أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باهي صالح - بيت مسعود ( قصّة قصيرة)















المزيد.....


بيت مسعود ( قصّة قصيرة)


باهي صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3032 - 2010 / 6 / 12 - 20:43
المحور: الادب والفن
    


القصّة على ما أظنّ وقعت سنة 1948 ميلاديّة.

تنهّد مسعود و رفع عينيه و يديه إلى السّماء...إلى اللّه بالشّكر و العرفان...اصطفّت ذكرياته العزيزة في رأسه أو داخل صلعته بانتظام و توالت تباعا المشاهد و الصّور....رأى نفسه و هو يشتري قطعة الأرض بعد أن إدّخرسعيه و عرق جبينه....مضت سنوات طويلة و هو يضع الدّينار فوق الدّينار و كان في كلّ ليلة لا يضع رأسه على الوسادة في بيت أخيه إلاّ بعد أن يحسب و يكرّر الحساب لما جمعه و لما بقي من ثمن قطعة الأرض..و كان قبل أن يُسلم نفسه لسلطان النّوم يتعمّد إعطاء نفسه فسحة للحُلم و التّفكير في المستقبل، و بعدها كان يأخذه تفكيره حثيثا إلى مخطوبته نِسريّة فيُمعن في جمالها و يُكبر صَبرها و انتظارها له، و لا يُعرّج إلى واقع الحال إلاّ عندما يمنّي النّفس و يُبهجها بقرب إلتمام شملهما كزوجين في عشّ الزّوجيّة الذّهبي المأمول...و هاهو الحُلم تحقّق...هل هذا معقول... و هاهي ذي ذكريات كفاحه في بناء منزله تتوالى في مخيّلته مثل الحُلم الجميل و هو في هذه المرّة داخل بيته الّذي بناه بجهده و عرقه و حصاد عمره و ليس بيت أخيه، بل و مستلقي فوق سريره داخل غرفة نومه و إلى جانبه محبوبته و زوجته نِسريّة (قََرَصَ نفسه ليتأكّد أنّه يقظ و ليس نائما) ...من فرحته.تذكّر مرّة أخرى و عيناه تطرفان و تغروقان بالدّموع و كأنّه لا يصدّق نفسه و الحلم الّذي تحقّق...لعلّ اللّه استجاب لابتهالاته و دعواته طبقا للحكمة الشّعبيّة القائلة "رأس الأصلع قريبة من ربّها" على أساس أنّه أصلع الرأس و صلعته تلك الّتي لا يخجل بها لا بل لا يخفي إعتزازه و افتخاره بها و بالهيئة الّتي خلقه اللّه عليها رغم أنّها أي الصّلعة تجعله يبدو في الخمسين أو أكثر بينما هو لا يتجاوز في حقيقته الأربعين من عمره....أي نعم كان يخلط المواد بنفسه ثمّ يضع الطّوبة فوق الطّوبة...يركّب الأبواب و النّوافذ...يرفع الأسقف...يصبغ و يزيّن و يشرف بنفسه على كلّ التّهيئة و الرّوتوشات اللاّزمة...إلى أن إكتمل البناء بعون اللّه و بعون بعض أصدقائه و أحبابه...و اليوم أصبح له منزل ككلّ النّاس يأويه و يُؤوي أسرته الصّغيرة المتكوّنة من زوجته و حبّوبته نِسرين و إبنتيه الصّغيرتين كَرْمَة و زيتونة...

مضت ثلاث سنوات كانت الأحلى و الأجدر بأن تُحسب من عُمْر مسعود...حقّا و بلا مبالغة أقول كانت بالنّسبة لهذا الرّجل البسيط المُسالم، هذا الكادح القانع كانت أقصى ما يطلبه و يطمحه إليه في هذه الدّنيا رغم أنّ اللّه قَدَرَ عليه رزقه...كان يتلذّذ بطعم الاستقرار و ينهل من نبع السّعادة كلّما عاد إلى بيته من يوم عملٍ مُجهد مُنهك و جلس إلى زوجته و طفلتيه يحدّثهم و يلعب معهم...

