أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم صالح - غادة السمان عاشقة في حضن الغياب.. إلى غائبة والشمس مكسوفة..















المزيد.....


غادة السمان عاشقة في حضن الغياب.. إلى غائبة والشمس مكسوفة..


هاشم صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2688 - 2009 / 6 / 25 - 09:52
المحور: الادب والفن
    


السبت 21 شباط (فبراير) 2009

--------------------
غادة السمان عاشقة ولكن من نوع خاص: إنها عاشقة فيما وراء الخط الأزرق، أو الخط الأحمر، فيما وراء الخطّ الفاصل بين العالمين، بين الضفتين. إنها عاشقة من طرف واحد الآن، وهو أصعب أنواع العشق. وليس ذلك لأنّ الآخر لا يحبّها. ياريت! لو أنّ الوضع كذلك لهان الأمر. وإنما لأنه أحبها أكثر من اللزوم، لأنه كان إنسانا معها أكثر من اللزوم، فتركها مفجوعة لا تتعزّى.

يا ليت أني ما اتخذتك صاحبا كم قنية جلبت أسى لفؤادي

هذا ما قاله الشريف الرضي في رثاء احد أصدقائه الخلص الذي لا يعرف كيف يتعزّى عن فقدانه. كان يتمنّى لو أنّه كان سيّئا معه قليلا، لو أنّ فيه بعض العلل المزعجة، لو أنّه خائن إلى حدّ ما، لكي يستطيع أن ينساه بسهولة ولا يتعذّب لفقدانه. ولكنّ المشكلة هي أنّه كان صديقا حقيقيا، نموذجيا. فما بالك إذا كان الراحل هو رفيق العمر، وفي نبل وتهذيب شخصية بشير الداعوق؟ أحيانا كثيرة نتمنى لو أنّنا لم نتعرّف على بعض الأشخاص، أو لو أنهم كانوا أقل طيبة معنا لكي نستطيع أن ننساهم بسهولة إذا ما حصلت مشكلة لا سمح الله. ولكن ماذا تستطيع أن تفعل مع أولئك الذين "قتلوك" بمحبتهم، بطيبتهم، بإنسانيتهم؟ لقد حرقوا قلبنا برحيلهم، وفي اللحظة التي كنا نهيئ أنفسنا لأجمل سنوات العمر معهم، إذا بهم غدروا بنا، تركونا..

تقول غادة السمان من مقطوعة بعنوان:

لا أحب أن أموت طويلا

"ذهب حبيبي إلى النوم ليرتاح من أطبائه، ولم يستيقظ..لن أنام بعد اليوم..

أين ينتهي النوم ويبدأ الموت؟ لا..لن أنام..

مشاريعي ما زالت كثيرة، ولم أبدأ الكتابة بعد كما أشتهي..

لم أبدأ حياتي بعد بالرغم من إنني أهرول منذ ألف عام..

كنت فقط أتعلم كيف سأحيى..وكيف سأكتب..

لا، لا وقت عندي للنوم، ولا للموت طويلا

لماذا حين نتعلم كيف نحيا، يكون قد جاء دورنا لنموت؟!"

ص. 38

لاحظ هذا البيت الأخير الذي يلخص المشكلة كلها: ممنوع الحب في هذا العالم، او قل انه مهدد باستمرار. ممنوع أن تسعد آو تهنأ "على كيفك".. لا بد وان يحصل شيء ينغص عيشك في لحظة ما حيث لا تتوقع.. ممنوع على العاشق مثلا أن يلتقي بتلك التي يعبدها ويبيع الدنيا كلها بخمس دقائق معها. والسعادة مؤجلة إلى أجل غير مسمى. هل حقا انه "لا يوجد حب سعيد" على وجه الأرض كما يقول أراغون ويغنيه ذلك المطرب الرائع جورج براسّنز؟ أفتح الأغنية مباشرة وأنا أكتب هذه الكلمات وعبثا أغالب دموعي. فبين غادة السمان وأراغون وجورج براسّنز ذي الصوت الأجش الساخن الذي لا يضاهى انهارت مقاومتي بسهولة..لا يوجد حبّ سعيد على هذه الأرض. هذه حقيقة ينبغي أن تقبل بها مثل: واحد زائد واحد يساوي اثنين. ممنوع أن ينجح الحبّ. الكرة الأرضية كلها ضدّك! ومع ذلك فانّك لا تستطيع أن تعيش بدون حبّ. فما العمل؟ تظلّ تحبّها بدونها، بدون أن تراها. هي في القلب مقبورة.. حبّ على الغائب، باختصار. هكذا تعود، مثل غادة السمان، إلى حضن الغياب ولكن لسبب آخر مختلف. نحن محكومون بالغياب يا سيدتي، بالحبّ من طرف واحد، ومن بعيد، وعلى الغائب، نحن محكومون بالحنين الجارف والنوستالجيا..

تقول غادة السمان بأنّها لم تعد تستطيع أن ترى تلك الأماكن الباريسية التي طالما رأتها، تجوّلت في جنباتها، تمتّعت بمرآها، برفقة صديق عمرها بشير الداعوق. لقد أصبحت خرابا بلقعا بدونه. أليست خيانة أن تراها وهو لم يعد إلى جانبها؟ وكيف يحلو لها أن تستمتع بها ثانية بدونه؟ مستحيل. ألا تذكرها في كلّ لحظة برحيله، بالفراغ اللانهائي الذي خلّفه غيابه؟ ألا تلسع قلبها لسعات تلك المناظر التي طالما دردشا حولها الدردشات؟ القلب فارغ، الكون فارغ، طعم الحياة المرّ.. لنستمع إليها مرة أخرى:

بومة الحبّ الحرّ

"أمشي في شوارع باريس مسكونة بك.

أنوب عنك في عناق الحيّ اللاتيني ومونتمارتر والشانزيليزيه ونهر السين وجزيرة البجع، وأشعر بالود نحو الجميلات العابرات، فلو انّك شاهدتهن لأدخلن السعادة على قلبك الذي أتمناه مؤثثا بالفرح الحرّ وبهجة العيش..

أحبّك حبّا "يوميا" حرا طليقا، لا صلة له بحبّ الامتلاك العدواني الملقّب حبّا عند البشر….

غيابك عن كوكبنا لا يبدّل شيئا من حضورك في قلبي."

ص.42

حلو. على الأقلّ هنا وصلنا إلى نتيجة ايجابية معها: وهي أنّ الحبّ على الغائب شيء ممكن. بل هو الشيء الوحيد الممكن في معظم الأحيان نتيجة المؤامرات الكونية المحاكة ضدّ الحبّ، سواء من قبل الموت، أو الوحوش، أو العذّال والوشاة، أو الجواسيس، أو يد القدر، أو أيّ شيء آخر… لنتعلّم إذن كيف نحبّ على الغائب منذ الآن لكيلا نفاجأ بما لا تحمد عقباه. بل وحتى على الغائب الحبّ ممنوع أحيانا!

السؤال المطروح هنا هو التالي: لماذا توجد دائما مؤامرة كونية على الحبّ؟ لسبب بسيط: هو أنّ الحبّ شيء نادر، شيء رائع إلى درجة أنّه حتى الآلهة تغار منه! الحبّ هو أروع شيء على وجه الأرض وأغلى شيء، الحبّ أغلى من الذهب. وكلّ شيء نادر مهدّد: الجمال النادر مهدّد، العبقريات النادرة مهدّدة باستمرار أيضا. اقرؤوا سير الأنبياء والعظماء على مدار التاريخ. كلهم كانوا مهدّدين في لحظة ما من لحظات حياتهم. ينبغي أن تكون كبقية القطيع لكيلا يهددك أحد، لكيلا يشعر بوجودك أحد. ينبغي أن تفكّر مثل كلّ الناس، وتتزوّج مثل كلّ الناس، وتموت مثل كلّ الناس. أما أن تكون استثنائيا خارقا، متميّزا فردا، فهذا ممنوع وألف ممنوع. لماذا ماتت اسمهان في عزّ الشباب؟

فرق ما بنا ليه الزمان؟

ده العمر كله، ده العمر كله

بعدك هوان..

هذه الأغنية لا أستطيع أن اسمعها لوحدي تقريبا، في عزلاتي الموحشة وخلواتي. إنها أكبر من طاقتي على التحمّل، إنّها أجمل مما أستحق. لماذا قتلت اسمهان؟ لأنّها عبقرية. نقطة على السطر. ممنوع أن تكون عبقريا.

أفتح على اسمهان أيضا، يصعقني الصوت الملائكي، ينتقل بي إلى السماء السابعة، مغناطيس، كهرباء تسري في دمي، تاريخي كلّه يتحرك، يغلي غليانا، أتذكر كلّ اللواتي أحببتهن، أموت عشر موتات، أقوم وأقعد..أنظر من الشباك إلى البعيد حيث غابة فانسين والشرق الباريسي..أذهل عن نفسي. أدخل في الحالة الهيجانية، أنسى وجودي..


هناك حقيقة: جوهر الوجود التراجيديا. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا نتعب كثيرا. وهو الجواب الوحيد على التساؤل الحارق والمشروع الذي تطرحه غادة السمان:

لماذا حين نتعلم كيف نحيا، يكون قد جاء دورنا لنموت؟!

لسبب بسيط يا سيدتي: هو أنّ السعادة المطلقة أو السعادة الكاملة ممنوعة على هذه الأرض. كنا نتمنى لو أنها ممكنة. هذا هو حلم البشرية منذ قديم الأزمان. ولكنّ الدودة في الثمرة. ومن سره زمن ساءته أزمان..ربّما كنت أتفلسف أكثر من اللزوم على غادة السمان هنا، أو ربما كانت نظريتي المتشائمة على طريقة شوبنهاور قد لحقت بي، أو حتى على طريقة المعرّي لكي نظلّ اقرب إلى شخصيتنا التاريخية. لا أعرف. كلّ ما أعرفه هو أنّ التراجيديا هي جوهر الوجود. في حياتي لم أعش لحظة حقيقية إلا ودفعت ثمنها لاحقا بشكل أو بآخر. متى سأقرأ كتاب نيتشه عن ولادة التراجيديا؟ منذ عشرين سنة وأنا أضعه على الرفّ دون أن أفتحه.

المقطع الوحيد في الكتاب الذي جعلني أنفجر بالضحك هو ذلك الذي يحمل العنوان التالي:

صيف غير صالح للموت

"في عيد ميلادي، خفت أن يهديني السيد الموت قبرا

فأهديته مجموعة كتبي كلها..

آملة ألا تعجبه، ويكرهني ويرفضني، ويقاطعني..

ولا يقوم بزيارتي!"

ص.56


قد تقولون موقف طفولي؟ ربما. ولكن من هنا جماله. إنها تخبّئ وجهها في الرمال كالنعامة معتقدة أنها تستطيع الهرب من الموت. كلنا نلعب معه لعبة الخبّاية الصبيانية معتقدين انه غير موجود في حين أنه قد يكون أقرب إلينا من حبل الوريد. ولكن هل نستطيع أن نعيش ونستمتع بالعيش بدون ذلك؟ ما معنى الفنّ بدون طفولة؟ وهل سنظلّ نكتب إذا ماتت طفولتنا فينا؟ ولماذا الكتابة عندئذ؟

ثم هذا المقطع الشاعري- الفلسفي المكثف جدّا وبعنوان جميل:

صيف آخر، وأحبك!


"المعجزة ومضة،

وحبك معجزة استثنائية

إذ دامت عمرا."

ص.58

أو هذا المقطع القوي جدّا والذي لا نعرف هل هو موجه للبنان أم لبشير الداعوق أم للاثنين معا:


لا نسيان يا لبنان


"ذلك النهار الذي أنساك فيه..

ذلك النهار، لن يطلع عليه النهار!"

ص.23



ثم هذا المقطع الذي يتفجر حياة وشعرا ويكفي لوضع غادة السمان على قمّة أدبنا المعاصر:

سطور على شاهدة قبر شاعر


"آه الحياة والحبّ!

كان ذلك قصيرا وعابرا ومضيئا كومضة برق..

يا من تمرون بقبري،

أرجوكم عيشوا حياتكم..

ستموتون بالتأكيد

فلا تموتوا مرتين…"

ص.86


الخ..الخ..

هناك مقاطع كثيرة تستحق التوقف عندها وسنلتقي بسواها لاحقا، ولكن حجم المقال مهما طال لا يتسع لذلك. كل ما أريد قوله هو أن غادة السمان في هذين الكتابين أضافت فصلا جديد إلى الآداب العربية فيما يخص موضوع الوداع والفراق والرحيل. وأعترف بأنه من أقرب الموضوعات إلى قلبي، أن لم يكن أقربها بإطلاق.

