محمد سعيد الصگار
الحوار المتمدن-العدد: 3034 - 2010 / 6 / 14 - 21:39
المحور:
الادب والفن
في أواسط القرن العشرين كانت تتألق في سماء الفن العراقي مجموعة من الأسماء في مختلف فروع الفن، كما في الأدب والنشاطات الفكرية والثقافية الأخرى.
وإذا كان من حق هذه الكوكبة من المبدعين أن تُوثّق أعمالهم، احتراماً لإنجازاتهم من جهة، واعتزازاً بما يضم العراق من كنوز في إطار تلك المرحلة الشديدة الخصوبة في مختلف فروع الإبداع؛ وهي مهمة صعبة، فلا أقلّ من تفريعها وتناول معالمها، والإشارة إلى أعلامها، لعل جهة من جهات الثقافة تتصدى لتناولها والتأريخ لها مجتمعة.
وأنا منذ ربع قرن أتمنّى أن يتاح لي ظرف أكتب فيه عن أحد وجوه هذه الكوكبة المشعة في وجودنا الثقافي، ولكن ظل التمنّي تمنياً، واللوعة ماثلة لعدم التمكن من تحقيقه.
هذا الوجه المتألق هو خلاصة المعرفة الموسوعية التي حفل بها تاريخنا، وشحب لونها في أيامنا بسبب ما لحق بنا من تغيّرات انتظمت كل حياتنا وأفكارنا وانشغالاتنا، فلم نعد نلحق بتيّارها المتسارع، واكتفينا منها بالتخصص في القليل من فروع المعرفة.
كان الواحد من رجالنا يجمع بين الفلسفة والمنطق وعلم الفلك والطب والرياضيات والأدب والموسيقى، وإلى مواهب أخرى كالشطرنج وتفسير الأحلام وغيرها من المعارف التي كوّنت عصب الثقافة الموسوعية. ولنا من الأسماء ما يتعذر على الإحاطة والحصر.
هذا النزوع إلى المعرفة الموسوعية، خفّ في زماننا، واكتفى الكثير من المبدعين بالقليل الذي حوصر بالتخصص، وأجاد فيه، وهذا من طبيعة أيامنا.
على أن نزعة التوجه الموسوعي للمعرفة لم تختف كليّاً من محيطنا الإبداعي، لكونها نوعاً من الحلم باحتضان العالم، والإلمام بآفاقه والتلذذ بها، والرغبة في إشاعتها. ولكن هذا النفر القليل من المتطلعين إلى المعرفة الموسوعية، والدخول في تجارب ما تتيحه الثقافة المعاصرة، يواصلون تحقيق أحلامهم ويبدعون.
من هذا النفر المبدع النادر في زماننا، رجل كنت سعيد الحظ في التعرف عليه في أكثر من لقاء؛ بعدما كنا على مقربة - مبعدة من بعضنا لوقت طويل.
ناظم رمزي !
لا يوحي هذا الإسم المبارك بأي انتماء عرقي أو ديني أو طائفي؛ بل ربما كان أقرب لأن يكون إسماً مسيحياً.
لكنه لم يكن كذلك؛ فقد كان عراقياً كردياً مسلماً، لم يكن همه من يكون سوى (رمزي)؛
وبهذا الإسم دخل دفاتر عدة تواريخ كان له فيها الحضور البهي. فهو المصور الفوتوغرافي المرهف، والرسام الذي يبدع بصمت وبدون استعلاء، ورسام الكاريكاتير الحاذق، ومؤسس أكبر دار عصرية للطباعة في العراق، ومصمم الكتب والمجلات والملصقات والإعلانات، والخطاط، ومصمم الحروف الطباعية، والباحث الدؤوب عن الجمال في كل ما مارسه من فنون.
والأجمل من كل ذلك، ما كان له من علاقات حميمة بمثقفي تلك المرحلة ولحقها من أدباء وفنانين ومعماريين ورسامين وخطاطين ، وكانت كل ممارساته تتسم بالريادة والتجديد، وكان لشخصه الودود المتواضع، ذلك الحضور الأنيق في ذاكرة كل من تعرّف عليه.
في عام 1961 لم يكن في العراق ما نسميه الآن (المخرج الصحفي، أو المصمم الصحفي)، إذ كانت هذه المهمة الصحفية تُعهد إلى عامل المطبعة الذي يوزع مادة الجريدة أو المجلة على الصفحة، وفق ما يحدده له محرر الجريدة من تسلسل الأخبار وفق أهميتها. ولا شيء غير ذلك، فلا حساب لشروط فن الإخراج الفني، ولا لقيمة التعامل مع الكتلة والفراغ، ولا الإهتمام بالفنون المجاورة، ولا أهمية انتقاء أنماط الحروف والتمييز بين خطوط العناوين والمتن (وهي قليلة أصلاً).
على أن من الإنصاف ذكر أسماء من كانوا يحسنون التصرف في بناء الصفحة، وهم، على قلّتهم، جديرون بهذه الإشارة، أذكر منهم جمعة (من مطبعة الرابطة) وعليوي الناصر ( من مطبعة اتحاد الشعب) .
في هذه الفترة، كان رمزي يوقّع على ما يصممه وينجزه من مجلات بعبارة (تصميم رمزي).
وكنت أنا أصمم الإعلانات لدور الإعلان، وبعض الملصقات، والمجلات (أنباء كوبا) مثلاً، ولكنني لا أضع إسمي، وكنت أريد ذلك. وعندما رأيت (رمزي) يشير إليه، شجعني على أن أضع إسمي على ما أصممه : (مكتب صكار للدعاية والصحافة) الذي كان من حضوره سعدي يوسف وصلاح نيازي وجيان ورشدي العامل ونزار عباس وسلمان الجبوري وآخرون.
يعني ذلك أن التصميم الصحفي في العراق لم يبدأ إلا معنا نحن الإثنين، وفي وثائق الصحافة والطباعة، وذاكرة الأخ ناظم رمزي، ما يؤكد ذلك.
كل هذا وأنا لم ألتق برمزي وجهاً لوجه، ولكنه كان لي محفزاً من خلال ما أتابعه من أعماله، إلى حين ما ابتلينا معاً، كلا على انفراد، بمحنة الحروف الطباعية، حين كنت منصرفاً إلى ابتكار (الأبجدية العربية المركزة) وتطبيقاتها، وكان هو يبدع في تصميم حروف بأشكال جذابة ذات قيم تشكيلية وبَصَريّة ما زالت تحتفظ بجماليتها إلى اليوم.
وكان لانصرافنا إلى تصميم الحروف الطباعية، ونحن، بدون ادّعاء و بلا تواضع زائف، أهل بجدتها، وأول المعنيين بها في العراق، من المحنة والألم ما لا يخطر ببال أحد (يمكن مراجعة كتابي « أبجدية الصكار - المشروع والمحنة» منشورات المدى).
من هنا اشتركنا في المحنة، والتقينا (بفضلها !)، وتعارفنا وتقابلنا مرات عديدة، وفي نفسي أن أكتب عنه ما يكشف عن مواهبه الموسوعية، ولكن لا أحسب أن ذلك مما تسعف به بقية العمر؛ ولي حلم في أن يتصدّى لذلك جيل الشباب، فناظم رمزي من كنوزنا المعرفية الموسوعية في زمن ضمرت فيه المعرفة وساد التخصص.
تحية حب وتقدير وإعجاب غير محدود بأخي أبي خالد بمناسبة الإحنفاء به وببعض أعماله في بغداد الذي قرأت عنه اليوم، مهنئاً إياه و القائمين على هذا الأسبوع لرعايتهم هذه المبادرة الجميلة.
#محمد_سعيد_الصگار (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