باهي صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3132 - 2010 / 9 / 22 - 22:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نصل في الأخير إلى توصيف المسارات المضادّة لقيمتي الأداء و الإبداع التي صنعها و كرّسها دين الإسلام عبر تاريخه داخل الذّهنية العربيّة الإسلاميّة عموما، الشّيء الذي انعكس مباشرة على أداء المجتمعات المسلمة و مستوى إبداعها و عطاءها الحضاري مقارنة بباقي شعوب و أمم الأرض...
تعرّضنا في المقالات السّابقة إلى بعض أنماط و قوالب تلك المسارات الجاهزة التي شكّلها و قولبها التّفكير الدّيني في العقيدة الإسلاميّة من خلال كلّياته و جزئياته التي تحارب و تعادي آليا مكوّنات تخصّ الإنسان و تتركّب عليها حضارته، و أعني بها الفنون بمختلف أشكالها و تخصّصاتها كفنّ الرّسم و النّحت و الموسيقى...إلخ، فإلى جانب أنها ميزات فطرية متأصّلة داخل الكائن البشري يستخدمها و يحتاجها بفطرته و طبيعته الصّرفة للتّعبير و التّواصل و التّمايز الثّقافي إزاء الطّبيعة و بينه و بين بني جنسه، فإنّه في الوقت نفسه يحتاجها كَلَبِنات أو كدعائم أساسيّة لبناء أو لإطلاق مشروعه الحضاري المفترض..
لا زلت أذكر كيف كان والدي رحمه اللّه يرجوني أن آخذ الدّمى الّذين اشتريتهم لإبنتي الصّغيرة لتتسلّى و تلعب بهم و أحرقهم لأنّ الملائكة لا يمكن أن تدخل بيتي و في داخله تلك المجموعة من الدّمى...! فكنت أردّ عليه مازحا و أنا أضحك: أفعل بشرط أن تدفع لي ثمنهم جميعا...! و كان يردّ واثقا متحمّسا: و اللّه أدفع لك ثمنهم...فقط أرجوك أو تأخذهم و تحرقهم...و كان يحرص كلّما زارني في بيتي على ترديد طلبه و يدعو لي بالهداية و كنت أتجاوز إلحاحه باللّين و المزاح و الضّحك...!
رجل آخر أعرفه كان يسير رفقة حفيده في السّوق و هو طفل لا يتجاوز أربع سنوات، وقف الطّفل أمام محلّ لبيع لعب الأطفال و راح يبكي و يرجوا جدّه أن يشتري له دمية على هيئة دبّ صغير، فانصاع الجدّ رغم محاولاته لثني حفيده عن طلبه...و طول الطّريق ظلّ الطّفل يحتضن دبّه و ينظر إليه بسعادة غامرة، و ظلّ الجدّ يلتفت إليه بين الحين و الآخر و قد بان عليه الانزعاج و التوتّر، و عندما وصل إلى البيت انتزع الجدّ الدّمية من بين يدي حفيده و رماها بعيدا متجاهلا صدمة الطّفل و بكائه الشّديد و عندما حاول الصّغير اللّحاق بدميته أمسكه الجدّ من يده و صفعه على وجهه و هو يجرّه جرّا إلى داخل البيت و يزمجر غاضبا: أدخل...أدخل...أتريد أن تُدخل شيطانا إلى البيت...؟!
من جهة أخرى فإنّ الحرّية و الجَمال و البعد الإنساني و هي قيم إنسانية عليا مسخها الفكر الدّيني الإسلامي و شكّل تيّارا فكريّا و نمطيّا مضادا لها، لا بل صنع جبهة كهنوتية نمطيّة لمحاربتها و معاداتها عبر رصيده العَقدي و مسيرته التّاريخه...!
هو ميكانيزم أو سيستم مركّب منذ الولادة في عقل المسلم و يعمل بصفة آلية و تلقائية ضدّ أن تكون حرّا و ضدّ أن تبدع و ضدّ أن تكون جميلا و ضدّ أن تكون مُحبّا للجمال أو قادرا على رؤيته...ميكانيزم يجعل المسلم يتنكّر لفطرته ويسعى إلى تضييق و خنق فضاء التعّبير و التّواصل عنده، ببغضه و عدائه للفنون و وسائل التّعبير المختلفة الّتي وهبها الله له و مكّنه منها...!