هناك كتابان أتمنى لو أستطيع التفرّغ لهما: الأوّل عن قصص الحبّ الكبرى في التاريخ، والثاني عن الفراق أو القطيعة العاطفية. وهما مترابطان. كنت قد نشرت عن دار الطليعة كتابا عن القطيعة الابستميولوجية: أي الفلسفية أو المعرفية العميقة التي تفصل بين العصور. ولكن كم هو عدد القراء الذين يعرفون أنّ همّي الأساسيّ يكمن في مكان آخر في الواقع؟ إنّه مشغول بقطيعة أخرى تكاد تحرق قلبي هي: قطيعة الفراق الغرامية. لحدّ الآن لم أستوعبها، لم أبلعها. من هذه الناحية فانا لم أتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام منذ ثلاثين سنة ولم أتعلّم أيّ درس! دائما أقع في الفخّ بنفس الطريقة تماما كما تقع الذبابة في صحن من العسل، وأتعذّب وأتمرمر..مفهوم التقدم أو استخلاص الدروس والعبر غير موجود بالنسبة لموضوع الحبّ.

نحن مقطوعون عن أنفسنا أيها السادة، نحن مقطوعون عن أحبتنا بشكل خاصّ، نحن مهجورون ومرميون على قارعة الطريق.


أتذكر أنّي رأيت مرة الممثل جان ماري ترانتنيان وهو يتفجع على ابنته الممثلة ماري ترانتنيان بعد أن قتلها عشيقها حبّا بها في قصة تراجيدية رائعة! اسمحوا لي بهذا التعبير الجهنّمي. عيب، ولكن.. ومن الحبّ ما قتل! لنتذكر بوشكين.

رأيته يتفجع على ابنته الشابّة التي قتلها الحبّ، التي أحبّت أكثر من اللزوم، أي بشكل أكثر مما هو مسموح به على هذه الأرض.

كان ذلك في المقبرة الباريسية الشهيرة "بير لاشيز" وأمام حشد من الشخصيات الفرنسية والفنية الراقية. ولكنه لم يستطع أن يكمل رثائها فانفجر في منتصف العبارة باكيا كالطفل، وترك المنصة، وكلّ شيء وراح يركض وهو ينتحب بصوت عال أمام الجميع. كان شيئا مؤثّرا حقّا. لم يستطع أن يكمل العبارة التالية التي تقول:

لا تبك عليها لأنك فقدتها، اعتبر نفسك محسودا لأنك عشت وتعرفت عليها!

أعترف بأنّي لم أجد عبارة أقوى منها في الرثاء أو بالأحرى في المديح. فهذا ليس رثاء، هذا مديح. في نهاية المطاف هؤلاء الذين فقدناهم، هؤلاء الذين أحببناهم وأحبّونا حتى لم يعد للحبّ من معنى، هؤلاء الذين تداخلت حياتهم بحياتنا حتى لأصبحوا جزءا من شراييننا وعيوننا، هل نعرف مدى الحظّ الكبير الذي حصل لنا في أننا تعرفنا عليهم في لجّة الحياة يوما ما؟ كان يمكن أن نمرّ بجانبهم، أن نحاذيهم دون أن نراهم أو يروننا. كان يمكن أن نخطئهم، أن يتعرّفوا على أشخاص آخرين غيرنا..

