أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - جدلية العلاقة بين المسرح والمدينة العربية















المزيد.....


جدلية العلاقة بين المسرح والمدينة العربية


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 175 - 2002 / 6 / 29 - 16:17
المحور: الادب والفن
    


 


يحتم تطور المسرح وتكامله فكريا وجماليا، فرض مقدمات جوهرية تؤثر في المدينة كمجتمع والانسان كفرد برغم تعقيدات التطور الاجتماعي. واهم هذه المقدمات هي ديمقراطية الممارسة الاجتماعية، وحرية الذات ككائن بشري وذات مبدعة فاعلة، بما فيها حرية الاكتشاف والتجريب في الفكر والفن وشتى اشكال الوعي الثقافي.

فالمدينة المتحضرة التي تهييء مقدمات التكامل الاجتماعي ويكون التطور العلمي والفكري والثقافي اساس وجودها اليومي، بالتأكيد ستكون مدينة مستقبلية، ويوتوبيا، ومدينة الحلم ، والفردوس !! انها المدينة والمدنية التي تؤثر على المتعايشين في فضائها الديناميكي. ولكن عندما تخون المدن حريتها وديمقراطيتها، ستخون بالضرورة تاريخها الاجتماعي والثقافي والفني.

وبما ان المسرح قضية حضارية اساسا فانه ينشأ ويتطور في المدينة الحضارية تحتمه تكاملية المجتمع المديني، ولهذا فان اي تفكير بجوهر وماهية المسرح هو بحث قوامه وطبيعته اجتماعية وفلسفية وجمالية وفينومينولوجية ـ ظاهراتيه ـ ايضا .. وبالرغم من ارتباط المسرح بالمثيولوجيا والطقوس الدينية لمختلف المجتمعات القديمة، الا انه كان ـ وما زال ـ يعبر بشكل بصري عن التصورات والاسس الفكرية والفلسفية والمشكلات الاجتماعية للانسان.

وقبل نشوء الفلسفة، شكلت الاسطورة التي كانت قادرة على تفسير العالم والكون، الاسس الفلسفية لحضارات وادي النيل والرافدين والحضارة اليونانية وحضارات الابيض المتوسط، فامتلأت ساحات المدن ومعابدها بالطقوس البدائية والنصوص الاسطورية والدينية واللتورغيات التراجيدية. ومن خلالها نستطيع ان نكتشف الكثير من المفاهيم الفلسفية والدينية والجمالية التي امتزجت بالحياة الاجتماعية آنذاك والتي لها امداداتها وانعكاساتها في حياتنا المعاصرة، مما يؤكد القدرة الديناميكية الشمولية ـ التجاوزية للعقل المشاكس لانسان الحضارات القديمة الذي اعتمد السؤال كمنهج لتفسير الظواهر. والسؤال بدء المعرفة يؤدي الى تراكمات معرفية وحضارية، فيدهشنا البعد الاختراقي لهذا الفن الاسطوري ـ الطقوسي.

ولكن السبب الحاسم والمثير الذي ادى الى تطور المسرح هو الذي حدث في الحياة الاجتماعية الاغريقية حيث خلقت الممارسة الديمقراطية في المجتمع الاثني القديم تطورا داخليا هائلا. ومنذ ذلك الوقت اصبحت التراجيديا اليونانية، التي كانت تقام في الاحتفالات القومية للاغريق، احد التعابير المتميزة للديمقراطية الاثنية، واغتنت بتطورها. ويؤكد هذا قدرة المسرح على التأثير في المدينة وبالعكس، مما دفع فردريك شيللر الى الجزم بان (المأساة الاغريقية ربت الشعب). ولهذا يمكن القول بان المأساة آنذاك انشأت الانسان الاغريقي ومنحته وعيا متجاوزا يجد في الفن انجازا مهما يجب ان يتطور باستمرار.

وقد ساعد انتصار الديمقراطية هذا على ان تصبح مصدر الهام للمؤلف الاغريقي القديم، فتميز اسخيلوس بالانسجام التام بين فكره المسرحي وممارساته الاجتماعية، وكانت افكاره ومعالجاته الاجتماعية ومساهماته الفنية والاجتماعية المهمة، في اقامة دولة المدينة الديمقراطية، تتسم بتجاوزها لعصرها.

وتأكيدا لهذا فانها مازالت تهمنا، وقد ساهمت بتطور المجتمع القبلي وانتقاله الى مجتمع مديني متحضر. ويحلل جورج تومسن هذه الموضوعة تفصيليا في كتابه القيم اسخيلوس واثينا.

