المثقف المتكيف وأبخرة الثقافة الموبوءة
(الوعي الارتزاقي للمثقف المتكيف)
مرايا هي الوجوه
والاقنعة ،
خلفتها للحيتان في البحر .
يعد التكيّف هو الموقف السلبي للمثقف المتساهل مع ذاته وتاريخ كينونته ، لذلك تفوح منه دائما رائحة خبيثة
( حسب ميشيل غيلدرود ) ويفوح منه أيضا تكيّف نتن نتيجة لموقفه الصدئ هذا . وبمعنى آخر إن مثل هذا المثقف لا يؤثر في ديالكتيك البنية الفكرية في مجتمعه إلا سلبا ، لأنه يتخلى عن دوره التاريخي ووجوده الفاعل ويوصمه هذا بالخيانة فيجعله ذات مرعوبة لا تمتلك الحصانة الداخلية ،ذات مهلهلة وغير متماسكة امام مؤمرات السياسي الاستثنائي( الذي ينقض على السلطة وسرقها بمساعدة القوى والوسائل غير الشرعية ) وعندما يتحقق مراده يسعى الى تحويل المثقف الى أداة في آلية سلطته الاستثنائية ، فيكون هذا الاخير تحت إبطه و مستعدا لتهيئة الظروف التي تخلق عدمية الثقافة والفن ، وظروف اجتماعية أخرى تعمم مجانية العنف وتنمي الغرائز المتوحشة في روح الانسان لتصبح في الأولوية من سلوكه . ومثل هذا المثقف المتكيف المرتزق هو الذي يهيئ الابخرة الموبوءة في الثقافة والفكر ، ويمهد طريق الخداع والهيمنة أمام سيده السياسي الذي سيبارك كل شئ في بنية النظام بما فيها المفاهيم الفاشية . ويرى هذا المثقف في مثل هذا السياسي مثله الاعلى ، ولحبه المزيف له يسبغ عليه صفات الرسل والقديسين .من هذا المنطلق فان المتكيف صاحب الوعي الزائف يبني ذاته هامشيا ، انه المتساهل المحصّن دائما بالتبرير الجاهز نتيجة لهذا الوعي المزيف والبائس ، انه الجحيم على الأرض و توريط الذات المثقفة في الالتزام بالوعي البربري المشوه .
ان المثقف المتكيف جزء لا ينفصل عن النظام الدكتاتوري الشمولي المتسلط مستعد دائما للمساهمة في مشروعه وتبرير عبثه السياسي والاخلاقي والاجتماعي وشغفه بالتنكيل بالأبرياء ، او العبث بالتاريخ الذي تعاد كتابته حسب أمزجة (الاب ، الدكتاتور ، الطاغية ، القيصر القائد او الفوهرر ) ، وأوهام زائفة أخرى ينخدع لها الشعب وفي مقدمته المثقف المتكيف فيبررها فكريا وتاريخيا ، لذلك فانه ينبري في المساهمة في هذه اللعبة بكل التزام أخلاقي وفكري ، لانه عادة يمتلك ذيلا خفيا يرتبط مباشرة بالأجهزة السرية العليا للنظام ،الام والمصير و كأنه حبل السرة ، عندها يصل الى مرحلة الاتكالية الفكرية فيصبح المثقف الابن المدلل ، يمنحه السياسي المكرمات والهبات ، ولكن في ذات الوقت يحرمه من أي شكل من أشكال التفكير واتخاذ القرارات الخاصة لان السياسي الاستثنائي ، القائد ، والاب هو الذي يفكر ويخطط بدلا عنه وعن الامة . أما المثقف فيصبح هو المنفذ فقط ، عندها يتحول الى واحد من أصحاب الدم البارد والضحك الغليظ فيصبح متشيئا . وفي مستقبل الأحداث يصبح ذيل هذا المثقف كالرادار لجمع المعلومات السرية ، فبه يقيس هذا المرتزق الخطر المستقبلي مما يساعده على التكيف من جديد مع الحدث الجديد ومتطلبات السياسي القادم ، فتحتم عليه مصلحته تهيئة ظروف التغير الجديد من خلال خداع الرأي العام . لأن هذا المثقف كالحرباء المسمومة القادرة على خداع البصر والبصيرة .
