أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - جلال الحنفي .. تسعون عاماً في قلب الأزمات والخصومات















المزيد.....


جلال الحنفي .. تسعون عاماً في قلب الأزمات والخصومات


رباح آل جعفر

الحوار المتمدن-العدد: 2898 - 2010 / 1 / 25 - 18:21
المحور: الادب والفن
    


ليس في مقدور أيّ كلام تكتبه أقلام ، أن يعبّر عن الخسارة الكبرى ، التي نزلت على التأريخ البغدادي ، في لحظة غاب عن دنيانا محارب قديم ، ذلك المبدع الحقيقي ، المتوهج ، الشيخ جلال الحنفي ، وقد انصرف بعد أن استوفى عامه الثاني والتسعين .. وكان رجلاً محباً لهذه الحياة ، ومغرماً بها ، وفي الوقت نفسه ، فانه متفاهم ، ومتصالح مع ما بعدها ، برغم أن الحياة لم تعطه أحلى ، وأغلى ما عندها .
وأمام استذكار الشيخ جلال الحنفي ، لا بدّ لنا من وقفة ، تدعونا إلى التفكر ، والتذكر ، والتدبر ، وتفرض علينا إعادة فحص الدفاتر ، ومراجعة بنودها ، وكشف حساباتها ، وأسئلة عاجلة ، وملحة ، تستحق إجابات تقريرية ، وليست إنشائية ، محددة ، وليست مطلقة .
ماذا فعلنا للنخبة من مفكرينا ، ومثقفينا ، وفقهائنا ، وأدبائنا الكبار ؟ .. وذلك أجدى بنا ، ابتداءً ، لتكريم مفكر عراقي شامخ ، رحل تاركاً تراثاً فكرياً متميزاً .. وكان له حظ قليل من الدنيا ، وموفور مع الناس ؟ .
ففي مناخ ضغط غليظ لا تُحتمل غلاظته ، كان الحنفي يكافح ظروفاً اقتصادية عسيرة ، معتمداً على راتب شهري زهيد ، لم يتجاوز ألوف الدنانير ، يتقاضاه من دائرة الأوقاف ، إلى جانب مكافآت مخجلة ، ومخزية ، عن نشر مقالات ، وقصائد له في بعض الصحف ، ولولا هذه المدخولات ، لما تيّسر للحنفي التوفيق بين المطالب ، والضرورات ، وهو ، على أيّ حال ، لم يجد عنده في النهاية ، أكثر مما توقع ، وأوسع مما يحتاج .
وفي هذه الأيام ، وبينما رحتُ أقلب بما عندي من الملفات ، والأوراق ، صادفتُ مذكرات ورسائل وصوراً ، أعادت إلى الذاكرة أياماً وساعات ، عشتُ فيها مع الشيخ العلامة المجتهد جلال الحنفي ، وتداعت مشاهد ، ومواقف ، وخطر لي ، وأمامي فسحة من الوقت ، أن لديّ ما هو فيض ، وزيادة ، وهو كاف للكتابة عن رجل لن يُولد في التأريخ مرتين .
وأشهد أن كل يوم ، وكل ساعة ، وكل لحظة ، قضيتها بصحبة الحنفي ، كان لها طعم ، ولها لون ، ولها عبق متميز ، تدركه الحواس ، وتستشعره ، وتذوب فيه أحياناً ، أو يذوب فيها ، لحظة من العمر ، كانت بداية لعشرين سنة لها قيمة معينة في حياتي ، وكانت أحلى ما في عمري .
وكلما كان الحنين إلى الماضي طاغياً ، تذكرت أياماً ، ومجالس ، ومواقف ، وحكايات ، وذكريات ، ضمتني أنا والحنفي ، ومعنا عدد من الأصدقاء الأعزاء : تذكرت بصحبتهم ساعات حلوة ، وقد فتحنا أشرعة الحوار تأخذنا إلى بحار واسعة بلفحة سمرة من نواحينا .. وكان الصديق حميد المطبعي يضفي لحظات من البهجة والفرح ، على أساس أن أصحاب القلم ينبسطون دائماً في جلساتهم ، ويشيع جواً من الألفة ، ونحن مشدودون إليه بروح الرفقة الأصيلة ، فإذا انتهى اللقاء ، انتبهنا أننا نبتسم ، ونضحك من أعماق قلوبنا .
ولقد تكرمت عليّ المقادير ، وصحبتُ الشيخ جلال الحنفي عقدين من الزمان ، اكتشفتُ خلالها أنه أكثر فقهاء عصره تنويراً وتحريضاً ، وشجاعة .. ووجدته متعدد المواهب ، والمناقب ، والسجايا ، فهو شيخ دين ، ومجدد ، ومجتهد ، وشاعر ، وله أكثر من ديوان ، وأستاذ في علم العروض ، وموسوعة أمثال بغدادية ، وثروة معجمية ، ومرجعية ( المقامات العراقية ) ، وكاتب صحفي ، وظريف ، ورجل ولا كل الرجال .
وكان في ما كتب ، وقال ، مؤثراً في دفاعه ، نفاذاً إلى الضمائر ، مالكاً لزمام التعبير ، قادراً على جلاء الفكرة بسحر الكلمة ، وكذلك وصل قوله وصوته أشعة من التنوير ، وهزة تدعو إلى يقظة .. والحنفي مرآة متحركة لبغداد ، وبعض من تأريخها ، وقبس من نورها ، وأسطورة من أساطيرها ، وقافية من قوافيها ، ونسمة من نسماتها ، وجزء من روحها الذكية ، القلقة ، العابثة .. ولعل هذا هو السبب الذي كان يدفعه أن يتعصب لكل ما هو بغدادي ، فيرى في بغداد ، مركز الكون ، وعاصمة العواصم ، ويؤمن أن أهلها أذكى ، وأطيب ناس على ظهر الأرض .
والحنفي رجل اختلف على عمامته كثيرون ، واتفق عليها آخرون .. وكان هذا الاختلافُ ، والاتفاقُ منذ بدأ حياته المهنية إماماً ، وواعظاً ، وخطيباً ، في جامع المرادية ببغداد في الثلاثينيات من القرن المنصرم ، وبالتحديد سنة 1936 ، عندما أقصاه العلامة محمد بهجت الأثري ، وكان يومها مديراً للأوقاف ، وأنزله عن المنبر ، وعزله من مهنة الخطابة ، بسبب أن الحنفي كان يؤدي خطبة الجمعة بطريقة المقامات البغدادية ، فانتقم الحنفي لنفسه ، ورد على الأثري بأربعين قصيدة من شعر الهجاء ! .
ثم استمرت خصومات الحنفي ، ومعاركه ، وأزماته ، ليجد نفسه بعدها في مواجهة الشاعر العراقي معروف الرصافي ، الذي نظم في الحنفي قصيدة من أقذع هجائياته ، يصفه بها ، أنه : ( النزقُ والهذرُ ) ! .
وخاصم الحنفي عدداً من مشاهير المؤرخين ، وكبار الباحثين ، ولم يملك غير أن يقف وراء ما اقتنع به صواباً كان ، أم خطاً ، وكان صارماً مع نفسه ، حتى آخر قطرة زيت في المشكاة ، وانتقد الدكتور جواد علي ، وناقش الدكتور عبد العزيز الدوري ، والدكتور عبد الكريم زيدان ، والدكتور بديع شريف ، ولم يتفق مع كثير من آرائهم ، واختلف مع الدكتور علي الوردي ، وخاض في مواطن الجدل العقائدي ، وقابل الملك فيصل .. واقتحم في السياسة مناطق شائكة ، وتجاوز خطوطاً حمراً ، سُجن على أثرها ، أكثر من مرة في العهد الملكي .
وتعرض الشيخ جلال الحنفي إلى حملات جامحة ، شنتها عليه جماعات من ( المتعالمين ) ، أزعجها أن يرفع الحنفي صوته صافياً ، متصاعد الإيقاعات ، معبراً بحيوية خلابة ، شاهداً بالحق ، وواصلت الرياح الهوج هبوبها ، وشاعت عنه إشاعات لا أساس لها ، في مجتمع تحكمه الإشاعات ، والتناقضات ، وغارت ضده غارات طالبي الثأر والانتقام وحرابهم .. وتحمل الحنفي استفزازات لا قبل له بتحملها ، لكنه تحملها بمنطق الكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس ، وهاجمه وطعنوا فيه أولئك الذين لم يرق لهم أن يحارب خرافاتهم وأباطيلهم العدمية ، فيرسل عليهم شواظاً من لهب ، ونار ، وكانوا يحاولون أن ينالوا منه بكل أسلوب ، ويلحقوا به الأذى عن عمد ، ومن المحزن أنهم وصلوا حداً ، سماه النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم : ( الفجور في الخصومة ) ! .