ومنذ القدم ارتبط نشوء الظاهرة المسرحية بتكامل المدينة وفضائها الاجتماعي المديني الذي تتطور فيه ذات الانسان الواعية بعد ان توجد جوهرها الديناميكي، ولكن ارتباط ديمقراطية المدينة بحرية الفكر وتجريبية الابداع في شتى المجالات يشكل الشروط الساسية لتكامل المدينة والمسرح في ذات الوقت كما اسلفنا سابقا.

فالانسجام الحقيقي بين هدفيه التكامل الاجتماعي والثقافي ـ وبالذات ... المسرح، باعتباره فعالية جماهيرية ـ هو الذي سيخلق نوعا من وحدة الهدف لتحقيق مجتمع المدينة الحضاري والمسرح المستقبلي الحضاري ايضا، فتتكامل العلاقة التبادلية بين تأثير مجتمع المدينة في تكوين فكر الفنان وبالتالي القدرة التأثيرية للمسرح في المدينة.

وبما ان الفن عموما هو احد اشكال الوعي الاجتماعي وهو ايضا حاجة جمالية، فقد عالج، اهم الظواهر تعقيدا، منذ عهد الاغريق وزمن الاساطير والطقوس الدينية، عندما بحث في علاقة الانسان بالآلهة وجعل من القدرة قوة جبرية حاسمة لتقرير مصير الانسان وحتى العبث بحياته.

غير ان الانسان وبالتالي البطل المسرحي تمسك بحريته في جميع الازمنة، وزاد عناده في تطوير معارفه من خلال التزامه السؤال والبحث، وبهذا فانه اختار ذاته وحريته الفردية، وشخص مأساته بل حتفه في الكثير من الاحيان، فالقلق خلق بذرة الشك والضجر في داخله، مما دفعه الى الاحتجاج والتمرد على حتمية القدر وادى هذا الى تمجيد الانسان كصاحب وعي وعقل مشاكس، فاصبحت له اساطيره وحكاياته وطقوسه الخاصة التي تعكس ازدواجية الطفل الملائكي والقاتل المهووس ـ المنفلت ـ في داخله وعلاقتهما بالمجتمع.

فامتزجت اسطورة الانسان واحلامه العجائبية المدهشة بالحياة الاجتماعية للمدينة من خلال التعبير عن جوهر المشكلات التي كانت تقلقه في مختلف العصور وبشتى اشكالها المعقدة وبهذا فانها شكلت الكون الطقوسي ـ الاسطوري والحلمي والواقعي للمسرح.

ولم تكن تعني المدينة منذ نشوئها وحتى اليوم، غير الانسان في كينونة الوجود الاجتماعي المعطي الذي لم يتشكل بناؤه الفوقي من المفاهيم الدينية والثقافية والفكرية. ولكن عندما تناقض ارادة الانسان ـ البطل ـ مع قوانين المدينة ومجتمعها، ينشأ الصراع الذي يأخذ بعدا آخر عما كان عليه، بحيث يتحول من صراع الانسان مع الآلهة، الى الصراع مع المدينة والمجتمع محكوما بالوعي السياسي والاجتماعي الذي يقود البطل ومدينته الى الخراب الحقيقي احيانا، كما هو الحال بالنسبة الى البطلة الاغريقية انتجون وجميع مسرحيات شكسبير ودكتور ستوكمان ونورا لابسن، وجاليلو البرختي وغيرهم.

لكن بالرغم من ان هؤلاء الابطال يقذفون في هامشية المنفى الداخلي، الا انهم يجدون ذواتهم الحقيقية، لانهم قرابين لمدينة او مجتمع جديدين. انهم قرابين لتحقيق الكثارسس (التطهير) الذي شخصه ارسطو في دراسته للتراجيديا الاغريقية.

وعندما يتم التأكيد في المسرح الاغريقي القديم (على ان البشر هم عبيد لقانون غير معقول . او التأكيد على الاحساس بلا معقولية الوجود) كما في مسرحيات يوربيدس بالذات، فمن السهولة ان نجد مرادفات للكثير من المفاهيم والافكار التي تمس حياتنا المعاصرة. فشعور الانسان بخضوعه لقانون فوقي لامبرر له لكنه حتمي كما هي قوانين الآلهة، بالتأكيد يشكل تراجيديا انسحاقه، مثل هذه الافكار تعبر عن مفاهيم معاصرة مع اختلاف المسببات.

ولكن المؤلف المسرحي الاغريقي (كشف عن مدينة يمكن ان تتغير وعالج مشاكل الانسان الذي يستطيع ان يتدخل في مصيرها او بالعكس فان المدينة تقرر مصيره هو) ولم تكن معالجة المسرح الاغريقي لهذا التعقيد في الحياة عن طريق الاسطورة والمثيولوجيا كما في البدايات الاولى بل عن طريق التصادم مع قانونية ومتطلبات الحياة الاجتماعية للمدينة.

