أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - هاشم صالح - ذكرى محمّد أركون















المزيد.....



ذكرى محمّد أركون


هاشم صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3167 - 2010 / 10 / 27 - 22:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في نقد الانغلاقات التراثيّة وتفكيكها


1-تشييع حزين


أكتب هذه الكلمات من الدار البيضاء بعد أن صلّينا عليه في مسجد الشهداء، وودعناه إلى مثواه الأخير في مقبرة الشهداء الجميلة الملاصقة مباشرة للمسجد، وذلك بالقرب من الروائي الكبير إدريس الشرايبي وعلى بعد خطوات من مفكر كبير آخر هو محمد عابد الجابري. لا أحبّ المقابر ولا الجنازات ولا التشييع وأشعر بأنّ قلبي مضغوط جدّا في مثل هذه الأجواء القاتمة. تعود لي ذكريات الطفولة المرعبة فتسودّ الدنيا في وجهي وأزهد بالوجود وما هو موجود. أقول ذلك على الرغم من أنّ الموت حقّ وأنّي مؤمن بقضاء الله وقدره ومستسلم لمشيئته. ولولا أنّ عائلته أو بالأحرى عائلة زوجته ثريا أركون كانت شهمة جدا معنا فاستقبلتنا بكلّ ترحاب وأحاطتنا بكل أنواع الاهتمام والرعاية لشعرت بالغربة والوحشة الشديدة. لقد كانوا نبلاء جدا في حزنهم وتحملهم لمصابهم وفاجعتهم التي هي فاجعتي أنا أيضا. نفس الشيء ينبغي أن يقال عن العائلة الكريمة العظيمة التي أنجبته في الجزائر.

شكرا للدكتور محمد مفتاح الذي أخذني معه بالسيارة إلى المقبرة برفقة المحدث اللذيذ الرائع والمفكر المغربي المعروف محمد علال سيناصر. ففي أثناء الطريق ما انفكينا نتحدث عن أركون والعروي والجابري أو قل ما انفك سيناصر يتحدث لي عن العروي ويؤنبني بل ويقرعني لأني لم أقرأ كتبه الاخيرة ولا أهتم بها بما فيه الكفاية. وعدته بأن أسدّ هذا النقص في أقرب فرصة ممكنة. ولكن نحن الآن بصدد توديع أكبر مفكّر في تاريخ الإسلام المعاصر .

2- آخر الكلمات..

الآن أعود إلى الوراء قليلا وأفهم بشكل استرجاعي آخر رسالة إليكترونية أرسلتها له. بعد أن أرسلتها استغربت لماذا أرسلتها وتحدثت معه بمثل هذه الطريقة المهيبة والاستثائية بدون أي سبب او مناسبة تستدعي ذلك، لكأني أودعه قبل أن أودعه. هل كنت أعرف أنّي لن أراه ولن أسمع صوته بعد اليوم؟ لست عرافا ولا أدعي النبوة ولكن هناك أشياء تصدر عنا أحيانا بدون وعي وبدون أن ندرك مغزاها إلا بعد أن يحصل المقدور. بصراحة لم أكن أعرف أنه على وشك الرحيل. سوف أترجم للقراء حرفيا مضمون هذه الرسالة الإلكترونية أو الإيميل. قلت له وهو آخر ما تلقاه مني كتابة:

"الإسلام ينتظر مفكّره الكبير منذ عدّة قرون.

وقد وجده أخيرا فيك.

أنت أكبر محرر للتراث الإسلاميّ".

بحياتي كلها لم أقل له هذا الكلام من قبل: على الأقل بهذا الشكل وجها لوجه. ولم يكن هناك أي مبرر لقوله في تلك اللحظة. بعد ان أرسلت الايميل توقفت لحظة وقلت بيني وبين نفسي: زدتها شوية يا رجل هذه المرة . ألن ينزعج من هذا التقريظ الزائد عن الحد؟ ألن يشعر بالحرج؟ هذا شيء يُكتب عن الشخص او يُقال عنه أمام الآخرين ولكن لا يقال له مباشرة في وجهه. باختصار ندمت تقريبا لأني أرسلته. ولكني الآن أشعر بسعادة غامرة لأني أرسلت هذا الايميل، لأنه أفلت مني تقريبا غصبا عني. نعم أشعر بسعادة كبيرة لأني كتبت له ما كتبت وقلت له مباشرة ما قلت قبل فوات الأوان. لقد كانت رسالة وداع نهائية بيني وبينه دون أن أشعر. فبعدها لم أره ولم يرني ولم يحصل أي تواصل بأي شكل كان حتى سمعت بخبر الوفاة. وأعتقد أن هذا الايميل وصل إلى روحه الطاهرة وأحس به تماما. أعتقد أنه أدخل قليلا من السعادة إلى قلبه قبل أن يرحل. وهذا كل ما يهمّني الآن.