كانت التحولات السياسية والاجتماعية التي حدثت في العالم بعد الحرب العالمية الثانية و الحرب الباردة وانتصار شراسة الرأسمال الاستغلالي العالمي ، كثفت العنف كوسيلة للإحتراب بين الدول ، او بين الانظمة الدكتاتورية و شعوبها وخاصة في بلدان العالم غير الاوربي ، وكسياسة جديدة اتبعها الغرب انطلاقا من العنجهية السياسية وهيمنة القوة لغرض السيطرة واستغلال الثروات من خلال احتياج هذه البلدان للسلاح الذي يستخدم في حروب يفتعلها ويغذيها الغرب ذاته مع ربط هذه البلدان بتكنولوجيته التي لا تبنى على التبادل العلمي والبنائي ، وإنما على التبعية من طرف واحد بما فيها التبعية الثقافية . ومن جانب آخر قام الغرب بتمويل الانقلابات السياسية من اجل الاتيان بانظمة دكتاتورية تمارس العنف ضد شعوبها وتحول بلدانها الى سوق للسلع الاستهلاكية الغربية، وليس لبناء المقدمات الصناعية والتنموية والاقتصادية في هذه البلدان الفقيرة ، فأصبح العنف سمة مميزة لعصرنا .
و قد خلق كل هذ ا تغيرا في مفاهوم وممارسات الدكتاتورية والانظمة الشمولية فأصبحت أكثر شراسة من اجل ان تحافظ على مصالحها ووجودها ، واستخدمت العنف بابشع اشكاله كلغة وحيدة ضد شعوبها ،فتعاملت معها وكأنها شعوب محتلة ، واتسمت هذه الدكتاتوريات بكونها أنظمة فاشية كما حدث في بعض بلدان آسيا وامريكا اللاتينية ، وتجلى هذا واضحا في العراق( الحرب ضد الشعب أولا ومن ثم الجيران .. ايران والكويت مثلا ).
و هذا التحول الجديد في بنية الدكتاتورية يحتاج من المثقف موقفا اكثر من تكيفه الضروري لتثبيت المفاهيم السياسية للنظام في مراحله الاولى . فالمرحلة الجديدة تحتاج الى ذلك المثقف الذي يغذي ويشيع الهيكلة والأساليب الفاشية التي سيتبناها النظام في سياسته وطموحاته التوسعية ضمن التطورات الجديدة في الاستغلال ونهب خيرات الشعوب الأخرى . فالنظام الدكتاتوري في مراحله المتقدمة لا يكتفي في ان يكون مثقفه متكيفا مع آلياته فقط ، وانما يطالبه ان يتطور هو أيضا ضمن التغيرات الجديدة في سياسته وان يكون محركها الفكري ، وهذا يفرض على المثقف ان يلتزم الروح ووالممارسة و الفكر الفاشي بكل معنى الكلمة تخدعه حجج قومية او وطنية او تفوقية او الخوف من غزو وهمي سيخرب تراث الاسلاف …الخ ، وكل هذه الحجج مغلفة بالديمقراطية الزائفة كصليب يصلب عليه الشعب ، فيتم التمسك بها كأسلوب للتدجين سيباركه الماموث السياسي الاستثنائي وسيبرره اعلاميا المثقف المتكيف . وبالتأكيد سيتحول هذا المثقف الى جلاد فاشي مادام يتبنى تلك السياسة التي تشوه الفكر والثقافة الإنسانيتين وتحول الوطن الى ثكنة للحروب اللامجدية ومعسكر اعتقال لعموم الشعب بما فيهم الأطفال الذين يتم تدريبهم على الروح الإرهابية والحقد منذ نعومتهم ، فتنمو خصلة العنف لديهم بدل أحلامهم الوردية في تحصيل المعارف لبناء الحضارة وكتابة تاريخ عظيم لشعبهم العظيم في الظروف الطبيعية بعيدا عن عنف الحروب وأحلام القائد .
المثقف والأبخرة الموبوءة
و سيبذل السياسي كثيرا لتغذية هذا المثقف ناشر الأبخرة الموبوءة ، فيمنحه الحيلة والقدرة والقوة ويساعده على تعميم منهجه الفكري ـ الارتزاقي وإشاعة التشئ والنظرة الأحادية الضيقة في الحياة والفكر الإنساني من خلال إغناء الأنانية الضيقة وإلغاء المقدسات الفكرية ( الحرية الفكرية والاجتماعية والأبداعية ) فينجح السياسي والمثقف هذا في لملمة مجاميع من المثقفين المرتزقة الذين يتبنون تحقيق المهمات الثقافية الشوفينية والفاشية ومباركة المرحلة الجديدة التي لا ستغني عن العنف والحروب الداخلية والخارجية .
ومن أجل ان يتم احكام اغلاق الحلقة المفرغة يبدأ هذا المثقف عملية البحث في التاريخ السلفي القديم لاكتشاف ذلك الفكر الذي يعظم ويأله السياسي ـ الدكتاتور ، وتأكيد تلك الثقافة البربرية المتخلفة حتى في زمانها لانها صيغت وافتعلت في الزمن الاستثنائي لطاغية مشابه الى هذا الماموث السياسي ـ الفاشي المعاصر ، وهي اساسا بعيدة عن منطق التطور الديالكتيكي الذي يحتمه العصر وحداثة زماننا ، فيعم الاستثناء التاريخي ومن خلال تراكمه يتحول الى قاعدة في فترة مرحلة تاريخية استثنائية معينة .
ان هذا المثقف المتكيف المدجن سيبرر السياسة الفاشية الجديدة ويعمم العنف كوسيلة للقمع و كشئ طبيعي في الحياة العامة لدرجة انه يساهم في قمع انتفاضة شعبه الذي يمكن ان يثور ضد الظلم الذي يمارسه هذا النظام التسلطي . وتتركز مهمته في زمن السلم والحرب في التنظير للافكار الجديدة وفي صياغة النظرية او المنهج الارتزاقي لتصبح جزءا من الممارسة الفكرية، ويؤشر تسهيل الطريق أمام ا لآخرين للحصول على المكاسب مادام مثله الاعلى ( السياسي الاستثنائي) قد سرق السلطة و القوة بهذا التسلق الديماغوجي السهل والملتوي . وسيعمد الماموث MAMMOTH السياسي مستقبلا بمعية مثقفه المتكيف ، المرتزق ، والجلاد ،والفاشي ، الى سرقة زمن المثقف المتفاعل غير المتكيف و الزمن الابداعي لعامة الناس والامة ، فيكون الخواء هو التاريخ الذي يفرض نفسه ، وتقود الجهالة الخراب في الحاضر لتشويه التطور الديناميكي المفترض .
ان المثقف المتفاعل غير المتكيف صاحب ( الحضور المكثف والوجود الصرف تاريخيا ) والمنتج للثقافة خارج الارتزاق ، والعصامي والدؤوب في البحث عن الحقيقة والسمو على الواقع المشوه الذي لا يتناسب مع طموحاته، هو الذي يؤثر كذات مبدعة في العمليات الفكرية والاجتماعية التي لابد أن تتطور ضمن المفهوم العام للتطور الديناميكي ، وبهذا فانه يؤثر إيجابيا ، وبهذا فانه يمنع الظروف التي تساهم في تشكيل عدمية الفكر والثقافة او اغتراب المثقف ( في فترة ما ) . بالرغم من ان الاغتراب مرتبط تاريخيا وفلسفيا بنشوء قلق المجتمع والذات مع وجود اسباب اخرى لتعميمه . وبالتأكيد فان هذا الدور الايجابي يشمل المثقف الستيني المنتج للثقافة وكذلك مثقفو الاجيال الاخرى من غير مثقفي السلطة في العراق .
رفض التدجين الثقافي
ان عملية تدجين الشعب العراقي بدا ت منذ الستينات و خضعت لوسائل ودراسات استراتيجية وسايكولوجية على الرأي العام مدفوعة الثمن قامت بها مؤسسات عالمية وخاصة مؤسسات بعض الدول الاشتراكية السابقة التي كانت مهمتها مساعدة وتثبيت النظام العراقي وفرض سياسته على الشعب من خلال تدجينه .
ومنذ البداية وضع النظام في حساباته شتى المغريات لتدجين المثقف العراقي المتمرد من جيل الستينات وتحويله إلى مثقف متكيف مع النظام ، لانه كان يفتقر الى المثقفين عموما الذين كانوا يتوجسون منه فانقلاب شباط عام 63 الدموي مازال في الذاكرة ، و هذه كانت مشكلة كبرى أما م النظام أذاك . وعندما لم يستطع كسب الكوادر الثقافية عمد إلى سياسة العنف والعزل بجانب الأغراء للوصول الى هدفه . ونتيجة لحساسية المثقف الستيني الفكرية والسياسية المبكرة وقف منذ البداية ، ضد جميع انواع الوصاية الفوقية سواء الاجتماعية منها او الفكرية او السياسية ، وكذلك وقف ضد تقنين الابداع في أطر قد لا تتناسب مع تمرده الواعي وطموحه الابداعي . ولهذا السبب فانه جيل متمرد وقف ضد التكيف الابداعي او التكيف مع برامج السلطة الاستثنائية واعتبره خيانة وخداع للذات الحقيقية ، عندما يحتم تفضيل النظرة القومية ـ الشوفينية الضيقة على الرؤيا الا نسانية الشمولية ، وتحويل قدرة الوعي والتوجه الفكري ، من التعمق ودراسة المشاكل الاجتماعية والذاتية الجوهرية الى تمثل المفاهيم التي تشيئ الانسان وفكره وتشوه الذات ، فيتحول المثقف من ذاتي مبدع ومتفرد إلى كائن أناني متكيف وغارق في الروح الارتزاقية البائسة ، فيصبح المثقف آلة في الهرم الذي يقف في قمته العقل الدكتاتوري ـ الفاشي الذي يلغي التفرد ، ويفرض الانتماء الى الجماعة التي تحرص ، ثقافة الحزب الواحد والنظام الشمولي ، ان تجعلها قطيعا يردد فقط تلك المفاهيم والأهداف و الشعارات التي تمجد الدكتاتورية والعنف والحرب ، وتشجع الانغمار بالأوهام التاريخية .
ولهذا فان مشروعية تمرد جيل الستينات الثقافي حتم رفض التكيف مع النظام معتمدا على تماسك الذات وبنائها خارج الارتزاق الفكري ، و محاولته الانغمار بالمستحيل الإبداعي والحصانة الداخلية التي يكتسبها من خلال استيعاب المعارف الجديدة ، والحساسية الذاتية لرؤية الواقع على حقيقته ومن ثم رفضه . ان هوس الاطلاع على المعرفة بشموليتها هي محاولة للوصول بالإبداع إلى أقصى درجات أبعاده الحرة ، والجرأة في الكشف عن المسكوت عنه والانغمار في الحرام والممنوع الذي يشكل خطورة على الثقافة العربية الرسمية ونفورا من المثقفين المحافظين .
وقد عمد الى رفض كل ماهو سلفي وابتعد عن ضيق الافق الابداعي لأجل التجاوز المستقبلي والطموح العنيد لخلق ثقافة ورؤى لا تمت الى الماضي بأية علاقة ، بل تعتمد على أكثر المفاهيم والنظريات الثقافية والفلسفات المعاصرة المتناقضة كالماركسية والوجودية والعبثية والسريالية وتيارات الفكر الحداثي الابداعي التي خلقت آفاق جديدة للحداثة في ادب وثقافة الجيل الستيني ( ومن بعده الاجيال الاخرى ) الذي كان يتباهى بانه جيل عاق لتراثه الثقافي العربي الكلاسيكي السلفي .وفي خضم العداء الذي يشيعه السياسي الاستثنائي وبمعيته مثقفه المتكيف المرتزق وكذلك محاربة جميع الاحزاب السياسية وتحجيم افاق التفكير الحرة ، كان جيل الستينات يبحث عن فردوسه المفقود خارج تلك الابخرة الموبوءة .
