أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جمال علي الحلاق - موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا















المزيد.....


موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا


جمال علي الحلاق

الحوار المتمدن-العدد: 1831 - 2007 / 2 / 19 - 11:30
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في باب الحديث عن يزيد بن عبد الملك قال الكازروني : " ماتت حبّابة ، فمات بعدها أسفا وحزنا عليها ، وتركها أياما لم يدفنها ، حتى عوتب في ذلك ، فدفنها ، ثم نبشها بعد الدفن ، وشاهدها ، من شدّة وجده بها "
)مختصر التأريخ (

مدخل عام

عندما تدخل اللعبة ، أقصد الحياة - رغم أن الدخول لا يتكرّر كثيرا - عليك أن لا تبتعد عن المركز ، إن لم تكن محورها ، وفي نفس الوقت كن بعيدا جدا ، خارج أطرافها القصوى ، كن مراقبها الأقصى ، هكذا فقط تنجو من فكوك النمل .

ماتت حبّابة - هكذا نطق الكازروني - فمات بعدها ( يزيد بن عبد الملك ) أسفا وحزنا عليها .

بعيدا عن القراءة السياسية للنص ، محاولة ( في التخلّص ) من الانحياز الطائفي أيضا - رغم أنني لا أخفي وقوفي إلى جانب الحزن - أطوف حول النص بأجنحة التأويل ، الذي لن يكون في النهاية إلا قراءة ذاتية جدا .


الحاجة أم الحب ؟


للوهلة الأولى يبدو المشهد في النص عتيقا جدا - فهل تغيّرت الذائقة حقّا ؟ - فالمشهد إبن ذلك الوقت تماما ، عندما كانت الأشياء تتحرّك ببطء شديد ، وعندما كان للعاطفة متّسع من الوجود ، فالعلاقات تنمو ، وتكبر ، فتشيخ .

البطء يملأ الوقت بالفراغ ، الذي يجعل الأشياء تتكرّر إلى ما لا نهاية ، في رتابة كهذه من المفروض أن يغدو كلّ شيء غاية في الملل .. إلا أنّ النص يتحدّث عن عكس ذلك تماما " ماتت حبّابة ، فمات بعدها أسفا وحزنا عليها " ، هل كان وجود ( حبّابة ) كسرا لرتابة الحياة عند ( يزيد ) ؟

في هذا النص تحديدا ، شيء ما يمكن أن أسمّيه ( ردّة فعل ) تجاه ( العقل ) الذي يغلّف ( الحياة / لحظة يزيد ومكانه ) . لا أتحدّث الآن عن الخروجات التي في النص ، لكن عن هذا التعالق الوجداني الذي لا أستطيع إلا أن أقرأه بدلالة الإعتراض " فمات بعدها أسفا وحزنا عليها " ، أو " من وجده بها " ، موت يزيد - هنا - إعتراض وجودي على ( انقطاع الصلة ) .

القراءة الظاهرية للنص تجعلنا نرى ( ذات ) يزيد بن عبد الملك منصهرة مع ( ذات الآخر ) متمثّلة بحبّابة ، حدّ أنّ ( يزيد ) لا يجد لذاته مبررا - عقلانيا - دونها ( لقد تحقّقت بها هويّته الخاصة / أناه ) .

ومع هذا أرى - من الصعوبة بمكان - التحدّث عن الحب منفصلا عن الحاجة الى ( الذات ) بحسّها الأناني ، ولا أستبعد أبدا القراءة الكامنة للنص وهي أنّه مات ( من وجده بذاته ) .

بداية ، الحب اشتراك ، أن نقيم معا في سنتمتر مكعّب دون أن أجد في وجودك إعاقة أو تضييقا لي .. على العكس تماما ، الحب يجعلني إيثاريا ، يجعلني أفسح لك ما أستطيع من الفضاء ، وأمنحك المشاركة في جسدي ونفسي .