وكنت لا أكف عن تذكير الحنفي بحكمة عربية شهيرة ، تقول : ( لعلّ لهم عذراً وأنت تلوم ) ، وكان يرد عليّ بقوله : ( إن حبال الصبر تقصر مع طول العمر ) ! .
ولقد وجدت نفسي في أكثر من مرة طرفاً في خصومات ، ومشادات مزمنة ، وجدتها إهدارا للحبر بلا معنى ، واستهلاكاً للورق من دون جدوى ، كانت أعنفها حين طلبت من الصديق الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد أن يُبدي رأيه على الورق في الشيخ جلال الحنفي ، وكتب رأيه ، ونشرته من دون أن أحذف منه كلمة .. وكان رأيه كافياً أن ينكأ في قلب الحنفي جراحات قديمة لم تستطع السنين ضمادها ، ثم إذا بي ، دون قصد مني ، أجد نفسي ، ذات يوم ، طرفاً في معركة كلامية صاخبة دارت رحاها على صفحات الجرائد ، بين الشيخ أحمد الكبيسي والشيخ جلال الحنفي .. وكان الكبيسي قد كتب قائلاً : ( إن الجن يتلبّس بالإنسان ) ، ثم رد الحنفي بقوة ، ينفي تلبسه ، ووصف رأي الكبيسي ب ( الخرافات ) .. وبحكم علاقتي مع الاثنين ، فاني ، علم الله ، سعيت أحاول جاهداً أن أُصلح بينهما ، لكن الصلح ، يومها ، كان معجزة لا تتحقق إلا بلقاء الجن نفسه ، أو العثور على خاتم سليمان ! .
وللحنفي اجتهادات ، أثارت بعضها ردود أفعال حادة ، وربما غاضبة .. ومن ذلك أنه كان يكره أن يصافحه أحد ، وهو جالس .. ومن ذلك أنه اجتهد بتدريس ( علم التجويد ) ، أعوام السبعينيات ، في معهد الفنون الموسيقية ببغداد .. ومن ذلك أنه كان يرى أحلام الناس في نومهم مجرد رؤى وأضغاث يصنعها الخيال ، ولا تفسير لها باستثناء أحلام الأنبياء ، والفلاسفة الكبار .. ومن ذلك اجتهاده في حلق اللحى .. ومن ذلك أنه كان شديد الحرص على أن يلتزم المنضدون والمصححون في الصحف ، التي تنشر مقالاته بطريقته في رسم القلم ، فكان يكتب ( إذن ) بالنون ، ويكتب ( الهيئة ) بهمزة على كرسي ، ويثبت ألف جمع المذكر السالم المرفوع في مكانها ، نحو قولنا : ( جاء معلموا المدرسة ) .. ومن ذلك أنه كلف أحد أبنائه ( لبيد ) أن يصنع له أصغر ، وأقصر منبر في مساجد الإسلام ، يخطب عليه في جامع الخلفاء .. ومن ذلك أنه كان يكره ترديد المصلين خلف إمامهم بعد قراءة سورة الفاتحة ، بقولهم : ( آمين ) .. وهو ، على أي حال ، ليس خطيباً يجيد مهنة الزعيق ، والصراخ بالألفاظ ذات الرنين ، ولكنه بكلامه الهادئ ، وخطبته المختصرة ، الموجزة ، يستطيع أن يقنع حتى الصخور ، وحتى من كان في آذانه صمم ! .
وسافر الحنفي سنة 1966 إلى بلاد الصين ، وفي أحلامه أن يحلق بأجنحة النسور ، وسافرت معه قضايا وطنه إلى حيث ذهب ، وانتقلت اللغة العربية بجزء كبير من أثقالها ، وهو يقاتل ، ويستميت ، ويعلّم في معهد اللغات الأجنبية في بكين وشنغهاي ، وخلال وجوده في الصين كان زواجه من امرأة عراقية ، وليس كما يتوهم آخرون من أنها صينية الجنسية ، وولد له في الصين ولده البكر ( لبيد ) واثنان آخران من الأبناء .. ومكث هناك حتى سنة 1970 ، يدرّس الإسلام بلغة السماحة ، كما يدرّس لغة الضاد ، بالتسامح الذي عرفه العرب الأوائل .
