أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - توهج الذاكرة ........مرثية لعامل الطين وقارئ الفلسفة محاولة لإدراك مقولةالوجود الصعب















المزيد.....

توهج الذاكرة ........مرثية لعامل الطين وقارئ الفلسفة محاولة لإدراك مقولةالوجود الصعب


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 907 - 2004 / 7 / 27 - 09:45
المحور: الادب والفن
    


زهور حمراء للزمن المسروق
ثعبان يتلوى في صحراء الشيخوخة المنتظرة
للذاكرة المتوهجة بالماضي والملتاثة بالنسيان .
زهور حمراء لملائكتي
للأحلام التي لم تتحقق،
والشهداء الذين مروا غفلة دون أن يتركوا كلمة.
زهور حمراء للعائد إلى فردوس النور .

العراقي كاظم طوفان عنيد في فهمه للشيوعية وشاعرية الحياة ، عنفوان شاب جسور وروح شفافة ، يجلس أياما في صريفته القصبية المطلة على المقبرة الإنكليزية في مدينة العمارة جنوب العراق يقرأ الفلسفة في محاولة لإدراك مقولة الوجود الصعب ، في تلك المقبرة التي شهدت أحلامنا من اجل الحرية و التي تعلمنا فيها الحياة ممزوجة بمباركة فلاسفة الفكر في صراعهم مع الوجود والعدم ، هنالك ينبثق رجل المخابرات متظاهرا أما بالسباحة في نهر الكحلاء أو التنزه الكاذب في بستان أحلامنا وإذنيه مشرعة للريح ليسمع همس أرواحنا ، فيطردنا نهائيا ويحرمنا من التمتع بفيء النخل وجمال الطبيعة .
كاظم طوفان عامل طين غني الروح يقرأ الفلسفة من أصولها ويتحاور مع مثقفي العمارة بعناد من اجل أن يجعل منهم أناس يسيرون على الأرض بعد أن كان عنفوانهم وتعاليهم على الواقع يصل حد السماء. انهم من جيل الستينات ، جيل الخيبة والهزائم السياسية والروح العبثية والوعي الوجودي والابداع الديناميكي . جيل غريب في وعيه وتمرده في مدينة جنوبية مهملة ومكروهة من الحكام أصحاب العيون الصفراء ، وبالرغم من غناها ( حيث يشكل نفطها ثلث نفط العراق ) إلا أنها منهوبة في كل الأوقات ، ما نقل محافظ او مسؤول منها بعد ان تزكم عفونته إنوف أهاليها إلا وسأله (كم عمّرت في هذه المدينة الشيعية الشيوعية الحمراء) ( والمعنى هو تعمير الجيب ).
جيل من المثقفين في مثل هذه المدينة الملعونة من قبل جميع الحكومات بلا إستثناء لا بد أن يقف على أسباب استلابه ولهذا فأن صفوته قادرون على تحمل المصاعب و التضحية بحياتهم في اكثر الأزمنة خطورة من اجل نقاء الموقف . وهذا ساعد لكاظم طوفان على اكتشاف اللغة التي يتعامل بها مع مجموعة المثقفين المتمردين على واقع مدينتهم ، فكان هو القادرا على كسب ثقتهم وودهم عندما كان في العمل السري .
في مقهى أبي سعدون على نهر دجلة يجلس هؤلاء المثقفون الوجوديون والشيوعيون معا يتحاورون بهمس مبحوح حد الخناق في الاشتراكية والثقافة والفلسفة والعراق وجوعه الدائم . هنالك التقى بن طوفان بفالح حسن ومشروعه الروائي الذي لم يتحقق ، وحافظ الشعر الأوربي نصيف جاسم الذي كان ينشد الأرض الخراب لإليوت كاملة بطريقة يجعلك تفهم كل أسرار القصيدة ويبدأ مقطعها الأول ـ دفن الموتى ـ بالغناء
( نيسان اقسى الشهور ، يخرج / الليلك من الأرض الموات ، يمزج / الذكرى بالرغبة ، يحرك / خامل الجذور بغيث الربيع .)
في زمن الجوع والحروب البعثية انتقل نصيف جاسم الى بغداد وتحول إلى مصلح بريمزات ليعيل عائلته ( يبدو هنالك علاقة سريالية بين مصلح بريمزات والشعر ) وفي ليلة واحدة سهر نصيف لينسخ ديوان محمد الماغوط ـ الفرح ليس مهنتي ـ .
ومن الذين شكلوا ذاكرة كاظم طوفان و سلام مسافر وأحلامه الصحفية ، والفنان ناصر علي الناصر الذي تركنا مبكرا بغفلة منا ، كان مؤهلا حقا لتبنى فكرا حداثيا في المسرح ، وعبد الرضا جابر وفاضل خليل وأحلامنا المسرحية المبكرة ، و شاكر حمد وصمته الدائم أمام لوحته الكونية ، وجميل جبار وحبه وتفانيه للمسرح ، والفنان زاهر الفهد وإبراهيم غزال اللذان علمانا القوانين الأولى في المسرح ، والنحات محمود حمد وسخريته الملائمة ، وحسين عجه وتشاؤمه وتمرده الوجودي . والمطاردون دائما من رجال مخابرات العمارة :أبو وسام وهشام الطائي وعبد الحسين علي ( الذي وضع حياته على راحة يده وسار مفتونا ) وابو عبد الله وابو