أعود إلى مسألة الحبّ الذي يقتل. نعم الحبّ قضية خطرة. أقول ذلك وأنا أفكّر بالان ديلون ورومي شنيدر مثلا من جملة أمثلة أخرى عديدة. فقد قتلها حبّه على ما يبدو، قصم ظهرها، ولم تقم لها قائمة بعدئذ. يكفي أن ننظر إلى وجهها الآسر وعينيها: حتى عندما تضحك رومي شنيدر، حتى عندما تفرح تبدو حزينة وتراجيدية. لقد عصر قلبها الألم عصرا. ولكن هل بقي لها قلب أصلا؟ لقد أخذ قلبها معه ابن الكلب!.. لقد قتلها الحبّ الغادر، حبّ هذا الأزعر الكبير الان ديلون.. ولذلك قالت هذه العبارة الرائعة التي طالما أتذكّرها وأردّدها بيني وبين نفسي: لا أبرد من حبّ مات! لا أبرد من حبّ مات! عندما يتحوّل الحبّ إلى جثة هامدة، عندما يحتضر الحبّ، ما أبشع الحياة! ولذلك سعدت جدّا وشمتّ به إلى أقصى الحدود عندما سمعت بأنّ زوجته الحسناء الهولندية تركته فجأة وذهبت مع رجل آخر، أزعر أكثر منه، بل وتزوجته. برافو! وهكذا أكلها ضربة كبيرة على رأسه هو الذي تعود على أن يتركهنّ ويتلاعب بقلوبهنّ كما يشاء ويشتهي. الآن جاء دوره لكي يأكل الصاع صاعين ويعرف معنى العذاب. ولو؟ من يترك الان ديلون! هو الذي يَترك ولا يُترك. برافو للمدام! لعنت أباه كما يقال.

ولكن لكيلا أكون ظالما معه أكثر من اللزوم، هو الذي أحبّه جدا كممثل رائع، ينبغي القول باني فوجئت ببعض اعترافاته الشخصية وأعجبت بها كلّ الإعجاب. فقد اعترف بأنه لا يستطيع أن يرى ألبومه الشخصي وصوره مع رومي شنيدر عندما يكون وحيدا في الشقة لأنّ الذكريات تعصف به عصفا، والدموع..برافو.. حلو. هنا نقطة تسجّل له. هذا دليل على أنّه عنده إحساس على الأقل. ثم إنّه لا يترك مناسبة إلا ويشيد بها وبذكراها على شاشات التلفزيون وفي المهرجانات السينمائية الكبرى. وهذا دليل على أنّ ضميره لم يمت بعد، على أنّه يريد التكفير عن ذنوبه والضربة القاصمة التي وجهها لها عندما قطع معها فجأة ودون سابق إنذار وذهب مع واحدة أخرى بنت حرام.. هكذا أعود مرة أخرى إلى مسألة القطيعة الغرامية والنزيف الداخلي للقلب..

ولكن كيف نتعزّى عما لا يمكن العزاء عنه؟ كيف يمكن أن نستمرّ في العيش بعد غياب أحبتنا؟ هل نقتل أنفسنا ونلتحق بهم فورا؟ أليس من الخيانة أن نعيش بعدهم لحظة واحدة يا ترى؟ كيف نتصرف بعد رحيلهم؟ وكيف نملأ الفراغ الهائل الذي خلّفوه وراءهم؟

هناك عدّة حلول: الدين، الفلسفة، الأدب والكتابة والحبّ. يخيل إلي أنّ غادة السمان اختارت الحل الثالث ولا غرابة في الأمر. فهي الأديبة الكبيرة والعاشقة المشهورة التي بنت حياتها على الحبّ والحرية والنزعة الإنسانية.

خلال سنة واحدة أصدرت غادة السمان كتابين عن بشير الداعوق ليس تخليدا لذكراه فقط، وإنما لمواصلة العيش معه، لمواصلة حوار لم ينقطع منذ أربعين سنة تقريبا. ولا يوجد أيّ مبرّر لكي ينقطع لأنّ الغياب هو كما قلت لكم حضور، بل وأحيانا، أقوى درجات الحضور! فهي لا تعترف بقطيعة الموت ومعها الحقّ. من يلومها على ذلك؟ هنا تكمن مفخرتها ومجدها وعظمتها. هنا يكمن عمق إنسانيتها. وبالتالي فهو حوار فكريّ ثقافيّ ودّي بينها وبينه. كلا الكتابين يرفض القطيعة، يشكلان أكبر صرخة احتجاجية على قطيعة الموت التي لا قطيعة بعدها. الكتاب الأول جماعي اكتفت بالتقديم له فقط وهو بعنوان: "بشير الداعوق. كأنه الوداع". وأكثر ما أعجبني فيه بالإضافة إلى كلماتها، هي جملة واحدة لابنه حازم الداعوق وهي التي تفتتح الكتاب مباشرة ويقول فيها:

"لا وداع بينك وبيني. فأنت دوما معي

ومع دار الطليعة التي ستبقى كما أردتها

حازم بشير الداعوق"

كم أعجبني هذا الرفض القاطع للوداع.