وبالرغم من ان مثقفي الستينات كانوا قد تميزوا بالحس الشعري للعبث مما أضفى على سلوكهم و إبداعهم سمة التشاؤم كميزة للتمرد الواعي ( بتأثير رامبو فرلين ولوتريامون و الفرد دي فيني والسرياليين ) فدفعهم هذا الى حمل صليب الذات المعرفية ، وانعكس في ابداعهم المبني على القلق الداخلي المبكر والذي هو قلق الابداع المتفرد مما سؤثر على مستقبل الثقافة العراقية . لذلك فقد تشكل وعي وثقافة جيل الستينات ( اضافة الى ماسبق ) من مؤثرات كثيرة أهمها :
¨ الثورة الثقافية التي عمت أوربا في ستينات القرن الماضي واتسمت بالتمرد على كل شئ .
¨ ترجمات الادب والثقافة الاوربية المعاصرة وخاصة الفكر الوجودي والفن الطليعي والقصيدة الحرة .
¨ الرغبة في التمرد على النظرة السلفية للثقافة العربية والتزام يسار الفكر الثوري من اجل تغير الواقع
العربي كرد فعل للهزائم والانتكاسات التي عانى منها الانسان العربي بسبب الانظمة السياسية .
لذلك فان لكثير منهم التزم يسار الماركسية كالتجربة الجيفارية والماوية .
¨ الطموح السريالي لخلق ثورة أدبية حرة وثقافة جديدة تقطع الصلة بالماضي والتراث العربي ، ويعود هذا
بالتأكيد الى روح التمرد والعبث الذي تميز به الجيل الستيني في تلك المرحلة سلوكا وثقافة .
¨ الفلسفة الماركسية من جانب والتزام الفكر القومي من جانب آخر.
ان الوعي السياسي للانسان العراقي واتساع الرؤية الابداعية المتوهجة للمثقف المتمرد المنحوتة ليس فقط من التجارب النضالية والفكرية المحلية والعربية وخاصة اتجاهات التراث العربي التقدمي والتصوفي ـ الاسلامي ، وانما استشراف التجارب الفكرية العالمية ومحاولة تطبيقها في الواقع العراقي ،خلقت لدى المثقف اتساع الرؤية وصلابة الموقف .
ولكن في بلد مثل العراق تكون القاعدة فيه استثناء ، اذ المفارقة تكمن في الغاء القاعدة وتعميم الاستثناء . لذلك ( عندما تتحول الاكذوبة الى نظام شامل ، لن يكون هنالك سوى الاشباح ) ويقين فاضل العزاوي هذا فيه الكثير من الدقة ، فهو تشخيص دقيق للمرحلة التي فرضت فيها الحزب القائد وامتدت الى جميع جوانب الحياة السياسية والمؤسسات الفكرية العراقية ، وتعميم الحياة العسكرتارية والسلوك المخابراتي في شتى مجالات العمل والحياة وجعلها ظاهرة طبيعية ، ومحاولة إزالة الكره السايكولوجي التاريخي بين المواطن العراقي ورجل الامن ( فجندت لها تمثيليات تلفزيونية مثل تمثيليات يوسف العاني الذي بدأها بعبود يغني … الخ ومقالات ودراسات في صحافة النظام ومسرحيات وقصص وروايات كثيرة ) فانبثقت مهمة ضابط أمن الدائرة كوظيفة مقبولة في مؤسسات النظام في جميع محافظات العراق .
ففرضت شمولية النظام وأدت الى تخريب الوعي باساليب العنف ، لتهيئة المجتمع العراقي لمرحلة تخريبية اكبر ، اعني الحروب التدميرية اللامجدية التي كانت غريبة على حياة الشعب العراقي لكنها أصبحت جزءا من يومياته بعد حين . وسيؤثر هذا على مستقبل الشعب العراقي عندما يصبح مصيره في كفتي الميزان حيث يدخل ضمن مخططات ومراهنات النظام وطموحاته االتوسعية وعقده العسكرية ، وضمن خطط المافيا الدولية ليصبح جسرا للعبور الى الاهداف الستراتيجية للرأسمال العالمي في منطقة الشرق الاوسط . في ذلك الوقت كانت المعارضة العراقية غارقة في حسابات اخرى ، في كيفية الحصول على المكاسب الآنية اللامجدية التي سيتفضل بها النظام حسب مقتضيات مصلحته وليس مصلحة الشعب او الحياة السياسية لانه سرعان ما سيلغيها متى يشاء .