إلى أن جاء يوم و يا ليته لم يأتي...في إحدى اللّيالي الصّيفيّة طرق بابه طارق، توقّف مسعود عن مُلاعبة طفلتيه و اتّجه إلى الباب و هو يسأل نفسه عن هُويّة الطّارق خاصّة و أنّه مقطوع من شجرة فحتّى أخوه باع المسكن و هاجر لا يدري إلى أين...خمّن أن يكون جاره نوري جاءه يطلب حاجة....
فتح الباب...
مَنْ...؟!
ضيف الرّحمان...ضيف الرّحمان...القرية صغيرة و قد أظلمت و لم أجد أين أبيت...هل تسمح لي أن أبيت ليلتي عندك أيّها الطّيب الكريم إلى أن يطلع النّهار ؟! تفاجأ مسعود بهيئة و بطلب الواقف ببابه و خاصّة بطاقية صغيرة كان يضعها فوق رأسه الكثيف الشّعر و لبث ثواني يحدّق به دون كلام...كان رجلا في العقد الرّابع أو الخامس من عمره يعلّق على كتفه بعصاة رزمة تحمل أغراضه، وجهه محمرّ متجعّد رسمها الإجهاد و وعثاء السّفر و تميّزه لحية صغيرة، قصير أهزل تفوح منه رائحة غريبة هي خليط من رائحة الجبل و أشياء أخرى لم يعرفها....
حسنا...تفضّل أيّها الأخّ...الرّسول وصّى على إكرام الضّيف....! قال مسعود و هو يُشرع الباب و يوسع للرّجل ثمّ يسبقه إلى غرفة الضّيافة.
تفضّل...تفضّل يا ضيفي العزيز...إخلع نعليك و ضع أغراضك...؟
ذهب إلى نِسريّة زوجته و أخبرها بأنّ لديهم اللّيلة ضيفا و أمرها أن تأتي بالماء لكي يغتسل الضّيف و ينظّف نفسه من تعب و غبار السّفر.
الخلاصة قام مسعود و زوجته بالواجب و عملا على إراحة ضيفهما و إطعامه بما قدرا عليه و بما تيسّر لهما...

جلس مسعود إلى ضيفه يحدثه و يؤنسه و بادره سائلا:
ما إسم الأخ...؟
ردّ الرّجل و هو يعدّل من وضع طاقيته الصّغيرة فوق رأسه:
كمالون أفندي..!
استغرب مسعود الإسم لكنّه ثنّى بسؤال آخر:
من أين جاء الأخ و ما حاجتكم في هذه البلاد...؟
ردّ الضّيف و هو يمدّ رجليه و يأخذ وضعا أريح:
ليس لي بلد جئت منه...أنا تاجر جّوال في بلاد اللّه الواسعة...!
و ما تجارتك يا أخانا...؟!
كلّ شيئ...أعني كلّ السّلع...أشتري و أبيع و أقبض ما يكتبه لي اللّه من فائدة...
و استمرّ الحديث بصيغة سؤال جواب أحيانا و بالاسترسال أحيانا أخرى إلى أن أعرب الرّجل عن تعبه و حاجته للنّوم....
تسلّل مسعود إلى جانب زوجته و عنده رغبة في الحديث معها عن ضيفه و عمّا استشفّه من ذكاء و غرابة أطوار في شخصيّةمن خلال ما دار بينهما من حديث لولا أنّها كانت تغطّ في نوم ثقيل، تنهّد و حمد اللّه و أثنى عليه قبل أن يرجوه السّتر و العافية و استعان على الشّيطان و وساوسه بقرائة ما تيسّر من القرآن و سرعان ما بدأ النّعاس يخدّر حواسّه و يدبّ في أوصاله....