هل يمكن أن تكون الذات إيثاريّة بغير حب ؟
هل يسمو الإنسان بالعقل ( الخالص ) إلى هذه الرتبة ( كانت : مفهوم الواجب ) ؟

أعتقد أنّنا بحاجة إلى ( إعادة إنتاج ) هذه القراءة مرّة أخرى - أقصد مفهوم الواجب عند ( كانت ) - وأن نحثّ عليها ، فالزمن السيّال لا يمنح الفرصة لأيّ كان أن يعلن عن ذاته . السيلان يعني التجاوز ، يعني بلوغ الشيخوخة باكرا ، قبل الطفولة أحيانا .

لا يولد الحب - التعالق الوجداني - هكذا من الهواء ، ربّما هو التكرار الذي يجعل الأرواح تتواشج وتنصهر بعضها ببعض ، أي أنّ دافع الملل قد يكون ذاته دافعا للتعالق الوجداني ، وهذا ما كان متحقّقا في الزمن البطيء .

أما الآن ، وبعد أن ولدت القارات البعيدة ، وتضاءل حجم الكوكب ، حتى أنّ خطوة تنقلك إلى عالم آخر ، وعادات أخرى . أصبح الخروج من الثوب - تقمّص حالة الأفعى - أكثر سهولة ، وأصبح الإنخراط في ذوات أخرى أكثر يسرا ( لم يكن قالب الوقت يوما بهذه الكثافة الشعرية كما هو الآن ، إلا أنّ المحتوى - الإنسان - يتقدّم بعنف ، كما لو لم يحدث من قبل ، نحو فقدان العاطفة . أستطيع القول أنّ العالم - الآن فقط - يتّجه نحو ذاتية تقترب كثيرا إن لم تلتصق بذاتية الشعر الرومانسي - الغربة تحديدا - نهاية القرن الثامن عشر ) .

أتساءل في ( عالم متضاد ) كهذا ، هل يمكن أن يولد - الآن - الحب الذي كان في ذلك الوقت ( أقصد لحظة يزيد بن عبد الملك ومكانه ) ؟

أعتقد أنّنا بحاجة أيضا إلى قراءة تأثير الوعي على تمدّد العاطفة وانكماشها . هل سيفقد الإنسان عاطفته - بشكل نهائي - في لحظة قادمة ؟

لقد تغيّر شكل حياة الإنسان ، وتغيّر جوهرها ، كثرت مفرداتها فتضاءل وقتها ، لكن ، هل يمكن - في حالة الإستعصاء - أن يولد الحب كما يولد أطفال الأنابيب ؟ أو هل يمكن إستنساخه كما يتمّ إستنساخ النعاج والأبقار والبشر ؟

لم ندخل إلى المركز بعد - أتحدّث عن الشرق عامة والعرب خاصة - هذا في حال كوننا نتّجه إلى المركز أصلا ( محاولة في التفاؤل ) .

أقول ، لا نزال بعيدين عن اللحظة الراهنة ، بل وقريبين معرفيا وذوقيّا من ( لحظة ومكان يزيد وحبّابة ) رغم دوران الأرض وابتعاد المجرات ( ماتا في سنة 105 هج ) ، الأمر الذي يجعل مشهد النص واقعا معاشا أيضا .

ينبغي الإعتراف ، أنّنا - نقيم الآن - في اللحظة الحرجة ، التي تجعل ( بندول الذات ) متذبذبا بين المعرفة والزمن . رغم أنّ المعرفة تحدّد الزمن ، إلا أنّنا نلتصق بقشور اللحظة الراهنة بعقليّة تنتمي لزمن عتيق .

لا نزال - سايكولوجيا - نحتاج الحب ، دون أن ننتبه لأصل إحتياجنا ، أقصد الإنتباه ( للإحتياج ) نفسه لا للحب . ننجرف خلف الحب - بدلالة التعالق الوجداني - دون أن نبحث في سرّ الإنجراف .

