أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جمال علي الحلاق - آني جدّي قرد















المزيد.....

آني جدّي قرد


جمال علي الحلاق

الحوار المتمدن-العدد: 3100 - 2010 / 8 / 20 - 10:54
المحور: سيرة ذاتية
    


كنت أقرأ في كتاب باللغة الإنجليزية عن نظرية النشوء والإرتقاء لداروين - والتي تقول بأنّ أقرب الكائنات الحيّة الى الإنسان هو القرد ، ولعلّ أصل الإنسان لا يكون بعيدا عن أحد أنواع القردة - عندما بادرني زميلي الباكستاني بانفعال ، وبثقة عمياء قائلاً : أنت بالتأكيد لا تؤمن بهذا .
قلت بهدوء : أنا بالتأكيد أؤمن بهذا .

استغرب الزميل الباكستاني من إجابتي ، وبدأ يتحدّث عن قصّة الخلق في الكتب المقدسة سواء أكانت في التوراة أو في القرآن ، وكيف أنّ الكائنات الحيّة وغير الحيّة إنخلقت بأمر من الله ، الذي قال لها : " كوني " فكانت .

قاطعت زميلي قائلا : لا علاقة لنظرية النشوء والإرتقاء بكلّ ذلك ، كما أنّ داروين لا يتحدّث في كتابه " أصل الأنواع " عن عملية الخلق الأولى ، الرجل لم يخض أيّ جدل عقيم كهذا ، بل أنّ كلّ ما فعله هو أنّه حاول أن يدرس بمنهج علمي تجريبي الكائنات الحيّة التي لا تزال على قيد الحياة ، تتكاثر ، وتواصل إنتاج أنواعها كجزء من إجراءات العملية الحياتية في الطبيعة ، الرجل بدأ من ما هو موجود ، ورأى – بفعل البحث - خيطاً يربط الكائنات الحيّة بعضها ببعض ، فقال بوجود الصلة بينها ، وشاهد أنّ عملية التغيير تتمّ تحت ظروف طبيعية معيّنة ، فقال بأنّ الكائنات الحيّة تتطوّر وفق آلية الإنتخاب الطبيعي .

منذ أن صدر كتاب داروين " أصل الأنواع " عام 1859 ، والعالم في حيص بيص إزاء الوقوف الى جانب النظرية ، أو الوقوف بالضدّ منها ، وقد كانت هناك جدالات عميقة ، ومواقف ساخنة لعلّ أبرزها موقف هكسلي صديق داروين عندما ردّ من على المنبر على رجل دين كان قد هزأ من فكرة أن يكون أصل الإنسان قردا ، قال هكسلي : " أفضّل أن أنتمي للقرد على أن أنتمي لرجل يتكلّم في ما لا يعرف " .

وبالتأكيد فإنّ العلماء لم يتوقّفوا عند الحدّ الذي قال به داروين ، بل راحوا يبحثون في أماكن وزوايا أخرى لم ينتبه لها داروين نفسه ، حتى كادت النظرية أن تتكامل ، ومع هذا فلا يزال هناك الكثير من الناس ، بل الأغلبية الساحقة على الأرض ، تعتقد أنّ الخلق تمّ وفق الآليات التي نصّت عليها الكتب المقدسة ، رغم أنّ داروين ذو الجذور المسيحية لم يكن يرى أيّ تقاطع بين نظريته والكتاب المقدّس ، بل أنّه كان يرى أنّ النظرية تجعل الإله أكثر منطقية .

قال زميلي الباكستاني ضاحكا : لكنّك بإيمانك هذا تقرّ بأنّ جدّك قرد .
قلت : ما علاقتي بجدي الذي عاش قبل العقل ، وقبل أن تنتصب القامة أيضا ، لماذا نأخذ الموضوع بمثل هذه الحساسيّة ، ثمّ أنّ النظرية أكثر عقلانية ، وأكثر موضوعية أيضا من مقولة " كن فيكون " ، بل أنّ البحوث العلمية الحديثة ، إضافة الى المتحجّرات التي يتمّ العثور عليها بشكل مستمر كلّها تقف الى جانب النظرية ، وتهزّ عرش الكتب المقدسة ، لقد كان جدّي البعيد قرداً ، وأعتقد أنّ الدرس المهم الذي أتعلّمه الآن هو ألا أستمر قردا .

ثمّ أنّني قصصت على زميلي الباكستاني قصّة جميل صدقي الزهاوي الشاعر الذي حاول دائما أن ينشر النظرية في العراق عبر الشعر مع بداية القرن العشرين ، فما كان إلا أن هاج الخطباء والرواديد وماجوا ضدّه ، كما لو أنّه جعلهم يتحسّسون بقايا الأذناب قرب مؤخراتهم ، لقد هاجوا وماجوا ضدّه ، الى درجة أنّهم كانوا يطالبون الحكومة والناس بقتل المارق الزنديق ، فلجأ الزهاوي الى المكوث في بيته المعروف في بغداد لا يخرج منه ، لم يكن هناك تيّار إجتماعي يمكن أن يتكيء عليه أو يحتمي به ، كان فرداً ثائراً على الخرافة والأسطورة التي تغلّف المجتمع من أدناه الى أقصاه ، ومن أسفله الى أعلاه ، كان رايةً لجهة لم تتشكّل بعد ، هكذا ، دخل بيته ، وأغلق على نفسه الباب ، يقرأ ويتأمّل ويدخّن ، ولعلّه كان يدخّن قلقاً أكثر مما يقرأ ويتأمّل ، فقد حدث أن نفد التبغ لديه ، فظلّ يحوم في بيته لا يجرؤ على الخروج بعد أن أهدر الرواديد دمه ، يقول ( ماسينون ) الباحث الفرنسي وصديق الزهاوي ، أنّ الأخير بقي في البيت الى أن غابت الشمس ، فتستّر بالظلام وبقطعة قماش ، وذهب الى اقرب محل عطارة ، واشترى كمية من التبغ تكفيه لمدّة إقامته الجبرية في البيت ، غير أنّ المفاجأة كانت بانتظار الزهاوي النحيل كفكرة لم تجد أُذُناً ، فقرب باب بيته تماما ، كان ثمّة ( خوشي ) ضخم الجثّة ، مُسْتَفَز العضلات ، ينتظر عودة الزهاوي ، وأعتقد أن بعض الناس رآه يخرج فأبلغ الخوشي ، أو لعلّهم أبلغوا الخوشي بأنّ الزهاوي يقول أنّ جدّك قرد ، سكتت الرواية عن ذلك ، المهم أنّ الخوشي كان ينتظر الزهاوي عند الباب ، فلمّا وصل الأخير متستّرا بالليل والثياب ، وأظنّه رآى الخوشي وحاول أن يتجاهله ، فما كان إلا أن أمسكه الخوشي من ياقته ورفعه عاليا ، وهو يصيح : ولك آني جدي قرد .
فما كان من الزهاوي إلا أن بادر بالقول : " لا عمّي إنت سيّد ، جدّك رسول الله ، آني جدّي قرد " .