انتهى الموت بهذه العبارة. قضي عليه قضاء مبرما. من قال بأنّ هناك موتا أصلا؟ هناك حضور واستمرارية جسدية وفكرية لبشير الداعوق من خلال ابنه الخارج من صلبه، ومن خلال المشروع الفكري لدار الطليعة والذي كان أغلى عليه من روحه. أين هو انتصارك يا موت؟ كلمة مشهورة للقديس بولس بعد قيامة يسوع المسيح. لا موت في ظلّ البعث والانبعاث والاستمرارية المتحمّسة لمشروع النهضة العربية والتنوير العربي الذي كان يؤمن به بشير الداعوق ولا يزال.

وأما الكتاب الثاني فهو كليا لها ويتخذ العنوان التالي: "القلب العاري… عاشقا". وهو من أقوى ما قرأت في النثر بل وأكاد أقول الشعر العربي. بل هو شعر خالص وأقوى من الشعر. وقد وصلني هذا النهار والتهمته خلال ساعات دون توقّف. والمشكلة معه هو أنّه كلّه ناجح وتقريبا بنفس الدرجة! شيء مزعج أنّك لا تستطيع أن تحذف مقاطع وتختار مقاطع أخرى. كلّه يستشهد به تقريبا! كله من طراز رفيع أسلوبا ومهارة وفكرا. ولكن سوف أذكر بالإضافة إلى كلّ الاستشهادات التي أوردتها سابقا هذا المقطع الذي يعنينا جميعا وليس فقط بشير الداعوق. إنّه يلخّص فكر العصر بأسره:

بطاقة من باريس

"يا وطني العربي الشاسع..

الذي يكاد لا يتسع لجناحي امرأة تطير بحرية،

أهديك كل شيء إلا حريتي!!"

ص.53


ما رأيكم دام فضلكم؟ هل قرأتم أقوى من ذلك في الكتابة العربية؟ تريدون مقاطع أخرى؟ إليكم العشرات إذا لم تكونوا قد شبعتم حتى الآن منها. وأولها هذه القصيدة القصيرة بعنوان:

سطور كتبتها على قبر حبيبي


"تسلقت الافرست والهيملايا بلا صعوبة..

وسبحت مع أسماك القرش في قاع البحار، وراقصت

الإخطبوطات.

كلّ شيء كان سهلا، حتى القفز بلا مظلة من الطائرات.

وحده النسيان استعصى علي، وها أنا أزورك وأبكيك!"

ص.15


لاحظ المقطع الأخير: وها أنا أزورك وأبكيك! سوف أقولها بصراحة هنا: الفكرة التي كنت أحملها عن غادة السمان (من بعيد طبعا لأني لا أعرفها شخصيا) هي إنها عاشقة من الطراز الأول، وإنها امرأة لعوب تتنقل من عشق إلى عشق وكأنها ولاّدة العصر الحديث. أقصد ولادة بنت المستكفي بالطبع التي هي أميرة أموية دمشقية أندلسية مثلها. ولكن عندما تقرأ تفجعها على بشير الداعوق بعد غيابه تكتشف كم هي سطحية واختزالية هذه الصورة! هذا لا يعني بالطبع إنها ليست عاشقة حقيقية وإلا لما أصبحت الكاتبة الكبيرة التي نعرفها. معظم الكتاب الكبار كانوا عشاقا كبارا نساء كانوا أم رجالا. العشق هو الحرية، والحرية هي الكتابة، نقطة على السطر. لا كتابة بدون عشق أو حرية.. ولكن في هذا التفجع واللوعة نلاحظ أنها عاشقة مجروحة في العمق، وتقريبا بشكل لا علاج له، أولا شفاء منه. وهذا النوع من العشّاق، المجروحين في عمق العمق غير معروف كثيرا في أدبنا، اللهم إلا إذا استثنينا الشعراء العذريين. هذا النوع من العشق والوفاء يستحق التوقف عنده فعلا. لا أعرف امرأة عربية جرحها رحيل رجل إلى مثل هذا الحدّ وعبرت عن ذلك بشكل حرّ، متدفّق، إبداعيّ، عبقريّ، مثلما فعلت هي. من هنا عالمية الأدب الذي تكتبه غادة السمان. لن أقول بأنها كثيرة على الأدب العربي أو أكبر من الأدب العربي المعاصر كما قال أحدهم عن رامبو بالنسبة للأدب الفرنسي. ولكني لن أتردد في القول بأنها سابقة على حساسية الزمن العربي الحالي ورائدة تغامر في المجاهيل البكر.. من هنا شحنة الحرية الهائلة التي ترشح من كتاباتها شكلا ومضمونا.