طلع النّهار و ترقّب مسعود من ضيفه كمالون أفندي أن يأخذ رزمته و ينتعل حذاءه و يسارع إلى شكره على استضافته و كرمه و تركه ينام ليلته عنده ثمّ يستأذنه في مغادرة منزله و من ثمّة يأخذه إلى الباب الخارجي مودّعا راجيا له أن يبعد اللّه عنه أولاد الحرام في تجواله و حلّه و ترحاله بين بلدان و أمصار الأرض...غير أنّ الضّيف لم يتحرّك من فراشه متعلّلا بوعكة صحّية ألمّت به...قال لمسعود بنبرة الشّاكي المُعتذر: أعذرني أيّها الكريم فإنّي متوعّك و لا أقدر على الحركة...ألا أطمع في كرمك فتتركني أقضي ليلة أخرى عندك و من الفجر سأتوكّل على اللّه و أنا كلّي عرفان و امتنان لجميلك...؟
لم يجد مسعود أيّ غضاضة في الموافقة على طلب ضيفه فقال و باطنه يطابق ظاهره:
لابأس عليك أيّها الأخ...لا شكّ أنّها وعكة بسيطة...لا تأخذ همّا فالضّيف عندنا ينبغي أن يُضيّف على العين و الرّأس ثلاثة أيّام كاملة و أنت ضيفي فامكث و لا تجزع و إن أردت خرجتُ و أحضرتُ لك الطّبيب...؟!
لا...لا... صاح كمالون، أرجوك لا داعي لإحضار الطّبيب...!

اضطرّ مسعود إلى عدم الخروج إلى عمله لأوّل مرّة في حياته و مكث قرب ضيفه يسلّيه بالحديث الّذي ما أن أوتي له بطعام الغداء حتّى هبّ جالسا معتدلا كأنّه لم يعرف ضعفا و لا إعتلالا و راح يأكل بشراهة و مسعود يحدّق فيه باندهاش بالغ...!

و طلع نهار اليوم الرّابع و أسرع مسعود لضيفه ينتظر منه طلب الإذن بالرّحيل...لكنّ الضّيف لم يتحرّك من فراشه و بدا و كأنّه يتظاهر بالنّوم...
كمالون...كمالون...أرجوك إنهض...الشّمس أشرقت...لقد طِبتَ و عُفيت و أنا لم أخرج إلى عملي منذ ثلاثة أيّام...؟!
لم يتحرّك كمالون و انتابت الهواحس مسعود و اضطرّ إلى هزّه برفق و الاقتراب من فمه للتأكّد حركة أنفاسه...
فتح كمالون عينيه و نظر نظرة ناريّة لمسعود و قال بلهجة الوعيد:
و من منعك على الخروج إلى عملك...إذهب و اتركني أنام...؟!
إضطرب مسعود و جمد الحرف على لسانه..خطا خطوة إلى الخلف غير مصدّق لأذنيه..نطق بصوت أقرب إلى الهمس: أتركك تنام...؟!!
نعم أتركني أنام و اذهب لعملك...! صرخ كمالون و هبّ واقفا في لمح البصر و هو يرتعش و عيناه تقدحان الشّرر و بسرعة تلقّف عصاته القريبة و راح يلوّح بها مهدّدا.
تجمّد مسعود في مكانه و هو مذهول لا يدري ماذا يفعل و ماذا يقول و تناهت إلى سمعه كلمات كمالون و كأنّها تأتيه من وادي سحيق.
أعجبني منزلك لذا قرّرت البقاء فيه....أُخذت أيضا بجمال زوجتك...هل عندك إعتراض...؟!
إلى هذا الحدّ كانت الدّماء في عروق و رأس مسعود قد بلغت درجت الغليان و لم يشعر إلاّ و هو ينقضّ كنمر جريح على كمالون و يشتبك معه في معركة ضارية كانت الغلبة فيها في النّهاية لكمالون أفندي بفضل الضّربات التّرجيحيّة القويّة للعصاة الكمالونيّة...هبّت الزّوجة و الطفلتين إلى مسعود السّاقط أرضا و المضرّج في دمائه و بدا أنّ صلعته كان لها النّصيب الأوفر من تلك الضّربات كما يستدل على ذلك من أثر الدّماء الّتي عليها.... و استسلموا لنوبة هيستيريّة من البكاء و اللّطم على خلفيّة عربدة و صياح الغضب المزلزلة الّتي لم يتوقّف كمالون عن إطلاقها مثل الثّور الهائج...

رمت نِسريّة لحافا على رأسها و أخذت البنتين و أسرعت إلى عدد من جيرانها تدقّ أبوابهم و هي تصرخ و تنتحب بصوت يشقّ القلوب و تطلب منهم واحدا واحدا أن يُنجدوا زوجها المضروب و و الأهمّ من كلّ ذلك الاقتصاص من الغريب الّذي إعتدى عليه ثمّ إرغامه على الخروج من بيتهم...و ما هي إلاّ دقائق حتّى جاء معها رهط لابأس به يتقدّمهم نوري و العيّاشي و مبروكي و منصور و الحاجّ منوّر و عدد آخر لا يتّسع المقام لإيراد أسمائهم لأنّ أغلبهم فضوليون و باحثون عن التّسلية لا أكثر...
على حسب الرّواة فإنّ الجمع الّذي جاء مع زوجة مسعود لا يقلّ عدده عن الثّلاثين دون حِسبة المراهقين و الصّغار...و قفوا جميعا قريبا من منزل مسعود أعناقهم مشرئبة و أعينهم على الباب....

سرت على وجه الحاجّ منوّر مسحة تعجّب عندما أخبرته نِسريّة بإسم المعتدي الغريب، تردّد قليلا ثمّ صاح بأعلى صوته: كمالون...كمالون...؟!
و انتظر الجميع و لم يُفتح الباب و لم يصل أسماعهم أيّ صوت....
إنتظروا...إنتظروا...!! همس أحدهم.
فُتح الباب و برز مسعود لا يكاد يقوى على الوقوف و من خلفه يدٌ دفعته بقوّة إلى الخارج ثمّ أُغلق الباب من ورائه و لولا أن تلقّاه عدد من المتجمهرين لهوى المسكين أرضا.

لم ينفع الصّراخ و التّهديد بكسر الباب و اقتحام المنزل على محتلّه ثم ضربه و طرده بالقوّة....و عند الغروب و تفاديا لأيّة صدامات مع محتلّ البيت قد تؤدّي إلى الجَرح أو وقوع ضحايا دعا ذوو الحكمة و التعقّل إلى التكفّل بمسعود و عائلته ليبيتوا ليلتهم عند أحدهم حتّى يتبيّن أفضل وأنسب إجراء يُقدمون عليه لحلّ النّزاع بأسلم الطّرق و أسرعها...و هكذا تمّ تأجيل القضيّة إلى الصّباح من اليوم التّالي فقد يحدث اللّه أمرا...!

و في اللّيلة نفسها إجتمع أعيان المنطقة في بيت نوري و تشاوروا بجلبة حول أفضل طريقة لإخراج كمالون من منزل مسعود الّذي كان حاضرا بينهم معصوب الرأس و الّذي بدا شاردا هائما في عوالم أخرى رغم الضّوضاء و حدّة الحوار...بدا يائسا مكسورالخاطر، لذلك عزف عن المشاركة و لم ينطق طول الجلسة بكلمة واحدة، كان الحوار ساخنا و عامرا بالتّعليقات و التدخّلات و حتّى الضّحكات و القهقهات، فمنهم من إقترح كسر الباب و النّافذة و اقتحام البيت بعدد لا يقلّ عن العشرة و منهم من إقترح تجريب المُلاينة و استخدام الحوار السّلمي و منهم من دعا إلى إغراء كمالون بمبلغ من المال مقابل ترك المنزل لصاحبه...إلخ

و في اليوم الثّاني وصلت جمهرة من الجيران و الفضوليّين و أحاطوا بمنزل مسعود و بدأوا رحلة المناشدة و التّهديد و الوعيد الممزوجة بالضّحك و التّعليقات الساخرة و ماهي إلاّ ساعة حتّى تحوّل المشهد إلى مسرحيّة هزليّة في الهواء الطّلق...كلّ هذا و لم يجرؤ أيّ واحد فيهم على الاقتراب من باب البيت...و لمّا أطلّ كمالون برأسه وجم الجميع و خيّم عليهم الصّمت دفعة واحدة...!