وأكل الحنفي من صحونهم ، وتعلم لغتهم ، التي جمعها في قاموس ( صيني ، عربي ) ، فوجئ حين عودته إلى بغداد ، أن الماء أتلفه في ميناء شط العرب ، وكان يهدف من ورائه التوصل إلى كتابة الصوت الصيني بالحرف العربي ، وأعيد إلى الجامعات الصينية سنة 1975 ، ولبث نحو سنتين عاد بعدهما إلى العراق ، ومن هناك راسل الصحف العراقية بمئات المقالات ، وأتقن الحنفي التحية التي يتبادلها الصينيون ، بعضهم لبعض ، ومات ، وهو يحن شوقاً إلى تلك السنين الخوالي ، ويعتقد أنها من أخصب سنوات حياته ، وأن حركة التأريخ زمان غير قابل للاستعادة !
وعلى خلاف من ذلك .. اختلف الحنفي مع عدد من الأزهريين ، الذين وجد أنهم أقل فقهاً ، وتنويراً ، وثقافة مما كان يتوقع ، عندما التحق سنة 1939 بجامعتهم الأزهرية في القاهرة ، وأنهم يريدون جنازة يشبعون فيها لطماً، ودخل معهم في جدل طويل ، وسجال ، كان مؤداه عودته إلى العراق سنة 1940، من دون أن يحوز على شهادة أزهرية غادر وطنه من أجلها ، برغم أن الحنفي كان يتذرع بالحرب العالمية الثانية ، التي أغلقت ، بسببها ، الجامعات المصرية أبوابها ، وحرمته من أن يواصل دراسته هناك ، وهو سبب ، ربما ، يبدو مقنعاً ، أن يجعل الحنفي في حالة عداء دائم مع الأزهر ، وشيوخه ، وفقهائه ، وقرائه .. بمن فيهم القارئ عبد الباسط محمد عبد الصمد ، وأن ينقض عليهم بكلماته النارية ، كلما سنحت فرصة !.
هو الحنفي ذو العمة الصغيرة ، والعباءة السوداء ، والعصا الطويلة .. أجده كلما ذهبت إليه معتكفاً في أعلى منارة جامع الخلفاء ، يقرأ ، ويكتب ، ويفكر ، ويتأمل ، بتحفزه الدائم ، وجسارته الشهيرة .. سألته يوماً عن مواليده ، فقال لي : انه من مواليد 1914، وعمره تسعون عاماً ، ثمانون منها حرب على الشعوذة ، والدجل والضلالة ، والخرافات ، والأباطيل ، ولا يزال جسداً وفكراً ، قادراً على الاستمرار ، ومن أكثر الشيوخ شباباً .. ولا استطاع أحد أن يكم فمه ، أو يلوي عنقه ، ويسكت صوته ، وقلمه ، بل بقي يكتب أقوى من الزمان ، ويكتب أحيانا كلاماً ، أشد فتكاً من الرصاص .
أكمل الدراسة الابتدائية سنة 1930، والتحق بكلية الإمام الأعظم ، وكانت كلية يقبل فيها خريجو الابتدائيات ، وكان أول من لقبه بـ ( الحنفي ) إمام العربية الأكبر الأب انستاس ماري الكرملي ، وعاش في زمن كان يوصف بأنه عصر العمالقة من رجال صنعوا روح الخمسينيات والستينيات في العراق لحياة وثقافة وأدب مثير للخيال الأسطوري ، وكان الحنفي أكثر براعة في هذا النوع من الأدب ، وذلك ، بالطبع ، قبل أن تهل في بلاد الرافدين بركات الاحتلال الأميركي ، ويتسع فردوسه الموعود !.
وسمعتُ من الحنفي النكتة ، وهو يصنع النكتة ، ويصدّرها ، وحفظتُ منه نكات ، ومقالب كثيرة ، أتأملها الآن بعض المرات ، وأتبسم ، ووجدته بارعاً في السخرية ، بل هو أمير الساخرين .