ونُفذ كل شئ بانسيابية ومباركة من كافة الفصائل الرئيسية للشعب ، الذي كان يلاقي كل التحولات السياسية بلا اهتمام لكثرة الشعارات والخدع التي مورست لاستغلاله في العهود السابقة ، فبرزت من جديد تلك المقولات والحكم البالية وأصبحت هي التي تنير موقف العراقي مثل ( إلي يزوج أمنا يصير عمنا ) أو ( ماعليك ، إمشي بصف ألطوفه ) أو ( آني شعليه ) وغيرها الكثير (التي تحتاج الى دراسة معاصرة من قبل المختصين وعلماء الاجتماع لكونها انعكاس للواقع النفسي والساسيولوجي في المجتمع العراقي) . وهذ ه المقولات التخديرية جلبت الويلات ودفعت بالشعب العراقي الى التزام اللامبالاة ، فغط في نومة الفجر الهنية على السطوح يحلم بشربة ماء من (التنكة ) ورقيّة باردة تنتظره على (التيغة ) ، والحصول على كارتون من البيض . في ذلك الوقت لم يكلف احد نفسه من المعارضة او المثقفين الآخرين إيقاظ النائم من هذا الحلم ألهني ، والذين حاولوا لم يسمعهم أحد بسبب الخوف من كاتم الصوت من جانب والمغريات التي بذلها النظام بسبب تأميم النفط من جانب آخر
( وسيعمد النظام الى نهب ارزاق ومدخرات العراقيين واجبارهم بالتبرع ذهبا الى حرب القادسية واحتلال الكويت ) .
دمقراطية أم تبعيث الثقافة
ان فرض النظام الشمولي و سياسة الحزب القائد والحاكم الاوحد وضع الثقافة العراقية في مفترق طرق ، حيث تصارع تياران في سياسة الحزب انذاك (في وقت كان يسمح فيه بالصراع )هما : ديمقراطية الثقافة أم تبعيث الثقافة ؟
وبلا أية مسؤولية تاريخية انتصر التيار الثاني ، فحتم تغيرا جذريا في الحياة السياسية حيث تركز التمايز بين العراقين في الوظيفة ، والامتيازات ، والمستقبل والمصائر وحتى سبل الموت . وتركزت أيضا فكرة العراقي النموذجي ( البعثي المتكيف ) والعراقي غير النموذجي( غير المتكيف )الذي يجب ان يعاقب ويحرم من عراقيته وتم التمايز ايضا في المؤسسات التعليمية وخاصة في شروط القبول في الجامعات العلمية و الفنية ( معهد واكاديمية الفنون الجميلة وغيرها ) حيث كان الشرط الحاسم في القبول هو الانتماء السياسي للحزب الحاكم والتكيف مع النظام وليس المؤهلات الفنية (وبخلاف الكليات الاخرى فان هذا المجال لايمكن ان يستقيم الا من خلال القدرات الابداعية). وقد ادى هذا الى ان يحكم الاستثناء القاعدة . فامتلات الاكاديمية ومعهد الفنون الجميلة بالجهلة وطلبة المعدلات الضعيفة الذين رفضوا من الكليات الاخرى ، اضافة الى رغبة الكثير منهم كانت للدراسة في اختصاصات اخرى غير الفن . وارسلت دوائر الامن والمخابرات عناصرها للدراسة من الذين ترغب هذه الاجهزة باستخدامهم في شتى المؤسسات الاعلامية والفنية كالاذاعة والتلفزيون …الخ وتعرض الطلبة الى حملات المضايقة والتحقيق في غرف خاصة .وبدأت حملات متقنة لطرد المثقفين غير البعثيين من المؤسسات الثقافية والاعلامية والفنية وملاحقتهم.
ونكاية بالشباب عموما ومن أجل ترويضهم وتدجينهم بلا استثناء ، اتبع النظام في البداية اساليب ووسائل تدجينية لا تثير الراي العام بل تكسبه الى جانبها (من منطلق المفهوم العشائري والابوي الذي يعاقب الشباب غير المتكيفين في مؤسساته او مع العرف العام ، لمنعهم من ارتداء الملابس القصيرة للفتيات واطلاق الشعر الطويل للشباب وسيتطور هذا العقاب العلني الى قطع الآذان او الانوف او الايدي وسمل العيون ..الخ كما هو الحال في الوقت الحاضر ) .