دجلة ومهدي عمران وعبد الإله الشيباني ، والمصورة سميرة مزعل ، . وسلام عبود وسخرياته الواعية التي تحولت الى روايات مثيرة و متميزة ، وكاظم جبر وسعدون عبد ياسين ونكاتهما التي سرعان ماتنتشر بين الناس ، احمد البياتي ومشروعه النحتي وعبد الرحيم البياتي الذي كانت معارضه الفنية يؤمها بسطاء الناس حيث تحلقن الكثيرات من نساء العمارة مندهشات حول تمثال فينوس العاري الذي نحته. والرسام عبد اللطيف ماضي وعبد المنعم مسافر وعاصم نجم الفنان الرقيق الذي مات باللوكيميا بالرغم من تبرعي له بالدم كمحاولة أخيرة لإنقاذه . وماجد الصابري والمسرح الذي وئده في بداياته . في هذه الفترة تراءى شوكت الربيعي مدرسا تقدميا للفن ، وبتواضعه الجم كان صديقنا نحن تلاميذه ،وبقصدية كان يمدنا بمختلف الكتب ( الممنوعة أحيانا ) ، ومعارضه المهمة كانت بهجة لأهالي العمارة ، تلك المدينة الغنية بزراعة الرز والمتفردة بأهوارها الجميلة ، وقد أثرت معارضه على وعي الكثير من المثقفين الذين يساهم بعضهم الان في بناء مستقبل الثقافة في العراق . وآل المطلبي وفي مقدمتهم عبد الرزاق المطلبي ومشروعه الروائي حيث كان عقله وروحه غنيتان بأساطير الهور واسرار( قرى الحلفاية ) ، وعبد الوهاب المطلبي ومحمد شمسي ( محمد حسين المطلبي ) الذي كان شاعرا شفافا وأكثرنا مغامرة بالحياة ، قطع أفريقيا حتى بغداد ومن ثم العمارة ، على دراجة بخارية . وخالد السعدون المعلم الذي نفى نفسه اختياريا في أعماق ريف العمارة وقاسم جويد وأحلامه الاشتراكية ، كانت السلطة في زمن الجبهة الوطنية تحرض الفلاحين للإعتداء عليه باعتباره شيوعيا ملحدا ، وكاظم بدن الفلاح الشيوعي الذي كان يقلق رجال المخابرات فيتابعونه أينما حل (حتى انهم فرضوا على جيرانه في الريف ان يراقبه ،لكنه كان يخرج متلفعا بالفجر متسللا بزورقه نحو الهور لعقد اجتماعاته الحزبية ويعود قبل ان يستيقظ جاره وعندما كان يأتي الى العمارة في فترة الجبهة كان يدخل مقر الحزب بملابسه الفلاحية وملاحقيه من المخابرات كانوا ينتظرونه ، لكنه يخرج بملابس اخرى كانه موظف او معلم ويمر من أمامهم دون ان يتعرفوا عليه ) . وعبد الجبار ناصر وحسن وشريف شاوي ، وحميد الاوتجي وعبد الحسين شابث وعباس حسن وعبد الزهره الحلاق ، وكاظم جاسم الذي كان يثير ريبة المخابرات واستفزازهم بصمته وتشرده وسيره على الأقدام مسافات طويلة في أطراف المدينة مما يدفعهم إلى تفتيشه دائما .وفي إحدى المرات وجدوا لديه قصيدة وصورة للشاعر فاضل العزاوي ، لم يفهموا شيئا منها عندها اتهموه بحمل منشور سياسي او بيان رقم واحد لقلب الحكم ، فاقتادوه لوكرهم بالرغم من ان القصيدة والصورة كانتا منشورتين في إحدى المجلات الحكومية . وكذلك إبراهيم زاير المناضل العراقي المتمرد والرسام على خلاف رغبة والده ، والصحفي ، والكاتب ، والشاعر ، ومصحح المجلات والجرائد . مهوس بالفن ، عنيف مع ذاته ومع المثقفين الخونة ، مبارك ، ساخر ، يساري متطرف ، قارئ للكتب الملعونة رشيق ،شفاف يدخل القلب سريعا . ترك مدينته العمارة وهام في آفاق الفن والنضال ، عمل في المقاومة الفلسطينية ،انتحر احتجاجا على انقسامات اليسار العربي او لأنه فضل ان يتخلى اختياريا عن الحياة ، أو لأنه لم يكمل لوحته الكونية بالرغم من انه قال كلمته الاخيرة في آخر معرض فني أقامه في بيروت قبل أن يغادرنا ، تاركا زوجته ترسم ملامحه لطفلته التي لم تره ، والكثير من الاصدقاء والمتشمتين ، وشعر وكتابات وأسئلة مصيرية واحاسيس في أزمنة مختلفة .
أما سميرة معارج فقد بذل بن طوفان جهدا استثنائيا ليبني وعيها كزوجة وصديقة و امرأة تعرف أسباب استلابها ، وفعلا نجح في ذلك ، كانت تثير دهشة و فضول أصحاب المحلات عندما يشاهدونها تتقدم لتشتري مجلة الآداب والثقافة الجديدة من المكتبة العصرية في سوق العمارة الكبير . والان عندما يأست من العثور على شاهدة لقبره في كردستان تصرخ بي في إحدى رسائلها ( في أي موانئ رسيتم ؟، ألا يستحق هذا الذي حمل رأسه على كفه ، أن يوجد له قبر . كان طاقة هائلة من الثورية والشجاعة و….. ، كان الحقيقة كلها ، حرا عظيما ، أنه زوجي وإبني ونبراسي وقدري ) .