الملائكة لا تدخل بيتا به دمية، و الموسيقى مزمار الشيطان...فكيف بالله عليكم من تربىّ و تبرمج على هذه المفاهيم منذ ولادته أن يبدع لوحة مثل ليوناردو دافنشي أو يؤلّف معزوفة موسيقيّة مثل بيتهوفن أن يستخدم فنون التّصوير و الرّسم و التّجسيم في إبداعاته أو إنجازاته...و هل تقوم الإبداعات و الإنجازات البشريّة إلاّ على هذه الأشياء...؟!
و بما أنّ الأداء بمفهومه الشّامل يحتاج إلى قيم عليا مثل الحرّية و الجمال و إلى جملة الفنون و كلّ إبداعات الإنسان الّتي فُطر و خُلق عليها، فإنّه يحتاج أيضا إلى العلم و المعرفة من أجل البقاء و و الارتقاء في سلّم الحضارة...و تطرّقنا في مقالات سابقة إلى الآليات الّتي يعتمد عليها الفكر الدّيني في عرقلة و تثبيط أداء المسلم و الهبوط به إلى أدنى مستوياته بسيستم أو ميكانيزم يعادي و يحارب أوتوماتيكيا كلّ تلك القيم و المعاني...!
فعلى ماذا سيُبنى الأداء إذًا ما دام ديننا يعادي و يحارب المعرفة و المعاني السّامية و الفنون الجميلة...؟!
على ماذا ستقوم نهضة الشّعوب الإسلاميّة المفترضة إذا...؟!
بماذا سيشاركون باقي الحضارات الإنسانيّة و على ماذا ستُقام حضارتهم في امتثالهم لدينهم في محاربة تلك القيم و المعاني...؟!
إذا أداء المجتمعات الإسلاميّة الّذي هو في الحضيض بكلّ المقاييس يعود أساسا إلى ميكانزم يعمل تلقائيّا و ذاتيّا و لا يحتاج إلى تدخّل داخلي أو خارجي مركّب في تفكير المسلم و متأصّل عبر الزّمن في شخصيته و ثقافته أنشأته و شكّلنه التّعاليم الدّينيّة الّتي ورثها من أسرته و مجتمعه أو الّتي تلقّاها من المناهج التّعليميّة في بلده...
إنّ المقصود بالعِلم في الإسلام هو عِلم الشّريعة دون سواه من العلوم الدنيويّة الأخرى الّتي هي في نظر الدّين أو الشّرع إمّا غير مهمّة أو أنّها لا تعدو كونها مضيعة لوقت المسلم الثّمين الّذي ينبغي عليه قضاءه في الذّكر و الصّلاة و التفقّه و في تدبّر القرآن و السّنة النّبويّة...!
إنّ العِلم المطلوب و المرغوب و الموصى به في الإسلام هو عِلم الشّريعة دون سواها...
تحوي التّركيبة العَقديّة و الفكريّة للإسلام آلية أو جهاز ذاتي العمل و مصمّم لأداء عدّة مهامّ من أهمّها/
أوّلا مهمّة معاداة العِلم لا بل محاربته و محاربة أصحابه و طلاّبه باستثناء علوم القرآن و السنّة و سيرة النبيّ و الصّحابة و الأئمّة المعصومين و الصّالحين و الغيب كما قلنا، و اللّه حين يقول"إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء" إنّما يقصد شيوخ و علماء الدّين و ليس علماء الفلسفة أو الفيزياء أو الرّياضيّات أو الكيمياء أو غيرها فكلّ هذه العلوم مستثناة كما قلنا لأنّها مضيعة للوقت أو أنّها كفر أو تجديف على اللّه و رسوله تُؤدّي بطالبها و السّاعي إليها إلى النّار و بئس المصير....!