وضمن ديناميكية الجدل بين المدينة والمسرح، فان المواضيع التي نوقشت على خشبة المسرح في الازمنة التي تلت الاغريق اختلفت جذريا. فمع مسرحيات شكسبير بدأ النقد الاجتماعي للحياة وتأشير معادلة الخير والشر والصراع بينهما وازدواجية هذه العلاقة في ذات بشرية واحدة. فالبطل الشكسبيري لا يكون احادي الجانب وانما يخضع للديناميكية، وهو لا يشكل نموذجا لمجتمعه او عصره فحسب وانما يمتلك القدرة على عبور الزمن وصولا لمشاكلنا الآنية. من هنا ظل شكسبير يقلقنا بل هو معاصرنا حقا على حد تعبير يان كوت.

وفي ازمنة لاحقة تميز المسرح بمعالجة المشكلات الاجتماعية بسخرية مرة، وادهشتنا المجالات التي خاض فيها مسرح القرن السابع والثامن عشر. واكدت الكثير من الاعمال المسرحية على رفض المظالم الاجتماعية، وتطور هذا الى التأكيد على النهوض الثوري الذي بدأ مع بداية القرن الماضي كما هو الحال في اعمال الكثير من المؤلفين العالميين.

لكن التطورات العظيمة في القرن العشرين الذي مر عاصفا ومضطربا ومخيفا في ذات الوقت ومازال تأثير حروبه المعلنة والمخفية كبيرا على وجود الانسان، اعطت امكانيات جديدة للمسرح فارتبط بالتطور التكنولوجي واشر تناميا متزايدا للوعي الثوري والفلسفي في معالجته لشتى المشكلات الاجتماعية والفردية ضمن الواقع المضطرب. وطبيعة هذه المشكلات وحجمها خلق الوعي الشمولي للفنان المسرحي وساعد هذا على امكانية المسرح وقدرته في اسلبة العصر، من خلال التأكيد على جوهر المشكلات الاساسية التي تميزه .. ومن اعتيادي القول ان المسرح يتطور وسط الاستقرار والهدوء الاقتصادي والسياسي وحرية التجريب التي تطور ديناميكية الفكر، غير ان المدن تخلق احيانا جحيمها الارضي وتجعل من الحرب قدرها فتفقد امنها ليتحول كل شيء الى اشباح ويصير المسرح خرابا.

الا ان مسرح مابعد الحرب العالمية الثانية اكد حالة من الفوضى المنظمة ـ اي الفوضى البنائية من اجل خلق اللاتوازن في النظام الطبقي وكذلك في الوعي الاجتماعي للمدينة واعادة خلق ديناميكية الوعي الفردي للانسان الجديد بعد الحرب. فارتبط المسرح بالفلسفات (العبثية !!) التي نشأت بتأثير الحروب وخاصة الوجودية وفلسفة تضخيم الذات، وتوزع الفكر المسرحي لتأشير جانبين: الاول: فضح النظام الرأسمالي ـ الاستغلالي وكشف الاسباب الحقيقية والعدوانية للحروب والعمل على بناء وعي جديد واغناء روح الانسان من خلال التأكيد على الفكر الماركسي كأيديولوجيا يمكن ان تبني عالما فوق الطبقات. وكان للعقل البريختي المتميز والمشاكس دور كبير في تأكيد الايديولوجيا في المسرح والمطالبة باهمية احترام حرية الانسان.

الثاني: ابراز الخواء الروحي للانسان الخارج للتو من تحت انقاض الحرب مع الاشارة الى استلاب هذا الكائن في عالم غير حر اساسا، وفي الان ذاته تضخيم الذات الفردية وسط تناقضات حياتية عصبية نتيجة لخواء الحياة. وقد اكد هذا الاتجاه ايضا على التناقض في الوجود والحياة والتأكيد على عزلة الانسان، وقصور لغة التفاهم بين الانسان والعالم المحيط.

ولهذا فان مؤلفي ومنظري هذا الاتجاه كالمسرح الطليعي (اللامعقول) والتجارب الآنية كمسرح الصورة والمسرح البصري او مسرح الحداثة وما بعد الحداثة المتأثرة بفكر ورؤى انتونين آرتو، تميزوا بالوعي الشمولي لمعالجة اي ظاهرة حتى وان كانت محلية لتأكيد شمولية الانسان.

