أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - أيّام وليال في ضيافة العلوجي














المزيد.....

أيّام وليال في ضيافة العلوجي


رباح آل جعفر

الحوار المتمدن-العدد: 3249 - 2011 / 1 / 17 - 19:08
المحور: الادب والفن
    


أنت لم تشاهد مكتبة العلوجي .. أنت لا تعرف نصف الدنيا .
وأشهد أن المؤرخ والباحث والموسوعي الراحل الأستاذ عبد الحميد العلوجي أعطاني مفاتيح كثيرة للمعرفة في السنوات التي عرفته ، وأن أغلب الذخائر والنفائس والفرائد من الكتب ، التي قرأتها في تلك الفترة استعرتها من عنده، برغم أن ابن الخشاب البغدادي كان إذا استعار من أحد كتاباً وطالبه به ، قال : دخل بين الكتب فلا أقدر على ردّه !.
وما أسهل عليك أن تستعين بالعلوجي بما تريد أن تستعين من أمور الحواشي والمذيّلات في الكتب المطوية وتصانيف الفقهاء والأدباء ، فهو أشبه إلى حدّ ما بأبي عمرو بن العلاء الذي نقل عنه ياقوت الحموي ، أن دفاتره كانت ملء بيته إلى السقف .
وكنت كلّما زرت العلوجي في بيته ، قصدت مدخل المكتبة الشهيرة ، وتطلّعت إلى دائرتها الواسعة ، وأدوارها الشاهقة ، وهي تحمل على رفوفها خمسة عشر ألف مجلد ، وأخذت ورقة وقلماً ومضيت أدوّن عناوين بعض الكتب ، وأنا أتجوّل في ممرات العرض ، وأتوقف بين حين وآخر أرى ما حولي من تحف فكرية باهرة ورائعة تكاد تذوب من الرقة والجلال في آنٍ معاً ، ثمّ أبقى ساكناً لعدة دقائق كأنني أقف في محراب للنور !.
صحبت الأستاذ العلوجي أياماً ، فوجدته الرائي الذي رأى كل شيء كما جاء في مقدمة ملحمة كلكامش ، واكتشفت أن أروع جوانب شخصيته وأحلاها ، تلك اللغة الساخرة ، التي كانت تتدفق من لسانه عفو الخاطر بلا رقيب ، ومن دون تحفّظ ، وبلا أي تكلّف .
والعلوجي يعرف كيف يكون الأديب ساخراً ومحترماً ؟! .. وكان هذا الجدّ العلوجي يثير الأسئلة المشاكسة التي لا طاقة للفتيان بها . أذكر أني سألته مرة عن أعزّ مؤلفاته ؟ فكان جوابه: ( مؤلفات ابن الجوزي ) لأنه سدّد عني دين الحدّاد الذي صنع أربعة شبابيك لإحدى غرف بيتي ، و ( الزوج المربوط ) لأنه أبكاني مع الباكين على رجولتهم ، و ( تأريخ الطب العراقي ) لأن المجمع العلمي العراقي عامل هذا الكتاب كما عومل حذاء أبي القاسم الطنبوري في ليلة من ليالي شهرزاد !.
وعرفت العلوجي مؤمناً بالمثل القائل : ( الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما ) ، لذلك فإنه كان يعمل ليل نهار والى أقصى حدّ يمكن أن تتحمله الطاقة البشرية .
كان يستيقظ مبكراً في الساعة الخامسة فجراً ليبدأ يومه بالتدخين قبل كلّ شيء ، ثمّ يذهب إلى أوراقه ، التي كتبها قبل خلوده إلى النوم ، وكان من عادته إذا كتب فإنه لا يراجع مسوداته ، يخرج بعدها إلى حديقة المنزل ليدخّن مرة أخرى ، وهو يستنشق الأنسام باردة عذبة ـ كان أبو غسان مفرطاً في التدخين ـ ثم يعود فيجلس إلى الكتابة بعيداً عن الضوضاء ، وعند الساعة السابعة والنصف صباحاً يتناول فطوره ، ويتجه إلى عمله الرسمي ، وكان هذا البرنامج من الحياة اليومية للعلوجي يتكرّر بتفاصيله كلّ يوم .
والعلوجي ليس من الطراز الذي يهرب من ماضيه أو حاضره ، فهو متفق مع الفيلسوف اليوناني انكسارغوس بأنه ( لا يوجد شئ من العدم ) ، وكان يقول يقول : أنه من مواليد اليوم الأول من كانون الثاني سنة 1924 في أسرة لم تجتمع على مذهب فقهي واحد ، ونشأ في محلّة ( الجعيفر ) بجانب الكرخ من بغداد ، ولم يعرف منها سوى مسجدها ومقهاها ، وتعلّم في الخامسة من عمره على يد والده ( الملاّ ) عبد الكريم ، الذي كان يتقن التحدث بالتركية والإنكليزية والفرنسية ، وأن ذاكرته لا تستطيع نسيان أفاضل الذين علّموه في مدرسة الكرخ الابتدائية كالأستاذ ميخائيل عواد ، والفنان حافظ الدروبي ، وعندما أصبح طالباً في المرحلة الثانوية شاء والده برغبة قاهرة ، أن يمارس التجارة في ( علوة ) ومن يومها اشتهر عبد الحميد بلقب ( العلوجي ) .
لقد كانت حياة صعبة تلك التي أعدّتها الأقدار للعلوجي ، وكانت أكثر صعوبة من كل رواية حاول هو أن يرويها بنفسه .. ووسط أهوال الحياة ومتاعبها وجد لنفسه مكاناً حطَّ فيه رحله ، وحصّن موقعه ، فأصدر نحو ( 42 ) كتاباً ضمن ( 34 ) عنواناً ، وكانت تجربته في الحياة أطول بكثير من سنوات حياته التي انتهت سنة 1995، وأعرض بكثير من حياة الآخرين .
روى لي : أنه أيام كان ( علوجياً ) أخذ يبدّد رأس مال العلوة وأرباحها في شراء الكتب ، حتى تنامت في العلوة ـ ومع الأيام ـ مكتبة هائلة ، وكان حريصاً أن يكسو من هذا المال عدداّ من الفقراء والمحتاجين ، وفي البدايات كتب الشعر ثمّ هجره ، وامتدح الشيخ جلال الحنفي بقصيدة عصماء لم يشفعها الحنفي بردّ ، وقال لي : أنه انتخب سنة 1984 عضواً في المجمع العلمي الأميركي ، لكنه رفض قبول هذه العضوية احتجاجاً على مواقف الولايات المتحدة من قضايا العرب .
وأسرّني العلوجي يوماً ، وكان الأجل يدنو منه ، أنه ترك بين يدي ولده ( غسان ) مذكراته ( ذكريات ومطارحات ) بـ ( 600 ) صفحة من الحجم المتوسط ، وأوصاه بعدم نشرها نظراً لما تحوي من صراحة متناهية قد تحرج الآخرين ولعلها تجرحهم ، وأنه كان يتمنى لو وجد من يرعى مشروعه الضخم ( الموسوعة القرآنية ) الذي شرع بكتابته منذ سنة 1952، بدلاً من أن يبقى محفوظاً في صناديق مقفلة ، فلكي تستطيع البذرة أن تكون شجرة باسقة وارفة الظلال ، فإنها تحتاج ليس فقط إلى شمس وماء ، وإنما تحتاج أيضاً إلى عناية ورعاية ، وتلك على أي حال أمنية للعلوجي لم تتحقق .
كان يومها قد دخل في العقد السابع من عمره ، وقد بدأت الأمراض تنهش من جسده، وأخذت صحته بالتدهور ، وإن بقيت روحه خصبة متوهجة ، فقد أصيبت عيناه بنوع من التقوّس ، ودمه بالسكر والضغط ، وكذلك أذنه بثقل في السمع ، ودبّت في أطرافه الرعشة ، وفمه بسقوط الأسنان ، وكان العلوجي يقول عن نفسه : أنه صار يماثل خراب البصرة بعد عدوان الزنج ، وأنه ينتظر رحلته الأبدية إلى عالم الغيب ، التي كان يعتقد أنها لن تكون مخيفة أو مفزعة ، لأن ما زرعه العلوجي في دنياه سيجني ثمره مثوىً كريماً تحت سدرة المنتهى في أقصى الجنة .