كما لو أنّنا أكياس محشوّة بتكرارية مقيتة ، يبدو الخروج عليها خروجا على العالم ، بل يبدو الإقتراب من ( الذات ) فقدانا لها .

أستطيع القول ، يبدو الحب علاجا مشفّرا لداء إسمه ( فقدان الذات ) . لا أحد يجرؤ على الإفصاح ، رغم أنّ العاطفة تصلح أن تكون مقياسا لكثير من القراءات .




عودة إلى حبّابة




لا يهمّني في هذه اللحظة من كانت حبّابة تلك ، رغم أنّها تمثل قطب الحدث ظاهريا ، كلّ ما أريده ، وما أطوف حوله ، أنّ إنسانا ما إستطاع في لحظة ( قد تكون بطيئة ) أن يكون ( العالم ) بأكمله لإنسان آخر ، ربّما كان بالنسبة له كمثل ( ذاته ) تماما .

قلت ( إنسانا ) ولم أقل ( أنثى ) فقد يحدث أن تكون ( ذكرا ) كما في ( أنكيدو ) . ومع هذا فقد أغلق حفيد ( محمد علي باشا ) كلّ المدارس في مصر - إبتداء بمدرسة الطبّ البيطري - لأنّ حصانه الأحمراني مات !

إذن ، القضية أكثر تعقيدا والتباسا من كونها إحتياجا جسديا ، كان بإمكان يزيد بن عبد الملك أن يتّخذ من النساء بدائل كثرا ، ألم تكن هنالك ( جورية و سلامة القس ) وأمثالهما ؟
بل أنّ بعض المصادر - الأغاني مثلا - تشير إلى أنّ ( سلامة ) كانت أكثر جمالا وبهاء من ( حبّابة ) ، إضافة إلى كونها تتفوّق عليها في رخامة الصوت وعذوبته .

إذن ، لم تكن الحاجة منحصرة في الصوت ، ولا في الجسد ، ثمّة - عند حبّابة - شيء آخر يختلف ، شيء يقترب جدا - إن لم يلتصق - من ( ذات ) يزيد بن عبد الملك ، شيء ما يجعله يفكّر بالطيران ، فتسأله حبّابة : ولمن تترك الخلق ؟
فيجيبها بلا تردد : لكِ .

لم يكن ير فاصلا بينهما ، لقد تجسّدت ذاته في كائن آخر ، وهنا نرتفع الى قراءة ( الآخر ) باعتباره المناخ الذي ( فيه أو به ) تتحقّق ( الذات ) ، وهذا ما يجعل النص منفتحا لقراءات أكثر اتساعا .




الحياة بحاجة الى تبرير




إنّ العودة إلى قراءة النص - وأنا أحاول قراءته من داخل المنظومة المعرفية التي كانت تحيط وتحكم الناس آنذاك - تجعلنا أمام خروجات عديدة أذكر منها :

1- ماتت ( حبّابة ) فتركها ( يزيد ) أياما ( لم يدفنها ) .
2- دفنها ثمّ نبشها .

في هذين الخروجين تحديدا تكمن ( ذات ) يزيد بن عبد الملك ، إنّها خصوصيته النافرة ، ليس على أحد - لم يكن معنيّا بأحد - نفوره جاء ضدّ إشكالية الحياة والموت أصلا .
كان خارج التأطير / خارج الإنتباه الجمعي ( فعوتب ) .
لم يكن لحظتها معنيّا بالأخلاقيات التي تسيّج الوقت والناس ( فعوتب ) .
كان خارج الوعي الممنطق للإشكالية ذاتها ( فعوتب ) .

العتاب هنا هو إصرار ( العرف / الشرع ) على ( تغليف / تعطيل / تأجيل ) السؤال أو الحاجة .

لقد تمّت قراءة المشهد على أنّها إنفعال عاطفي " من وجده بها " .

