، قارئ القرأن ، الحافظ له على الصدر ، والخبير في شؤون الله وشؤون الرسول سيرة وأحاديثا، لم يكن يرى في شفافيته الجسدية تلك إثما ، يمكن القول أنّهم كانوا كما يقال على النية، على السبحانية ، شفافون ، لا يبطنون رأيا، ولا يسترون معتقدا، مثلهم في ذلك مثل الماء في الحفريات، ومثل لياليهم المقمرة في أيام الحصاد.

نفضتُ الوسواس عن ضميري، بالتصور ، تصورت صيرورة أخرى، صيرورة بلا قطن، بلا استبداد، صيرورة قائمة على مبدأ الاحتمالات .. على لو ..لو قيض للبلاد حكام راشدون، لو قيض لها نخب مثقفة راشدة ، لو أنّ إسرائيل لم تكن ، لو أنّني كنت آنذاك أكثر علما ومعرفة ، أكثر خبرة ودراية، لكرزت ضد القطن ولبشرت ضده ، فهذا النبات، كما يبدو لي الأمر الآن، هو السبب في نضوب المياه الجوفية وفي موت التراب، بهذا أقنعت نفسي وأوشكت على اليقين، حين اعترض درب اليقين في قلبي، عارض القرين ، متسائلا عن الصلة بين وجود إسرائيل وقيام الاستبداد من جهة وبين القطن من جهة أخرى، قبل ذلك راح يتشكك في مسئولية نبات لا حول له ولا قوة عن حال الأرض وموت التراب.

تقع المناطق المهملة ، الأرض المتروكة للاعتباط ، ليـُفسد فيها ، فيما وراء نهر الفرات، بعيد عن ضفته اليسرى وهو يتجه شرقا نحو شط العرب، ولا يحتاج المرء إلا للفطنة ولبعض العلوم والمعارف البسيطة، ليدرك أنّ هذه الأرض لا تصلح إلا للرعي ولتربية المواشي والدواب بأنواعها المختلفة، فمن سلب الفطنة من الناس أو من أعمى قلوبهم، وجعلهم ينساقون في دوامة القطن المهلكة.

عند هذا الحد من الكلام، تشعبت أفكاري، وراح القرين يبدي وساوسه واعتراضاته، فانصرفت من أمامه ...



#مصطفى_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرساله الثالثه عن مقومات الخيال وأخبار عن زمن الطفوله
- الرسالة الثانية ما بعد الفطنه عن إسرائيل
- ما بعد الفطنة مقدمة عن الوسواس الخناس
- رسالة اعتذار
- هل يحتاج الإسلام إلى إخوان له وهل يحتاج الله إلى حزب له؟
- بين هنا وهناك
- صناعة الخوف/ الخوف مطلب للمستبدين والطائفيين
- في بيان الطائفية
- آفات الجزيرة الثلاث
- العلمانيه المنافقه
- هز البطن على إيقاع النشيد الوطني/ حماة الديار
- قدر سياسي
- جعلوني خروفا .. يًما أو انتخابات الرئاسة في السجن
- من تجارب السجن الإضراب
- البيان في أحوال الإنسان
- نقد الشعب أولا نقد المرأة
- تأسيس الصراع العربي الإسرائيلي ؛ الإنسان أولا
- نص انفعالي تجريبي
- من أوراق السجن جماعة ( أبوصالح )
- رهائن


المزيد.....




- مطاردة بسرعات عالية ورضيع بالسيارة.. شاهد مصير المشتبه به وك ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة اختارت الحرب ووضع ...
- الشرطة الأسترالية تعتقل 7 مراهقين متطرفين على صلة بطعن أسقف ...
- انتقادات لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريحات -مع ...
- انهيار سقف مدرسة جزائرية يخلف 6 ضحايا وتساؤلات حول الأسباب
- محملا بـ 60 كغ من الشاورما.. الرئيس الألماني يزور تركيا
- هل أججت نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا مظاهرات الجامعات في أ ...
- مصدر في حماس: السنوار ليس معزولًا في الأنفاق ويمارس عمله كقا ...
- الكشف عن تطوير سلاح جديد.. تعاون ألماني بريطاني في مجالي الأ ...
- ماذا وراء الاحتجاجات الطلابية ضد حرب غزة في جامعات أمريكية؟ ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى الحاج صالح - الرسالة الرابعة عن موت التراب