3- أركون كقطيعة مفصلية في تاريخ الفكر العربي-الاسلامي:


أعتقد شخصيا أن اكتشافات أركون حول التراث الاسلامي لم تُعرف بعد على حقيقتها وبكل أبعادها في العالم العربي ناهيك عن الاسلامي ككل. وعندما ستعرف عن جد سوف يلقى المكانة التي يستحقها داخل تاريخ الفكر العربي الاسلامي إلى جانب الكبار أو بالأحرى كبار الكبار: من نوعية الفارابي وابن سينا وابن رشد وطه حسين، الخ. وفيما يخص النقد الراديكالي للانغلاقات التراثية وتفكيكها لا أتردّد لحظة واحدة في القول بأنّه الأهم في تاريخنا كله. لم أقل بأنّه أهم بإطلاق من كل هؤلاء وربما فهم كلامي خطأ فيما يخص هذه النقطة. فطه حسين أهم منه على المستوى الأدبي بكثير وقل الأمر ذاته عن ابن سينا، والتوحيدي، هذا ناهيك عن المعري..الخ. ولكن على مستوى نقد الظاهرة الدينية في العمق أو عمق العمق فهو الأهم بدون شك في كل تاريخ الإسلام. إنه يشكل قطيعة مفصلية: ما قبله وما بعده. لقد حرّر الاسلام من ذاته عندما وصل بالتحليل العلمي الى أصل الأصول: أي الى النص القرآني نفسه حيث طبق عليه أحدث المناهج الفكرية فأضاءه بشكل غير مسبوق. وانكشفت عندئذ عظمة القرآن وعبقريته وتاريخيته الجزئية في آن معا. إنه اكبر حفّار اركيولوجي في تاريخنا الفكري. لقد قدم لنا اكبر خدمة عندما قام بالعمل الصعب وأنجز المهمة الشاقة: اي مهمة التعزيل والتفكيك والتكنيس الكبير.أقصد تكنيس القشور والحشو وحشو الحشو المتراكم على مدار العصور. لقد تنفسنا الصعداء بعد ان قرأناه وانزاح عن كاهلنا عبء ثقيل: عبء التراكمات التراثية التي تظلم الأفق وتشل الطاقات وتسد الطريق.

متى شعرت بأني تحررت من هيبة التراث والتربية الأبوية وإرهاب الماضي والانسدادات العمياء؟ بعد عشرين سنة من العمل معه. أعتقد أن ذلك حصل بعد أن ترجمت كتاب: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. منشورات دار الساقي.عام1999. عندها شعرت بارتياح شديد وعرفت أني وصلت الى ضالتي التي كنت أبحث عنها منذ سنوات طويلة. وعندئذ شعرت نحوه بمديونية معنوية وأخلاقية هائلة وأدركت انه فعلا مفكر كبير. ذلك ان المفكر الذي لا يساعدك على التحرر من نفسك وتراكماتك الداخلية وانسداداتك التراثية ليس مفكرا. هذا الشيء تشعر به بعد ان تقرأ نيتشه مثلا وهو يفكك المسيحية او سبينوزا من قبله وبقية الكبار.آه من صعوبة الفكر وعظمة الفكر ونور الفكر الوهاج! ماالذي ينقصنا الآن في العالم العربي- الاسلامي بشكل موجع؟ ماالذي ينقصنا قبل الخبز او بعده مباشرة؟

آخر ايميل تلقيته منه كان بصدد الكتاب الذي نحضره للنشر عند دار الساقي بعنوان: "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية". وهو أول كتاب سيصدر بعد موته ودون أن يتاح له أن يكحل عينيه بمرآه. وقد كان ينتظره. فبعد أن راجعه وأعاد ترتيبه ونصحني بإجراء بعض التصحيحات البسيطة قال لي في الايميل: أرسل كلّ ذلك باسمي واسمك أو من طرفي وطرفك إلى رانيا المعلم في دار الساقي. وكانت هذه هي وصيته النهائية المرخصة بنشره. كانت هذه آخر كلمة تلقيتها منه.

4- أركون والطفرة المعرفية الحديثة:

والآن ماالذي سيحصل؟ هل "سيرحل فكره برحيله" كما توهم بعض الأخوة المتسرعين؟ على العكس تماما. الآن ستبتدئ الحياة الحقيقية لمحمد أركون: حياة الأبدية والخلود. وهنا أجدني متفقا تماما مع تصريحات المفكر التونسي محمد شريف فرجاني. وهو بالمناسبة من القلائل الذين يعرفون من هو محمد أركون حقيقةً وماذا يمثل في تاريخ الفكر. يقول:

"الوعي الاسلامي غاطس في ليل بهيم طويل من الانحطاط الذي لا ينتهي الا لكي يبدأ من جديد. وأركون يريد هزه، إيقاظه، ولكن عبثا..والواقع أن كل الإصلاحات والثورات التي حصلت في العالم الاسلامي على مدار القرنين السابقين لم تستطع حتى الآن تبديد عتمات الظلام العربي الاسلامي او عتمات الانحطاط".

ثم يختتم فرجاني رثاءه قائلا:

"كبقية المفكرين الكبار الذين ظهروا قبله فان محمد أركون لم يعد من هذا العالم. ولكن أفكاره سوف تواصل إضاءة الطريق لكل أولئك الذين يخوضون المعركة الحاسمة من أجل ان تنتصر الحرية والعقل على الاستبداد السياسي والظلامية الدينية" (انظر تصريحاته بالفرنسية وكذلك تصريحات حمادي الرديسي في مجلة "الطريق الجديد" التونسية. وانظر تصريحات عبد المجيد الشرفي في نفس المجلة ولكن بالعربية تحت عنوان: محمد أركون:طود شامخ ينهار. عدد 27 سبتمبر 2010). كان يمكن أن أذكر أيضا ردّ فعل الشاعر الكبير والمفكر التنويري الحقيقي أحمد عبد المعطي حجازي على صفحات الأهرام، الخ..