أقول : لا يخلو الأمر من ذلك ، إلا أنّ ( الحاجة ) الحقيقية أكثر بعدا وغورا ، إنّها ( الانتباهة ) التي جعلت يزيد بن عبد الملك يقيم في ( البرزخ ) ، في الأخدود الفاصل بين الحياة والموت .

النص يصرّح ، لقد " تركها أياما لم يدفنها " .
وفي ( الأغاني ) كان يسكب عليها المسك ويؤطرها بأنواع البخور ، لم يكن ( يزيد ) هنا بعيدا عن ( كلكامش ) .

إنّه في ( الإنتباهة ) التي تخلق الخروج ( خرج كلكامش - من المكان - بحثا عن الخلود ) بينما خرج ( يزيد بن عبد الملك ) على اللحظة التي تسيّج السؤال .

كلاهما كان على قمّة الهرم الإجتماعي . لم يجرؤ أحد على معاتبة كلكامش - لم يكن قد إنفصل تماما عن الإله - بينما عوتب يزيد ، لأنّه جاء بعد ( ثبات ) النص المقدس ، بعد إنفصال الإنسان عن الله ، لقد ( خرج ) على ( إكرام الميت دفنه ) فعوتب .

لا يشير النص إلى ( عقوبة ) ، ومع هذا فقد كانت عقوبة ( يزيد ) ذاتية جدا ، كان واقعا - بإبقاء حبّابة بغير دفن - تحت العقوبة ( رؤية مشهد الجثة ، وقيامة العفن نوع من جلد الذات ) .

لا أريد أن أحمّل القراءة بعدا ميتافيزيقيا ، فالعقوبة لا يبتعد محيطها أكثر من نطاق الذات لنفسها ، الإنتباهة بحدّ ذاتها عقوبة ، لذا قيل " حشر مع الناس عيد " ، أفهم الحشر هنا بدلالة ( الهروب من قسوة ضريبة الإنتباه الذاتي / القتل ، الطرد ، الإقصاء ) ، قال علي بن أبي طالب : " أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام " ، أقول : لم يكن يزيد - هنا - في منطقة النوم ، بل أنّ يقظته الخاصة جدا كانت عقابه .

ومع هذا لم يكن ( يزيد بن عبد الملك ) أوّل من أخّر دفن الميت ، فقد تمّ صلب جسد ( عبد الله بن الزبير ) على خشبة . وكان من عادة الحكومات ( الولاة ) التي تظفر بالخارجين عليها ، تقطيع الرؤوس والتشهير بها في المدن ( لقد حمل رأس الحسين بن علي من العراق إلى الشام ) ، بل إنّ ( الموفّق العباسي ) لما ظفر بأحد أصحاب ( صاحب الزنج ) أدخل خازوقا في دبره - وهو حي - وأخرجه من فمه وشواه على النار كشاة .

ألم يُترك قتلى الحروب حتى تنتفخ بطونهم وأيورهم في العراء ؟!
عن الجاحظ في ( الحيوان ) أنّ الرجل اذا ضربت عنقه سقط على وجهه ، فإذا انتفخ ، انتفخ غرموله وقام وعظم ، فقلبه عند ذلك على القفا . فإذا جاءت الضبع لتأكله فرأته على تلك الحال ، ورأت غرموله على تلك الهيئة ، إستدخلته وقضت وطرها من تلك الجهة ، ثمّ أكلت الرجل ، بعد أن يقوم ذلك عندها أكثر من سفاد الذّيخ ( الذكر من الضباع ) .

وفي رواية أخرى أنّ عبد الملك بن مروان مرّ - بصحبة جارية له - بالقرب من جثّة مصعب بن الزبير وكانت قد انتفخت وانتفخ أيره ، فقالت الجارية : ما أغلظ أيور المنافقين !