اضافة يمكن القول بان هذه المسارح والاتجاهات والرؤى ارجعت المسرح الى جذوره الطقوسية الاولى عندما كان قريبا من الطقس الديني الدرامي الذي لا يستغني عن مشاركة الجمهور الوجدانية. ومن جانب آخر فانها تعد تجارب ضرورية للمزج بين المسرح كطقس والمدينة كفضاء يمكن ان يؤثر احدهما بالآخر.

لكن مدننا العربية المعاصرة لا تملك اساسا الحصانة الداخلية، لانها مدن متلقية للفكر والتكنولوجيا الاوروبية وفي ذات الوقت تفتقر لوجود القاعدة الفكرية والاجتماعية التي تستغل هذا التطور بوعي بنائي، فسرعان ما يتحول كل هذا الى تشويش حضاري يبث الفوضى الفكرية، خاصة بالنسبة الى المجتمعات الاقل تطورا. ولهذه الاسباب جميعها فان المسرح العربي يخضع للهامشية والاستهلاك الثقافي فيتورط بتقليد اتجاهات المسرح الاوروبي لانه لا يمتلك الحصانة الداخلية ايضا، فيتورط بالتقليد الاعمى لاتجاهات فكرية ليس لها مدلولاتها الاجتماعية.

اذن الالتباس الذي يعيق تطور المسرح العربي الان ويخلق جوهر ازمته، هو ان المدينة العربية غير مؤهلة لخلق المسرح التجريبي المشاكس والحر، الذي لا يمكن ان يوجد ويكون ديناميكيا الا في قدرته على اثارة الاسئلة الوجودية والمصيرية. مثل هذا المسرح يشكل خطورة جوهرية للمدينة غير الديمقراطية، بسبب كونه لا يتكامل الا بالتجمعات واثارته للاسئلة، فينتج وعيا جديدا ويقوم بعدوى المعرفة.

ولكن في ذات الوقت فان المسرح يقف ضد مدينته ويخونها احيانا، عندما يخون الفنان ذاته ومدينته حينما يتحول الى فنان متكيف لشروط ثقافية وسياسية فوقية، فيجبر على ان يقدم معلومات مسرحية فكه تخلق وعيا ساذجا، او في احسن الاحوال يقدم فكرا جاهزا وغامضا نتيجة لغموض وعيه وعدم وضوحه الفكري، فينتج فنا ساذجا بحجة التجريب الذي لا ينبع من حاجة ضرورية بل من مزاج طفولي خادع لبعض المخرجين العرب، الذين تتضخم ذواتهم بلا معنى باستمرار بالرغم من ان ما يقدمونه هو صراع مع طواحين الهواء، لا يحفر شيئا في الذاكرة، فتنشأ بلبلة فكرية تؤثر على الوعي الجمعي والذات الفردية والفنية وتاريخ المسرح اذا عرفنا بان التكيف هو الموقف السلبي للمثقف المتساهل مع ذاته وتاريخ كينونته، وبمعنى آخر ان مثل هذا المثقف المتكيف لا يؤثر في تطور العملية الفكرية ضمن مسارها الديالكتيكي في المجتمع، لانه يتخلى عن دوره ووجوده الفاعل، ويتحول الى اداة في آلية السلطة الاستثنائية، ويكون مستعدا للمساهمة في برامجها لتهيئة الظروف التي تخلق عدمية الثقافة والفن، اما بالنسبة الى التطور الاجتماعي والفكري العام فان التكيف الذي يفرض خيانة الذات وتشويه الحقيقة الاجتماعية والتاريخية لا يسمح بالتطور عموديا اي التطور الاجتماعي الطبيعي.

فاذا كانت المسئولية الاجتماعية وكذلك مسئولية المبدع (لانه خلاصة العقل الابداعي الجمعي) هي التي تتحكم في مستقبل المسرح فمن الضروري ان يصبح فلترا من خلاله يصفى هذا التشويش الحضاري، ليصل الى الجمهور ذلك الوعي وتلك القية الضرورية لكينونة الانسان لذلك يشكل اكتشاف لغة ووسائل المسرح المؤثرة التي تخلق الوعي الفكري والجماليات الفنية اهمية قصوى لخلق الوعي الاجتماعي وحوار الذات مع الآخر، ولا يمكن للمسرح ان يقوم بهذه المهمة مالم يعد صياغة فضائه سميولوجيا، من اجل ان يخلق الحساسية الديناميكية في وعي المتفرج اولا ومن ثم اعادة بنائه من جديد ثانيا، والمساهمة في الوعي الاجتماعي للمدينة ثالثا. ويتطلب هذا تغيرا في المفاهيم الاساسية للغة العرض المسرحي: في الجانب الفكري والجمالي اي النص المسرحي .. وفي الرؤيا والمكونات الجمالية واللغة التعبيرية اي فضاء العرض فتكون لمفرداته وجود ديناميكي في الفضاء والزمان والمكان فتؤثر على بصر الانسان وبصيرته.

ان اكتشاف الطريق نحو النص المسرحي العربي المؤسس، والغني بالحكمة والفلسفة والاسطورة والطقس ومحاججة مسلمات الواقع بعقل ديناميكي شمولي ومن ثم رفضها جذريا بلا اسف اذا اقتضت الضرورة، بالتأكيد سيكون نصا فاعلا وحيويا بعيدا عن النصوص المتكيفة مع الواقع الذي لا يعبر عن الجوهر الحقيقي للانسان، وبعيدا ايضا عن مفاهيم التراث السلفي، ومثل هذا النص يفتقر له المسرح الاوروبي المعاصر المبتلى بهامشية الفكر والثقافة الاستهلاكية، وكان هذا هو السبب الحقيقي الذي دفع بانتونين آرتو وبيتر بروك الى اللجوء للطقوس والاساطير الشرقية.

والجانب الآخر الذي تفرضه لغة الطقس المسرحي وطبيعته الفنية وجدل العلاقة بين المسرح والمدينة هو تغيير العلاقة مع الجمهور المتلقي ليتحول الى متفاعل ويقوم بفعل المشاركة كما كانت عليه وظيفته في الطقوس المسرحية قديما.

ويصبح الجمهور متفاعلا في الطقس المسرحي من خلال تمثله للسؤال المصيري الذي طرحه الفنان في العمل الفني ومن خلال تأثير الدلالات التعبيرية ـ اللغوية للصورة الفنية، وعندما يكون مفكرا في المسرح. وهدف اللقاء بين الفنان والمتفاءل في الطقس المسرحي هو الكشف عن التناقض الجوهري للواقع والحياة واحلام الانسان، فيتضح حجم المأساة الحياتية التي تثير السخرية احيانا وتبرز الكوميديا السوداء التي يكشف الفنان والمتفاعل سرها.

اذن هنا تكمن ضرورة اعادة معمارية السرد الرؤيوي والفكري للطقس المسرحي في المدينة العربية المستقبلية (المدينة اليوتوبيا !!) بحيث نكتشف امكانية جديدة لاستعادة مجد المسرح حتى يصبح له ارتباط عضوي بحياة الجمهور كما كان عليه المسرح اليوناني القديم. او تحقيق علاقته المتجذرة بالمدينة كما في مدينة القرون الوسطى الاوروبية.

وختاما يمكن التأكيد بان المسرح يستطيع ان يؤثر في الوجدان الاجتماعي للمدينة فقط من خلال الممارسة الديمقراطية وكذلك حرية التجريب واكتشاف لغة فنية تعبيرية جديدة كضرورة للتواصل مع الجمهور.

وضمن هكذا مهمة فان التخطيط الثقافي الآني في السياسات العربية لا يمكن ان يخلق مسرحا حقيقيا، او جمهورا يمكن ان يتواصل مع الثقافة والمسرح، في مجتمع تشكل نسبة انتشار الامية فيه 65 مليون نسمة، اي ما يقارب 43% من مجموعة السكان، وستكون النتائج اكثر تشاؤما اذا اضيف الى هذا تساهل المثقف العربي مع ذاته ومع تطورات الواقع المحيط به وخيانته لمهمته ودوره التاريخي فيتحول الى مثقف امي متكيف وستشكل النتائج الرعب الحقيقي للانسان المعاصر عندما تكون الامية بحجم 900 مليون امي في العالم.

ومن جانب آخر فان الجهود الجليلة للفنان العربي المبدع لاكتشاف لغته الفنية ومسرحه الذي يمكن ان يتمايز عن مسارح الشعوب الاخرى ستمنح المسرح العربي تمايزا خاصا، بالرغم من ان الفنان يعيش منفاه الداخلي في مدينة يحتقر فيها المسرح المشاكس حداثيا وفنيا وفكريا، ولا يعتبر جزءا من طقوسها اليومية. اذن وجود جميع هذه الاشكالات في الواقع والثقافة العربية سيساعدنا على خلق جدل العلاقة بين المسرح والمدينة.



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيزوفرينيا الذات في فلسفة سورن كيركغارد
- العنف وهستيريا الروح المعاصرة في النص الشكسبيري
- ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري
- التعازي ……… طقس درامي شعبي


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - جدلية العلاقة بين المسرح والمدينة العربية