ولكن، وكما قلت مرارا وتكرارا، فان اركون لن يُفهم على حقيقته الا بعد ان ننقل مكتبة العلوم الانسانية والفلسفية كلها الى الساحة الثقافية العربية. كيف يمكن ان تفهم أركون اذا لم تكن مطلعا على أحدث المنهجيات العلمية والمواقع الابيستمولوجية؟ كيف يمكن ان تفهمه اذا لم تكن مطلعا على مدرسة الحوليات الفرنسية؟ وهي أعظم مدرسة تاريخية في عصرنا الراهن. ينبغي ان تعرف فتوحات الفكر الفرنسي في الستينات والسبعينات اثناء صعود الموجة البنيوية لكي تدرك حقيقةً مغزى بحوثه. ينبغي ان تكون مطلعا على الفتوحات الرائعة للمؤرخ الشهير لوسيان فيفر وتلميذه الكبير فيرنان بروديل وعشرات غيرهما. أصلاً نقطة انطلاق اركون كانت بعد ان سمع محاضرة لوسيان فيفر الشهيرة عن عقيدة رابليه وهل هو ملحد ام لا؟ بالصدفة استمع الى المحاضرة في جامعة الجزائر وهو في بداية شبابه فهزته هزا وكانت كالوحي الذي صعقه وفتح له الطريق. من لم يقرأ كتاب لوسيان فيفر عن "تدين رابليه ومشكلة الالحاد في القرن السادس عشر" او كتابه العبقري الآخر عن "مارتن لوثر" او كتبه الاخرى العصماء لا يمكن ان يفهم اركون.

لقد حطم زعيم مدرسة الحوليات تلك الفكرة الشائعة في فرنسا والقائلة بأن رابليه كان ملحدا. وبرهن لنا على أن الالحاد بالمعنى الذي نعرفه اليوم ما كان ممكنا في القرن السادس عشر. كان يدخل في دائرة اللامفكر فيه او المستحيل التفكير فيه بالنسبة لأناس ذلك الزمان. هذا الدرس لن ينساه أبدا محمد اركون بل سوف يستلهمه لكي يطبقه على التراث الاسلامي. وقل الامر ذاته عن فتوحات بروديل وجورج دوبي وميشيل فوكو وبول ريكور ورينيه جيرار وتزفيتان تودوروف وجورج بالاندييه وعشرات غيرهم. وبالتالي فلن يُفهم اركون اليوم ولا غدا وانما بعد غد.أقول ذلك على الرغم من كل الشروحات وشروحات الشروحات التي أرفقتها به. أنا شخصيا وبعد ثلاثين سنة من معاشرة كتبه وابحاثه أعود احيانا الى نفس المقطع مرات عديدة لكي أتعمق اكثر في الفهم. مادام الفهم الانغلاقي، السلفي، الاصولي، الرجعي، للتراث الاسلامي سائدا ومسيطرا على العرب والمسلمين فسيظل فكر محمد اركون حيا أبد الدهر. سوف نظل بحاجة اليه. هذه حقيقة بدهية لا مناص منها. كيف يمكن تجاوزه اذا كانت الثقافة العربية لم تهضمه بعد؟ ما دمنا لم نتحرر بعد من عصبياتنا الطائفية والمذهبية الضيقة فسيظل فكر اركون يلاحقنا. أركون هو اكبر مفكك للانغلاقات المذهبية - الطائفية واكبر مدمر "لسجن الباستيل الاسلامي"! انظر كتابه الأخير الذي أوشكت ترجمته الآن على الانتهاء: كيف الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة؟ أي كيف الخروج من السجون المغلقة: سجوننا الطائفية والمذهبية؟ من سيهدم جدرانها ويفكك بنيانها ويفضح تاريخيتها ويقوض مشروعيتها؟ كل فرقة او طائفة تعتقد انها تمتلك الحقيقة المطلقة.كل فرقة تعتقد انها في الجنة وكل الفرق الاخرى في النار! وعن هذا الاعتقاد الراسخ تنتج الحروب الاهلية والذبح على الهوية والمجازر الطائفية.ولا يمكن تشكيل دولة الوحدة الوطنية الشاملة للجميع قبل حل هذه المعضلة الشائكة. انظر الأخطار التي تتهدد بلداننا بعد ان اصبحت على حافة الانفجار.

محمد اركون استبق على كل ذلك عندما انخرط في التحليل النقدي الراديكالي للمشكلة التراثية التي فشل المثقفون العرب ليس فقط في حلها وانما حتى في تشخيصها! يمكن ترجمة العنوان ايضا على النحو التالي: تفكيك الانغلاقات التراثية. هذا هو محمد اركون كله ملخصاً ببضع كلمات تفجيرية، انقلابية،تحريرية. أركون الأخير كان اكثر ثورية من أركون الأول على عكس ما هو متوقع وشائع. كلما تقدم في السن اصبح اكثر ثورية وراديكالية. انظر كتابه الصادر بالانكليزية بعنوان شديد الدلالة والمغزى: الاسلام: لكي نصلحه ام لكي نفكك انغلاقاته ونفجرها من الداخل؟ انظر خطبته العصماء في السفارة القطرية بباريس عندما كرمه السفير محمد جهام الكواري ونال جائزة الدوحة كعاصمة للثقافة العربية. وكانت تلك هي آخر مرة أسمعه فيها خطيبا مفوها. وفيها ركز بكل صراحة ووضوح على أهمية التنوير وضرورة ان يمر العرب والمسلمون به والا فسوف يظلون يتخبطون في ظلام دامس. والتنوير كان أولا تنويرهم في العصر الذهبي قبل ان ينتقل الى جهة الاوروبيين. ولذلك فاني أفهم بأنه يزعج ويقلق. كل القوى المحافظة تهابه وتحسب له الحساب لانها تعرف انه المفكر الوحيد القادر على مواجهة التراث والتراثيين على أرضيتهم الخاصة بالذات. انه لا يأتيهم فقط من الخارج والمناهج الاجنبية وانما ايضا من الداخل بل ومن داخل الداخل وأعماق التراث. وعندما أقول القوى المحافظة فاني لا أقصد الشيوخ التقليديين فقط. وانما أقصد ايضا أشباه المثقفين الذين يدعون التقدمية والحداثة وهم في الواقع إمّا خمينيون وإما إخوان مسلمون مقنعون ولكن مع بعض الماكياجات السطحية.

