أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جمال علي الحلاق - مراسيم الدّفن الجميل / صفحة من كتاب أصدقائي















المزيد.....

مراسيم الدّفن الجميل / صفحة من كتاب أصدقائي


جمال علي الحلاق

الحوار المتمدن-العدد: 3083 - 2010 / 8 / 3 - 16:27
المحور: سيرة ذاتية
    



قال صاحبي ظافر يعقوب ونحن ندخل مقبرة تمتدّ طولاً وعرضاً في إخضرارٍ كأنّها ساحة للعبة الغولف : " هذا المشهد يُحَبِبُ الموت " . كانت المرّة الأولى له في حضور مراسيم دفن في سيدني ، أعجبني إنطباعه ، رغم أنّني كنت أتوقّع البشاعة القادمة ، فقد تكون المقبرة جميلة ، الا أنّ مراسيم الدّفن كفيلة بقتل هذا الإنطباع .
لم نتعوّد أن تكون مقابرنا جميلة ، على العكس تماما ، فهي عادة ما تكون موحشة ، قاحلة ، كأنّها صحارى ، والقبور أطلال ، تتراكض فيها وحولها الجرذان ، والداخل إليها - من الناس - والخارج منها إمتداد لرملها .
لم يحدث أن فكّرنا يوما في أن تكون المقبرة متنزّهاً على كثرة تردّد الأحياء لزيارة الموتى ، سيبدو كلامي هذا في غاية البلادة عندما نعلم أنّ المتنزّهات كثقافة وكممارسة إجتماعية إنمسخت مع بداية الثمانينيات لتنمحي مع بداية التسعينيات ، فولد جيل جديد ليس لكلمة تنزّه حضور في قاموسه اليومي .
ثمّ أنّ وظيفة المقبرة في ثقافتنا تكاد أن تكون وظيفة تذكيرية ، وأنّ جفافها وعقمها يشيران الى جفاف وعقم الحياة ، فالمقبرة تؤدي رسالتها المطلوبة منها كلّما تصحّرت وتقحّلت .
وبالتأكيد فأنّ عملية كسر هذه الصورة أو الخروج عليها لا يتمّ إلا بتحطيم الصورة العقيمة لوجود الفرد في العالم في ذهنية الثقافة السائدة . المطلوب إذن هو إحترام الإنسان بدءاً ، هكذا فقط يبدأ العشب بالنمو في مقابرنا ، ومع العشب تتغيّر وظيفة المقبرة من تذكيرية الى إحتفائية ، تتحوّل من صحراء الى صالة تحتفي بأفراد كانوا أحياء وساهموا بطريقة أو بأخرى في صنع الحياة .
ترتبط مراسيم الدفن لدينا - وقد رأيتها لمرّاتٍ عديدةٍ عن كثب - بشعائر تزيد من شحوب المقبرة ، وتكرّس بشاعة الإجراءات ، بل تساهم في جعل الحياة آيلة للسقوط ، تذكّرنا بإنهيار البنايات ، وبصعود التسونامي ليكتسح كلّ ما أمامه من بشر وحيوان ونبات ، بطريقة تكاد أن تصيح : لا معنى للأحياء ، ولا للموتى .
إبتداءً من إخراج جثمان الميّت من تابوته ، والتناوب الإنفعالي على حمله بالأيدي ، فينحني الجثمان هنا ، ويستقيم هناك ، تتدلّى الرجل أو يتدلّى الرأس ، الى أن يتمّ إنزاله الى القبر بعد أن يكون ثمّة من يستقبله فيه ، ليصار الى دسّه في الجانب الأيمن من قعر اللحد دفعاً وحشراً إن لم يتّسع المكان ، ومن ثمّ تغليف الفتحة الجانبية بطابوق أو بقطع من الكاشي ، عندها يتصاعد الإنفعال الجمعي مع بداية عملية جماعية في إهالة التراب ، بالمساحي والأيادي ، وبهوس يعلو مع الغبار المتعالي ، مع نزيف جماعي من بكاء ونحيب وصراخ ترافقها قراءات قرآنية تزيد من سوداوية النهاية ، إجراءات لا علاقة لها بالتحضّر ، ومشهد يُفرِغ الإنسان من إنسانيته ، يجعل الموت كابوساً هائلاً ، يضيع الحيّ والميّت فيه على السواء .
كنت أتوقّع ذلك أيضا عندما قال صاحبي بأنّ مشهد الإخضرار يُحبّب الموت ، علما أنّني سبق لي وأن حضرت عملية دفن عراقية في سيدني أيضا ، وكانت إمتداداً مماثلاً لبشاعة مراسيم الدفن العراقي المعروف .