أريد مقابلة نَفَرَيْن من كباركم...؟ قال كمالون بصوت جهوري أجشّ و انتظر!
نظر القوم إلى بعضهم البعض و سار إليه نوري و الحاجّ منوّر و ما إن دخلا حتّى أغلق الباب وراءهما.

لا أحد عرف إلى حدّ هذه السّاعة بما دار بين الثّلاثة في الداخل، كلّ ما وصلنا أنّ النّوري و الحاجّ منوّر خرجا بعد ساعة و باشرا تفريق النّاس و إقناعهم بالعودة إلى بيوتهم و أخذا مسعود معهما و في منزل النّوري حاولا إقناع مسعود بتسوية غريبة لم تخطر على باله...!

تُرى أيّ تسوية كان قد خرج بها النّوري و الحاجّ منوّر من عند الغريب مغتصب منزل مسعود المسكين...؟!

إجلس ...إجلس يا جارنا العزيز و لا تبتئس...إرمي حِملك على اللّه فيجعل لك مخرجا...إنّ لكلّ مشكلة حلاّ...!! بادر الحاجّ منوّر مسعود بنبرة مهدّئة تتخلّلها الرّيبة.
جلس مسعود قبالتهما و قلبه يخفق من هواجسه و مشاعره غير الحميدة....نظر الحاجّ منوّر إلى نوري و كأنّه يلتمس منه العون و التّشجيع على مهمّته ثمّ إلتفت إلى مسعود و حدّق مباشرة في عينيه و قال و في صوته حشرجة: جلسنا مع كمالون و دار بيننا حديث طويل و تبيّن أنّ الرّجل لا يمكن أن يترك البيت إلاّ على جثّته و أنت تعرف مصير قاتل النّفس عند اللّه يوم القيامة...أليس كذلك...؟ (أومأ مسعود برأسه حائرا)..!

يزعم أنّ والده المتوفّي جاءه في المنام و أخبره أنّ أحد أجداده القدامى و المسمّى الشّيخ ولهان و هو وليّ صالح مدفون في الأرض الّتي بَنيت عليها منزلك و طلب منه أن يسير إليك و يعمل ما في وسعه لإقامة مزار في المكان ليزوره المؤمنون و يتبرّكون به...