وبالمقابل ، فان للحنفي لساناً كان أبتر من السيف إذا غضب .. جريء يهوى المزاح والموسيقى ، والغناء ، وعلى دراية واسعة بالأنغام ، والمقامات ، وأتيح لي أن أستمع إليه مرات كثيرة ، وهو يشدو أمامي بمقامات عراقية ، من كل صنف ، ولون ، تبعث الشجا والشجن ، وكان حين يصفو مع نفسه ، ويغني المقام ، يسيل صوته المبحوح نبرات حزينة ، كأنه البكاء !.
وكان الحنفي حتى سنوات قريبة قبل أن يترجل بعيداً عن دنيانا ، شديد الضعف أمام إغراء الحلوى والتمر، وكان يأكل منهما كفايته ، ولا يتناول في الليل أيّ طعام عدا الشاي ، والمشروبات الغازية ، ورأيته يوما يداعب الأفاعي والثعابين ، وله القدرة علي إبطال السحر ، ولو كان من عمل هاروت ، وماروت ، وله القدرة على التنويم المغناطيسي ، ويستطيع أن يجعلك تحلم بما تشتهي الأعين ، وتلذ الأنفس !.
ومن عادته أن يقضي مواعيده ومشاويره ، كل يوم ، مشياً على قدميه ، حتى لو كان المشي في ظهيرة يوم وخم قائظ ، وحتى لو كان إلى ما لا نهاية ! .
والحنفي الذي يصدق فيه المثل العربي القائل : ( حلب الدهر أشطره ) ، أي مرت عليه صروفه من خير ، وشر، هو على صلة متينة بألوف من جميع الأوساط والطبقات ، ولكن أغرب أصدقائه كانوا من الذين ضيعتهم الأيام ، هؤلاء الذين حلموا يوماً بالمجد ، والنجاح ، والشهرة ، ثم انكسروا أمام التحديات ، وهو يبث في هذا النوع من الناس الأمل ، ويجدد فيهم الثقة ، برغم تأكده من أنهم لا يصلحون لشيء علي الإطلاق !.
وكان الحنفي دائما يحل عليّ ضيفاً ومعه قرينته المحبة والحانية ( الشيخة أم لبيد ) التي هي حبيبة القلب ، والعقل ، ونور الطريق والضمير في حياته ، وأشهد أني كنت سعيد الحظ بحفاوته .. ذلك رجل تلاقيتُ معه إلى الورق والكلمات ، ولسوف يبقى طول السنين ، عزيزاً عليّ ، وغاليا .
وإذا كانت الذكريات حياة متجددة ، نسترجع منها صورة ، فإذا بقية الصور المتصلة بها تتداعى ، كل مشهد يجر وراءه قصة كاملة ، فلعل من تلك الذكريات أن أروي أنه ذات يوم من سنة 2002 دق جرس له رنين ، وهاجم المرض جلال الحنفي دفعة واحدة ، اضطره للرقود أياماً في مستشفي مدينة الطب ببغداد ، وجاءتنا الأخبار ، أنا ، والصديق الدكتور طه جزاع عن تدهور حالته الصحية ، ووضعه في غرفة العناية المركزة ، وأذكر أن الدكتور طه كتب ، يومها ، عموداً صحفياً أشبه بمناجاة روحانية إلى من ينتظر لقاء ربه ، بعنوان : ( موعد مع الحنفي ) ، وكتبتُ أنا الآخر مقالاً، اخترتُ له عنوان : ( عزرائيل يبحث عن الحنفي في مدينة الطب ) ، وفي كلا المقالين قلنا ما مؤداه : أننا لا نستطيع أن نرى الحنفي بلا عصا ، ولا جلباب ، ولا عمامة .
ثم ، اتفقنا أن نذهب كلانا لزيارته في المستشفى ، وكان الوقت انتصاف الليل ، وليل بغداد - حينئذ - شديد الزحام ، كثير السهر ، وقررنا بروح النكتة ، أن نحاوره ، قبل أن يدخل في غيبوبته ، وأن ننشر هذا الحوار تحت عنوان : ( ناكر ونكير .. يستنطقان الحنفي قبل رحيله ) !!.
في أوائل صيف 2004 ، كان الحنفي مدعواً إلى مجلس بغدادي في ضاحية المنصور، ودعاني أن اصحبه إلى المجلس ، وأحسست به مرهقاً ، وكان مستنزفاً ، سواء بما لقي من حفاوة ، أو بما بذل من مجهود ، وقضينا مساءً ممتعاً ، وانتبهت أنه كان متعباً ، وخطر لي إحساس غامض ، وحزين ، بأن النهاية تقترب ، وبرغم ذلك فانه ظل طوال الوقت ، يتكلم ، ويناقش ، ويحاور كأنه يريد أن يكون الحوار آخر نفس له في الحياة .. حياة في قلب الحياة !.