إلا أنّ ما حدث في هذه المرّة كان شيئاً مختلفاً تماماً ، كان عدد المشيّعين يربو على المئة والخمسين فرداً ، بين عرب وأكراد وإيرانيين وأستراليين وأفارقة وصينين وأشخاص أخرين من بلدان أخرى ، كانت النسبة الكبيرة منهم تحمل باقات ورود إختلفت أنواعها وألوانها ، كاختلاف أنواع الناس واختلاف ألوانهم .
كنّا في مراسيم دفن الجميلة ليلى محمد ، كان النعش مغطّى بباقة كبيرة من الورد ، قادتنا السيّارة التي تحمل النعش بين حدائق المقبرة ، وكنّا رتلاً طويلاً يتّجه الى خاتمة .
توقّفنا عند مكان ما كان مُهيّأً للإقامة الأخيرة ، نزلتُ من السيّارة بصحبة صديقي ظافر يعقوب ، وقد دفعنا الفضول معا الى أن نقف عند فم الحفرة ، إستعدادا لمراقبة أدقّ التفاصيل ، سواء ما يحدث الآن أو غدا .
لم يكن هناك حفر جانبي في القاع ، كما تمّ تغليف الحواف المحيطة بكاربت أخضر تدلّى قسم منه الى داخل القبر كأنّه إمتداد للعشب ، كما لو أنّ الحياة تحاول أن تمتدّ على الموت ، وكان ثمّة جهاز ريكوردر على مسافة متر .
رأيت أيضا عتلة تمّ نصبها على فوّهة القبر ، عتلة بحزامين أخضرين أيضا ، تمّ تثبيت النعش عليهما ، كانت المفاجأة الأولى لي أنّ جثمان الجميلة ليلى محمد بقي في داخل النعش محافظاً على هيبته ، لم يُكشف عنه ، بل بقي مستقيماً متوّجاً بألوان الورد ، وبعد أن تمّ تثبيت النعش على عتلة الإنزال تساءل المسؤول عن مراسيم عملية الدفن ، الذي كان هو وكادره لا يقوم بحركة أو إجراء دون أن ينحني للنعش ، لا تخلو الإنحناءة من ميكانيكية ، لكنّها في نفس الوقت تمتلك شحنة هائلة من الإحترام سواء للميّت أو للحيّ المرافق ، قال : " هل لديكم ثمّة موسيقى خاصّة يمكن أن تُعزف لحظة إنزال النعش الى القبر ؟ "
وقبل أن تبدأ الموسيقى بالتحليق ، وفي لحظة صمت تشبه سرب حمام حطّ على المكان ، إندفعت الجميلة نادية محمود ترتجل خطاباً إنسانيّاً مؤثّراً ، تحدّثت فيه عن مآثر رفيقة دربها الطويل ، تحدّثت عن الإنسانة والفعل والغاية ، وعن خسارة الفقدان التي تدعو الى الانتصار على كلّ ما هو غير متحضّر ، وعلى كلّ ما هو غير إنساني .
ثمّ تمّ عزف النشيد الأممي ، كان النعش المغلّف بالورد ينزل ببطء كما لو أنّه يؤدي رقصته الأخيرة ، دراما عالية جدا ، كان ثمّة حياة تنبعث في عملية الدفن ، جعلت المشيّعين يراقبون المراسيم بعيدا عن البكاء والصراخ والنحيب ، كان أشبه بعرض مسرحي ، فيه جمالية تدعو الى إحترام الإنسان ، تضخّ فيه إنسانية أكثر شفافية ، وأكثر نبلا .
عندما وصل النعش الى قاع القبر مع نهاية النشيد الأممي ، تمّ جمع باقات ورود المشيّعين على طبقة خشب كبيرة ، أصبحتْ غطاءً لفتحة القبر ، لم يكن هناك إهالة حفنة تراب واحدة ، على العكس تماما ، تمّ تغليف النعش والقبر بالورد ، كنّا نودّع ليلى محمد باحتفاء ، قال صديقي محسن بني سعيد الذي كان حاضراً أيضا : " جمالية الدفن تليق بجمال ليلى " .
لم أخرج من المقبرة خائفاً أو حزيناً ، كان العرض المسرحي جميلاً وخليقاً بأن يجعلني أفكّر بأشياء أخرى ، أشياء كثيرة تخصّ قيمة الإنسان ، وقيمة الحفاظ على هيبة وجوده ، فالموت ليس نهاية الحوار ، ستظلّ ليلى محمد بيننا ، مراسيم الدفن الجميل منحتها حياة أخرى ، لقد غادرنا المقبرة وليلى مغلّفة بالورد ، ما حدث هناك أنّنا لم ندفنها ، بل توّجناها باحترام وحبّ كبيرين ، لأنّها تستحق ذلك حقّاً .



#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الى ليلى محمد أقف على رؤوس أصابعي
- قراءة منحازة لحادثة أحمد عبد الحسين وتداعياتها
- لا يزال كامل شياع يقود دراجته بإتّزان جميل
- علاقتي ببيتهوفن - صفحة من كتاب أصدقائي
- التضامن تمرين في النجاة رسالة الى السيدين جلال الطالباني ونو ...
- موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا
- دور المكان ووضوح المفاهيم في استئصال العنف
- رؤوس أقلام مدبّبة في الإستمتاع
- تعطيل آية السيف أو حذف نصف القرآن
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟ القسم الثاني
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟
- الى ( صفيحة ) المدى وجاراتها : درس في الأمانة الثقافية
- عوني كرومي : الجاد في لحظة هازلة
- عيسى حسن الياسري : قديس خارج الوقت
- الشعر العراقي الحديث : قراءة اجتماعية
- فلنمت وحيدين بعيدا
- يموت المعنى وتستمر الحياة
- تعليب النساء لمن ؟ محاولة في تفكيك المنظومة الذكورية
- الذات والعقاب قراءة في نمو المستوى الدلالي لمفهومي الغربة وا ...
- دعوة للتضامن مع الصحفيين العربيين عدلي الهواري وعبد الهادي ج ...


المزيد.....




- -أمريكا ستنقذه-.. ترامب مدافعًا عن نتنياهو وسط محاكمته بتهمة ...
- مقتل عدة أشخاص خلال هجمات للمستوطنين الإسرائيليين بالضفة الغ ...
- خبراء: عملية خان يونس أكبر مقتلة للإسرائيليين هذا العام وأقس ...
- إنفوغراف: قتلى وجرحى الاحتلال الذين سقطوا في غزة خلال يونيو ...
- وزراء إسرائيليون يقرون بالفشل في غزة ومسؤولون بالائتلاف يدعو ...
- ترامب: أميركا أنقذت إسرائيل والآن ستنقذ نتنياهو من المحاكمة ...
- ترامب يعترف بتقييم الاستخبارات حول وضع مواقع إيران النووية ب ...
- بعد وقف إطلاق النار.. وزير دفاع إيران يصل الصين في زيارة تست ...
- موجة حر غير مسبوقة تجتاح شرق روسيا: حرارة قياسية وحرائق تهدد ...
- عاجل | حماس: جرائم الاحتلال ومستوطنيه وآخرها في كفر مالك تست ...


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جمال علي الحلاق - مراسيم الدّفن الجميل / صفحة من كتاب أصدقائي