#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مع أطيب تحيات الدكتور حسام الآلوسي من صنعاء !!.
- أحلام مظهر عارف تنتحر في انتظار غودو ..
- خواطر مسافر
- هارون محمد يبحث عن هارون الرشيد
- حسين علي محفوظ ... مسافر في الغروب
- شاكر علي التكريتي بين احتلالين ..
- جلال الحنفي .. تسعون عاماً في قلب الأزمات والخصومات
- سؤال كبير وخطير : إمارة الشعر العربي من امرئ القيس إلى امرئ ...
- عبد المجيد الشاوي وهذه الأشياء الغريبة العجيبة !!
- عبد الرزاق عبد الواحد .. صورة طبق الأصل !!.
- طه عارف .. وسلام الأصدقاء طويل
- شاكر حسن آل سعيد .. تشكيلياً على الطريقة الصوفية
- ويسألونك عن نوري حمودي القيسي ؟!
- لقاء مع خالد الشوّاف على مشارف الثمانين
- مفكرات يوسف العاني في عصور مختلفة
- قيس لفتة مراد .. عاش ميتا ومات حيا !!
- تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم
- لا هو موت .. لا هو انتحار
- أباطيل يوسف نمر ذياب في زنبيل !!
- مصطفى محمود .. المفترى عليه


المزيد.....




- كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا ...
- إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
- سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال ...
- الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
- من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام ...
- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - أيّام وليال في ضيافة العلوجي