-5 الغرب وخيانة التنوير:

هذا لم يمنعه بالطبع من ان يدين مرارا وتكرارا "خيانة التنوير" من قبل القوى المتغطرسة واللاانسانية في الغرب ذاته. وهي خيانة ابتدأت منذ الاستعمار وانتهاء بالتراجيديا الفلسطينية المبرمجة بشكل مسبق من قبل القوى الغربية مرورا بهيمنة العقل التلفزي-العلمي-التكنولوجي على الحداثة وتفريغها من مضمونها الروحي والانساني. فهذه الحداثة "ذات البعد الواحد" قضت على الانفعالات العاطفية ومشاعر الشفقة والرحمة والتضامن بين الناس والشعوب. انها حداثة باردة، لا قلب لها ولا احساس.ومع ذلك فيتبجح بها الغرب اليميني الوقح، الصلف الحاقد على كل ما هو عربي او مسلم.(أستثني هنا الشخصيات الاخلاقية والقوى الانسانية العلمانية والمسيحية المستنيرة في الغرب ذاته. فالغرب غربان لا غرب واحد. ولكنها مغلوبة على أمرها الآن.فما عدا أوباما وثاباتيرو وبعض الشخصيات الاخرى فان معظم الدول الغربية محكومة حاليا من قبل يمين مكيافيلي انتهازي لا رادع له ولا وازع أخلاقي). هذه الادانة المتكررة للقوى المضادة للنزعة الانسانية في الغرب هي التي جعلت بعض الأعين تحمر عليه وتحقد اكثر من مرة. وبالتالي فأركون لم يكن يناضل على جبهة نقد العقل الاسلامي السلفي الانغلاقي فقط، وانما كان يناضل ايضا وبنفس القوة على جبهة نقد العقل الغربي الانتهازي الأصولي في رأسماليته الجشعة وماديته الحيوانية المحضة. انها أصولية معكوسة اذا جاز التعبير ولكنها لاتقل خطرا واجراما عن الاصولية الدينية هذا ان لم تزد. وذلك لأن امكانياتها اكبر بكثير وقدرتها على الضرب والشر أفدح. فهذا العقل الغربي المهيمن سرعان ما يضحي بالمباديء الانسانية التي يتشدق بها ظاهريا صباح مساء من اجل عقد الصفقات المربحة على حساب الشعوب المقموعة الجائعة.

انظر كيف يسكتون على الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان في بلدان الجنوب عندما تؤمن لهم الأنظمة السائدة مصالحهم وتنصاع لهم.. ثم يرفعون بعد كل ذلك شعارات حقوق الانسان بالذات ويتبجحون بالديمقراطية والنزعة الحضارية وكل حضارة ونزعة انسانية منهم براء! انظر كيف تنقلب الحضارة فجأة الى همجية، بربرية، اجرامية. أين ذهب مونتسكيو وجان جاك روسو وايمانويل كانط وكل أولئك الذين أسسوا التنوير الحضاري والقيم الانسانية في أوروبا؟ ما علاقة قادة الغرب الحاليين بهم؟ لاشيء، صفر. لقد فضحهم الفيلسوف الكبير آلان باديو وعرّاهم على حقيقتهم.هذا الانحراف الخطير الذي طرأ على الحداثة وعقل التنوير ما انفك محمد أركون يدينه بشدة، ولكن قليلين هم الذين يعرفون ذلك. أكبر خيبة في حياتنا ليست انفجار الاصولية وكل هذا الظلام العربي الاسلامي الممتد من المحيط الى الخليج.انظر شيوخ الفضائيات وانفجار الأحقاد القروسطية دفعة واحدة بين شيوخ الشيعة وشيوخ السنة، او بين شيوخ الاسلام كله وكهنة المسيحية العربية…شيء مخيف. ولكن هذا شيء متوقع ومعروف وله أسبابه التاريخية والموضوعية الواضحة.لا. أكبر خيبة هي ان الحضارة ذاتها ارتدت على ذاتها فأصبحت همجية،بربرية. وهكذا تجد نفسك محاصرا: أصولية أمامك،وأصولية خلفك،أصولية الشرق وأصولية الغرب المتصهين. وكل واحدة مكشرة عن أنيابها وقد تضرب في أي لحظة. فأين المفر اذن؟أين المفر يا محمد أركون؟

6- أيام زمان: عندما كانت باريس لنا..

