أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم صالح - بودلير : شاعر الحداثة والهيجانات الداخلية















المزيد.....

بودلير : شاعر الحداثة والهيجانات الداخلية


هاشم صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2718 - 2009 / 7 / 25 - 10:16
المحور: الادب والفن
    



الخميس 9 نيسان (أبريل) 2009

---------------------------------
تعجبني المقدّمة التي كتبها البروفيسور مارسيل روف لتتصدّر الأعمال الكاملة لشاعر العذاب الداخليّ والحداثة الفرنسية: شارل بودلير. فهي ككلّ المقدمات التي يكتبها الأساتذة المختصّون شاملة وجامعة. والأستاذ "روف" هو عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة "نيس" بفرنسا. وكان قد خصص أطروحته لدكتوراه الدولة لبودلير تحت العنوان التالي: روح الشرّ والجماليات البودليرية. منشورات ارمان كولان، باريس، 1955.

يقول الباحث في المقدّمة المشار إليها آنفاً: بعد مرور أكثر من قرن على موت بودلير، لا يزال صاحب "أزهار الشرّ" يهيمن على الشعر المعاصر. وهذا لا يعني التقليل من أهمية رامبو أو لوتريامون أو مالارميه الذين جاؤوا بعده مباشرة. ولكنّ بودلير على عكس رامبو ولوتريامون لم يكن رجل الكتاب الواحد. فشعره لا يشكّل عُشْر مؤلّفاته. فقد كان ناقداً فنياً وأدبياً، ومترجماً شهيراً لمؤلفات ادغار آلان بو، بالإضافة إلى كونه شاعراً عبقرياً.

كان بودلير شخصاً مليئاً بالعقد النفسية والتناقضات. وقد حاول أن يتجاوز عقده وتناقضاته ولكنه فشل. وعن هذا الفشل نتج الشّعرُ كأعظم وأعمق ما يكون. وقد حاول تفسير تناقضاته أو تبريرها عن طريق تصوّره الميتافيزيقي والدّيني لقدر الإنسان: أيّ إنسان كان على وجه الأرض. وفي كتابه النثري "قلبي العاري" أو "قلبي المفتوح على مصراعيه" يقول هذه العبارة التي تلخّص كل فلسفته: يوجد لدى كل إنسان، وفي كل ساعة أو دقيقة من دقائق حياته، ميْلان متزامنان: الأوّل نحو الله، والثاني نحو الشيطان. وبالتالي فالمعركة مع الشيطان مستمرّة على طول الخط، بل وهي التي تفتتح ديوانه الشهير "أزهار الشر". يقول:

أيها القارئ الهادئ والمولع بالطبيعة الرزين والإنسان الطيب اِرمِ هذا الكتاب النجس العاهر والسوداوي *** إذا لم تكن قد تعلمت البلاغة على يد الشيطان، أستاذنا الأكبر اِرمِه! فلن تفهم شيئاً عليّ أو أنك سوف تعتقدني هستيرياً *** ولكن إذا كانت عيناك تعرفان كيف تنفذان إلى أعماق الهاوية دون خوف، اقرأني لكي تتعلم كيف تحبّني *** أيتها الروح الفضولية التي تتعذب والذاهبة بحثاً عن جنّتها أشفقي عليّ!… وإلا لعنتك!

من لا يعرف معنى الهاوية السحيقة التي تفغر فاها، من لم يمش على حافة الهاوية، بل وكاد أن يسقط فيها أكثر من مرة، لا ينبغي أن يقرأ شاعرا مثل شارل بودلير.

ولكن، رغم كلّ التناقضات التي كانت تمزّق بودلير من الداخل، إلا أنه كان يعتقد بضرورة الحفاظ على التماسك في الفكر. كان يقول مثلاً: إن أوّل شرط للتوصّل إلى فنّ سليم وصحيح هو الاعتقاد بالوحدة العضوية الكاملة. فالحياة غير الفنّ. صحيح أنّ الفن هو نتاج الحياة والمعاناة والتجارب. ولكنه أيضاً تجاوز للعقد والتناقضات والحياة. والا فلا معنى له. إنه يصهرها داخل بوتقة واحدة شمولية: هي بوتقة الفنّ. بهذا المعنى فإنّ الفنّ هو العلاج الوحيد للعقد النفسية. إنّه عزاء للإنسان في عالم قلّ فيه العزاء. بهذا المعنى أيضا فإنّ الفنّ أعظم من الحياة وأكبر. الحياة تموت، تندثر، أما الفنّ فيبقى. المتنبّي مات في الخمسين من عمره ولكن قصائده لا تزال حية منذ ألف سنة. ومن المرجّح أن تعيش آلاف السنين..الفنّ هو وحده الذي ينتصر على الموت: لوحات سلفادور دالي، او سيمفونيات موزار وبيتهوفين، أو رسالة الغفران للمعري، أو الكوميديا الإلهية لدانتي، أو دون كيشوت لسيرفانتيس، أو ألف ليلة وليلة، الخ.. من يستطيع أن يميتها؟

ولكن مع ذلك يحقّ لنا أن نطرح هذا السؤال: كيف استقبل النقاد ديوان أزهار الشر لحظة صدوره؟ هل وعوا الحدث؟ هل شعروا بأنّ شيئا ما حصل في تاريخ الشعر الفرنسي؟ سوف نفاجأ بالجواب. لنستمع إلى غوستاف بوردان الذي كان يسيطر على الصفحة الأدبية في جريدة الفيغارو العريقة والشهيرة والتي لا تزال تصدر حتى الآن:

"هناك لحظات يشكّ فيها المرء بالصحة العقلية للسيد بودلير دون أن يكون متأكدا من الأمر. ولكن هناك لحظات أخرى لا يعود فيها أيّ مجال للشك: هذا الشخص مريض فعلا. إنه يكرّر نفس الأفكار والصور الشعرية على مدار الخطّ. فالكريه المقيت يتجاور لديه مع الخسيس السافل. والمقزّز المقرف يحتكّ عنده بالنتن المعفّن.."

برافو! هذا ناقد محترم لا يجود به الزمان إلا قليلا..

قد يقول قائل: ولكن من سمع باسم غوستاف بوردان هذا؟ لقد رماه الزمن في مزبلة التاريخ. ولولا أنه هاجم بودلير بمثل هذه القذاعة لما ذكره أحد. صحيح. ولكن المشكلة هي أن أمثاله كثيرون في كل العصور وليس فقط عند الفرنسيين…عندنا نحن العرب العشرات من أشكاله وهم يملئون الجرائد في اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور. وهم الذين يسيطرون على الساحة الثقافية عادة.. ينبغي العلم بأنّ حفنة من الناس كانوا يعرفون من هو بودلير في وقته. فالأغلبية رفضته رفضا قاطعا واحتقرته ولم تعرف قيمته إلا بعد موته كما يحصل أحيانا للطليعيين الكبار الذين يجيئون قبل الأوان. لهذا السبب اعتبر بودلير أوّل الشعراء الملاعين: أي المنبوذين من قبل عصرهم ومجتمعهم. ثم لحقه مباشرة فيرلين ورامبو ومالارميه الذين صنفوا في نفس الخانة ثم كان المجد والخلود لهم.

الآن يفتخر بهم الفرنسيون، ولكن في عصرهم من كان يعرف من هم حقيقة؟ لا أحد.

إذا كان بودلير يعاني معاناة قاتلة في الداخل، وإذا كان قد أشرف على الجنون أو حاول الانتحار أكثر من مرّة، فهذا شيء واضح ومعروف للقاصي والداني. ويكفي أن ننظر إلى وجهه المحتقن في الصور ونظراته السوداوية المرعبة لكي نتأكّد من ذلك. راقبوا جيّدا ذلك الوجه الممتقع والسموم الرائعة! إنها ليست دليلا على الشرّ أبدا، وإنما هي دليل على عمق إنسانيته وصراعه الضاري مع الشيطان والهيجانات الداخلية. والقصيدة ليست إلا انتصارا مؤقتا في ختام المعركة. ولكن هذا الانتصار المؤقت تحول إلى انتصار دائم بدليل خلود شعره. كل هذه المعاناة الجنونية لم تمنعه من أن يكون المدشّن الأكبر للحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية. على العكس، لولاها لما كان بإمكانه إطلاقا أن يصبح ذلك الشاعر الكبير والكاتب الضخم الذي نعرفه. لكل شيء ثمن وثمن الإبداع غال وأحيانا أكثر من غال..ومعروف حجم الثمن الذي دفعه بروميثيوس عندما تحدى الآلهة وسرق النار منها..الإبداع هو بشكل من الأشكال اعتداء: اعتداء على الزمن والناس وأكاد أقول هو تطاول على القدرة الإلهية!…الله وحده هو المبدع الخلاق فكيف يمكن للشاعر أن ينافسه ويبدع هو الآخر بدوره؟ تحضرني بهذا الصدد أبيات رائعة لبدوي الجبل يقارن فيها بكل جرأة بين إبداع الخالق وإبداع الشعراء:

نشارك الله-جل الله-قدرتــــــــه ولا نضيق بها خلقا واتقانــــــا وأين إنسانه المصنوع من حمأ ممن خلقناه أطيابا وألحانـــــــا ولو جلى حسنه إنسان قدرتــنا لودّ جبريل لو صغــــناه إنسانا

ثم يتحدث عن موقف الله من الأنبياء والشعراء وسوف نجد أنّ المقارنة لن تكون لصالح الأنبياء!

ناجى على الطور موسى والندام لنا فكيف أغفل موسى حين ناجانا

إن آنس النار بالوادي فقد شــــهدت عيني من اللهب القدسي نيرانا

ثم يقارن بين خلود الله نفسه وخلود الشعراء وسوف نجد أنّه يتردّد في حسم الخيار! حتى المتنبي في اندفاعاته الجنونية الهائلة لم يتجرّأ على ذلك:

يفنى الجميع ويبقى الله منفردا فلا أنيس لنـــــــــور الله لولانا لنا كلينا بقاء لا نفاد لــــــــــه وسوف يشكو الخلود المر أبقانا

من سيبقى في نهاية المطاف بعد فناء الكون: الله أم الشعراء؟ الفنان الأعظم أم الفنانون العباقرة؟ من يخلق من؟ أستغفر الله!

أعود إلى بودلير وهو أيضا خلاق كبير وأقول: الإبداع هو بمعنى من المعاني"اغتصاب" ضمن منظور بودلير، ولذلك لا يتجرّأ عليه إلا المتهورون المغامرون المقتحمون..الإبداع هو أن ترمي بنفسك في فوهة المجهول دون أن تحسب حسابا للعواقب. الإبداع هو أن تتكئ على نفسك كما قالوا عن أبي تمام: هذا الشاعر يتكئ على نفسه أكثر من اللزوم..هم يريدونه أن يتكئ على غيره ويكرر نفس الكلام المفهوم أي المجترّ المكرور منذ مئات السنين..ذلك أن الشيء الطبيعي والعقلاني هو أن تقلد الآخرين ممن سبقوك وألا تفاجئ الناس بأشياء جديدة أو شاذة غريبة تخرج عن حدود المألوف أو المعقول. وإلا فانك سوف تصدم الذائقة المحيطة، السائدة، الراسخة في العقلية الجماعية. وعندئذ لن يرضى عنك ناقد الفيغارو وسوف يصب عليك جام غضبه كما فعل مع بودلير. لهذا السبب لم يفهم هذا الأحمق الصغير المدعوّ باسم غوستاف بوردان معنى ديوان عبقري كأزهار الشر..لقد مرّ عليه مرور الكرام دون أن يدرك أنه سيصبح يوما ما مفخرة الآداب الفرنسية..هنا توجد مشكلة مع "العقلانية" المحيطة أو بالأحرى الامتثالية السائدة التي لا يمكن انتهاكها إلا عن طريق جرعة كبيرة من الجنون. وهذا ما فعله شارل بودلير أو أبو تمام أو بدوي الجبل وكلّ الخلاقين الكبار..