وأصبح في مقدور أي شرطي أمن او مسلكي سحل المثقف او الفنان او أي عراقي من شعر راسه بلا سبب فقط لان هيئة هذا الكائن لا تعجبه . وبدأت حملات قص الشعر الطويل وصبغ أقدام الفتيات لإثارة الخوف والرعب بين الشباب ، وكوسيلة لاقتناص الجميلات منهن باعتبارهن مسبيات ومباحات لاصحاب الدماء الباردة والضحك الغليظ .
اضافة الى تجريب شتى مختبرات التدجين الاخرى بدأً من فرض العقوبات والاتاوات على المارة اثناء عبورهم الشوارع (غير المنظمة اصلا ) خطأ ، الى المنح المالية و توزيع السيارت والاراضي والبيوت على المرتزقة من المثقفين الكتبة العراقيين والعرب اوالاجانب ، وانتهاء بهدر ارواح العراقيين على يد ابي طبر .
واصبح رعب الشارع العراقي يوميا وانعكس على حياة الناس بفضل حفلات القتل التي كانت تمارس ليلا في بغداد وبعض المحافظات ، والتي كان ينفذها ما أطلق عليه آنذاك ( أبو طبر ) ذلك القاتل الوهمي الذي غزا بغداد فجأة حد العبث بجثث الضحايا من العوائل الآمنة المعروفة وممارسة ابشع طرق القتل المستوحى من افلام المافيا ، ففي إحداها وضع راس الضحية في مزهرية ، وفي الآخرى وضع في ثلاجة لاثارة الكثير من الرعب ، اضافة الى ان القاتل كان لديه الوقت الكافي لأ ستخدام ثلاجة الضحية ، يأكل ويشرب الخمر باسترخاء وقد يقضى ليلته حتى الصباح هناك . ولم تنم بغداد ليال عديدة ، حيث يتجمع سكانها ليلا أمام البيوت يشربون الشاي والقهوة خوفا من النوم الذي يقلقه القاتل السري (ابو طبر ). وكانت الاذاعة والتلفزيون تزيد من رعب الناس من خلال إطلاق الاشاعات واصدار البيانات والتعليمات في كيفية مواجهة القدرة الخارقة والامكانيات السوبرمانية للقاتل في فتح الابواب وتنوع طرقه في ممارسة جرائمه .
وفي الوقت الذي ( ارعب ابو طبر ) الشارع العراقي واقلق النوم فوق السطوح . فان المصارع عدنان القيسي ساهم في اللعبة المركبة بعد ان جلبوه من أمريكا حيث كان يعيش فيها كمهاجر ، ليصرع جميع " شقاوات " المصارعة الامريكين والاوربيين. فأوهم الناس ببطولة كاذبة ينتصر فيها على المصارعين المستوردين باتفاقيات خاصه . لذلك فان الشارع العراقي كان مشغولا بانتصارات بطلهم من خلال متابعة مبارياته أو مشاهدتها في التلفزيون نهارا وليلا وفي كل مكان ،في الشوارع والمقاهي والبيوت داعين الله بالانتصار له.
آنذاك قلما ترى بشرا في الشارع ساعة المباراة . فاصبح عدنا ن القيسي محقق أحلام الشعب في البطولة الوهمية والانتصار على أبطال مزيفين ، واصبح كذلك أمل النظام في تخدير الناس وابعادهم عن التفكير بمخططاته و التصفيات الجسدية للأعداء السياسيين التي كانت تنفذ كل يوم في عموم العراق ، ويعو ف دجلة والفرات جثث مشوهة لأعضاء من حزب البعث او الشيوعي او الاحزاب الاخرى . وفجأة ظهر ابو طبر مبتسما في التلفزيون للاعتراف بجرائمه بطريقة سخر فيها من العراقيين . و اختفى عدنان القيسي فجأة كما انبثق بعد ان تقاسم مع شركاءه أموال العراقيين فلم يذكره احد حتى الساعة.
سرقة الزمن الابداعي
وفي لحظة التأمل اكتشف العراقيون بانهم كانوا مختبرا لدراسة ردود افعالهم السايكولوجية ازاء ماسيحدث من حروب وخراب منظم مستقبلا . وكرد فعل لكل ماكان يحدث انتمى الكثير من المثقفين الستينيين او أعادوا ارتباطهم الحزبي من جديد في الاحزاب اليسارية الاخرى التي كانت تمارس حياتها خارج السلطة . لقد سرق النظام العراقي زمن العراقيين وبالذات الزمن الابداعي للجيل الستيني والاجيال اللاحقة . اما المعارضة السياسية عموما فقد خانت المثقف الستيني في زمن كان فيه مجال للرفض قبل ان تنغلق الدائرة ، وبهذا فانه وضع أمام خياريين :
¨ اما قبول الهزيمة السياسية و الابداعية وتعميق الشعور بفقدان الكينونة الثقافية والقبول بالواقع الراهن .
¨ او اختيار المنفى والتشرد كهروب مقنع وحلا موقتا .
ان المثقف الستيني وعى مأساته المستقبلية فلم ير أمامه سوى اللجوء التراجيدي للمنافي .لانه شعر بان هذه الحياة ستنتهي بكارثة مخيفة عندما هجس الخراب الذي سيعم العراق الذبيح في المستقبل الذي تخطط له الدكتاتوريةـ الفاشية ،ولم تعطيه المعارضة شيئا سوى وسادة الحذر . جيل متمرد حاولوا الغاء دوره التاريخي فاصبح محكوما بالمنفى الابدي ، جيل رفض الفردوس المدنس من اجل تمرده الابداعي . جيل فرض عليه الهروب نحو وهم قد يبدو زائفا ، نحو الضفاف الاخرى من العالم ،من اجل تماسك الذات ، فالعراقيون عموما اعتبرو منفاهم انقاذا موقتا لهم من المحرقة الجماعية ، لكنه اصبح أبديا في روح أجيال كاملة سرق منها زمنها ألابداعي أيضا ، تلك الجوهرة اللازوردية التي لن تعوض .
بالتأكيد ان تكيف وتذبذب وخيانة المثقف لذاته تحتاج الى دراسات ومناقشات طويله تفتح الطريق امام سبل تعميق الموقف الفكري للمثقف المتفاعل في المستقبل ، مادامت كل الابواب مشرعة والطرق مفتوحة امام المثقف المرتزق وامام طموحات السياسي الاستثنائي الخطرة وخاصة في زمن العولمة . لذلك فمن غير المنطقي النظر الى ممارسات هذا المثقف وخيانته لذاته على اعتبارها سلوكا موقتا سرعان مايزول عندما ينتقل الانسان من محرقته في الوطن الى المنفى . ان الأمر ليس بهذه السهولة لان جوهر موقفه يكمن في جذور تكيفه مع النظام ، وفي صميم الجوهر السيكولوجي ـ الاجتماعي له . وعلى أساسه يتجوهر الفهم الحقيقي لموقفه وطبيعة دوره في التغير الاجتماعي ـ السياسي المستقبلي . لان المثقف بحكم العادة سينقل معه أمراضه وانتهازيته والوسائل الموبوءة الاخرى التي تعلمها من معايشته وتكيفه مع النظام . اما المنفى فهو زمان ومكان تطهيري وفسحة هادئة للغور في أعماق الذات ومحاكمتها بعيدا عن الاستلاب الذي كان مجبرا عليه . ان اختيار المنفى بهذا الوعي يحتم استقلالية المثقف في تفكيره وقراراته ، ورفض تبعيته للسياسي الاستثنائي من خلال التكيف الذي اجبر عليه في الوطن ، وتخليه عن إيمانه بالسلوك العدائي للآخر و السلوك الاناني والتذبذب الذي أدى الى خيانته وخواء روحه . وحتى لا يكون منفى المثقف هامشيا يجب ان يتحول الى ابداع حقيقي من أجل ان يصبح جزءا من تاريخ الابداع العراقي ، حتى نلغي في العراق المستقبلي اخطر وظيفة عرفتها البشرية كما يؤكد سرجون بولص شعرا :
أيها الجلاد
عد الى قريتك الصغيرة
لقد طردناك اليوم ، وألغينا هذه الوظيفة .