عندما تُنقل الفتوحات العلمية والفلسفية الى لغتنا العربية يصبح فهم محمد اركون ممكنا. أصلاً أنا اول شيء قاله لي عندما التقينا: لا تكتف بقسم اللغة العربية في السوربون اذا أردت ان تفهم شيئا! اذهب الى الاقسام الفرنسية لكي تعرف اين يُصنع الفكر وكيف.. وهكذا أمضيت وقتا طويلا في ملاحقة المحاضرات والمحاضرين في كل ارجاء باريس. وكانت فرصة ذهبية لان تنتظر ميشيل فوكو ساعات في البرد قبل ان تستطيع رؤيته والاستماع اليه .كان أسطورة في ذلك الزمان. وقل الامر ذاته عن بيير بورديو، وكاستورياديس، وجورج دوبي، وتودوروف، وجورج بالاندييه، وجيل غاستون غرانجيه، وعشرات غيرهم. لحسن الحظ فان كاترين كانت ترافقني آنذاك لكي تشرح لي ما استغلق على ذهني الضيق من مصطلحات فرنسية وتخفف عني عذاب القبر! ماكنا نشبع آنذاك من الفكر والمحاضرات المنبثة في كل أنحاء باريس. كان جوعنا للفكر لا يقل شراهة عن جوعنا للحب. وماذا عن مقاهي الحي اللاتيني والحور العين؟ ماذا عن الحريات اللانهائية التي ذقنا طعمها لأول مرة؟ كانت باريس كلها لنا! سقيا لتلك الايام البوهيمية، الفوضوية. شكرا للفوضى الخلاقة! كم كنا بحاجة اليها آنذاك. كم تسكعنا في الظلمات الخفية والشوارع الخلفية؟ كم نزلنا الى الدهاليز التحتية، الى الاعماق السفلية؟ شكرا بودلير! كم ضعنا وتهنا.. كم وصلنا الى الحدود القصوى، الى التخوم التي لا تخوم بعدها..شكرا رامبو! شكرا ميشيل فوكو وتاريخ الجنون!.. وهل الفكر الا عراقيل وانسدادات، ثم حصول اختراقات وانفراجات؟ وهل دروب الفكر وشوارعه العريضة غير دروب الحياة؟ بحياتي كلها لم أفصل بين الشيئين. كنت متسكعا حرا،هنا او هناك. وفي تلك التسكعات اللانهائية عشت أجمل لحظات حياتي.

ينبغي ان تخوض المعمعة على كافة الجبهات. الفكر يُصنع في الشارع ايضا وليس فقط في المكتبات والمدرجات. حتى رامبو لم يعش "الحرية الحرة" اكثر مما عشناها آنذاك. في تلك اللحظات بالذات كانت العقلانية الاركونية الراسخة تعيدنا الى جادة الصواب وتخفف من شطحاتنا الجنونية. لكن لنعد الى صلب الموضوع.

7- غلاة اليهود والأصولية الصهيونية:

معظم المنهجيات والمصطلحات التي طبقها اركون على التراث العربي الاسلامي كان مفكرو اوروبا قد طبقوها على التراث المسيحي الغربي. ولذلك فلا يمكن فهم اركون فعلا الا بعد فهم كيف حصلت عملية تحرير التراث المسيحي من قبل كبار مفكري اوروبا القديمين والمعاصرين. لهذا السبب كنت دائما أشتغل على جبهتين اثنتين: جبهة تقديمه هو، وجبهة تقديم الآخرين من مفكري التنوير الاوروبي. ثم انتبهت مؤخرا الى خطورة مسألة جديدة أقضت مضجعي: ألا وهي "خيانة التنوير" من طرف الغرب او بالاحرى من طرف القوى المتسلطة والارهابية في الغرب، فأضفت فصلا موجعا الى دائرة اهتماماتي. والله لم أفهم حرفا واحدا الا بعد ان دفعت ثمنه دما ودموعا! هل ينبغي ان "أموت" لكي أفهم، لكي أفتح عيني وأرى؟ لا يحق اطلاقا لهذه القوى الغربية المتسلطة التي خانت النزعة الانسانية لكبار مفكري عصر النهضة وعصر التنوير ان تشكو من وحشية القوى الأصولية عندنا لأنها لا تقل عنها وحشية واجراما. اني أعرف ان أوباما طيب ولكن ماذا يستطيع ان يفعل أوباما؟ منذ الآن ابتدأوا يفكرون بايجاد طريقة للخلاص منه، او عدم انتخابه مرة أخرى، او حتى تصفيته. فخاف وتراجع.

هناك تهديدات- بالكاد مبطنة- اصبحت تصدر هنا اوهناك من طرف الغلاة المسعورين، الغلاة الحاقدين. فهؤلاء ما انفكوا يحرضون الغرب علينا ويستغلون 11 سبتمبر الى أقصى حد ممكن قائلين: يا أخي شوفوا الاسلام شو متعصب! وهم في الواقع اكثر تعصبا وجرأة على الاجرام من كل الأصوليين الظلاميين. ولكنهم يقتلون على الناعم وبقفازات من حرير ودون ضجيج..انهم يقتلونك بشكل حضاري! او يصبون عليك النار صبا من نار جهنم مفتخرين بتطورهم التكنولوجي الذي يجربونه فيك تجريبا كما فعلوا مع الفلسطينيين واللبنانيين وسواهم. في كل الأحوال فهم يصرّفونك بطريقة حضارية نظيفة!ماذا تريد اكثر من ذلك؟.برافو! لقد آن الأوان لكشف القناع عن الوجه الآخر للحضارة الغربية، الوجه الأسود القاتم. فمن كثرة بريقها وجاذبيتها الخارجية ومساحيقها التجميلية فانها استطاعت ان تخفي وجهها الاجرامي البشع عن الأنظار. بالطبع هذا لا يعني أننا سوف نرمي "الطفل مع الغسيل الوسخ" كما يقول المثل الفرنسي، او أننا سنضحي بالايجابيات بحجة السلبيات.فهذا خيانة للدرس الحصيف الذي علمنا اياه محمد أركون، وخيانة لهابرماس ايضا زعيم التنوير الاوروبي حاليا، وخيانة لبول ريكور ولكل الحكماء والعظماء..لا. ولكننا لن نغض الطرف بعد الآن عن السلبيات والخيانات..وسوف نواجه الغرب على أرضيته الخاصة بالذات ونفضح خيانته للمبادئ والقيم التي يتبجح بها علنا ثم يفعل عكسها تماما. ليكنس هو الآخر إذن أمام بيته! بالمناسبة ينبغي ان ننقل الى العربية كل أعمال الفلاسفة الذين نقدوا الحداثة وكشفوا عن ثغراتها ونواقصها وانحرافاتها. وينبغي ان يحصل تعاون بين القوى الانسانية المستنيرة في الغرب الاوروبي- الاميركي بل وحتى داخل اسرائيل نفسها، والقوى الانسانية المستنيرة في العالم العربي الاسلامي بغية تحييد قوى التطرف والاجرام في كلتا الجهتين اذا أمكن. ولكن ماذا تستطيع ان تفعل مع أشخاص من نوعية نتنياهو او ليبرمان أو كل هذه الأشكال؟.أنا مع "أنسنة العدو"، كما يقول نجمٌ آخر هوى هو محمود درويش، ولكن العدو القابل للأنسنة وليس أي عدو.. اني أعرف ان القوى العقلانية موجودة في اسرائيل ولكنها مغلوبة على أمرها بفعل منعطف تاريخي صعب يتجاوزنا جميعا.