كان بودلير يقول مستعيراً إحدى العبارات الشهيرة لصديقه الرسام الكبير دولاكروا: إن الطبيعة هي القاموس، والفنان هو مترجمها أو المعبِّر عنها. فالفنان هو الذي يكتشف التشابه الكوني المتناثر في أنحاء الطبيعة. إنه وحده الذي يستطيع أن يقرأ كتاب الطبيعة ويرى علاقات القرابة بين الأشياء، هذه العلاقات التي لا ترى بالعين المجردة. وعن هذه المقاربات والعلاقات تنتج المجازات الشعرية الكبرى التي تدهشنا وتصعقنا وتجعل حياتنا أكثر اتساعاً. مهمة الفن أن يسهّل علينا الحياة، أن يجعلها مقبولة شيئا ما، أن يخفف من وطأتها..فالفنان هو ذلك الشخص الذي يجد تشابهاً أو اتحاداً حميمياً وانصهارياً بين مختلف مظاهر الطبيعة الخلابة: من ألوان، وأصوات، وروائح، وعطور… ولأنه يرى أشياء لا نستطيع أن نراها نحن الناس العاديين، فإننا نشعر بالبهجة والسعادة عندما نقرأ قصيدة حقيقية، أو نتأمل لوحة عبقرية..

إنّ تحديد وظيفة الفنان على هذا النحو تنفي مجانية الفنّ، وتفسّر لنا سبب إدانة بودلير لتلك المدرسة الشهيرة باسم: الفنّ للفنّ. فقد قال عنها بأنها طوباوية سخيفة أو صبيانية. ذلك أنّ الوحدة العضوية أو نظرية التشابهات الكونية تشمل الإنسان ومصيره وليس فقط مظاهر الطبيعة. وينتج عن ذلك أنّ الفنّ يولد دلالات إنسانية بالضرورة. فالطبيعة لا معنى لها إذا لم يخترقها حسّ الإنسان، إذا لم تنعكس عليها عواطفه ومشاعره، همومه وأحزانه. ولذلك انتقد بودلير الرسامين الذين يرسمون لك منظراً طبيعياً حيادياً بارداً. صحيح أنه جميل جدا ولكنه خال من المشاعر الإنسانية. وقال إنهم لا يعرفون كيف يترجمون قاموس الطبيعة أو يعبّرون عنه. ولذلك فعندما يتحدّث بودلير عن الطبيعة فإنّه يقصد الطبيعة المُؤَنْسَنَة: أي التي خلع عليها الإنسان أحاسيسه الدفينة. يقول مثلاً:

ما أجملك يا سماء الخريف الزرقاء، الواضحة والوردية! البحر، البحر الشاسع الواسع، يمتصّ همومنا ومتاعبنا…

مهمّة البحر الأولى ليست السباحة، وإنما أن أذهب إليه لكي أصبّ فيه أحشائي وأعماقي.. بمجرّد أن أراه من على سطح الكورنيش العالي في مدينة نيس والشاطئ اللازوردي تنفرج أسارير نفسي.. ولكن هل يستطيع البحر، كلّ البحر، أن يمتصّ لواعجي وهمومي؟

هذا ما يريد أن يقوله شارل بودلير. على هذا النحو يفهم البحر أو يترجمه. ولهذا السبب كان يغادر باريس ويقصده من حين إلى آخر لكي يملأ عينيه به، لكي يشبع منه.. البحر إسفنجة مهمّتها امتصاص آلام الشاعر ، هذا إذا استطاعت!…كان يذهب عند أمّه في مدينة "هونفلير" الجميلة من أجل ذلك، ثم لكي يهرب من صخب باريس قليلا ويعيش على حسابها بعض الوقت ويسحب منها بعض الفلوس أيضا!

ولكن المقطع الأكثر تعبيراً عن علاقته بالطبيعة يتمثل في الأبيات القليلة التالية. يقول من قصيدة بعنوان: نافورة الماء:

سماء مقمرة، ماء مسقسق، ليلة مباركة أشجار ترتعش من حولنا دائر ما اندار.. ما حزنكِ العميق الصافي إلا مرآة لحبّي..

كنت أتمنّى لو استطيع أن انقل الأبيات إلى العربية بنفس القوة والروعة التي تمتلكها بالفرنسية. مستحيل! ولكني فعلت ما أستطيع كيلا تبدو الترجمة مشوّهة كثيرا في لغة الضاد.. جريمة!