لطالما زعم المسلمون وتبجّحوا بكونهم أمّة إقرأ و لا طالما ردّدوا و روّجوا في محافلهم و خطبهم و ندواتهم و نقاشاتهم للحديثين الشّهيرين "اطلبوا العلم من المهد الى اللحد و اطلبوا العلم ولو في الصين" مع أنّهما (الحديثين) لا علاقة لهما بالأحاديث النبويّة إطلاقا و رغم أنّ الأمر أو الدعوة لترديد الكلمات أو الجمل مشافهة لا يمتّ للعِلم و لا لمسألة الحضّ عليه من قريب أو بعيد..فالعِلم إنّما قام على الكتابة و ليس على المشافهة...!
ثانيا مهمّة قتل إرادة المسلمين في صنع نهضتهم و الارتقاء بحضارتهم وأمجادهم كما فعلت وتفعل باقي الأمم و الشّعوب عبر كما قلنا محاربة مكوّنات ومعان و آليات إنسانيّة صرفة أهمها الحب و الإبداع و الحرية و الجمال و البعد الإنساني...والنّتيجة كائن بشريّ معقّد سلبي ارتكاسي كسول يسمّى المسلم يعادي و يحارب قولا و فعلا الأداء و الإبداع و يُقسّم العالم في ذهنه إلى دارين دار الكفر و دار الإسلام مع كلّ ما يترتّب عن هذه العقيدة من آثار مدمّرة على نظرته للآخر و على طبيعة علاقاته مع ذلك الآخر الضّال و الكافر و الملحد و الخارج عن الملّة و المسيحي و اليهودي...إلخ
آن الأوان (حسب رأيي) لكي نوقف عمل ذلك السيستم التّخريبي الأوتوماتيكي و نحرّر عقولنا و فطرتنا من سطوته لكي نعمل و ننتج و نبدع و نرتفع بأدائنا و لكي نحبّ ونرى الجمال و الألوان و نتواصل مع الآخر على أساس الإنسانيّة و وحدة المصير لا على أساس كافر و مسلم و من ثمّ إطلاق نهضتنا التّنمويّة و البشريّة و وضع الحجر الأساس لحضارة "إسلاميّة" تنافس و تناطح باقي الحضارات...ولكن كيف...؟!
بأن يتحلّى الصّادقون من هذه الأمّة بالشّجاعة الأدبيّة و الفكريّة و ينبري عدد من مختصّيها و مفكّريها و علماءها للتّراث الدّيني ليغربلوه و ينقّحوه و يحدّثوه فيُسقطوا و يُلغوا كلّ الأحاديث المنسوبة إلى النبيّ الّتي تتعارض أو الّتي لا تتوافق مع العقل أو مع المنطق أو مع العصر، و يختاروا الآيات القرآنيّة الّتي تدعو لإكرام الجار و برّ الوالدين و الّتي تحضّ على المحبّة و الرّفق و الإحسان و مكارم الأخلاق...إلخ و لا أقول يحذفوا أو يلغوا بقيّة الآيات الّتي تدعو للقتل و السّبي أو لقتال الكفّار و اليهود و الملحدين و غيرهم لأنّه كلام اللّه الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، بل يضعوها (الآيات القرآنيّة) في محلّها من زمان أهلها و لا يخرجوها عن سياقها التّاريخي المناسباتي والظّرفي الخاصّ بها...و ينأون عن إسقاطها على زماننا و ظروف عيشنا المعاصر على أساس أنّ زماننا غير زمانهم و الظّروف و الملابسات الرّاهنة غير ظروفهم و غير ملابساتهم...أي لا يفصلون آيات القرآن عن زمانه و أسباب نزوله...!
فالسّبي و استخدام العبيد و الإماء مثلا كانت ظواهر عادية في عصر النّبي و الصّحابة و كان ينزل بشأنها قرآنا و يصدر من أجلها الرّسول سننا قوليّة و فعليّة و تقريريّة، أمّا في عصرنا فقد اختفت تقريبا مثل هذه الظّواهر و لم يعد لها وجود و أصبح مجرّد طرحها أو التعرّض لها حتّى في سياق مناقشتها تاريخيّا أو معرفيّا يبعث على الاشمئزاز و التقزّز و يثير في النّفس استهجانا و استنكارا لما تمثّله من تعارض صريح مع مبادئ حقوق الإنسان و ما تُلحقه من أذى للحسّ الإنساني عموما...!