8- أركون فيلسوف النزعة الانسانية في الاسلام:

ربما كانت أهم ميزة في فكر أركون هي انه علمنا كيف نتحاشى المغالطة التاريخية في البحث الفكري. L’anachronisme وهو شيء أخذه عن لوسيان فيفر وبروديل ومدرسة الحوليات الفرنسية العظيمة.نقول ذلك ونحن نعلم ان ثقافتنا العربية المعاصرة مليئة بها الى حد التخمة. ولهذا السبب فلا أحد يحملنا على محمل الجد في اوساط البحث العلمي الدولي. فما نقوله عن تراثنا الاسلامي لا علاقة له بالعلم او بالفكر.ولا أحد "يقيمه" من أرضه أصلا. انه مجرد كلام عاطفي، اعتقادي، لاهوتي، قروسطي، دوغمائي. ولذلك فاننا نكرر كالببغاوات نفس الشيء منذ مئات السنين ونعتقد اننا اكتشفنا القارات! نحن بالفعل أطفال من الناحية العقلية ولم نبلغ سن الرشد بعد كما قال كانط في تعريفه للتنوير. هذا لا يعني فقط اننا لسنا مستنيرين على الاطلاق، بل ولا يتوقع ان نستنير في المدى المنظور! انظر الفضائيات الدينية التي أعادتنا الى القرون الوسطى هذا اذا كنا قد خرجنا منها يوما ما.. نقصد بالمغالطات التاريخية هنا اسقاط مفاهيم العصور الحديثة على العصور القديمة. فمثلا نحن لا نعتقد فقط بان الشورى هي الديمقراطية وان حقوق الانسان والاشتراكية وسواها موجودة كلها في التراث، بل نظن ايضا بأننا سبقنا الغرب الى العقلانية والحرية الدينية والتسامح.. ويصل الأمر بجهلتنا الى حد الاعتقاد بان كل المكتشفات العلمية موجودة في القرآن بما فيها الاختراعات الفيزيائية والكيميائية والذرية والفضائية! من يستطيع ان يقول للمسلمين بأن النبي لم يكن سنيا ولا شيعيا ولا ينبغي ان نسقط عليه مقولات وانقسامات لم تحصل الا لاحقا بعد موته؟

من يستطيع ان يقول لهم بأنه كان مطلعا على كل التراث اليهودي المسيحي اما شفاها واما كتابة؟ فذلك منعكس في القرآن الكريم بوضوح. من يستطيع ان يقول لهم بأنه لم يكن مجرد ناقل سلبي للوحي وانما كان يتفاعل معه ويدفع ثمنه عدا ونقدا؟ من يستطيع ان يقول لهم بأن الاسلام كان تعدديا في العصر الذهبي المجيد من عمر الحضارة العربية الاسلامية. ثم جاءت الارثوذكسية مع السلاجقة وقضت على كل تعددية وابداع ونزعة انسانية. بل وقتلت الفلسفة وكفرت الفلاسفة وتنكرت لكل الابداعات السابقة ونسيتها وطمستها وكأنها لم توجد قط. وعن ذلك نتج اسلام التزمت والانغلاق والانحطاط الذي لايزال يتحكم برقابنا منذ القرن الثالث عشر وحتى هذه اللحظة. هذا ما كشفه لنا محمد اركون في درسه الرائع عن النزعة الانسانية العربية في القرن الرابع الهجري. ومعلوم انه ابتدأ حياته العلمية في التنظير للنزعة الانسانية الفلسفية- الدينية وختمها بها. لقد كان فيلسوف النزعة الانسانية في الفكر العربي الاسلامي. وطالما تأسف لأنها ماتت بعد الدخول في عصور الانحطاط الطويلة التي لم نقم منها حتى الآن. طالما افتخر أمام الاوروبيين بالمعتزلة والجاحظ والتوحيدي وأبي الحسن العامري ومسكويه والفارابي وابن سينا وابن رشد الخ..وقد وصل الامر به الى حد مقارنة الجاحظ عند العرب بفولتير عند الفرنسيين من حيث النزعة العقلانية النقدية والاسلوب الساخر الذي لا يضاهى. اركون كان المثقف الوحيد الذي يمتلك فلسفة كاملة، متكاملة، عن التاريخ العربي الاسلامي. كان الوحيد الذي يستطيع ان يطل من عل على كل تاريخ الاسلام فيشمله بنظرة واحدة. وكان يعرف كيف ينظّر للقطيعة الابيستمولوجية الفاصلة بين العصور.