وكان الحنفي حتى لحظة رحيله ، يستغل كل طاقته ، وإرادته ، حتى تقوي جناحه ليحمله إلى الفضاء العالي ، حيث تحلق النسور ، والطيور .. هناك الحرية ، وهناك الخطر ، ولقد تجلى ذلك أمامي رؤى العين ، عندما كان يزودني بمقالاته ، وقصائده ، وهو يعرف نفسه أنه مريض ، يقعده المرض مرات لكنه لا يلبث أن يقاومه ببسالة ، رافعاً قامته بكبرياء ، مجلجلاً بصوته ، كاتباً كلمته بتدفق مفكر ، ومجدد وإنسان .. كأكرم ما يكون الإنسان !.
وعلى هذا النحو ، عرفتُ الحنفي ، مخلصاً لمن حوله من الأصدقاء ، حفيّاً بهم ، وحانياً ، بخلاف ما كان يشاع عن تقتيره ، أو بخله ، وكان من طبعه حين يُدعى إلى مائدة ، فانه يأخذ حصته من الطعام ، والفاكهة ، والحلوى ، ويضعها في كيس .. وكنت أراه ممسكاً قلمه ، فأشفق عليه فرط ارتعاش أصابعه ، وأشفقتُ عليه حين اختفى بعض من أوراقه ، ومحفوظاته في جامع الخلفاء ، ومقتنيات قال لي ، أنه جاء بها من الصين ، ولم يكن في هذه الأوراق ، والمحفوظات شيء فريد ، أو خطير ، لكن ما حدث للمقتنيات رآه الحنفي غليظاً ، وبعث إلي بقصيدة يهجو في أبياتها ذلك اللص ، وصلتني عن طريق الصديق سلام الشماع !.
ووقفتُ إلى جانبه بكل الشوق المتزاحم ، فإذا دعاني الحنفي إلى شأن يخصه ، فليس لي أن أتردد ، وإذا طلب مني أمراً يتصل به ، فانه يأمر .. ووقفت إلى جانبه ، وهو يطلب مني أن أساعده في إصدار صحيفته الموسمية ( الفتح ) ، التي لم يصدر منها سوى أربعة أعداد ، وكانت صحيفة ( حنفية ) من ألفها إلى يائها .. وكنت إلى جانبه في طباعتها ، واتصلت له بإحدى شركات التوزيع ، وسألني الحنفي : كيف لـ ( الفتح ) أن يتسع انتشارها ، وتزيد من مبيعاتها ؟! .. فاقترحت عليه مازحاً ، أن ينشر فصولاً من كتابه المثير ، والممنوع : ( الأمثال البذيئة والمبتذلة ) ، هذا الكتاب الذي توجد منه نسختان، إحداهما في ألمانيا ، والثانية لها قصة غريبة في بيروت ، وأن ينشر جزءً من ذكرياته ، ومذكراته ، عن جمعيات مكافحة البغاء ، التي أسسها في بغداد ، أعوام الأربعينيات ، ثم ينشر مقتطفات من ديوانه ، الذي يصر على إنكاره : ( قصائدي في مدح الزعيم عبد الكريم قاسم ) !.
ابتسم ، حينئذ ، الحنفي ابتسامة سخط على دنيا تخلع من الأوصاف على أدبائها ومفكريها في غيابهم ، ما تسكت عنه في حياتهم ، واندفع قائلاً بأسى : إذا غسلت الكلب في المحيطات السبعة ، فسوف يخرج منها أكثر قذارة ، ولو ذهب الحمار الذي ركبه المسيح إلى الكعبة ، لعاد الحمار حماراً !!.