فهل يصحّ مثلا أن نطبّق هذه الآية على سكّان عصرنا " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا" الآية 3 سورة النّساء.
الّتي معنى "ملكت أيمانكم فيها": إماؤكم، وهنّ الرّقيقات المملوكات للرّجل المسلم اللاّئي اشتراهنّ من السّوق أو اللاّئي سباهنّ أو غنمهنّ من غزواته و حروبه الجهاديّة مع الكفّار أو الملحدين أو المخالفين أو غيرهم، فيجوز له التمتّع بهن أي وطأهن أو ممارسة الجنس معهنّ دون عقد ولا مهر ولا شهود ولا وليّ...هكذا بلط...بلط....!!
المسلمون يزعمون أنّ القرآن صالح لكلّ زمان و مكان، فهل الآية المذكورة مثلا يمكن تسويق مفهومها على مسلمي و ناس هذا الزّمن...؟!
أين السّبايا و أين الإماء و أين أسواق العبيد و النّخاسة في عالمنا...؟!
هل في ثورة الجزائر مثلا و الّتي كانت جهادا ضدّ كفّار و محتلّين أو في أيّ حرب عصريّة باستثناء طبعا بعض الجماعات الإسلاميّة المسلّحة، هل كان المجاهدون أثناء الثّورة الجزائريّة يطبّقون الآية الكريمة الثّالثة من سورة النّساء في سبي نساء الفرنسيين و تقسيمهنّ كغنائم بينهم ليتمّ وطأهنّ و الاستمتاع بهنّ لمن خاف أن لا يقسط في اليتامى أو لا يعدل بين حرائره من النّساء...!؟
هل نُقسّم في عصرنا النّساء إلى حرائر و إماء...؟!
هذا المثال ينطبق في اعتقادي على الكثير من المفاهيم و القوالب الّتي لم تعد تتوافق أو تتجانس إلاّ مع السّياق التّاريخي الّتي جاءت معه و لم تعد تناسب إلاّ أناسا عاشوا قبلنا و اتّسعت الهوّة الحضاريّة بيننا و بينهم بأكثر من ألف و أربعمائة سنة....!
ترتبط آيات القرآن كلّها بزمانها و أسباب نزولها و لا يمكن فصلها عن هذا السّياق أو محاولة انتزاعها من ظروفها المكانيّة و الزّمانيّة و تركيبها تعسّفيا على الوقت الحاضر، الشّيء نفسه مع سنّة النبيّ الّتي يفعلها أو يقرّرها أو يقولها فكلّها مرتبطة بدورها بالحياة الّتي كان يحياها ساعة بساعة و يوما بيوم ضمن ظروف و إرهاصات إجتماعيّة معيّنة و مختلفة عمّا نعيشه في أيّامنا...!
هذا ينسحب أيضا على المسارات المضادّة لقيمتي الأداء و الإبداع الّتي كرّسها المفهوم الدّيني في عقل المسلم و كذلك على الميكانزمات الّتي شكّلها من خلال كلّياته و جزئياته لمحاربة و معاداة قيم إنسانية عليا (الحرّية و الجَمال و البعد الإنساني....) بالإضافة إلى مكوّنات تخصّ الإنسان و تتركّب عليها حضارته نسمّيها الإبداعات أو الفنون بمختلف أشكالها و تخصّصاتها كفنّ الرّسم و النّحت و الموسيقى...إلخ
فهل الحديث النّبوي الّذي يقول"لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب و لا صورة"، هل لا زال يصلح لزماننا و نحن نعلم الدّور الّذي تلعبه الصّورة بصفة عامّة في حضارة بني البشر اليوم...!
إنّ حديثا مثل هذا يهدم كلّ نزعة أو ميل طبيعي في تفكير المسلم للتّصوير و تقتل في داخله أيّ رغبة في صنع أو إبداع أيّ صورة كانت، فضلا عن اقتنائها و إدخالها إلى بيته...و هذا يؤدّي بالضّرورة إلى تثبيط إيّ إرادة طبيعيّة لإطلاق المشروع الحضاري المفترض على أساس أنّ الصّورة لا يمكن فصلها أو استغناء عنها في بناء أيّ حضارة بشريّة...!
#باهي_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