أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم














المزيد.....

تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم


رباح آل جعفر

الحوار المتمدن-العدد: 2766 - 2009 / 9 / 11 - 22:35
المحور: الادب والفن
    


إذا كانت الأصداف تلمع أحياناً تحت أضواء الشهرة ، فان الذهب في أحيان كثيرة ينام مدفوناً تحت التراب ، وإذا كان حجم المصائب ، إنما يقاس بفقد الأعزاء ، فعسى أن يجد المثقفون عزاء باقيا بفقدهم عزيز السيد جاسم .
كان المفكر الأستاذ عزيز السيد جاسم ، أو ( السيد ) كما اعتدنا نحن أصدقاؤه أن نسميه ، من أوائل الذين زرعوا الثقة في نفسي ، وجعلوني أتشبث بأسناني بمهنة الصحافة ، على الرغم من طول الطريق ومشقته ، فلقد علمني ألا تخدعني المظاهر الجوفاء ، وألا أنبهر بالقشور الزائفة ، وما أكثرها في المجتمع .. وفي الثقافة .. وفي الصحافة !.
وكان مكتبه في شارع السعدون في قلب بغداد أشبه بسوق الثلاثاء ، يلتقي به مثقفون ، وأدباء ، وأصدقاء ، من كل لون ، وصنف ، واتجاه ، وشباب يتفجرون بالحماس ، والنشاط ، وفي أدمغتهم تدور أفكار جديدة ، ولديهم طموح من نوع خاص ، وكانوا نماذج لألوف من أبناء الجيل ، الذين فقدوا الثقة في كل شيء ، حتى في الخلاص من المصير المحتوم ، ثم أسلمهم اليأس إلى الانطواء داخل أنفسهم ، خصوصاً وأن التغيير كان يكلف كثيراً ، وربما يكلفهم حياتهم .
كان مكتب عزيز عالماً خاصاً ومستقلاً ، وكان مرآة صادقة ، وكانت رفوف المكتبة فيه تغطي معظم الجدران فيما عدا نافذة واسعة تطل على الشارع المكتظ بالناس ، والمرضى ، والفقراء ، والباعة المتجولين .
أحياناً كنت أمضي إلى جانبه ، وهو يمارس هوايته ، حين يقتطع المسافات الطويلة مشياً على قدميه ، كل يوم ، لأنه يجد في ذلك التسلية ، والرياضة ، والتأمل ، والطواف حول الأشياء ، وكان يقول لي : انه عندما يمشي يشعر أن ليس هنالك في الكون شيء ساكن .
وفي بعض الأحيان ، كنا نتوقف عند المكتبة العلمية في شارع السعدون ، نتصفح عناوين الكتب .. وكان عزيز أستاذاً للكثيرين منا ، وكان حرصه بالغاً حتى على توجيه قراءاتنا ، وكان من أشد المثقفين صفاء فكر ، ورجاحة عقل ، وربما من أكثرهم سوء حظ أيضاً ! .
سألته ، ذات مرة ، عن موقفه الفلسفي من الموت ، وفناء الجسد ، وقال لي بنصف ابتسامة لاحت على شفتيه : أنه يشتاق كثيراً إلى الموت ، عملاً بالآية الكريمة : ( وعجلت إليك ربي لترضى ) ! .
ووجدته دائم التفكير بالله تعالى ، كثير التفكير بوالدته ، حزيناً وهو يرى أحوال المثقفين العراقيين ، الذين وصفهم لي يوماً ، بأنهم ( يشكلون جيشاً بلا أحذية ) ، ومن هنا سمعته كثيرا ، يردد قول أحد المتصوفة : ( اللهم أخرج الدنيا من قلبي ، وضعها بين يدي ) ، ومرة همست في أذنه أسأله عن المظلومين في التأريخ ، فهمس ، هو الآخر ، في أذني ، يقول : إنهم شهداء المعارضة في كل زمان ، ومكان ! .
لم يبع عزيز آخرته بدنياه ، ولم يكن من النوع الذي يتدافع على منفعة مؤجلة ، ومكافأة موعودة ، بل كان ذلك الطيب المسالم ، الذي يشق لنفسه طريقاً وسطاً في الحياة لكي يجنب نفسه المتاعب ، ولكن المتاعب كانت تسعى إليه ، لأنه كان برغم طيبته صاحب نظرة موضوعية ، وفكر حر ، وعلاقات إنسانية أساسها الاحترام المتبادل ، وليس على أساس النظرية الانتهازية المعروفة .
واقتحم عزيز غابة الحياة ، وتعرض لكل أخطارها ، وذاق مرها ، وشرها ، وبذل دمه نقطة وراء نقطة ، وأخذ من جسده وجاد بها على نفسه : ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) ، ورحل عن دنيانا في سبيل ما يؤمن بأنه حق ، وحتى لا يأتي غدا من يدعي بأن كل القيم اهتزت بما في ذلك جوهر روح الفداء .
وعزيز من النوع الذي تأسره الصداقة ، فيرفعها دائما إلى مستوى يستحق التسجيل .. ومن الذين يكتبون بأصابعهم الشموع ، التي يوقدونها من أجل أن يطلع فجر كل يوم .. وهكذا عرفته عن قرب ، كتاباً مفتوحاً تقرأ صفحاته في يسر وسهولة ، ورجلاً يحتفظ بقلب طفل ، ويحب الناس ، بل هو على علاقة حب دائمة مع الحب نفسه ، فلا يعرف قلبه غير أن يحب ، وقال لي يوماً : انه ( يسوعي ) في المحبة ، مجبول على المحبة والتعاطف ، ولا صلة له بالكراهية .
كانت آخر مرة ألتقي بها الراحل عزيز السيد جاسم قبل غزو الكويت باسبوع ، وقد أهداني مجموعة من مؤلفاته ، بينها كتابه العظيم الخالد : ( محمد صلى الله عليه وسلم الحقيقة العظمى ) ، وأذكر أني قلت له ، لحظتها : يا أبا خولة ، إن شاء الله تعالى ، ستحمل هذا الكتاب يوم الحساب ، في يمينك ، وتقول للملائكة الكرام البررة : هاكم اقرأوا كتابي ، فتدخل الجنة .. فدمعت عيناه ، خشوعا ، وتضرعا ، ورهبة .
وأشهد أن عزيز السيد جاسم كان رجلاً مؤمنا بربه من طراز فريد ، وقوراً بنفسه ، شديد الأنفة والكبرياء .. سخياً ، كريماً ، مضيافاً ، تعلمت منه الكثير .. ولقد أحببته واحترمته .. وما أكثر الذين نحبهم .. وما أقل هؤلاء الذين يستحقون الاحترام ! .



#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا هو موت .. لا هو انتحار
- أباطيل يوسف نمر ذياب في زنبيل !!
- مصطفى محمود .. المفترى عليه
- عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..
- مدني صالح يدفن زمان الوصل في هيت
- ( صانع ) بلند وحسين مردان .. صفاء الحيدري لا عذاب يشبه عذابه
- أبو جهل يتوحم على دمائنا
- عندما تغضب الكلمات
- علي الوردي وأنا في حوار من الأعظمية إلى الكاظمية
- عبد الوهاب البياتي .. الأول في روما


المزيد.....




- كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا ...
- إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
- سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال ...
- الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
- من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام ...
- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم