ماريو أنور
الحوار المتمدن-العدد: 3013 - 2010 / 5 / 23 - 21:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إذا كانت القلاقل الحالية عبارة عن جهد الانسانية الحديثة التى تفتش عن روحها , إذا كان ذلك كذلك فان واجبنا يغدو حينئذ واضحاً : ألا وهو أن نساعد , وبكل قوانا , على خلق عالم جديد يحاول أن يتكون .
لقد تعرفنا لهذه الارض الجديدة . إنها إيمان بمستقبل غير محدود تتضافر فيه جميع القيم الايجابية للمدنية فى كل يبرز القيم الفردية . إنها لرغبة سميا ستوجد فيها ديمقراطية الحقوق الشخصية , ونظرة الشيوعية الى القدرات المادية , والمثل الأعلى للفاشية القائمة على النخبة المنظمة : كل هذه الاتجاهات ستؤخذ و تنصهر فى مركب جديد . هذه هى " الروح الرابعة " التى أخذت بالنضوج و التى ننتظرها جميعاً . فلنطور الشعور بها فى أنفسنا و لنشهرها علانية .
إن الكتلة الانسانية لم تبلغ بعد ما تصبو إليه على الرغم من الحماسة النسبية التى تجرف أعداداً بشرية هائلة فى التيارات السياسية و الاجتماعية الحاضرة . ما وقعت شخصياً , لا يمينى ولا يسارى , على ذى عقل تقدمى حقاً إلا ورأيته يعترف و لو بخيبة أمل جزئية بالنسبة الى جميع الاتجاهات القائمة . إنك لترى الفرد الذى يرغب بالعمل مسوقاً الى الانتماء الى هذا الحزب أو ذاك لأن عليه أن يختار هذا الاتجاه أو ذاك . ولكن كل واحد يشعر , وهو فى الحيز الذى يشغله , أنه فى أعماقه منزعج مهشم ثائر . ذلك أننا جميعاً نسعى وراء شىء ما أوسع أفقاً و أكثر تقهماً و أروع جمالاً .
أليس من شأن هذا القلق العام أن يبلور المثل الأعلى الذى نحلم به , وبدفعة واحدة , إذا كان له أن يرسم منهاجاً ؟ لقد انطلق اسلافنا منذ زمن نحو المغامرة الكبرى باسم العدالة و الحقوق الانسانية . ولكنهم لم يفهموا , ولم يكن لهم أن يعلموا , أن التناسق الذى كان يدغدغهم الشعور به , كان سقتضى , كيما يتحقق بعد المستقبل , ولو لم تكن فكرته قد ولدت بعد . كانت نظرتهم الى العالم نظرة رعاة الى أنشودة ريفية أكثر منها نظرة اكتشاف و فتح . وأما نحن فلماذا لا نثور جميعاً لحقوق العالم و باسم المستقبل و الكون و الشخصية , ( وكلها مفاهيم لا تنحصر بالنظريات كما يعتقد ) . لماذ لا نثور باسم هذه الشعارات كلها وقد غدا الفضاء و الزمان فى خدمتنا و فى سبيل انماء الحرية و المساواة و الأخوة مع العلم أنها جميعاً تنبع من الاسهام فى العمل الجماعى .
لقد سئمنا و إن كنا لا نردد ذلك , اولئك المتشيعين للتعصب القومى الذين يقيمون الحواجز بين العواطف الانسانية , كما تخمنا من إدعاءات تلك العصبة التى ستظل عاجزة و غير راضية عن شىء ما دامت ستظل عصبة فى تشخصها. لكأننا وقعنا فى قبو لا هواء فيه . علينا بالهواء الطلق . نحن لا نريد جبهات فاشية و لا جبهات شعبية , - بل جبهة انسانية .
أكرر مرة أخرى فأقول : إن العناصر التى تعوزنا لتشكيل هذه الجبهة الإنسانية منثورة حولنا وفى كل مكان , وهى قابعة فى الكتل المتنافرة المقتتلة ظاهرياً , ولكنها بانتظار صدمة واحدة لتتخذ إتجاهاً واحداً و تتحد . ليقع على هذا الغبار المتناثر الشعاع الملائم و النداء الموافق لبنيتها الذاتية فاننا سنجد حينئذ الذرات الحية فى الأرض , على اختلاف مسمياتها و الحواجز الاصطلاحية القائمة بينها , يفتش بعضها عن بعض فتتلاقى و تنتظم .
لو سبرنا غور الأمور لما وجدنا فى الانسانية سوى فئتين من الناس : فئة تجاذف بروحها فى سبيل مستقبل أضخم منها , و فئة لا تود أن تتقدم بحافز من جمودها و أثرتها و تخاذلها . فهما , إذن , فئتان : إحداهما تؤمن بالمستقبل و أخرى لا تؤمن به . فى كل ضرب سياسى اليوم تتغلغل سموم هى مزيج من هذه العناصر المتضاربة . فاذا ما توصلنا الى تكوين جبهة انسانية استطعنا أن نضع حداً لكل التباس ممكن . وسيكون من شأن حشد هذه القوى القائم على أساس من المفهوم الأساسى للكائن الحى أن يظهر الى النور الطاقات الحية للمدنية . وهكذا , وربما لأول مرة سيكون بمقدرو " الصالح " و " الطالح "أن يتعرفاً الى وجهيهما و يتعاددا . وقد تقوم بين هذين المعسكرين , القائمين على الايمان أو عدم الايمان بمستقبل روحى كونى , حرب هى الحرب الاساسية الوحيدة التى طالما فتشت عن نفسها من خلال سائر الحروب جميعاً , إنها المعركة النهائية المكشوفة بين الجمود و التقدم , إنها النزاع بين ما هو صاعد وما هو هابط . ولن يكون هنالك , على الأقل , شك فى جمال حرب كهذه أو فى نتيجتها . وعلى الأقل ايضاً فان أولئك الذين سيضرمون هذه الحرب لن يخافوا , أخيراً , من أن يطلقوا النار على إخوة لهم .
قد يعترض معترض على خلق حزب كهذا أو حزب مثالى كهذا الذى تحدثت عنه فيقول : إن تحقيق فكرة كهذه يقتضى وجود عدو مشترك أكثر من توق عام محدد . وقد يقولون إن التفاهم يستحيل فى البناء . الخوف وحده , حتى الآن , وهو الذى استطاع أن يظفر باصوات الاغلبية . ينتج عن ذلك أنه لا ينبغى لنا أن نأمل تحقيق جهد إنسانى ذى شكولية أرضية . و سيقتضى خلق ذلك ظهور عدو أرضى كونى . أما أنا فلا اعتقد بهذه الفاعلية السميا لغريزة حب البقاء و الخوف . ليس الجزع من الهلاك بل الطموح فى العيش هو الذى دفع بالانسان الى استكشاف الطبيعة و السيطة على الأثير و الطرق الجوية . على أننى مع ذلك أعترف أنه ليس من شأن صيغة مجردة أن تكون كافية الى هزنا ودفعنا الى التلاحم . وأنا على ذلك جاعل المغناطيس الذى من شأنه أن يمغنط و ينقى الطاقات الكامنة فينا و التى يتشتت فيضها المتزايد حالياً , فاذا هو صدمات لا خير فيها أو يستحيل الى تقطير فاسد , - أنا , إذن , سأجعل هذا المغناطيس أخيراً فى ظاهرة عرضية لشىء جوهرى ما سيغدو غناه الكلى أثمن من ذهب الأرض , وجاذبه أقوى من كل جمال , بالنسبة الى الانسان الذى بلغ سن الرشد بمثابة " غرال " و " الإيلدورادو " اللتين حلم بهم قدماء الفاتحين : شىء ما محسوس يكون المرء مستعداً أن يهب نفسه فى سبيل الحصول عليه . ومن أجل ذلك فاذا كان للجبهة الانسانية أن تبدأ تشكلها فسنكون بحاجة , الى جانب المهندسين المشغولين بتنظيم موارد الأرض وروابطها , الى " إخصائيين " آخرين مهمتهم الوحيدة هى تحديد الاهداف الملموسة المتسامية ونشرها باستمرار , والتى سيتركز عليها جهد النشاطات الانسانية . لقد شغفنا , حتى الآن , عن حق , فى تحمسنا لكشف الاسرار الكامنة فى ما هو أكبر وما هو أصغر عنصر فى المادة . على أن تحرياً أكثر أهمية فيما يتعلق بالمستقبل هو دراسة لبتيارات و الانجذابات ذات الطبيعة النفسية : الطاقة الروحية . وفى غمرة اندفاعنا لضرورة بناء الوحدة العالمية قد نلاحظ أن العمل العظيم الذى كنا نشعر به بغموض و الذى كان العلم يلاحقه ليس سوى اكتشاف للوحدة النهائية .
#ماريو_أنور (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