لإدخال القارئ العربي إلى جوّها سوف أتوسّع في شرحها قليلاً. لنتخيّل أننا في ليلة صيفية، وقت العشية، حيث القمر مكتمل في السماء، وحيث نافورة المياه تسقسق في الخارج بصوتها المتقطع الذي يرطّب الأجواء وحيث الحبّ في أوله أو في آخره لست أدري..حيث الحبيبة بعيدة أو قريبة لا أدري أيضا..غائبة أو حاضرة والأرجح أنها غائبة..الشعر لا يزدهر إلا بالغياب.. من هنا جوّ النوستالجيا والحنين الذي يخيم على القصيدة..قصص الحبّ الناجحة لم تولد أدبا قويا.. وحده الحبّ المستحيل، الفجائعي، المحروم، المدمّر، الفتاك، يولد القصائد العبقرية..انظروا إلى ابن زيدون، مجنون ليلى، جميل بثينة.. ولنتخيّل أنّ المكان محاط بالأشجار والأزهار والأعشاب، وفي المنتصف تقع نافورة المياه. ولنتخيل الشاعر وهو يستمع لسقسقة المياه وحفيف الأشجار وهبّة نسيم خفيفة في تلك الليلة الصيفية. ألن ينعكس كل هذا المشهد على نفسيته فيثير فيه الذكرى، ذكرى الحنين إلى حبّ مضى وانقضى؟ حبّ مضى ولن يعود..من المستحيل ألا يثير هذا الديكور الصيفي عواطف الحبّ والحنين السوداوي العميق المتجذّر في أعماق الشاعر. هذه هي الطبيعة بالنسبة لبودلير: إنها طبيعة إنسانية أو مجبولة بأعمق مشاعر الإنسان المجروح من الداخل. باختصار: الطبيعة ليست حيادية، إنها بيضاء أو سوداء، حزينة أو فرحة، باكية أو ضاحكة مثلها في ذلك مثل الإنسان… وحالتنا النفسية هي التي تنعكس عليها وتلونها بألوانها…كما أنها تنعكس هي علينا أيضا وتلون نفسياتنا بألوانها. فالطقس الغائم والممطر غير السماء الصاحية والشمس المشرقة…

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما

ينبغي العلم بأنّ قدر الإنسان ومصيره كانا دائماً في مركز تفكير بودلير. ولكن ليس الإنسان بشكل عامّ أو التجريدي، وإنما إنسان عصره، الإنسان الحديث. فبودلير هو الشاعر الذي دشّن الحداثة، ينبغي ألا ننسى ذلك. أو قل إنّه جاء في وقت صعود العصر الصناعي والتكنولوجي في الغرب منتصف القرن التاسع عشر. فكان لا بدّ أن ينعكس ذلك على شعره. كان لا بدّ أن يرافق الحركة الانقلابية العامّة للعصور الحديثة. وإذا لم يكن هو الذي اشتقّ كلمة الحداثة Modernité لأوّل مرّة، فإنّه كان بالتأكيد أوّل من بلورها ونظَّر لها نقدياً. هذا شيء معترف به الآن من قبل الجميع. وقد نظَّر لها أوّلاً في ساحة الرسم أو الفنّ التشكيلي عندما عاب على رسّامي عصره أنّهم لا يهتمّون بوصف بطولية الحياة الحديثة. ولكنّ حداثة بودلير (أو الحداثة التي كان يحبّها) ليست حداثة التقدّم الصناعي. فهو لم يتغنّ على عكس الشعراء الآخرين بالآلة البخارية، أو البَكَرات، أو القاطرات. لا، ليست هذه هي الحداثة التي يدعو إليها بودلير. فهو من هذه الناحية كان رجعيا على عكس فيكتور هيغو. ولكنّ المشكلة هي أن الشعر الرجعيّ أكثر قوّة من الشعر التقدمي! أو قل إنه بالنسبة للشعر لا يوجد شيء اسمه رجعي أو تقدمي. الشعر يتعالى على هذه المواصفات الضيقة. سلفادور دالي كان يصفّق بكل حماقة للفاشية ويعبر عن إعجابه بأدولف هتلر ولذلك طرده بريتون والسرياليون من صفوفهم. ولكنهم تأسفوا لاحقا وتحسّروا لأنهم يعرفون أن لوحاته عبقرية ..