صور كثيرة للتعطيل والتمثيل ، لكنّها أبدا لا تولّد إنتباها لدى القائمين بها ، لأنّ الدوافع التي تحجب الإنتباه ( طائفية ، عرقية ، قبلية ) كانت هي الأكثر هيمنة على التفكير ، بل كانت الإطار الإجتماعي للحياة لحظتها ، من هنا يكتسب النصّ - الذي أطوف حوله - هيمنته كلحظة خارجة على الوعي الجمعي الممنطق ، باتجاه ( الكشف الذاتي ) .

لم يصرّح أحد من المؤرخين ، أنّ ( يزيد ) توصّل إلى شيء من هذه التجربة ، كلّ ما هنالك أنّه ذبل ، وظلّ يذبل ، وبسرعة لحق ( حبابة ) . أي أنّه كان النقيض الحاد لكلكامش ، ربّما لأنّ الأخير غادر المكان واتّجه إلى السؤال مباشرة ، بينما ظلّ ( يزيد ) محاصرا بالذهاب والتلاشي السريع ، كان في المنزلق الشديد ، وظلّ يهوي بسرعة هائلة .. لم يكن أحد من الذين إلى جواره قريبا منه - كانوا جميعا داخل منظومة الحرام والعار - كانوا على السطح تماما ، وكان هو في العمق بعيدا ووحيدا .



سُنّة نبش القبر




يقول النص أنّ ( يزيد ) لما عوتب قام بدفنها " ثمّ نبشها بعد الدفن وشاهدها " .

تذكّرني هذه الحادثة بخالد بن سنان العبسي ، الذي قال فيه النبيّ : " ذاك نبيّ ضيّعه قومه " .

فقد أوصى خالد بنيه بنبش قبره بعد ثلاثة أيام من عملية الدفن ليخبرهم عن سرّ العالم والوجود ، فلمّا أرادوا تنفيذ الوصية إعترض إبنه عبد الله وقال : وماذا تسميني العرب ، إبن المنبوش ؟

كانت هذه الحادثة أيام الجيل الأول من الأحناف قبل أن يعلن محمد بن عبد الله نبوّته ، لم تكن منظومة ( الحرام ) قد تشكّلت بعد ، ومع هذا كانت منظومة ( العار ) تسيّج الواقع الإجتماعي .

لا يزال العرب والمسلمون محكومين بهاتين المنظومتين الى الآن ، وفي هذا إشارة صارخة الى خفوت وانحسار فاعلية الوعي المدني .

إلا أنّ ( يزيد ) نبش القبر - ينبغي الإنتباه للدلالة الاجتماعية والنفسية لكلّ من حفر القبر ونبشه - إقترب يزيد كثيرا من الموت ، رأى القسوة التي لا مهرب منها ، ولا نجاة .

كيف يمكن قراءة الإدمان على جلد الذات بعيدا عن المازوخية ؟ الجلد هنا يحتاج الى قوّة هائلة ، إنّها محاولة في تحطيم الأصنام مرّة أخرى .

أقول : ميتة ( حبّابة ) كسرت تكراريّة الموت بالنسبة ليزيد ، جعلته في صلب إشكالية الإختفاء والظهور .

إقترب كثيرا من التلاشي ، من ذهاب الحياة حتى كأنّها لم تكن .

لم يقترب أحد من ( الحاجة ) التي دفعت ( يزيد ) إلى نبش القبر ، لم يتجاوزوا حدود الظاهر ، ونسوا تماما ، أو تناسوا ، أنّ بعض الأسئلة لا يمكن حتى للغة أن تحيط بها .

قال النص " وشاهدها من وجده بها " .

إنّها محاولة في استرجاع الذات بعد ذهاب أوانها ، موت حبابة كان موته ، لكنّه بقيّ وذهبت ، فانشطر بين الإقامة ميّتا ، أو اللحاق بها . كان قريبا جدا من ذاته ، وبعيدا - في نفس الوقت - عن الآخرين . كانت ذاته – هناك – حيث تقيم حبابة بعيدا عن الحياة .

