باهي صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3075 - 2010 / 7 / 26 - 22:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ البداية عمل الإسلام بشكل لا لُبس و لا غموض فيه على التّركيز على العلم الشّرعي اللاّهوتي مهملا في الوقت نفسه عددا مهمّا و أساسيّا من العلوم التّجريبيّة و الإنسانيّة الأخرى الّتي هي عماد و قوام الحضارة الإنسانيّة منذ فجر التّاريخ، إمّا بالتّشكيك و الاستخفاف أو بالتّحريم و الدّعوة صراحة إلى التّرك اعتمادا على سلاحي التّرهيب و الوعيد من العذاب و الغضب الإلهي، مثل ما حدث مع الفلسفة و الكيمياء و الفلك و الشّعر و فنّ الرّسم و النّحت...الخ، و الأخطر أنّ المسلم داخل بيئته الإسلاميّة تربّى و تبرمج دون إرادته أو أخذ رأيه منذ نعومة أظافره على كره العلم و العلماء (إلاّ علوم و علماء الدّين...!)و تشكّل وعيه و أعماق عقله الباطن على رفض المعرفة و جعل التعلّم أو طلب العلم في غير الكتاب و السنّة و فروع الفقه المختلفة عادة قبيحة مذمومة تضيّع وقت المسلم الثّمين و تُلهيه عن ذكر الله و بالتّالي فهي تؤدّي به لزوما إلى الكفر أو التّجديف على اللّه و رسوله...و مع مرور الأزمان حرص المشايخ قديما و حديثا و استماتوا في تعزيز الميراث الدّيني و تشكيل بنائه و ملامحه الّتي أصبح عليها اليوم فبلّغوا بالوكالة عن صاحب الرّسالة متطلّبات الإيمان و أسس العقيدة إلى المؤمنين و واظبوا على تفسير رغبات وأهداف الله بالتّحالف المعلن و غير المعلن مع الحكّام و أصحاب النّفوذ تدفعهم و تزيّن لهم أعمالهم دوافع المصلحة و حبّ السّيطرة على النّاس و تعينهم عليهم (أي الأتباع) التّركيبة السّحريّة لقال الله قال الرّسول ويربطون أقوال و تصرّفات أولئك الأتباع بعقيدة الحلال و الحرام الّتي تؤثّرمباشرة على مزاج الله و مشاعره المتأرجحة و المتذبذبة بين الرّضى و الغضب...!
إلى أن تغلغل بخبث و تأصّل فكر عدائي و إقصائي جماعيّ في أعماق الشّخصيّة الإسلاميّة ضدّ المعرفة و طلبها و استولى على الثّقافة الجمعيّة للمجتمع المسلم ميكانيزم يظلّ يعمل بخفاء أكثر من كونه ظاهرا و بصفة آلية و مستمرّة على محاربة كلّ فكر حرّ و كلّ نزعة إبداعيّة ركّبها أو خلقها (اللّه..!) في أيّ كائن بشري سويّ و يعترض في اللّحظة ذاتها و بطريقة أوتوماتيكيّة أيضا أيّ رغبة أو ميل للتّفكير المعرفي أو العلمي إن برز أو طفا على سطح الوعي أوالإدراك لدى الإنسان المسلم...!
في كتاب مجموع الفتاوي يقول ابن تيمية عن الكيمياء و هو أحد كبار شيوخ الإسلام الأوائل:" وحقيقة الكيمياء إنّما هي تشبيه المخلوق وهو باطل في العقل... وكل ما انتجته الكيمياء من منتجات هي مضاهاة لخلق الله وبالتاّلي هي محرّمة"...!
ويصل الى استنتاج مُستخرج بطبيعة الحال من ذكاءه و زبدة الكتاب و السنّة مفاده أنّ ذلك أي علم الكيمياء "كلّه محرّم في الشّرع بلا نزاع بين علماء المسلمين"...!
فما رأي شيخ الإسلام اليوم و نحن نشهد و نعيش أكبر ثورة بدأت و لن تنتهي في منتجات الكيمياء في مجالات مختلفة و على رأسها الطّب و الغذاء و كلّ ما يحتاجه الإنسان و الحيوان لحياتهما...هل كلّ هذه المنتجات الكيميائيّة محرّمة لأنّها مضاهاة لخلق اللّه حسب نتيجة الشّيخ العجائبيّة الفذّة...؟!!
وماذا سيقول ابن تيمية لو أخذته آلة الزّمن و انتقل إلى عصرنا و عرف أنّ العِلم أصبح قادرا على استنساخ الكائنات الحيّة بما فيهم الكائن البشري...هذا اليوم فما بالك بعد مائة سنة فقط...؟!