أقول يا ولدي و شهادة للّه و لرسوله أنّ الرّجل بدا صادقا و عَرَضَ علينا...أقصد عَرَض عليك عرضا لا يخيب – إلتفت إلى النّوري ينشد تصديقه على ما يقول-
هزّ النّوري رأسه مصادقا و قال: نعم يا بنيّ و لكن القرار يعود إليك فالبيت بيتك...؟
حدّق مسعود في كليهما متسائلا ملتبسا.
أردف الحاجّ منوّر قائلا: عرضه يتلخّص في اللآتي:
يطلب منك كراء دار الضّيافة مقابل مبلغ يدفعه لك شهريّا إلى أن يتمكّن من شراء منزل قريب من منزلك و يترك لك غرفة النّوم و المطبخ أمّا دورة المياه فتشتركون جميعا في استخدامها.....!
إنتفض مسعود و هبّ واقف و قال مزمجرا: أترك له دار الضّيافة...هل جننت يا حاجّ منوّر...و زوجتي و....؟!!
تدخّل النّوري قائلا: حسب ما فهمت أنا و الحاجّ منوّر فإنّه بالإمكان عزل دار الضّيافة بسدّ الباب الدّاخلي و تحويل نافذتها الخارجيّة إلى باب و بذلك يُفصل أيّ إتّصال داخلي بين عائلتك و بينه...هذا إذا كنت لا ترغب في الاختلاط به...!
أمسك الحاجّ منوّر يد مسعود و راح يجذبه ملاطفا و يقول: إجلس...إجلس...يا رجل و العن الشّيطان...نحن نحدّثك بما جرى بيننا و بين الرّجل و أنت حرّ فيما تفعل...!
جلس مسعود على مضض و ردّ قائلا: إلعنا أنتما الشّيطان كيف يُعقل أن أترك دار الضّيافة لغريب....
قال النّوري يقاطعه و محاولا إقناعه: لا تنسى أنّك ستقبض ثمن كراءها شهريّا و أنّ الرّجل سيمكث فيها مؤقتا إلى أن يجد منزلا في الجوار فيشتريه...؟
و أتبعه الحاجّ منوّر: و لا تنسى كذلك أنّ المبلغ سيعينك خاصّة و أنت في عوز و فاقة...!
و هل اشتكيت أو مددت يدي لأيّ أحد فيكم...؟! صاح مسعود غاضبا.
و من قال لك ذلك...قلت لك إلعن الشّيطان و فكّر بعقلك و بمصلحتك...! قال النّوري.
و أين عقلي و مصلحتي...؟! ردّد مسعود هامسا و هو يرتعش من شدّة الانفعال.
و استمرّ الجدل إلى أكثر من ساعة دون نتيجة و في الأخير وقف مسعود و عيناه ترطّبهما الدّموع ثمّ وجّه الحديث لكليهما بلهجة تنمّ عن بلوغ اليأس عنده أقصى مداه قائلا:
هل أنتما معي أم معه...فإن أحسنت النّية في مقاصدكما و قلت أنّكما في صفّي فلماذا لا تعينوني فنجبره على ترك البيت...يأتي منكم خمسة أو ستّة أو حتّى عشرة و نهجم عليه و نكسر الباب ثمّ ندخل عليه فنربطه و نجرّه إلى خارج المنزل جرّ الكلاب و تنتهي المسألة...؟

تبادل النّوري و الحاجّ منوّر النّظرات ثمّ وقفا، تنهّد النّوري و دفع بورقتهما الأخيرة قائلا: على كلّ حال نحن أدّينا واجبنا و أبلغناك و نصحناك و اللّه على ما قلنا و نقول شهيد...فلك الخيار و تمام القرار أمّا نحن فندعوك إلى قبول عرض كمالون أفندي لأنّنا نراه في مصلحتك و يبلغ منّا و منك القصد و إلاّ فنحن منك براء و ليس لك علينا بعد اليوم حجّة و لا عندنا طِلبة....يمكنك الآن أن تنصرف و تفعل ما بدا لك بعيدا عنّا....؟

خرج مسعود و قد أظلمت الدّنيا في عينيه من شدّة يأسه و حيرته، يا ليته لم يلجأ إلى جيرانه...انتابه شعور و هو سائر يحدّث نفسه بأنّ النّوري و الحاجّ منوّر و بعض جيرانه تآمروا عليه مع مغتصب منزله...ركبه الهمّ و النّدم و جاشت به العواطف و الانفعالات و قرّر أن يأخذ حقّه بيده...أن يستردّ بيته من كمالون أفندي بأيّ ثمن...الآن و الآن فإمّا قاتلا أو مقتولا....!

سار و الغضب يخدّر قدميه و حواسّه... هناك تراءى له منزله لا يفصله عنه إلاّ ستّون أو سبعون مترا...لحقت به زوجته و تعلّقت بتلابيبه و هي تصيح و ترجوه من خوفها عليه من بطش كمالون: مسعود...مسعود أرجوك لا تذهب سيقتلك...من لي و للطّفلتين من بعدك...؟!
سقطت أرضا و في سيره راح يجرّها على الأرض دون أن يأبه أو يشعر بها...لحق بهما المصراوي و العرباوي و هما نسيبا مسعود، الأوّل والد نِسريّة و الثّاني أخوها، كلّ واحد يرفع في يده هراوة و يلوّح بها عاليا...
صاحا و هما يجريان للّحاق بمسعود: إنتظر...إنتظر نحن قادمان سنأخذ لك حقّك بأيدينا...لا تحمل همّا.....
ماهي إلا لحظات حتّى وقف أربعتهم و أقصد مسعود و نِسريّة و المصراوي و العرباوي على بعد مترين من باب المنزل المحتلّ من طرف كمالون و قبل أن يأتي أيّ واحد منهم بأيّ حركة تقاطر الّنّاس من الجيران و سكّان الحيّ بسرعة و تجمهروا عن كثب يتهامسون و يعلّقون و الفضول يملأهم....كان قد مضت أكثر من ساعتين على وقت العصر و كان قيظ الظّهيرة قد لطّفت من حدّته نسمات المساء المنعشة عندما صاح مسعود بأعلى صوته و هو يرشّ اللّعاب من حوله: أخرج أيّها القبيح و اترك البيت لأصحابه و إلاّ كسرنا الباب و ذبحناك داخله...؟!!