إذن ليست الحداثة الصناعية أو التكنولوجية هي المهمة بالنسبة لبودلير. وإنما هي تلك التي تحدث عنها في مقالته الشهيرة: رسام الحياة الحديثة. يقول بما معناه: الحداثة مشكّلة من عنصرين: عنصر ما هو عابر، أو زائل، أو شارد. وهذا ما يشكّل نصف الفنّ. أمّا نصفه الآخر فيشكّله العنصر الأبديّ والخالد. والحداثة لا تنحصر فقط في اختيار موضوعات حديثة والتحدّث عنها في الأدب شعراً ونثراً. وإنّما الشيء المهمّ في الحداثة هو أن نعبّر عن روح الحاضر، عن روح الزمن الذي نعيش فيه. وهذا الحاضر كان بالنسبة لبودلير هو الرومانطيقية بالمعنى الواسع والعميق للكلمة. لكن ما هي الرومانطيقية بالنسبة لبودلير؟ لنستمع إليه: من يقول بالرومانطيقية فكأنه يقول بالفن الحديث. ونقصد بذلك التعبير عن الحياة الداخلية الحميمية، والروحانية، والحلم بالآفاق اللانهائية…

بهذا المعنى لا يوجد أيّ فنّ ولا حتى فيلم سينما رائع إلا إذا كانت فيه نفحة رومانطيقية. الرومانطيقية هي جوهر الفنّ بل وحتى جوهر الحياة والوجود. كلّنا رومانطيقيون بشكل أو بآخر. هل يمكن أن نتخيل إنسانا له معنى بدون أيّ لحظة رومانطيقية، شاعرية؟ إنه وحش عندئذ أو تكنوقراط سخيف لا يستحق أن يبصق عليه.. هكذا نجد أنّ تعريفه للرومانطيقية يختلف عن التعريف الشائع الذي ينحصر بالنواح والبكاء، والنظرات والعبرات، الخ.. وهو يضع على رأس الحركة الرومانطيقية الرسام "دولاكروا" ويستثني منها فيكتور هيغو. وهذا الاستثناء يدهشنا حقاً. ولكنه يبرّره قائلاً بأنّ فيكتور هيغو كان أكاديمياً قبل أن يُخْلق! صحيح أنّه فنّان ممتاز، ولكن تنقصه لكي يكون رومانطيقياً حقيقياً سذاجة العبقرية. إنه عقلاني أكثر من اللزوم في شعره. إنه كلاسيكي. هذا يعني أنّ فيكتور هيغو ليس شاعراً حديثاً على الرغم من أهميته. وذلك لأنه يظل مشدوداً إلى الماضي أكثر مما هو منفتح على آفاق المستقبل. لهذا السبب يعتبر بودلير أوّل شعراء الحداثة وليس فيكتور هيغو. نقول ذلك رغم عظمة فيكتور هيغو على أصعدة أخرى عديدة..ضمن هذا المعنى نفهم أيضا عبارة اندريه جيد عندما سأله أحدهم: من هو أعظم شاعر فرنسي؟ فأجاب: فيكتور هيغو، للأسف الشديد!
عن الاوان



#هاشم_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام في مرآة الغرب
- اليمين المتطرّف والأقلّيات
- هنري غوهييه مؤرخاً للفلسفة أو الفلسفة بين العلم والدين
- في ظلال هولدرلين، في ظلال الشعر...
- غادة السمان عاشقة في حضن الغياب.. إلى غائبة والشمس مكسوفة..
- الأقلّيات والمواطنة في العالم العربيّ (11)
- الأقلّيات والمواطنة في العالم العربيّ (7)
- لوتريامون.. الحداثة الشعرية والعطش الهائل للتدمير
- عذاب بودلير
- تورغنييف: ثالث عمالقة الأدب الروسي
- فولتير .. زعيم الأنوار الأوروبية
- هل يفكر العرب يا ترى؟
- محاكم التفتيش العربية
- الأصولية الظلامية والمعركة التي لا بد منها
- جمال البنا.. يبن الإصلاح الديني والتنوير
- 11سبتمبر: الدروس والعبر
- باحث فرنسي لأميركا: حذار من إذلال العرب أكثر مما ينبغي
- المثقفون الفرنسيون والأزمة العراقية .. المغامرة الأميركية ال ...
- كيف انحرفت الحداثة عن مسارها الحقيقي وتحولت إلى عكسها؟
- كتاب يتحدث بصوتين.. من مانهاتن إلى بغداد أركون في كتابه الجد ...


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هاشم صالح - بودلير : شاعر الحداثة والهيجانات الداخلية