هؤلاء المختلفون في أفكارهم وطموحاتهم ، الأحياء منهم والأموات هم الذين شكلوا بعض أطياف ذاكرة كاظم طوفان ،و الذي حرص آنذاك على أن يجعل الكثير منهم جزءا من تكوينه كمناضل ومثقف متفاعل ،ومن واجبه أن يدافع عن أحلامهم لأنه يعتبرهم رفاق وأصدقاء المستقبل يلتزمون السؤال المشاكس كمنهج لتحليل الظواهر ، والسؤال بدء المعرفة .وعندما تفرق الأحياء منهم في آفاق الدنيا بسبب فاشية السلطة البعثية ، كانوا متقاربين في مصائرهم كبشر مخلص لإنسانيته ووظيفته الإبداعية .
أما ابن طوفان فلأنه مثلهم عراقي واع لأسباب فقره وعاشق لحريته شمله الاعدام البعثي عند استلام صدام حسين السلطة ، وكعادته لم يبال بذلك لأن روحه متوهجة بدجلته ، وكان آخر من خرج من العمارة وبغداد حيث اضطر لمساعدة رفاقه والاطمئنان على سلامتهم هناك أو خروجهم الى المنفى في زمن اللهاث والهروب اللامجدي.

وفي فجر يوم غائم ممطر ، رحل يجوس أراض غريبة عن روحه حيث المنافي الباردة ، . وفي بحر منفاي الأول عندما خرجت لتلقي الفكر وجماليات الفن ، كنت ألامس روح الفكاهة أحيانا أو السخرية ، لكني صمت دهرا . وفي يوم كأنه النبوءة كان المطر ينث في روحي ، هنالك في صوفيا ، بدا البلغار كأنهم أشباح ميتة أو كائنات تتراءى ملتصقة بزجاج سياراتهم الأمامية .هل يمكن أن يكون البشر بهذه الكثافة واللزوجة ؟ ، هنالك انبثق ابن طوفان فجأة أمامي في الجانب الآخر من شارع راكوفسكي بابتسامته الحزينة والدافئة والمشوبة بلامبالاة دائما .
صرخت .. ـ حتى أنت يابن طوفان ؟
وقف أمامي شبحا ساخرا من ويلات وجنون عصره .في تلك اللحظة هممنا بعبور الشارع وفي منتصفه تعانقنا ،وسمعنا البلغار يشتموننا مبتهجين بسياراتهم اللادا . ضحكنا ساخرين لأنهم لم يفهموا أبدا سر بن طوفان وعبوره الصحراء العربية حافيا بعد أن رأى خرائب المدن وروح الإنسان المتوهجة . هنالك جلسنا في مقاه وبارات دافئة نستحضر الماضي وتلك الأحلام الجنوبية في مدينة تغمرها رائحة رز العنبر والشوفان والرطب الخستاوي والطين الحري ، المدينة التي لا تتكامل إلا بنهر دجلة وقصر فتـنه ( من أهم معالم العمارة العمرانية بناه الشيخ محمد العريبي لزوجته ، هدمه النظام لمحو بعض من تاريخ المدينة ) ولا تتكامل هذه إلا بمضايفها ومطربيها الريفيين ومعدانها الذين يكرههم النظام دائما ، ومثقفيها الغرباء الحالمين بالخروج منها بالرغم من انهم مخلصين لها فسرعان ما يعودون الى أحضانها الجنوبية الدافئة ، ولا تتفرد هذه المدينة إلا بمشرديها وفقرائها و مجانينها
وعقلائها . إنها العمارة التي عندما يصلها دجلة من شمالها يتفرع الى ثلاث فروع وكأنها أصابع من الماء الزلال تحتضنها .
وفي صوفيا كنا نجلس أنا وكاظم طوفان يلفنا شعاع خفي ينير الروح ، فهنالك سر لن ينكشف ولم نتحدث عنه … أنه المجهول . عندها ضجرنا ، نظر أحدنا بعيني الآخر . أياما عديدة لم التق به لأنني أعرف أنه ملكاً لمشروعه الثوري فقط . صمت ابن طوفان أياما يحلم بالبحر الذي تعوف أعماقه الأدران والأشنات النتنة ، وبعد آخر موعد معه تخلفت عنه ولا أتذكر الأسباب الآن ، بحثت عنه لم أعثر عليه حتى عرفت بأنه غاب في دروب الغربة من جديد فعبر الأبيض المتوسط بغفلة مني يلاحق مهرا بعرف ذهبي في بيروت وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا والروشة ، هناك اصبح مديرا ويدرس في ذات الوقت الفلسفة في المدرسة الحزبية للجبهة الديمقراطية الفلسطينية … اللعنة لم يهدأ ، كان الحلم بأفقه الكبير دليله للمستقبل ،وخفت ألا أراه أبدا ، لأنه كان مشروعا عراقيا للتضحية ،إذ هو كالفراشة التي يدفعها فرحها بالنور للمغامرة بالدخول إلى النار. وأنا كنت ألاحقه كحلم هائم في البراري .