و مضت ثواني دون استجابة...تجرّأ العرباوي و هو شابّ يافع مزهوّ بنفسه و ببسطة جسمه و ضرب الباب بهراوته و صاح بدوره: هيّا أخرج لِتسلم و إلاّ دخلنا و دققنا عظامك...؟!
تراجع أربعتهم و هم يسمعون صوتا يأتي من الدّاخل يشبه الانفجار و إذا بالباب يُفتح و يقفز كمالون خارجه...راح يهدّد متوعّدا ملوّحا بعصاته في يده.
من أعجبته نفسه و كان يضنّ نفسه رجلا فليأتيني...! دوّى صياح كمالون في الأرجاء و جاء صداه من كلّ الأنحاء.
سرت رعدة في جسد مسعود و قرّر أن يهجم على كمالون الّذي إغتصب بيته و كرامته و جعله مشرّدا مهانا...
هجم مسعود لا يلوي على شيء و حذا حذوه المصراوي و العرباوي و جثت نِسريّة على ركبتها تلطم خدّيها و تُهيل التّراب على رأسها...
وقف المتجمهرون يرون العصيّ و هي تعلو و تنخفض على كلّ مناطق الجسد المختلفة، الرّأس، الجذع، الأطراف و هم يضجّون بالتّشجيع و الصّياح...إلخ...
رغم أنّ كمالون كان أسرع و أكثر تدريبا و كانت ضرباته أصوب و أكثر تأثيرا إلاّ أنّ الثّلاثة سرعان ما أثخنوا في الرّجل و بدأت الكفّة تميل لصالحهم لولا أن حدث حادث مفاجئ...؟!
فجأة نطّ كمالون يسدّ باب البيت و هو يلهث و الدّم يسربل رأسه و شِقّا من جسمه و في لمح البصر إستلّ سلاحا ناريّا كان يخفيه داخل ملابسه و أطلق عيارا ناريّا في السّماء و هو يزعق بصوت مبحوح و يحاول السّيطرة على أنفاسه المتلاحقة: أقسم أنّي سأقتل كلّ من يزيد خطوة إلى هنا ثمّ اختفى داخل البيت و أغلق الباب ؟!!

خيّم الصّمت على الأربعة و على النّاس و لم يدري أحد من أين و كيف ظهر النّوري و الحاج منوّر و العيّاشي و منصور و أوجه معروفة أخرى، ثمّ أحاطوا بسرعة بمسعود المتهالك و هو يمسح الدّم عن جبينه و عينه اليمنى...
في الوقت نفسه سيق المصراوي و العرباوي بعيدا و هما يهدّدان و يتوعّدان بذبح كمالون و الشّرب من دمه....
في اللّيلة نفسها كرّر الجيران و على رأسهم النّوري و الحاجّ منوّر...كرّروا مرّة أخرى على مسامع مسعود عرض كمالون و زادوا أن وعدوه بالمساعدة في بناء بيت جديد في حالة تأخّر كمالون في الإيفاء بوعده و ترك المنزل...
تدخّل مسعود حانقا و وجهه متورّم مزرقّ من أثر المعركة: و ما مصير زوجني و ابنتي...؟!