أمّا الفلسفة فقد صرّح جمهور الفقهاء قبل ألف سنة و اليوم بتحريم و منع تعلّمها امتثالا و فهما للقرآن وسنّة النبيّ و لا أحد منهم يتحرّج أو يتردّد في تفسيق و تكفير و إخراج من الملّة كلّ دارس لها أو مشتغل بها...!
قال الدّردير (مالكي) في "الشّرح الكبير" في بيان العلم الذي هو فرض كفاية ( كالقيام بعلوم الشرع ) غير العيني ، وهي الفقه والتّفسير والحديث والعقائد، وما توقّفت عليه من نحو وتصريف ومعان وبيان وحساب وأصول ، لا فلسفة ، وهيئة ، ولا منطق على الأصح....!
ومن أرد الاستزادة فعليه اللّجوء إلى مصادر الإسلام المختلفة و سيستخلص النّتيجة التّالية/
إنّ العلم المفيد هو علم الشّريعة فقط أمّا ماعداه فهي علوم لاضرورة لها ومضيعة للوقت بل كثير منها مفسد و يؤدّي إلى الكفر أو التّجديف على اللّه أو رسوله....؟!
أنظر أيضا أخي القارئ كارثة اضطلاع فقهاء و مشايخ الإسلام بمهمّة تفسير الظّواهر الطبيعيّة من منطلقات دينيّة و تأمّل ظاهرة تدخّلهم و دسّ أنوفهم بفتاويهم الغبيّة خاصّة في العصر الحديث الّتي حوّلت أمّة الإسلام إلى أمّة تمارس التّهريج و الإضحاك على مسرح العالم المفتوح في عصر ثورة الإعلام و الاتّصال التّي نعرفها اليوم...؟!
الفتوى رقم 5724 تعلّم النّاس أنّ الارض من سبع طبقات بينها هواء وفي كل طبقة سكان، وفي الفتوى رقم 5882 تقول انه " ثبت في الحديث ان الارضين سبع". وتستغبي هذه اللجنة "العلمية" نفسها و النّاس و تواصل غيّها و هذيانها لتستمرّ بالتّخريص و التّهريج في ردّها عن سؤال: هل يجوز القول ان هذا الهواء طبيعي، تجيب: إذا كان المقصود ان الهواء معتدل فجائز (فتوى رقم 5897)، وفي فتوى أخرى برقم 5895 تتجرّأ اللّجنة " العلميّة" على الاستخفاف بالعلم و إحباط السّعي العلمي مدّعية أنّه" ومهما بذل الانسان وسعه ولو كان طبيباً ماهراً فلن يحيط علماً بأسرار الحمل وأسبابه وأطواره"، وفي فتوى برقم 309 حول فيما إذا كان من الممكن الاعتماد على آلات الرّصد لرؤية الهلال في انكلترا في أوقات سوء الاحوال الجوّية، فإنّهم يفتون بعد جواز الاعتماد على العلوم الفلكية في إثبات بدء شهر رمضان، بحجّة أن الله لم يشرّع و لم ينصّ على ذلك لا في كتابه ولا في سنّة رسوله..؟!!
في عام 1982 نشرت مايسمّى بالرّئاسة العامّة لإدارة البحوث "العلميّة" والإفتاء والدّعوة والإرشاد في الرّياض للشّيخ ابن الباز كتاب الادلّة النقليّة والحسّية على جريان الشّمس وسكون الارض وإمكان الصّعود للقمر، وفيه يصرّ ليس فقط على سكون الارض وينفي دورانها حول الشّمس، وانمّا يعطي " حكم الله فيمن يقول بغير ذلك" ليصبح: "القائل بدوران الارض ضالّ قد كفر لأنّه على حسب زعمه قد كذّب القرآن والسّنة و وجبت استيتابته حتّى يتوب وإلا قُتل كافراً مرتداً و تُردّ أمواله و ممتلكاته لبيت مال المسلمين" ولا ينسى ان يذكر بأن عقيدة علماء السّلف مثل ابن تيمية وابن القيّم وابن كثير قد اجمعت كلّهاعلى ثبوت الارض، و يمضي شيخ الأمّة طارحا النّظريّة الإسلاميّة المستقاة من الحديث الشّريف و القرآن قائلا: انّ الشّمس سقفها ليس كروياً وإنّما هي قبّة ذات قوائم تحملها الملائكة وهي فوق العالم ممّا يلي رؤوس النّاس، ويصف كل من خالف هذا بالكفر و الضّلال...؟!!