مضى الشيخ جلال الحنفي ، وقد طواه الردى ، واختفت قسمات وجهه من أمام نواظرنا، وكان عالماً في الذرى العالية من الرتب ، نذر شتات عمره يعلمنا ( في ذروة اليأس ، أو في ذروة الأمل ) ، وخلف إرثاً من الخصومات ، والتناقضات ، والفذلكات ، والاجتهادات ، وأسئلة لم تزل حائرة ، ومرتبكة ، عن ظروف أسرته ، وتكوينه ، وجذوره الأولى .. كما خلف وراءه ما يزيد على خمسين منشوراً من كتب ، ومعاجم ، ودواوين شعر ، وكان قد اشتغل في التأليف منذ بدايات شبابه ، ونشر أول كتاب له في القاهرة سنة 1940، ( التشريع الإسلامي ، تأريخه وفلسفته ) ، وسيبقى الاختلاف ، والاتفاق على الحنفي وآرائه في غيابه حاضراً، وربما أشد مما كان في حياته ، ولعلي أجازف وأزعم ، إن موته جزء من حياته ، وأن غيابه ليس نهاية ، وإنما تواصل في حضوره ، وأن رجلا مثل الحنفي لا ينتهي حين يغيب ، أو يسافر إلى ما وراء الحجاب ، إنما يظل حضوره ظاهراً، باهراً ، طالما أن له فكرا مؤثرا ، وذكراً يتردد مع حضور فكره .. وكأنه يقر ، ويعترف ، أنه ترك مستقبله وراءه ، وحسنا فعل ، وهو يوجه إلى نفسه ، وبحزم ، ذلك السؤال ، الذي أجراه شكسبير ( على لسان أحد شخوصه ) : إذا لم أتكلم أنا .. فمن ؟ وإذا لم أتكلم الآن.. فمتى ؟! ، فالحنفي حالة جدل دائم مع محيطه ، ومع نفسه ، ومع أصدقائه ، ومع عصره ، ومع عالمه .
بقي لي أن أسجل ، إني بما كتبت الآن عن العالم ، العلامة ، الفقيه ، النحوي ، العروضي ، الشاعر ، الصحفي ، الخططي ، الموسوعي ، جلال الحنفي ، هو ما يشبه نوعاً من الاعتذار ، بعد أن وجدت في الصحافة العراقية تقصيراً ربما غير مقصود ، في نشر مقالات ، ودراسات عن مناقبه ، وآثاره ، هذا الراحل الكبير صباح الأحد 5 آذار 2006 ، لكنه في كل الأحوال خطأ مهني ، وفكري ، وثقافي ، وإخباري ، وإعلامي لا يغتفر، وكان أجدى بها أن تفرز له صفحات كاملة ، وكان من حقه علينا ، أن نمشي في موكب تشييعه وخلفه بالألوف .. فرحيل رجل مثل جلال الحنفي لا يجب أن نذكره ، كأنه حدث عادي في صفحة الوفيات ، مما يجري كل يوم ، ثم ينسى في اليوم التالي .. ولست اعتذر فقط ، ولكني اطلب المغفرة للمهنة ، ومن قلبي .
ومن كل قلبي ، أتمنى ، الآن ، لو أني استطعت تحويل هذه الباقة من الكلمات ، إلى باقة من الورد ، أضعها على قبره .. إجلالاً ، واحتراماً .. واعترافاً مني بفضله ، ومحبة .



#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سؤال كبير وخطير : إمارة الشعر العربي من امرئ القيس إلى امرئ ...
- عبد المجيد الشاوي وهذه الأشياء الغريبة العجيبة !!
- عبد الرزاق عبد الواحد .. صورة طبق الأصل !!.
- طه عارف .. وسلام الأصدقاء طويل
- شاكر حسن آل سعيد .. تشكيلياً على الطريقة الصوفية
- ويسألونك عن نوري حمودي القيسي ؟!
- لقاء مع خالد الشوّاف على مشارف الثمانين
- مفكرات يوسف العاني في عصور مختلفة
- قيس لفتة مراد .. عاش ميتا ومات حيا !!
- تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم
- لا هو موت .. لا هو انتحار
- أباطيل يوسف نمر ذياب في زنبيل !!
- مصطفى محمود .. المفترى عليه
- عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..
- مدني صالح يدفن زمان الوصل في هيت
- ( صانع ) بلند وحسين مردان .. صفاء الحيدري لا عذاب يشبه عذابه
- أبو جهل يتوحم على دمائنا
- عندما تغضب الكلمات
- علي الوردي وأنا في حوار من الأعظمية إلى الكاظمية
- عبد الوهاب البياتي .. الأول في روما


المزيد.....




- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - جلال الحنفي .. تسعون عاماً في قلب الأزمات والخصومات