9- أركون: رائداً ومعلماً:

من يستطيع ان ينقذ المسلمين من الاف الافكار الخاطئة المشكلة عن أنفسهم او عن الآخرين؟ وهي أفكار لا تزال مقررة في البرامج المدرسية والجامعية حتى الآن وتسبب لنا أزمة عالمية لم يسبق لها مثيل. هذا ناهيك عن الفضائيات والمساجد والشوارع والبيوت..خطاب اجتماعي جماعي جبار يهدر من المحيط الى الخليج بدون رادع او وازع.. عندما يفتح المسلم فمه ويتحدث عن دينه او اديان الآخرين فانه يعتقد بانه يقول حقائق علمية لا يرقى اليها الشك ولاتناقش. ولا يخطر على باله انها مجرد هلوسات خيالية او اعتقادات ايمانية لاعلاقة لها بالعلم او بالفكر بالمعنى المسؤول للكلمة. هذا هو الجهل المؤسس او الجهل المقدس الذي أراد اركون تعريته من جذوره وأساساته وتحريرنا منه. هذا هو الاستلاب العقلي الذي دمر الاسلام والمسلمين وجعلهم في مؤخرة الأمم والشعوب.

ولذلك، لا أحد منا يعرف معنى النص القرآني حتى الآن. وأصلا ممنوع ان نعرفه. "بحياتنا كلها لم نقرأ القرآن!"،يقول الباحث التونسي يوسف الصديق في كتاب مشهور(باريس 2010). لماذا؟ لان النظرة اللاهوتية القروسطية العبادية تسيطر علينا وترعبنا وتشلنا شللا. وهي النظرة التي رباني عليها والدي بكل رهبة وخشوع منذ نعومة أظفاري. وحده اركون حررنا منها. كل التفاسير طبقت على القرآن ما عدا تفسيرا واحدا: التفسير التاريخي المقارن. لا يمكن فهم القرآن والاسلام كله اذا لم نقارنه بالتوراة والانجيل واليهودية والمسيحية. لقد وسع آفاقنا الى أقصى حد ممكن عندما علمنا كيف نقارن بين أديان التوحيد الثلاثة التي تتنافس على احتكار الحقيقة الالهية المطلقة وتنبذ بعضها بعضا بسبب هذا التنافس بالذات. ولا واحد قادر على النظر الى القرآن الكريم على أساس ان نص مشروط بالبيئة التي ظهر فيها(اي منطقة الحجاز والجزيرة العربية عموما)واللحظة التي انبثق فيها(اي القرن السابع الميلادي). كلهم ينظرون اليه وكأنه نص يقف فوق الزمان والمكان ولاعلاقة له بالحيثيات والمشروطيات. لا ريب في ان مبادئه الأخلاقية والروحانية والتنزيهية العليا تتجاوز مشروطياته التاريخية - الزمنية. ولا ريب في انها صالحة لكل زمان ومكان والى أبد الآبدين. ولكن ماذا عما تبقى مما هو مشروط بلحظته الزمنية وبيئته الاولى؟

أنا أصلا بقيت سنوات طويلة دون ان أستطيع التحرر من تربيتي القرآنية الاولى التي تلقيتها لأن العلم في الصغر كالنقش في الحجر. وهي تربية غيبية، تقديسية، لاهوتية، عبادية، لاضوء فيها. وعلى الرغم من جوانبها الاخلاقية والروحانية والتنزيهية المثالية التي لا تنكر الا انها تعمي احيانا البصر والبصيرة. لقد قرأت القرآن الف مرة او قل رتلته الف مرة دون ان أعرف ما هو! لقد مررت عليه مرور الكرام.. متى ينتهي هذا العمى الفكري في العالم الاسلامي؟ بحر من الجهل والجهالات، بحر عرمرم متلاطم الامواج.. ولذلك فان قراءتنا للقرآن كلها اسقاطية، اي مغلوطة، وليست قراءة تزامنية كما يقول علماء الالسنيات.بمعنى اننا عاجزون عن التموضع في لحظته التاريخية لكي نفهمه كما هو، على حقيقته. ولذا فاننا نسقط على القرآن الكريم كل هلوساتنا وأفكارنا المعاصرة ونعتقد اننا فهمناه! لذلك فان اول شيء فعله اركون هو تطبيق منهجية الالسنيات الحديثة على القرآن الكريم بغية تحريرنا من القراءة الاسقاطية واللاهوتية التقليدية واحلال القراءة الواقعية التاريخية محلها. وعندئذ ظنوا بانه يعتدي على القرآن او ينزع عنه القداسة! من المعلوم ان المعرفة التحريرية تبدو في البداية وكأنها تجديف اوكفر اوانتهاك للمقدسات وذلك قبل ان يتعود عليها الناس ويكتشفوا فائدتها العظيمة. كان غاستون باشلار، احدى مرجعيات اركون الاساسية، يقول هذه العبارة: لا يمكن تشكيل المعرفة الصحيحة الا على أنقاض المعرفة الخاطئة. بمعنى آخر: ينبغي ان نفكك الغلط لكي نقيم الصح مكانه. بمعنى آخر ايضا: ينبغي تفكيك المعارف الخاطئة وتدميرها.