لم يهدأ هناك أيضا …. حتى كانت كردستان العراق وبالذات ( بشت آشان ) زهرة في فردوس أحلامه ، ذهب هناك كأي وطني ثوري وشيوعي عراقي للدفاع عن الحياة و العراق وكردستان وقتال الشر المنظم فيها زمن النظام الفاشي .
في عام 1982 دخل كاظم طوفان كردستان بعد رحلة متعبة وخطرة أستشهد فيها الكثير من رفاقه بسبب الكمائن الكثيرة على كول الرحلة .وبما انه كان شابا ومثقفا ليس فقط بالافكار الماركسية والثورية وإنما بالثقافة الإنسانية ألعامه ، و كان يقرأ كثيرا هناك لأنه كان يؤمن بأن الثقافة سلاح ضروري بالنسبة الى المناضل الثوري أيضا .
وكل هذا جعله أن يكون ديناميكي التفكير ، وبالرغم من أن هذه القدرات في ظروف خاصة قد تثير الغيرة والحسد ، إلا أنها أكسبته احترام الكثير من رفاقه سواء العاملين معه في قاطع بهدنان ( بوادي الحصان ) أو أولئك الذين سمعوا عنه في القواطع الاخرى . كان يدعو الى تطوير قدرات الرفاق وتسليحهم بالأفكار الديناميكة المتطورة والابتعاد عن الشلليات و التكتلات والتملق ، ماداموا يعملون في حزب مناضل طوال تاريخه المديد ، وكان يؤكد ويحث المقاتلين على الاختلاف في الرأي في داخل العمل الحزبي ، بدون المساس طبعا بوحدة وسياسة الحزب العامة ، حيث كان واعيا بالعديد من سلبيات العمل والنضال وإيجابياته . وعندما نقل إلى القواطع المقاتلة والسرايا المتحركة والفاعلة وأصبح مستشارا سياسيا لسرية مقاتله كان يهتم ويبرز الرفاق النشطين الذين يتميزوا بديناميكية التفكير والدقة في أداء واجباتهم لأن مواجهة الموت تتطلب ذلك وترفض الكسالى . وبالرغم من هذا كان أنيقا في ملابسه حتى وهو في غمرة الكفاح ،
وفي عام 1983 نقل الى سوران في اربيل حيث اختاره الحزب لمهمة صعبة لها علاقة بنقل وتسهيل وصول الرفاق ( بما فيهم هو بالذات ) الى داخل العراق . لكن ماحدث في بشت آشان عطل مشروع كاظم طوفان النضالي لمقارعة النظام في الداخل .
بشت آشان كانت حلمه في يوم ما لكنها أصبحت حتفه ومنفاه الأبدي .
فالموت كالقبطان المسن الذي يستيقظ مبكرا من كوابيسه ، الموت يصبح غباء و يتحول إلى كرنفال للهزء من الحياة عندما يتحارب المضطهدون فيما بينهم ويقتلون زهرة النرجس ، والفاشيون النزقون ، أصحاب الدماء الباردة والضحك الغليظ يتفرجون . هنالك تجاسر بن طوفان على ذاته فشد وتر من حياته حتى النهاية ، وأمام الجبل ربط ساقه حتى لا ينسحب من الموت بل واجهه كحتف يتحداه ، لان مهمته تقتضي التوحد مع المحاصرين في السفح الآخر من رفاقه . هناك فقط تناثرت روحه وتحولت الى نسر البراري الذي مازال يحوم فوق رؤوسنا ليغزو ذاكرتنا كوابيس..
زهور حمراء للأصدقاء الذين أُحبهم
والشعر الذي لا يقرأه أحد .
زهور حمراء للمرأة المباركة وتلك التي لم اعرفها بعد .
للذين ينتظرون تجار الغربة في أوطانهم .
زهور حمراء لامرأة تطرق بابي في الليل .
سيدة الأقحوان والمنافي الاسكندنافية ،
اجلسي بلا وجل
نبئيني زمن اللهاث وزمني الذي كنت تنتظرين .
حزن جديد ،
فرح كاذب ،
كلمات غير مجدية
اركعي أمام تمثالي الساخر وسط ملائكة
الليل ، الفجر ، المنفى …و .