الخلاصة أنّ الأمر إنتهى إلى التّالي/
- تقسيم المنزل بين الطّرفين، دار الضّيافة لكمالون و غرفة النّوم لمسعود و عائلته و الشّراكة في المطبخ و دورة المياه.
- عزل دار الضّيافة من الدّاخل و تخصيصها بباب يُفتح إلى الخارج.
- جمع الجيران لكمّية من الأموال و إعطاءها لمسعود على سبيل المساعدة و التّصبير.

و استمرّ العداء و المناوشات بين النّاهب و المنهوب و بمرور الأيّام و الأشهر و السّنوات استحلى و استساغ مسعود الأموال و الهبات الّتي كانت تأتيه من جيرانه و المشفقين على حاله و قضيّته من شعورهم من ثقل الواجب و حتّى بالذّنب تجاه ما حصل للرّجل....هو أيضا (مسعود) تبيّن له أنّ العيش كعالة على جيرانه و أحبابه الّذين معه دائما بكروشهم قبل قلوبهم إذا أنّ تجارة و مصالح كانت قد نشأت بينهم و بين الغريب كمالون أفندي...تبيّن له كما قلت أنّ العيش كعالة أسهل بكثير من العمل و الكدّ و الكفاح من أجل لقمة العيش...و مع الوقت إعتاد الجميع على أدوارهم و بقي في قلب مسعود ألم و حرقة و خاض عدّة معارك غير دامية مع كمالون في أوقات متقطّعة لاحقة و في الأخير ترك البيت و عائلته الصّغيرة بعد أن عجز عن إقناع زوجته بمرافقته و هاجر إلى بلاد العجم و ما إن استقرّ و نَعِمَ بعيشه و حياته و طاب به المقام هناك في تلك البلاد حتّى وصله خبرٌ كالصّاعقة و مفاده، أنّ كمالون تزوّج نِسريّة و فتح منزله مزارا... فلم يجد مفرّا من تأليف قصيدة طويلة عصماء يذمّ فيها جيرانه العرب الّذين خذلوه و تآمروا عليه و يحمّلهم مسؤوليّة كلّ ما حصل له و كان مطلعها " لو لم تبع مفروشة مدني ... لما شحدنا بيوتا نصفها خشب"
و بقيّة القصّة تقول أنّ مسعود شغله العيش الرّغيد في بلاد العجم وكانت ذكرياته المؤلمة ما تنفكّ تراوده و لا تتركه، و لأنّه أسف كثيرا من كيد الإخوان و الجيران و ضياع المنزل و الأوطان فإنّه بين وقت و آخر يطقّ حنكه و يبدع لنا شعرا و نثرا يقصف به كمالون و الكائدون....!



#باهي_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنسان و الأديان...!
- قيمة الانضباط في مجتمعاتنا...!
- الجزائريّون و المصريّون في مسرح الدّيكة...!
- وافق الحاكم المحكوم...!
- الخمار و اللّحية قضيّتا الجزائريين الأساسيّتين...!
- العصفور الحزين
- حكاية قبيلة بني لاهيه
- زنزانتي الخوف
- مدينتي العربيّة المسلمة....؟!
- كان لي رأي حين أبديته، ساقوا عليّ الملامة و قالوا أنت حمارُ. ...
- عقيدة الولاء و البراء هل تصلح للعصر الحالي....؟
- تيسون....
- رغم التّدليس و التّزييف إلاّ أنّ الّتاريخ لا يرحم و لا يجامل ...
- مرض التّفكير، أعراضه، علاجه و طرق الوقاية منه...!
- هل من أمل في نهضة المسلمين و المرأة عندهم عورة و شيطان يُبطل ...
- خسئتم مشيخة الجهل و النّفاق، فأنتم مصيبة الأمّة و بلاءها الأ ...
- لدين الإسلام دور يصعب إنكاره أو المرور فوقه...!
- سطور من الفصل الثّاني عشر من رواية كرة الثلج
- هل إسلام الغالبيّة ممسوخ أم منسوخ....؟!
- على من يكذب أمين منظّمة المؤتمر الإسلامي....؟!


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باهي صالح - بيت مسعود ( قصّة قصيرة)