على عكس ما كنت أتوقع فإنّ غادة السمان ليست دائما من سلالة عمر بن أبي ربيعة أو نزار قباني، وإنما هي أيضا من أحفاد جميل بثينة، كثير عزّة، مجنون ليلى..من هنا خصوبة تجربتها ومعاناتها. من هنا كثافة كتاباتها. على الأقلّ في المرحلة الحالية وبعد غياب رفيق العمر مؤسس دار الطليعة. إنها تتبدّى وكأنها امرأة الحبّ الواحد والإخلاص الواحد والحنين الواحد. فذكراه تملأ عليها أقطار نفسها. وعلى رؤوس الإشهاد تبكيه وتتفجع عليه. أليس ذلك رائعا؟ أعترف بأنه أصابني في الصميم. كم هو بعيد ذلك الزمن الذي كان فيه المسكين جرير يخجل من إظهار الحزن على زوجته!


لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار

ولهت قلبي إذ علتني كبرة وذوو التمائم من بنيك صغار


أخيرا لا بدّ من نادرة شخصية قبل أن أختتم هذا الحديث الذي طال. مرّة واحدة ذكرت عرضا اسم غادة السمان أمام بشير الداعوق في أحد لقاءاتنا. كان ذلك في مقهى لو بوكيه دو غرونيل في باريس، الدائرة الخامسة عشرة حيث يحبّ أن نلتقي عادة. وما أن ذكرت اسمها حتى قاطعني وسألني بلهفة: هل تعرفها؟ هل قرأت لها شيئا؟ ما رأيك بها؟ فاجأني وهو الرجل الرصين عادة بهذا التلهّف المتسرّع وفهمت أنّه لا يزال في ربيع عمر الحبّ والشباب معها. وأدركت كم كان يحبّها ويفتخر بها ويعتزّ بحجم شهرتها في الأوساط الثقافية العربية. وهنا أيضا تتجلّى حداثته ورقيّه. فنحن الرجال العرب يزعجنا جدّا عادة أن تكون زوجتنا أكثر شهرة منا. أنا شخصيا لا استطيع أن أتحمّل ذلك. لماذا لا أعترف بالحقيقة؟ ينبغي أن أكون أنا أهمّ منها وأتفلسف عليها طيلة الوقت.. ومع ذلك فإنّي لا انفكّ أثرثر عن التنوير والحداثة وما بعد الحداثة! حقا لقد كان بشير الداعوق "جنتلمان" وأرقى منا جميعا



#هاشم_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأقلّيات والمواطنة في العالم العربيّ (11)
- الأقلّيات والمواطنة في العالم العربيّ (7)
- لوتريامون.. الحداثة الشعرية والعطش الهائل للتدمير
- عذاب بودلير
- تورغنييف: ثالث عمالقة الأدب الروسي
- فولتير .. زعيم الأنوار الأوروبية
- هل يفكر العرب يا ترى؟
- محاكم التفتيش العربية
- الأصولية الظلامية والمعركة التي لا بد منها
- جمال البنا.. يبن الإصلاح الديني والتنوير
- 11سبتمبر: الدروس والعبر
- باحث فرنسي لأميركا: حذار من إذلال العرب أكثر مما ينبغي
- المثقفون الفرنسيون والأزمة العراقية .. المغامرة الأميركية ال ...
- كيف انحرفت الحداثة عن مسارها الحقيقي وتحولت إلى عكسها؟
- كتاب يتحدث بصوتين.. من مانهاتن إلى بغداد أركون في كتابه الجد ...
- مسيرة التنوير الفرنسي من تورغو إلى فولتير
- الفقر أم المشاكل كلها
- قراءات في التنوير الألماني.. لماذا تقدمت أوروبا وتأخر غيرها؟
- سبينوزا.. فضيحة عصره
- هيغل والتنوير


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم صالح - غادة السمان عاشقة في حضن الغياب.. إلى غائبة والشمس مكسوفة..