وابن عثيمين الّذي حرّم تعليم حتّى اللّغة الانكليزية مبرّراً فتواه بقوله: " فاقتضاء الصّراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم" ويتابع قائلا" إن الّذي يعلّم صبيّه اللّغة الانجليزية منذ الصّغر سوف يُحاسب عليه يوم القيامة" مما يدلّ على أنّه على اطّلاع عميق و واسع برؤى الله وتوجّهاته تماما مثل أيّ كاهن مسيحي آخر في العصور الوسطى.
يدعّم ابن عثيمين أيضا موقف الباز في نظريّته حول الأرض و الشّمس عبر فتواه المنشورة على موقعه، "الشأن كل الشأن فيما يذكر من ان الأرض تدور و الشّمس ثابتة، وإنّ إختلاف اللّيل والنّهار يكون بسبب دوران الارض حول الشمس فأن هذا القول باطل يبطله ظاهر القرآن" ويقول:" والانسان ما آوتي من العلم إلاّ قليلا، وإذا كان يجهل حقيقة روحه الّتي بين جنبيه، ..فكيف يحاول ان يعرف هذا الكون" ثم يقول:" فكيف نحرّف كلام ربّنا عن ظاهره من أجل مجرّد نظريات أختلف فيها ايضاً أهل النظر"...!
في هذا المسار الهستيري أصدر الشّيخ عبد الكريم بن صالح الحميد كتابا موسّعاً للدّفاع عن "النّظرة الإسلامية الكونية" بعنوان "هداية الحيران في مسألة الدّوران" يطرح فيه وجهة نظر العقيدة الصّحيحة ليقول بأن عامّة العلوم "هي علوم مفسدة للإعتقاد كالقول بدوران الارض وغيره من علوم الملاحدة"(ص 11) ويؤكّد أنّ " القول بدوران الارض أعظم من إعتقاد أصل الإنسان من القرود بكثير" (ص 32)....!
و لا يتورّع ابن باز في الخروج علينا برأيه في موضع الشّمس والقمر فيقول أنّه "يعتقد ان ظاهر الآية يدلّ على أنّ نورهما في السّموات لا أجرامهما". و يذكر ايضاً ان بعض اهل التّفسير مثل الحافظ ابن كثير يقول بأنّ القمر في السّماء الدنيا والشّمس في الرّابعة...!
جامعة الأزهر هي مؤسّسة مشهورة و ذات وزن و مصداقيّة في العالم الإسلامي...لا زالت تّعلم طلاّبها مستحاثات و موروثات نصّية تعجّ بالخرافات و الأكاذيب و بالاغلاط العلميّة مثل العلاج ببول الابل و أقصى مدّة الحمل هي أربع سنوات والرّعد و البرق و الرّيح و الأمطار ظواهر مكلّف بها ملائكة فهي تحدث لأنّ هذا يسوق بجناحيه و ذاك ينفخ من نَفَسِه إلى آخره، والنّوم هو استرخاء اعصاب الدّماغ بسبب رطوبات الابخرة الصّاعدة من المعدة، كما يجوز للرّجل ان يضرب زوجته ضربا غير مبرّح الذي هو عشرة أسواط...إلخ
ألا يفسّر ما سبق و غيره كثير تخلّف المسلمين المخجل و المزري في ميادين العلوم و المعرفة بالمقارنة بالكثير من الشّعوب و الأجناس....ألا يفسّر ما سبق ظاهرة الّتي تضع كافّة الدّول الإسلاميّة دون استثناء في مصاف الّدول الأكثر تخلّفا و تأخّرا في أيّ فرع نذكره من فروع العلم و التّنوير...أليس كلّ ذلك بسبب ذلك الميكانيزم الّذي صمّمه الإسلام داخل و في أعماق وعي و لاوعي المجتمعات الإسلاميّة لإحباط النّزعة المعرفيّة و قتل أو وأد الرّغبة في التعلّم و طلب العلم من المهد إلى اللّحد...؟!
و سنعرض في مقال لاحق ما فعله الإسلام و ما ألحقه من أضرار مشابهة بعقل المسلم فيما يخصّ الفنون و وسائل التّعبير السّامية الّتي خصّ بها اللّه الإنسان دون باقي خلقه مثل فنّ الرّسم و فنّ النّحت و الموسيقى لما لذلك من بالغ الأثر في تخريب البنية الفكريّة الجمعيّة للمجتمع المسلم و لما له أيضا من أثر عميق ظلّ يعطّل و يؤجّل أيّة عزيمة جدّية و يميت أيّة إرادة حقيقيّة في مهدها في سبيل نهضة مادّية أومعنويّة مرتقبة لأمّة الإسلام على مدى مئات السّنين...!
#باهي_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