وفي تلك اللحظة التي يتململ فيها الفجر ليتنفس الشمس ، انشق جدار غربتي الاسكندنافية عن حورية شقراء بجدائل ذهبية طفولية طويلة كأنها أيقونة لملاك ، وقفت مبتسمة ماسكة خصلات شعرها في الظلمة تشع نور لازوردي متوهج . ركعت منحنية أمام ملائكتي فتوسد شعرها الأرض كلهيب نافر .نظرت نحوي هامسة بغضب :
ـ ما لذي أتى بك إلى شمال الكوكب هذا ؟
خجلت لأنني لا أملك جوابا وتلفلفت زاوية ، لكن ابن طوفان أنقذني عندما انبثق من الظلمة شبح اخضر ، فسمعت هذا الهمس كأنه الفحيح …
إبن طوفان : لا تغضبي أيتها المباركة ها أني جست الصحارى والبراري ، فرأيت البشر جثث متناثرة مفقوءة العيون مقطوعة الأيدي ، لاحول لها ولا قوة ، لانهم نسوا الحكمة والغضب المبارك ، وتوسدوا وعودا كاذبة من البعثيين الغرباء أصحاب الأبخرة الموبوءة الذين استباحوا العراق ، أما أنا فتناثرت في البرية ، وتحولت إلى صوت هادر هل سمعوه ؟ غير أن قلبي جمرة تدفئ ليل المنفيين . لا تغضبي سيدتي انه العراقي المنسي المتلفلف بقدره ، وليس له إلا الله ، ليس للعراقيين إلا الله .
بكت الحورية الشقراء ،وخصلات شعرها المتوهجة تضيء الظلام ، ناظرة لي من خلل دموعها . وحالما تسلل أول شعاع للضوء في ذلك الصباح الاسكندنافي ، ارتعب ملاك ابن طوفان وبحركة خاطفة وقف على حافة النافذة ، ونشر يديه فتحولتا أجنحة خضراء ، وغاب في سماء القطب الرمادية فسمعت صدى روحي :
انقـــــــــــــذنا يارب الكــــــــــون . يا وطنــــي كم حملوك بالشرور .
وسمعت صوت بن طوفان كأنه الصدى :