لقد كان الزهاوي بيد الخوشي عصفورا صغيرا عالقاً بمخالب نسر ، كان بإمكان الخوشي أن يقتله بسهولة دون أن يتعرّض لإدانة من قبل المجتمع ، أو محاكمة من قبل الدولة الفتيّة آنذاك ، على العكس تماما ، كانت ستخرج الناس من التكايا والمساجد والكنائس لتحمله على الأكتاف كبطل شعبي ، حمى الدين والجدّ البعيد من العار والدنس ، غير أنّ ما حصل كان نقيض ذلك ، لقد استطاع الزهاوي / العصفور الرقيق بعقله البديهي أن ينتصر على مخالب النسر ، لقد إستخدم الزهاوي إحدى آليات الإنتخاب الطبيعي في النشوء والإرتقاء ، فحافظ على بقائه حيّاً ، إحتال على عقل الخوشي أو عقل الخطباء والرواديد فتخلّص من الموت قتلا ، وبذلك جسّد عبر تجربته هذه أنّ الإنتخاب الطبيعي قائم ، وأنّ الكائنات قابلة للتطوّر ، محتفظاً برأيه : " آني جدّي قرد " ، ليكون بذلك بذرة ستتحوّل يوما ما – في حالة توفّر المناخ الملائم - الى شجرة ، والقضيّة هنا ليست في أن أصل الإنسان قرداً أم لا ، القضيّة تكمن في مستوى وزاوية التفكير ، في اتّجاه السؤال ، وعلى أيّ درجة من سلّم الوعي البشري المتنامي يقف الإنسان المتسائل ؟
فالقول بتطوّر الكائنات لا يثبت ولا يلغي القول بوجود إله ، على العكس تماما ، إنّها محاولة في منح المنطقية والعقلانية لوجود الكون ككلّ ، فعندما يكون الكون خاضعاً لقوانين وبرامج تتحرّك وفق آليات معيّنة ، وهذه الآليات نفسها في حالة تطوّر مستمر ، فإنّ ذلك يشير صراحة الى خلو الكون والحياة من منطق السحر والكهانة .



#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مراسيم الدّفن الجميل / صفحة من كتاب أصدقائي
- الى ليلى محمد أقف على رؤوس أصابعي
- قراءة منحازة لحادثة أحمد عبد الحسين وتداعياتها
- لا يزال كامل شياع يقود دراجته بإتّزان جميل
- علاقتي ببيتهوفن - صفحة من كتاب أصدقائي
- التضامن تمرين في النجاة رسالة الى السيدين جلال الطالباني ونو ...
- موت حبّابة وانتحار العالم / الانتباهة التي تلد خروجا
- دور المكان ووضوح المفاهيم في استئصال العنف
- رؤوس أقلام مدبّبة في الإستمتاع
- تعطيل آية السيف أو حذف نصف القرآن
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟ القسم الثاني
- كيف نؤسّس جيلا يعرف كيف يعيش ؟
- الى ( صفيحة ) المدى وجاراتها : درس في الأمانة الثقافية
- عوني كرومي : الجاد في لحظة هازلة
- عيسى حسن الياسري : قديس خارج الوقت
- الشعر العراقي الحديث : قراءة اجتماعية
- فلنمت وحيدين بعيدا
- يموت المعنى وتستمر الحياة
- تعليب النساء لمن ؟ محاولة في تفكيك المنظومة الذكورية
- الذات والعقاب قراءة في نمو المستوى الدلالي لمفهومي الغربة وا ...


المزيد.....




- مسؤول صحي لـCNN: مقتل عشرات جراء غارة إسرائيلية على مقهى على ...
- -أقود سيارة كهربائية لأنني فقير-
- جدل في سوريا بعد حظر الحكومة استيراد السيارات المستعملة
- الناتو يتحصن خلف -جدار المسيّرات- في مواجهة روسيا
- القضاء البريطاني يرفض طلبا لوقف تصدير معدات عسكرية إلى إسرائ ...
- موقع إيطالي: الهند وإسرائيل وستارلينك من يُدير لعبة التجسس ا ...
- بسبب الجرائم في غزة.. الجمعية الدولية لعلم الاجتماع تعلق عضو ...
- غينيا تصدّر 48 طنا من البوكسيت في الربع الأول من عام 2025
- كيف تفاعلت المنصات مع فقدان أوكرانيا مقاتلة جديدة من طراز -إ ...
- -برادا- تقلد صنادل كولهابوري الهندية.. ومغردون: هذه سرقة ثقا ...


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - جمال علي الحلاق - آني جدّي قرد