أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جمال علي الحلاق - بين كلب جياكوميتي وكلب أبي / صفحة من كتاب أصدقائي














المزيد.....

بين كلب جياكوميتي وكلب أبي / صفحة من كتاب أصدقائي


جمال علي الحلاق

الحوار المتمدن-العدد: 3117 - 2010 / 9 / 6 - 04:45
المحور: سيرة ذاتية
    


لم أكن وحدي ، كانت تصاحبني رغبتي في الإقتراب أيضا ، حين دخلت الى فضاء الأعمال النحتية لجياكوميتي إضافة للكثير من تخطيطاته ولوحاته التي كانت تؤثّث جدران وأرضية قاعة متحف الفن في سيدني عام 2006 ، دخلت القاعة وأنا منحاز بدءاً ، لقد كان جايكوميتي صديقاً لي في بغداد ، وفي عمّان أيضا ، قضيت ساعات طويلة وأنا أقرأ حواراته ، وأدقّق النظر في صور شخوصه الأبديين ، القراءة نوع من الصداقة تتجاوز حدود الوقت والمكان ، ولطالما كانت القراءة نافذة لخروجي من بؤس اللحظة ، وتبريراً جميلاً لوجودي ، ودافعاً قويّاً للبقاء .

كان الناس يتوافدون الى القاعة ، وكان هناك - إضافة الى ذلك - حشود من الطلبة تناثروا على الأرض ، في الغرف ، وفي الممرّات حول شخوص جياكوميتي النحيفة ، الطويلة ، ذات الأقدام العريضة الهائلة ، لا ينظرون فقط ، بل يرسمون أيضا ، كنت أتجوّل بين أعمال النحت خارج نطاق المكان ، فهذه التماثيل شاهَدَ مخاضَ ولادتِها أصدقاء كثيرون ، جان بول سارتر ، سيمون دي بفوار ، جان كوكتو ، وجان جينيه ، كان جياكوميتي هو القابلة ، وكان العالم إمرأة في المخاض .

لم أتوقّع أن أصل الى هذا الحدّ ، أن أقترب من تلك اللّحظات ، وأن أسمع ما دار من حوارات فيها ، وحولها . لم أكن أتجوّل في قاعة ، بل كان تجوّلاً في لحظةٍ تأريخيةٍ ساهمت بانتشال الإنسان من هاويّة اليأس ، اليأس بن الحرب العالمية الثانية ، لحظة أعادت للفرد ثقته بنفسه ، أعادت إليه قيمته وجدواه ، جعلته يتمسّك بحريّته كهويّة شخصيّة .

كنت أمرّ بين الشخوص الذين يتركون بصماتهم بثقل على الوقت والأرض معا ، فالإنسان يتآكل ، لكنّه تآكل يشبه الترسّب ، يجعل الإنسان يزداد رسوخاً ، يحفر وجوده بإرادته طيلة إقامته في العالم ، تلك هيّ رسالة جياكوميتي .

لكنّني لم أتمالك نفسي عندما وقفت وجهاً لوجه أمام تمثال " الكلب السائب " ، ودون أن أفكّر في ذلك ، ودون أن أُخطّط له أيضا ، رأيتني أجلس على الأرض قبالة التمثال ، تماماً ، كما يجلس مُرِيدٌ أمام شيخه ، أحاول أن ألتصق بلحظة الكلب الأولى ، بالفكرة وبالمخاض ، بجرأة جياكوميتي وهو ينحت التآكل والتيهان في لحظة واحدة ، كنت مستغرقاً تماما ، بعيداً - داخل المكان - أتحسّس العمل بعيني وذهني ، عندما فجأة حطّت على رأسي مثل حمامة أليفة إمرأة أسترالية عجوز ، وقد هالها شرودي العميق ، قالت تسألني : هل أنت مستمتع بهذا العمل الى هذا الحد ؟
قلت : نعم ، أنا مستمتع جدا .
قالت : وماذا يعني هذا الكلب ؟
قلت : لقد سأل جان جنيه جياكوميتي نفس هذا السؤال فأجابه : " أردت أن أنحت تمثالاً شخصيّاً لنفسي فكان هذا " ، إنّه ليس كلبا ، إنّه جياكوميتي نفسه ، وأنا أنظر إليه الآن مباشرة .

ما أن قصصت عليها الحكاية حتى بادرتني المرأة العجوز بجملتها الرائعة ، قالت : " كم هو مثير ذلك ، وكم هو حقيقي ، فأنا أيضا أشعر أحيانا بأنّني كلبة ، وفي أحيان أخرى أشعر أنّني قطّة " .

قالت جملتها وحلّقت في الزمن السائب ، زمنها الخاص ، تاركة إيّاي في حيرة فهم هذا العالم ، كان لها من العمر عمر جدّتي ، وللحظة تخيّلت أن جدّتي – التي ماتت عام 1996 عن عمر ناهز الثمانين عاما – تخيّلتها وهي تتجرّأ على أن تتحسّس نفسها كلبة أو قطّة ، ربّما كان من السهل أن ترى نفسها قطّة ، ليست سوداء حتماً ، لأنّها - وفق العرف الإجتماعي المغلّف بحسٍّ ديني سطحي - جنّيٌ أو مسكونة بالجن ، لكن هل كان بإمكان جدّتي أن تتجرّأ على أن ترى نفسها كلبة ، وسائبة أيضا .

صفعتني المرأة العجوز بقولها ، إخترقتني من أسفلي إلى أقصاي ، سحبت البساط من تحت أرجل كلب جياكوميتي ، فالقضيّة ليست شأناً خاصّاً ، أو إحساسا فرديّا ، بل نسيجاً كونيّاً يتحسّسه أشخاص إمتلكوا الجرأة على الإقامة خارج كلّ ما هو جاهز ، وخارج كلّ ما هو مكتمل ، إنّها ذائقة جمعية أخرى ، ثقافة هي نتاج تجربتها الحيّة في العالم ، ثقافة ليست موروثة ، وعي آخر ، وعي مرن ، الدخول فيه يمنحك قدرة على الإسترخاء ، وعلى رؤية الأشياء بشفافية عالية .

وحتى يكون للرؤية توتّرها أيضا ، خرجت من القاعة وأنا أتذكّر نظرة أبي المتديّن المؤمن للكلب ، كان أبي يرى - أسوة بالبيئة الإجتماعية التي نمى فيها – أنّ الكلب يطرد الملائكة من البيت ، فللكلب صلة بالشّر – لا أعرف جذر هذه الصلة ، ولعلّها لا تبتعد عن أصل فرعوني - وأنّ خلو البيت ، أو خلو الحياة من الكلاب يجعل العالم أكثر احتفاءً بالملائكة ، فهل أراد جياكوميتي أن يطرد الملائكة من العالم الأرضي ؟ هل فكّر في ذلك حقّاً ؟ هل أنّ وجود الإنسان على الأرض يطرد الملائكة منها ؟ هل أنّ مولد الإنسان الحديث إعلان بموت زمن الملائكة ؟ أتساءل وأنا أبتسم .

بقي أبي على هذا الإعتقاد حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي ، وصادف أن إنتقل مع العائلة من قرية ( الزهيرات ) للسكن في منطقة ( القاطون ) في بعقوبة ، وكانت هذه المنطقة كغيرها من مناطق العراق حافلة باللّصوص .

وذات يوم زرته في منطقة ( القاطون ) ، ففاجأني أنّني رأيت كلبين يهزّان ذيليهما في باحة بيتنا .

لأكثر من ثلاثين عاماً وأبي لا يسمح لنا بإدخال كلب الى البيت ، حتى ولو كان جرواً جميلاً ودودا ، لكنّه هذه المرّة – وتحت إمرة وضع إجتماعي قاهر تنازل قليلا عن حسّه الديني - كان قد وافق على إدخال كلبين معاً في وقت واحد .

قلت له مشاكساً : هذا يعني أنّنا نجونا أخيراً من الملائكة .
عندها قال حكمته الرائعة : أن تخرج الملائكة من البيت خير من أن يدخل اللّصوص إليه .



#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آني جدّي قرد
- مراسيم الدّفن الجميل / صفحة من كتاب أصدقائي
- الى ليلى محمد أقف على رؤوس أصابعي
- قراءة منحازة لحادثة أحمد عبد الحسين وتداعياتها
- لا يزال كامل شياع يقود دراجته بإتّزان جميل
- علاقتي ببيتهوفن - صفحة من كتاب أصدقائي
- التضامن تمرين في النجاة رسالة الى السيدين جلال الطالباني ونو ...
- موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا
- دور المكان ووضوح المفاهيم في استئصال العنف
- رؤوس أقلام مدبّبة في الإستمتاع
- تعطيل آية السيف أو حذف نصف القرآن
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟ القسم الثاني
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟
- الى ( صفيحة ) المدى وجاراتها : درس في الأمانة الثقافية
- عوني كرومي : الجاد في لحظة هازلة
- عيسى حسن الياسري : قديس خارج الوقت
- الشعر العراقي الحديث : قراءة اجتماعية
- فلنمت وحيدين بعيدا
- يموت المعنى وتستمر الحياة
- تعليب النساء لمن ؟ محاولة في تفكيك المنظومة الذكورية


المزيد.....




- كعبٌ عالٍ وسقوطٌ مدوٍّ... حين تعثّرت نعومي كامبل ونهضت نجمة ...
- مدير IAEA: أجهزة الطرد المركزي بمنشأة فوردو النووية بإيران - ...
- مصور وناشط فلسطيني وثق الحرب بغزة في جولة أمريكية لجمع التبر ...
- قمة الناتو: إسبانيا تتحدى ترامب... تساؤلات: هل يظهر خامنئي ف ...
- السعودية..جدل بعد منع -البقالات- من بيع التبغ واللحوم
- تحطمت أسطورة إيران التي لا تقهر.. ما عليك معرفته الآن عمّا ق ...
- غزة: قتلى وجرحى في قصف على مدرسة وسموتريتش يهدد: إما وقف الم ...
- وصفه بالبطل.. ترامب يدعو لإلغاء محاكمة نتنياهو بتهم الفساد
- محللون والحرب الصهيونية الأمريكية على إيران
- تصريح صحفي صادر عن اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية الشعبية


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جمال علي الحلاق - بين كلب جياكوميتي وكلب أبي / صفحة من كتاب أصدقائي