ما هي مشكلة العالم الاسلامي اليوم؟ مشكلته هي انه محكوم عقليا بمئات التصورات الخاطئة التي تفرض نفسها وكأنها يقينيات معصومة او حقائق الهية مطلقة! من يستطيع ان يفككها، او من يتجرأ حتى على مساءلتها مجرد مساءلة؟ وحده محمد اركون تنطح للعملية بكل تمكن واقتدار. وعلى مدار خمسين سنة ماانفك يحطم "بمطرقته النيتشوية" كل التصورات الخاطئة التي ورثناها عن الماضي وتشربناها مع حليب الطفولة. كم هو عدد المعارف الخاطئة او الأحكام المسبقة المنتشرة عن التراث الاسلامي في العالم العربي؟ انها تملأ علينا أقطار وعينا. كم هو حجم التصورات التبجيلية والقداسية والمبالغات والتهويلات والخرافات المشكلة عن التراث؟ كم حجم الهلوسات التي يشكلها الشيعة عن السنة او السنة عن الشيعة؟ كم حجم الخرافات التي يشكلها المسلمون العرب عن المسيحيين العرب والعكس بالعكس؟ من الذي فككها وحطم الجدران اللاهوتية الرهيبة التي تفصل بيننا؟ من الذي علمنا كيف نفرق بين الحقائق الحقيقية ، و"الحقائق السوسيولوجية": اي الأخطاء الضخمة الشائعة في المجتمع ولكن التي تفرض نفسها كحقائق مطلقة لا تناقش ولا تمس؟ معظم تصوراتنا عن الغرب والعلمانية والحداثة والمسيحية واليهودية وسواها هي عبارة عن "حقائق سوسيولوجية" لا حقائق علمية او تاريخية.

أين هو المسلم الذي يقبل بأن ينفتح على الأديان الأخرى ويدرسها دراسة علمية موضوعية ما عدا فراس السواح وبعض الآخرين؟ كل فلسفة المعرفة فتحها محمد اركون أمامنا من غاستون باشلار الى اليكسندر كوايري الى توماس كهن الى ميشيل فوكو..كل تاريخ الاديان استعرضه أمامنا..وأفهمنا عندئذ انه توجد نظرة علمانية للأديان وليس فقط نظرة لاهوتية تقليدية. وكذلك علمنا كيف نقارن بين الاديان والمقدسات وفتح لنا أبواب الانتربولوجيا الدينية على مصراعيها.فلا يوجد مجتمع بشري على وجه الارض بدون دين او مقدس. قد تختلف أشكاله وتجلياته ولكن يوجد دائما مقدس. وبالتالي فظاهرة التقديس ظاهرة انتربولوجية: اي انسانية كونية. ومن خلاله تعرفنا على نظرية العالم الالماني رودولف بولتمان التي تفرق بين يسوع التاريخي ويسوع الاسطوري. من يتجرأ على تطبيق ذلك على تراثنا الديني وشخصياته الكبرى؟ من الذي فتح لنا مسارات تاريخ الاديان المقارنة ووسع آفاقنا الضيقة المحصورة بدين واحد او حتى مذهب واحد؟ نحن لسنا بحاجة الى أدب مقارن فقط. نحن بحاجة بالدرجة الاولى الى علم أديان مقارن. من الذي فتح لنا الأبواب والنوافذ لكي نتنفس الهواء الطلق في الخارج ونتحرر من عصبياتنا المزمنة التي تربينا عليها منذ طفولتنا الاولى؟ هذا غيض من فيض مما علمنا اياه محمد اركون.

فسلامٌ عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيا…

الاوان



#هاشم_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مثال ساطع على تاريخيّة القرآن
- في وجاهة التساؤل عن عبقريّة محمّد
- هنرييش هاينيه شاعراً ومفكراً
- دفاع عن اللغة العربية
- آخر العام: بين العرب والغرب
- المملكة العربية السعودية في مرآة المثقفين الغربيين (1)
- 11 سبتمبر مرة أخرى
- هرطقات جورج طرابيشي
- كانَ جريمةَ قتل، فراقُنا...
- خواطر على هامش كتاب هنري ميشونيك: الحداثة، الحداثة
- الفلاسفة والتوتر الأقصى والفكر
- المحطات الكبرى للفلسفة الأوروبية
- بودلير : شاعر الحداثة والهيجانات الداخلية
- الإسلام في مرآة الغرب
- اليمين المتطرّف والأقلّيات
- هنري غوهييه مؤرخاً للفلسفة أو الفلسفة بين العلم والدين
- في ظلال هولدرلين، في ظلال الشعر...
- غادة السمان عاشقة في حضن الغياب.. إلى غائبة والشمس مكسوفة..
- الأقلّيات والمواطنة في العالم العربيّ (11)
- الأقلّيات والمواطنة في العالم العربيّ (7)


المزيد.....




- لقاء وحوار بين ترامب ورئيس بولندا حول حلف الناتو.. ماذا دار ...
- ملخص سريع لآخر تطورات الشرق الأوسط صباح الخميس
- الهند تشهد أكبر انتخابات في تاريخها بمشاركة مليار ناخب
- هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يخرج التدريس من -العصر الفيكتو ...
- دراسة تكشف تجاوز حصيلة قتلى الروس في معارك -مفرمة اللحم- في ...
- تدمير عدد من الصواريخ والقذائف الصاروخية والمسيرات والمناطيد ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /18.04.2024/ ...
- -كنت أفكر بالمفاتيح-.. مؤلف -آيات شيطانية- يروي ما رآه لحظة ...
- تعرف على الخريطة الانتخابية للهند ذات المكونات المتشعبة
- ?-إم إس آي- تطلق شاشة جديدة لعشاق الألعاب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - هاشم صالح - ذكرى محمّد أركون