قيل أنّه مات " أسفا وحزنا عليها " بعد شهر ، وقيل أقل من ذلك ، لكنّه ، بعد حفنة من السنين سيتم نبش قبره من قبل العباسيين - لا من وجدهم به بل - من شدّة كراهيتهم له وللأمويين ، كما لو أنّ ( يزيد بن عبد الملك ) قد سنّ لهم نبش القبر ( رغم أنّها ممارسة قديمة ) ، لكن ، شتان ما بين الإفتقاد والكره .

سيتكرّر مشهد النبش كثيرا ، خصوصا في لحظتنا الراهنة ، فبين البحث عن موتى ضائعين ، وآخرين يحاول الناس ( التخلّص ) منهم على عجل حتى بعد الموت سيتكرّر مشهد نبش القبر وسحل الميت - يتكرّر مشهد نوري السعيد - إلى مديات طويلة ( سحل تمثال صدام حسين قراءة أخرى لسحل نوري السعيد ) ، ولن تكون مشاهد السحل في ( الفلوجة ) هيّ الأخيرة حتما .

ينبغي إعادة قراءة ضمور الحب وترهّل العنف ، كما لو أنّنا في اللحظة الضدّ تماما لقول المسيح " أحبّوا أعداءكم " ، بل كما لو أنّنا نقيم الآن في - لحظة هوبز - " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان " ، ينبغي الإعتراف أنّنا متأخرون عن " أحبّوا أعداءكم " بألفي عام .




القراءة الرمزية للنص : العالم ينتحر




الحادثة تمتلك من الشفافية حدّ أنّها يمكن تجريدها أيضا ، ولهذا لا أتردّد في إعادة قراءة ( حبّابة ) على أنّها ( عرف أو دين أو أدلجة ) ، وبالتالي فإنّ تحطّم أحد هذه المفاهيم كإطار إجتماعي قبل أن يتحطّم كذائقة داخل وعي ( الذات الفاقدة ) يجعل الأخيرة تنجرف سريعا إلى الانهيار فالإنتحار - أتحدّث تحديدا عن الذات المنصهرة مع فكرتها ، ولا أتحدّث عن ذات تمتلك قدرة الحرباء على التلوّن - لأنّ القضية لا تبتعد كثيرا عن ( التشبّع فالخروج ) .

إنّها من زاوية ما تشبه تحطّم الصنم كحجارة وبقاءه كفضاء إجتماعي للتحليق ( سيستمر مفهوم الأصنام عالقا في أذهان القريشيين إلى سنين طويلة بعد فتح مكة ، سيكون دائما ثمّة صنم في الزوايا البعيدة عن رقابة المؤسّسة الاسلامية ) .

لقد تمثّل لنا من هذه الصور في عقد من الزمان ما لم يتمثّل في قرن .

بدءا بسحب البساط من تحت الأفكار الشيوعية على صعيد التطبيق ، وبقاء الطبقات المسحوقة ، بل تناميها في العالم . لا يمكن نسيان الإنتحارات التي واكبت اللحظة ، سواء أكانت إنتحارات جسدية أم ذهنية ( أنا هنا أقرأ الإرتداد الفكري انتحارا ) .

كذلك الخروج من حلم ( القومية ) إلى واقع لا يقيم للهويّة أيّ اعتبار أو قيمة ( الكثيرون تحسّسوا ذلك مع دخول إسرائيل إلى لبنان ، والإنتحارات التي جرت يومها - خليل حاوي نموذجا - لا تبتعد كثيرا عن الدخول في حالة يزيد بن عبد الملك ) .

ولا أوضح مما يقوم به الإسلامويون المتشدّدون على كلّ الأرض - كنموذج صارخ ليزيد بن عبد الملك - من تفخيخ الذات وإنتحارها عبر نسف العالم ( اللحظة الراهنة ومكانها ) .