اكتبوا على شاهدة قبري
(ذروا عيوني
ملحا ورماداً وتوابل
وأذلوا ، في جهد مضن
جسدي الناحل
والغربة في عرف العاشق
ألم قاتل )●
بكت الحورية وهي مازالت تنظر نحوي نظرة لم أعرف سرها حتى اللحظة .
حدثيني ما تشائين إلا غربتي
فثمة حزن في روحي .
اغضبي إن شئت واتركيني في صحراء الوجد
فهناك كابوس ينتظر في الشرفة .

انسلت الحورية الشقراء خارجا ، وعند الباب وقفت ملتفتة نصف التفاته ، ولا أعلم كم من الزمن مضى وهي واقفة هكذا ، وكم من الزمن سيمضى وأنا في زاويتي انتظر كاظم طوفان عسى ألا يتخلف عن موعد كان بيننا .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 (مقطع من قصيدة لكاظم طوفان ،حسب ذاكرة حسن شاوي)

كوبنهاكن
شمال الكوكب



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذاكـــرة المــرآة
- الأقمــــار المنســــية
- عزلة الشاعر في أحلامه - عدنان الزيادي إنموذجا
- النار المتوحشة…. وتحولات المثقف المتكيف
- توهج الذاكرة الفنان إبراهيم جلال وغربة المسرح في وطنه
- خليل شوقي وليالي شجون المسرح العراقي
- توهج الذاكرة عندما يسرق زمن الفنان
- المثقف المتكيف وأبخرة الثقافة الموبوءة
- الفضاء السميولوجي لعمل الممثل
- الوعي البائس للمثقف المتكيف
- مثيولوجيا الجسد في الطقس المسرحي البصري
- جدلية العلاقة بين المسرح والمدينة العربية
- شيزوفرينيا الذات في فلسفة سورن كيركغارد
- العنف وهستيريا الروح المعاصرة في النص الشكسبيري
- ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري
- التعازي ……… طقس درامي شعبي


المزيد.....




- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - توهج الذاكرة ........مرثية لعامل الطين وقارئ الفلسفة محاولة لإدراك مقولةالوجود الصعب