سيكون لعمق الزمن الذاتي ، أقصد ( زمن الذات الخاص جدا ) وتعالقها مع الفكرة ، القسط الأكبر من تحقّق الإنهيار الشخصي فالإنتحار ، ذاك أنّ الأجيال التي نمت على حلم المشاعية الثانية ، أو تلك التي نمت على الحلم القومي ، تجاورهما التيارات الإسلامية التي رأت وترى شارع الحياة خاليا من طقوسها ، كلّ هذه الاتجاهات تشبه من زاوية ما - ولا علاقة للتشبيه هنا بمقياس الصح والخطأ - الأجيال التي نمت على تقديس الصنم ، لكنّها جميعا ، وفي لحظة خارجة على عقلها ( الذاتي / الجمعي ) ، أصبحت بعيدة - لا بإرادتها - ومعزولة داخل عالم آخر يبدو بلا معنى - من وجهة نظرها - ولا يمتّ بصلة لكلّ ما كان ، إنّها ( لحظة استئصال الذات من عقلها الخاص قبل ذبولها وموتها ) .

هنا ، تجد ( الذات / الدين / الأدلجة ) التي لم تحقّق بعد إنفصالها الطبيعي عن اعتقاداتها - التي أعلنت إفلاسها كقوى ذات ( تأثير ) لعجزها عن تقديم حلول اجتماعية في هذه اللحظة التأريخية من زمن العالم - أقول تجد نفسها في عالم خال من المثل وعاطلة فيه المفاهيم ، أي إفراغ ( الذات / الدين / الأدلجة ) من أيّ تبرير لوجودها ، وهو ما يجعلها تشعر بأنّها غير مجدية فتذبل ، وتموت وجدا ، تماما كيزيد بن عبد الملك .



#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دور المكان ووضوح المفاهيم في استئصال العنف
- رؤوس أقلام مدبّبة في الإستمتاع
- تعطيل آية السيف أو حذف نصف القرآن
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟ القسم الثاني
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟
- الى ( صفيحة ) المدى وجاراتها : درس في الأمانة الثقافية
- عوني كرومي : الجاد في لحظة هازلة
- عيسى حسن الياسري : قديس خارج الوقت
- الشعر العراقي الحديث : قراءة اجتماعية
- فلنمت وحيدين بعيدا
- يموت المعنى وتستمر الحياة
- تعليب النساء لمن ؟ محاولة في تفكيك المنظومة الذكورية
- الذات والعقاب قراءة في نمو المستوى الدلالي لمفهومي الغربة وا ...
- دعوة للتضامن مع الصحفيين العربيين عدلي الهواري وعبد الهادي ج ...
- العائلتية نظام حيواني قراءة في ثقافة صدئة
- فايروس حق الاعتراض : الفعل هو الكلام حتى لا يتجرأ أحد على تج ...


المزيد.....




- هل انتهى «العد التنازلي لزوال إسرائيل»؟ فرانس24 تتحق
- الناتو يرسم مستقبل الامن الجماعي في لاهاي
- ويتكوف يأمل باتفاق سلام مع إيران وماكرون يدعوها للتعاون مع و ...
- إيران تعيد فتح مجالها الجوي جزئيا بعد وقف إطلاق النار مع إسر ...
- -أمريكا ستنقذه-.. ترامب مدافعًا عن نتنياهو وسط محاكمته بتهمة ...
- مقتل عدة أشخاص خلال هجمات للمستوطنين الإسرائيليين بالضفة الغ ...
- خبراء: عملية خان يونس أكبر مقتلة للإسرائيليين هذا العام وأقس ...
- إنفوغراف: قتلى وجرحى الاحتلال الذين سقطوا في غزة خلال يونيو ...
- وزراء إسرائيليون يقرون بالفشل في غزة ومسؤولون بالائتلاف يدعو ...
- ترامب: أميركا أنقذت إسرائيل والآن ستنقذ نتنياهو من المحاكمة ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جمال علي الحلاق - موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا