أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري















المزيد.....



ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 148 - 2002 / 6 / 2 - 21:08
المحور: الادب والفن
    


              

 المسرح البصري ضد الأدب  ( رؤيا  أركيولوجية  مغايرة  )

    د. فاضل سوداني

 مخرج وباحث مسرحي

       E mail .soudani _ @ maktoob .com   

 

المسرح وسر الازمنة

يعتبر التعامل مع الجسد بصريا من قبل المخرج او الممثل فنا معاصرا ولغة  ديناميكية  لخلق الصورة المعبرة في فضاء الطقس المسرحي، ويعد هذا في حقيقة الامر مفهوما حداثويا ، ارتبط بالتحولات الابداعية التمردية في  القرن الماضي  . لذا فان  الكثير من  الدراسات والعروض والتيارات والتجارب المسرحية الاوربية أكدت ومازالت على تحقيق الجانب البصري في أداء الممثل او الرؤيا الاخراجية او سينوغرافيا الفضاء المسرحي ، كلغة جديدة في الاخراج المسرحي  ، بدءا من تجارب جوردن كريج
و راينهاردت ،  ومايرهولد  وأدلف آبيا  ومخرجي مسرح الطليعة الفرنسيين  وانتهاءا بتجارب بيتر بروك  وجوزيف شاينا وروبرت ولسن وليباج وكانتور وبينا باوش ويوجين باربا واريان منوشكين والياباني تاداشي سوزوكي وكل مايرتبط بتجارب مسرح الصورة الاوربي وبعض تجارب المسرح البصري العربي وخاصة تجارب  المسرح التونسي  .
ولقد أثر آنتونين آرتو ومفهومه حول مسرح القسوة والاخراج المسرحي  الميتافيزيقي المعاصر في تشكيل صورة  العرض  في المسرح  العالمي ، حيث حاول  اكتشاف لغة جديدة للمسرح بحيث  ( تكون قوة سحرية  تستحضر ماوراء مملكة المنطق والكلمات او ان توحي به ) وبمعنى آخر ان المسرحية كنص يجب ان تكون منظورة بقدر ماهي مسموعة ولذلك فانه ربط بين الميتافيزيقا والحلم والاخراج لان  المسرح بالنسبة الى له  ( يجعلنا  نحلم ونحن مستيقظون ، ويكف ان يكون مسرحا اذا تخلى عن هذه المهمة ) . ومن خلال هذا  حاول  انتونين آرتوا ان  يخلق مسرحا ميتافيزيقيا يستبدل فيه الكلام المنطوق بلغة جسدية بصرية  محسوسة لانه يرى  بان المسرح لا يؤثر على السمع فقط وانما على الحواس الاخرى .
 إن حلم آرتو في خلق  مسرح  مرئي بوسائل بصرية يتحول فيه العرض إلى طقس أو شعيرة  ويرتبط بالأحلام و الرؤى التنبئية ، كان له  صداه في كتاب ومخرجي المسرح المعاصر ، ودفع بالكثير من الفنانين لتحقيق نظريته او حلمه الابداعي  مثل  غروتوفسكي  وبيتر بروك وجوزيف شاينا  وكانتور وغيرهم من  الذين  خلقوا لغة الوجد التصوفوي في  المسرح .

وهذا هو المنهج الفني والفكري الذي يعيد ديناميكية الابداع في المسرح المعاصر ، وفي ذات الوقت يرفض  شتى صنوف الالتباس والجهالة والغموض المتعمد لدرجة الاستهتار بالقيم الإبداعية من اجل المنافع الأنانية الضيقة والأهداف السياسية التي تخلق شرور تجارة الفن الرائجة ألان وتخلق أيضا المناخ المناسب لعبث الجهلة والمزيفين وإشاعة الخيانة  الفنية  في المسرح المعاصر عموما والمسرح العربي بالذات  .

ولهذا فان دعوتنا لتحقيق البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي  تعتمد على البعد البصري ـ الميتافيزيقي  لذاكرة الجسد المطلقة وعلاقتها  بتحولات  الاشياء  ،  وتخلق  عرضا مسرحيا يستند على النص البصري ، وديناميكية ذاكرة الأشياء التي يعيد الممثل والمخرج خلق كينونتها عند التعامل معها  بصريا  في  الفضاء الابداعي  . وكذلك على الاخراج البصري الذي  يعتمد التأثير بالصورة  الديناميكية والوسائل البصرية الاخرى .  ولذلك فان البعد الرابع هو رؤيا بصرية في الفضاء المسرحي تتكامل من خلال  المرادفات التطبيقية و الاخراجية والرؤيوية التي تعيد خلق النص لتحوله الى نص بصري ، وتؤدي الى الكشف عن سر الحاضر والمستقبل المرتبطان  بالماضي إبداعيا .

 وضمن هذا المدخل فان جسد الممثل كوسيلة تعبيرية يعد خزينا مثيولوجيا  بصريا  يرتبط بالاسرار العميقة لمعاناة الابداع  وهذا يؤهله ان يحل بهذا الغنى في جسد آخر ( أي في الشخصية او الشخصيات الاخرى ) بواسطة الذاكرة البصرية  المطلقة لجسده ، و يختلف هذا المفهوم عن ذاكرة الممثل  المثيولوجية  او عن التاريخ المسرحي بشكل عام ، ففي هذا المجال  يتحكم التاريخ كتراكم معرفي وفني .

فالذاكرة الجسدية المطلقة هي القدرات  الجسدية غير المكتشفة لدى الممثل . وجوهر ديناميكيتها التعبيرية هو    " الان "  لتجعل من الحضور الاني للممثل في العرض ،  حاضرا  للممثل والشخصية في  ذات الوقت ،

 

لان  وجودهما اللحضوي هنا يعني وجودا انسانيا جديدا  (  اى الان ـ في دائرية اللحظة الابداعية  ) ، وبمعنى ان هذا الوجود  يتكثف بصريا ورؤيويا و ديناميكيا .

و حسب ( هايدجر )  ان الوجود المكثف (للانسان ) هو  آنية لحظوية  ( أي حضور آني  )  اضافة الى ماض متكدس أي  ماضي الشخصية  مضافا الى  ذاكرة  جسد الممثل كخزين للتراكم البصري والمثيولوجي  . ولهذا فان تاريخية الشخصية هي حاضر الممثل أيضا عندما يوجد  ألان وفي لحظة الفعل (او الهذيان الابداعي الرؤيوي  المنظم). لان الممثل يقوم بعرض ماضي الشخصية وتحويله الى حاضر  مرتبط بذاكرة جسد  الممثل  البصرية المطلقة في لحظة  تفاعله مع الجمهور ويؤثر كل هذا في إعادة خلق الحدث والشخصية ابداعيا  من جديد . فالتاريخية ( حسب هايدجر )  تفهم من خلال علاقة الحاضر الانية

( الحضور اللحضوي = الوجود الانساني )  بالماضي المتكدس ( الذي يؤثر على  اللحظة الابداعية ) وليس وفقا للماضي كمفهوم زال وانتهى.  اما المستقبل فهو ذلك السؤال المصيري والوجودي الغامض الذي يطرحه الفنان والعرض المسرحي( الطقس ) على المتفاعل (الجمهور) ويقلقهم . 

 

غير ان لحظة تقريب وتلاحم هذه الازمنة الثلاث تشكل تلامسها ، وهذا يعني تشكيل  الرؤيا الاخراجية  الابداعية والتأليف البصري  ،  أي ان عمل المخرج  يتجسد في الزمان ،بمعنى تقريب هذه الازمنة الثلاث فيما بينها من أجل خلق بعدا ابداعيا رابعا يعتبر كرؤيا بصرية  جديدة  للفنان تحتم خلق وتنشيط الذاكرة الجسدية  .

وبما ان المسرح تاريخيا قد وجد المؤلف ( الكتابة الادبية ) و بعد ذلك المخرج ـالدراماتورج ،  فان الضرورة الان تحتم ان  يوجد مؤلف النص البصري. ولهذا فان البعد الرابع هنا يهتم بإعادة خلق الفضاء المسرحي بصريا ومخاطبة الجمهور بلغة  الصورة   والرموز والاحالات  والتأويل واللغة البصرية بعيدا عن اللغة الادبية  . فالنص ضمن مفهومنا هذا  يُكتب للمشاهدة وليس للقراءة الادبية  ويمكن للقارئ ان يقرأ النص بصريا في فضاء العرض  ، وهذا يعني ان يمتلك المؤلف ( او المخرج عندما يكون مؤلفا ) رؤيا بصرية من خلالها يفهم إيقاع الصورة والحدث على خشبة المسرح وليس على الورق . ان النص هنا لا يقتصر على  الكلمة كدلالة ولغة سمعية فقط وانما ان تكون هنالك مساحة أكبر للوسائل البصرية ، ومن خلالها يتحقق الخطاب المسرحي . وبمعنى  ان  يكف المؤلف عن الاستمرار في تحقيق فعل الكتابة الادبية التقليدية فقط ، ليتحول الى كاتب  للنص البصري ومع المخرج يخلقان العرض البصري  . وبالتأكيد ان  مثل هذا النص المسرحي البصري  سيكون ضد الأدب   بالضرورة .

اما الجانب الفكري في  هذا المسرح  فيعالج الواقع والحياة  بحركتها الديناميكيةالمعاصرة .  اضافة الى فرض مفهوم العلاقة السرية التفاعلية التي تحدد وظيفة الجمهور المتفاعل فيمتلك تأويله التفاعلي لانه المتفاعل النموذجي في الزمن الابداعي لفضاء الطقس المسرحي البصري .لهذا فهو ليس جمهورا ولا متلقيا وانما هو متفاعل  ، ويتفاعل هذا المتفاعل مع السؤال المصيري المستقبلي الذي يعالجه الطقس المسرحي البصري .

ومن هذا نستنتج بان أهم  الوسائل التي تجسد  مثيولوجية المسرح المعاصر  وتربطها   بالميتافيزيقيا هو النص البصري ، والفضاء الابداعي للمخرج الرائي ، ومن ثم جسد الممثل كذاكرة ابداعية بصرية مطلقة وخزين مثيولوجي  كما أسلفنا ، وهذا يعني تحقيق فن الأسرار والنوايا الخفية  للمستحيل المسرحي ، انه رؤيا السر المباح  لتكامل  العرض الطقسي وتكامل الامكانيات البصرية و الابداعية لذاكرة الجسد   البصرية  .

لذلك يمكن  التركيز على  وسيلتين لتحقيق تكامل العملية الابداعية التي يستند  عليها مفهومنا عن البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس البصري :

اولا ـ  ميتافيزيقيا ذاكرة جسد الممثل  البصرية المطلقة  .

ثانيا ـ  مثيولوجية  ذاكرة الأشياء  وخلق كينونتها المبدعة  في الفضاء ارتباطا و اعتمادا على أسرار  النشاط الإبداعي وألاركيولوجي لذاكرة الجسد .

 فيمكن التأكيد على أن جسد الممثل بذاكرته البصرية هو لغة في الفضاء المبدع ،  ، لان الممثل  يتعامل دائما مع الزمن الفني والإبداعي وليس  الزمن الواقعي  ، فهذا الزمن الاخير لا يشكل أي عقبة لتحقيق  ميتافيزيقية  الابداع عندما  يستخدم الفنان  ذاكر ة جسده البصرية المطلقة  التي  يعمل الممثل من خلالها  على كشف الاسرار والقدرات والخفايا المظلمة غير المكتشفة والغامضة  في جسده . ومن خلالها لابد ان  يمتلك الجسد ذاكرته الابداعية ، فالجسد  يعبر تأويليا وبصريا وسميولوجيا عن ذاته وكينونته ووجوده في الزمكان  الابداعي . لذا فهنالك مبدأ  يشكل احدى اسس ذاكرة الجسد ، وهو ان المشاعر الداخلية للممثل تظهر جسديا وبصريا من خلال الغة التعبيرية  للشريك الاخر اضافة الى مشاعره  هو ذاتيا  . ويتم هذا في زمن ابداعي وفي فضاء ممتلئ بالرموز والايحاء السري البصري   .

 

وبمعنى آخر فان ( أركيولوجية ) البحث في ذاكرة الجسد هو إضاءة الجانب المعتم في قدرات جسد  الممثل وروحه . وبدون هذا فان الممثل يبقى في اللمبو الساكن  (مكان الخزين المثيولوجي  في الجسد والروح الذي يكرره ويورثه  الانسان تتابعيا من جيل الى جيل كعادة وتقليد )  لذلك فان الممثل  يصاب بفوضى الحواس غير المنضبطة  وهذا يؤدي الى فوضى الذاكرة الجسدية البصرية ، و ينتج الثرثرة الحركية الجسدية او الحركة العشوائية الملفقة ، وهذيان الجسد هذا  يلعب دورا أساسيا للوصول إلى تأويلات اللغة البصرية عندما ينتقل التأويل  من  فوضى الحواس وفوضى الجسد ( مرحلة الثرثرة  اللامبدعة ) لتتشكل  ميتافيزيقيا الذاكرة الجسدية البصرية المطلقة ( اللغة المبدعة ) . ومن جانب آخر فان  فوضى ذاكرة الجسد يخلق السكون الاعمى  فيكون الجسد في حالته السكونية الميتة ، أي  لا يمتلك قدرته التعبيرية  الابداعية على خلق تكامل  بصريته المطلقة ومحاولة الكشف عن اسرارالنيرفانا الفنية .

ويعتبر امتلاك الممثل  لذاكرة  جسده البصرية المطلقة  ،  " يقظة " لاكتشاف اسرار جسد ه وروحه ويشكل  هذا الشرط الاساسي للتكامل الفني  . ان التعامل مع الجسد بذاكرته المطلقة هو الكتابة البصرية والرؤيوية بصوت مرتفع انه الهمس والحوار الداخلي الذي يضج بين الممثل وكينونته المطلقة وبين مثيولوجية ذاكرة الاشياء التي يمكن ان يعاد خلق وجودها في الفضاء المسرحي من جديد  . وهذا البعد ينتج لغة بصرية  للتواصل مع الجمهور . و يفرض  ان يكون  الممثل وجسده مهيئان للتعبير بصريا .

 

 ولهذا فان فضاء الطقس المسرحي  يكون مُعَبِراً ومتوهجا فقط من خلال لغة الهذيان الابداعي الميتافيزيقي للجسد بذاكرته البصرية ، وارتباطه بمثيولوجية ذاكرة الاشياء التي  يتعامل معها . ان هذيان الجسد التعبيري البصري  يؤدي الى الهذيان البصري للاشياء المحيطة ، فيعديها ويحدث نوع من التحول في وجودها (كما هو الحال في مكونات فضاء مسرحية الكراسي ليونسكو)  لان هذه الاشياء  عندما تدخل في العملية الابداعية تفقد وظائفها الحياتية الواقعية ويمنحها الممثل والفضاء السينوغافي والرؤيا الاخراجية معاني ووظائف جديدة لها ايقاعها ومكانها في الفضاء والزمن فتصبح أشياء ذات بعد بصري مطلق  .

 

ان وجود الممثل في الفضاء في علاقة ديناميكية مع  الآخر ومع  الشئ هو من اجل انتاج الصورة الشعريةـ البصرية  الابداعية غير الكلامية التي ترتبط بالزمن الميتافيزيقي . وجسد الممثل يمتلك ذاكرة ابداعية تعبيرية مطلقة يمكن إغنائها  من خلال مفاهيم مسرح القسوة والاخراج الميتافيزيقي لأنتونين آرتو والمسرح الفقير لغروتوفسكي ومسرح البيوميكانيكا لمايرهولد  ومفاهيم أخلوبكوف  ومايقدمه يوجين باربا  وكذلك مفهوم  البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس البصري وطقوس الوجد ـ  الصوفي   .

اضافة الى هذا فان غروتفسكي ومايرهولد و بيتر بروك و روبرت ولسن  و   Pina Bausch  واريان منوشكين  ويوجين باربا وبعض عروض المسرح العربي وخاصة عروض المخرجين التونسيين مثل فاضل الجعايبي  ومحمد ادريس والجبالي والمنصف الصايم وعز الدين كنون  وحاتم دربال وغيرهم يلتقون مع مفهومنا هذا حول المسرح البصري .

البعد  الماورائي  لذاكرة  الجسد البصرية المطلقة و ذاكرة الأشياء

 لم يعد  المسرح السكوني  التقليدي المعاصر  يسحرنا ، لانه يعتمد الكتابة الادبية  غير المسرحية المستعارة  من خارج فضاء العرض ، لذا فانه يكرر مفاهيم الواقع الفوتغرافي التي تتناسب مع جميع وسائل الدعاية والاعلام  ولا تتناسب مطلقا مع لغة  المسرح ، أي دون الاهتمام بديناميكية الذاكرة البصرية للجسد ولغته ، ولايهتم بتداعي الصور الابداعية   في الفضاء ، ولايؤشر الاسس الجمالية المعاصرة  التي تكون بعيدة عن المنفعة التجارية  .

 إن الذي  يشيع هذا المسرح السكوني الثرثار ، فنانون همهم الأساسي ابداع و تنوع أساليب الربح التجاري، وهم قادرون على نشر هذا الطاعون  . ومثل  هذه المفاهيم هي  نفايات ، وكل  كتابة او اخراج  بمثل هذه الهدفية  هي نفاية مطلقة حسب انتونين آرتو.

 ومن هذا المنطلق فان  مفهومنا المار الذكر حول  البعد الرابع  وذاكرة الجسد  وذاكرة الاشياء  يجب ان يكون رؤيا فوق الواقع ، بمعنى ان يهتم  بالشئ غير  المرئي  للواقع  ، وان يعبر هذا المسرح  عن الصمت اذا جاز القول  ، وان  يعبر عمالا يمكن التعبير عنه . و مفهومنا هذا  غير منقطع الوشائج والخبرات المشتركة  مع  مخرجي ومنظري المسرح التجريبي الاوربي  ( الحداثي ومابعد الحداثي )  التي تعتمد لغتها التعبيرية على الوسائل البصرية ودلالاتها السميولوجية  .

 فالنص الذي أبدعه كتاب الطليعة مثل بيكيت ، يونسكو ، جان جينيه وأدوارد آلبي مثلا ، هو  النص  الذي نعتبره قريب من رؤيتنا المسرحية حول النص الرؤيوي ـ البصري . وهنالك الكثير من المخرجين الذين نراهم  قريبين الى مفهوم البعد الرابع في الطقس المسرحي البصري . وكذلك المبادئ الاساسية التي يقوم عليها مسرح الصورة الاوربي بما فيها تجارب مسرح الدول الاسكندنافية والذي بدأ  في فترة الستينات ومازالت الكثير من هذه التجارب حتى اليوم تكتشف الامكانيات الجديدة في اللغة المسرحية البصرية  للوصول الى اساليب عمل غير مكررة .

 والشئ الجوهري الذي يميز مسرح الصورة  في هذه البلدان وكذلك  الاوربية  الاخرى ، هو إبراز البعد الميتافيزيقي واللامرئي في حلم الإنسان الأبدي .غير ان الموت في عروض مثل هذا المسرح يرفرف دائما كطائر أسطوري فوق رؤوس  الممثلين والجمهور  ومكونات المشهد ، ومن الممكن ان ينقض في أية لحظة ليمارس وجوده  العبثي .

وكذلك مسرح ما بعد الحداثة الأوربي والذي يشكل تجربة مهمة في المسرح البصري .وقد كتبت جاكلين مارتن عن أهم مميزات هذا الاتجاه المسرحي المعاصر في كتابها( Modern  Theatre Voice  in) والذي يشترك مع مسرح الصورة في الكثير من أساسيات العرض المسرحي  منها :

(طغيان الشكل على المضمون والقيام بتجزءة النص  والابتعاد عن تسلسل الاحداث ، بمعنى عدم اعتماد السببية والنتيجة في التحليل . اما الزمان والمكان فهما دائما غير محددين  ولهما سلطة الاحلام . ان العرض المسرحي يكون متعدد الاصوات  ،  اضافة الى التزام  عدم الاتصال المباشر بين ما يحدث في الفضاء على خشبة المسرح  والجمهور . او  بين الشخصيات ذاتها ، لهذا السبب فانها تبدو مشلولة الفعل ، وكأن كل واحد منها منغمر بعالمه الخاص الذي يشكل جوهر وجوده . وتلعب المؤثرات البصرية دوراً  اساسيا   ، اضافة الى ان الاسلبة  والشرطية والاختزال تميز الحركة والصورة في العرض .) ويعتبر مسرح مابعد الحداثة مسرحا بصريا  للاسطورة والطقس والحلم اكثر من كونه مسرحا سوسيولوجيا   .

 

ويعد روبرت ولسن في قمة تيار مسرح مابعد الحداثة  ـ المثيولوجي   . حيث يعتبر الجسد بالنسبة له المصدر الحقيقي للخلق الابداعي . فهو يبدأ من الجسد لينتهي فيه في كل عروضه المسرحية سواء كان منها الكلاسيكية ام المعاصرة .  ومن خلال الفانتازيا الاسطورية  يقوم ببناء المعمار الجسدي والفكري في الفضاء ليعبر عن واقعنا بكل عنفة وقسوته . اما الاداء فيعتمد على اسس الرقص الذي يتعامل معه كاحد مفردات اللغة الاسطورية  و  البصرية التي تحل محل الوسائل الادبية  دائما . اذاً المسرح  هو   طقس يقترب من الشعائر المثيولوجية او من زمن  تقديم النذور ،  أي تلك العمليات الابداعية والطقوس التعبيرية التي يؤديها  الفنان في حضرة الجمهور  ( المتفاعل ) و تتكامل بزمنها الابداعي  خارج الزمن الواقعي ، أي انها اللغة والصورة البصرية الفنية والطقوس التعبيرية والسرد الرؤيوي والمثيولوجيا التي يخلقها الفنان في تعامله مع الزمن الميتافيزيقي الفني من خلال  رؤيته التمثيلية و الاخراجية .

و يمكن اكتشاف  بعض جوانب  ميتافيزيقيا الذاكرة  البصرية للجسد  ومثيولوجية ذاكرة الاشياء   في الكثير من المفاهيم والرؤى الاخراجية للعروض العالمية ،ففي عرض الهلوسات الأخيرة للمخرجين البلجيكيين  Nicole  Mossoux     و  Patrick Bonte   كان الطموح هوخلق لغة تأويليه متلامسة مع مفهومنا الذي  أطلقنا عليه ميتافيزيقيا الذاكرة البصرية المطلقة للجسد وعلاقتها بمثيولوجية ذاكرة الاشياء الفاعلة في الفضاء الابداعي ( العرض البصري  ) .

 

لذلك  قسم المخرجان  فضاء العرض  الى عدة  إطارات كأنها بؤر او مرايا مضيئة لانرى أي شئ فيها إلا في حدود الاطار وماعدا ذلك فان كل شئ  يغرق في الظلام . وفي كل هوة نرى هذيان جسدي  بصري ذومعنى تأويلي خاص. وبالرغم من اختلاف هذه الهذيانات ( المشاهد ) عن بعضها  فكرا وايقاعا وايحاءأً ولغة  ، الا انها متداخلة وتشكل وحدة هارمونية ذات معنى واحد . فهنالك الرجل الذي يتحدث مع سمكته  بلغة  كهمس الاصابع  لكنها   تضج بالتأويل السميولوجي .

وفي هوة أخرى  ( الاطار الآخر) نرى المرأة المتوحدة وكأنها تقرأ كتاب القدر بهمس أصابعها المتوهجة

الذي يسري كالعدوى في  جسدها  فيذوب وجداً  . والمرأة الغريبة الأخرى التي تذكرنا بأحد تماثيل ميكائيل انجلو والتي تشق عاصفة الفضاء بجسمها وكأنها تحاول الخروج من بين لزوجة ظلام روحها لانقاذ ها من  خطيئتها السرية معبرة عن ذلك بحركة جسدها المتقطعة العنيفة المندفعة  .

ومن كل هذا نفهم وبوضوح  بصري بان العرض مؤسس على كشف طبيعة العلاقة بين الرجل والمراة بمختلف أشكالها والذي يُعبر عنه بهذا الهمس الجسدي البصري  الغامض بينهما .

ان المخرجان استخدما   همس الحواس ( همس الايدي ) كمفردة في لغة  بصرية للتعبير عن الحيرة او الغضب او التفكير او القلق او غرائز الجسد الخ . وأستخدام أعضاء  الجسد في فضاء التعبير هي  لغة يمكن ان نكتشف جذورها واصلها في مسرح كاتاكالي والرقص الهندي .  وفي المشهد الثاني من هذا العرض ( الهلوسات الاخيرة  ) هنالك  عنف الحواس ، حيث يهم  الرجل بقتل المرأة بطريقة تحيلنا  الى الاساطير عندما يحاول ان يفقأ عينيها أولا  .

وفي مشهد آخر مشابه لهذا  ومختلف عنه في ذات الوقت حيث  يتحول همس الاصابع  الى ضجيج عندما تحاول المرأتان ان تفكا لغز جسد الرجل باستخدام ايديهن ، وبحركة توحي بهوس المرأة الابدي  بالالتحام بالرجل ليس غريزيا فقط وانما مصيريا . ومن جديد فان المرأة الأولى التي تبدو هائمة بتوهانها تهمس جسديا للسمكة التي تتراءى وكأنها ستظل طائرة إلى الأبد في فضاء هذه الهذيانات أو الطقوس ، وبهذا  تدخل السمكة كمفردة في  لغة بصرية قريبة من  تعاويذ السحرة في الأساطير الأولى ، فهي  كاتمة لأسرار المرأة(حواء) التي تهمس لها جسديا عن الخطيئة التي ستغري آدم بارتكابها في المشهد  القادم .

ان جسد الممثل هنا له لغته وهمسه الخاص وديناميكيته في الفضاء  وهذا له علاقة بذاكرة الجسد البصرية ، فليس المهم في المسرح ان يتحول همس الحواس الى لغة محكية تنتج حروف وأصوات كما تعودنا في المسرح الواقعي التقليدي السكوني . بل ان لغة الجسد يجب ان تكون لغة مستقلة لها مفرداتها الخاصة .وبالرغم من انها  لغة خارج منطق الكلام لكنها واقعية لها  إيقاعها الذي يشكل صوتها وهمسها ومفرداتها التعبيرية ،  انها قريبة من لغة الاحلام التي تتناقض مع منطق الواقع ، لكنها  تتناسب مع واقعية الحلم ومنطق ميتافيزيقيا ذاكرة الجسد البصرية المطلقة  .

الهلوسات  البصرية  لذاكرة الجسد 

ومن أهم المشاهد  البصرية في هذا العرض هو الهذيان الجسدي بين آدم وحواء  ، فمنذ البدء نراهما عازمان على ممارسة الخطيئة بكل وعي وإصرار (  سرقة الثمرة المقدسة المستحيلة  )لان هذا سيمنحهما سر الوعي الجديد  بالكون  بما فيها معرفة أسرار جسديهما والانغمار بعد ذلك بفردوس لذة  الجسد .

 ونستطيع ان نكتشف الابعاد الميتافيزيقية لذاكرة الجسد البصرية ليس بمعرفتنا حدوتة الحدث تاريخيا وانما بواسطة اللغة البصرية لذاكرة الجسد . ويتم هذا حينما تكون ديناميكية أجزاء الجسد وخاصة الايدي هي التي تخلق تأويلا بصريا ورمزيا وسميولوجيا لتأكيد رغبة  آدم  في اكتشاف الاسرار المستحيلة لوجوده والقوى الفاعلة والغامضة في جسده وروحه ،واسرار الكائن الآخر  ( حواء ) الذي يلاحقه كقطب سالب وموجب لخلق تلك الشرارة التي ستقذفهم في جحيم الخطيئة التي ستخلق كونا آخر وأسرارا جديدة سينغمر الانسان في حل ألغازها ، ولعنات ستلاحقه حتى بعد مماته .

فتاريخيا نعلم بان حواء هي التي دفعت آدم الى هذه المغامرة التمردية ـ الوجودية ، ولكننا  نجد هنا بان آدم كان يمتلك الرغبة المترددة في خوض  مغامرة  هذه المعرفة ـ الخطيئة مادامت تحمل اسرارا جديدة .  بالرغم من ان حركة آدم المرتبكة وخاصة اصابع يديه توحي  بقلقه وخوفه ( لانه يعلم حجم الفعلة ) ورغبته المشتعلة بالشهوة التي ستمنحهما ثمرة الخطيئة ـ المعرفة ، لكن من خلال حركة إيحائية نعرف بان الاثنين متفقان على ارتكاب الخطيئة لامتلاك المعرفة الكاشفة لافق بشري جديد  والتي تبتدأ باشباع اسرار  شهوة الجسد .

ولكن الايحاء الحركي ـ البصري لحواء في اغراء  آدم كان  أكثر اصرارا لانها غريزيا كانت تشعر  بالنتيجة

(شهوة الجسد )، لذا فان  فعلها تكثف  في دفع آدم  الى لذة الاكتشاف  . ونرى هذا بصريا من خلال  ذلك التيار

 الكهربي الذي يسري بين جسديهما بدون ملامسة اولا ، لكن في الوقت الذي تلامس فيه  أصابع حواء  موطن

الاسرار ( عضوها التناسلي) يتسارع الايقاع المعبرلاصابع يدي آدم المترددة، لكنها  توحي بالفرح والاصرار

والرغبة العنيفة لامتلاك ثمرة المعرفة وحصان الشهوة الناري والحياة المتوهجة المرتقبة . هذا الانفعال الجسدي

 المنعكس من خلال الخزين البصري لذاكرة الجسد لابد ان يكون له تأثير على فعلهما ليس الجسدي وانما النفسي

 أيضا .وللتعبير عن امتلاكهما لثمرة الخطيئة يلتحم جسديهما لكن بلمسة او لدغة  سريعة توحي وكأن لعنة تنزل

 على جسديهما كالصاعقة فيتكهرب الجسد ، ويصاب فضاءه باللعنة تاريخيا وحاضرا .

وفي اطار آخر(هوة اخرى ) نرى اقدام تتدلى من الاعلى للدلالة على طرد آدم وحواء  ، وعندما يسيقظان من

هذا الكابوس المرعب الذي حولهما الى ارواح ملعونة تخلت هي الاخرى عن جسدها في عالمهما الجديد،

تبقى ثمرة الخطيئة ـالمعرفة ، هي الذكرى الوحيدة التي يحملانها معهم  من ذلك الفردوس المفقود ، وتحاول 

حواء التكفير عن خطيئتها  والتخلص منها ومن  ذلك الدبيب الذي ينهش يديها كذكرى ملعونة. فتقلق  مرعو بة

لانها لا تعرف مالذي ستفعله بهذه الثمرة الملعونة ، سوى ان تتلصص على تلك المرأة ، القوة ، الخالقة المتحكمة

والرابظة بلا مبالاة كاللبوة ( وقد تكون الافعى التاريخية ) تنظر الى الثمرة الملعونة وهي تفكر بخطيئة الانسان

 والويلات  التي ستلاحقه في عالمه  الجديد.

ونستطيع ان نلاحظ بان  المخرجين في هذا العرض كانا يبحثان في البعد الماورائي للوصول الى موسيقى

 الجسد   التي تتحول احيانا الى مايشبه الهذيان  الذي يعتمد على ذاكرة الجسد البصرية  التي تعبر من

خلال حركته  عن المشاعر اللامرئية  للممثل التي  تظهر خارجا  كالغضب . والحزن  .الحسد . الفرح .

والمشاعر المتناقضة الاخرى  .

 

أورفيوس والقلق بين  الذاكرة الجسدية والاوبرا

يعتمد   مسرح    Hotel Pro Forma   في عروضه دائما على اللون وجسد الممثل وحركة المجاميع الموضعية التي تبدو وكأنها حركة ساكنة . ويمكن ان نطلق على مثل هذا المفهوم في المسرح البصري  بديناميكية السكون الحركي ( البصري ) . فهو ليس سكون مطلق ، او سكون ميت ،  وانما هو سكون ابداعي  متحرك في فضاء  ُيرى  الصمت فيه وُيسمع . ومخرجة  هذا المسرح  Kresten   Dolholm  التي كانت احد مؤسسي مسرح الصورة الدنماركي في ستينات القرن العشرين ،  تحولت من الحركة العنيفة الواسعة لصورة بصرية ضاجة بايقاعها كما في عروضها الاولى  الى رؤى اخراجية  اعتمدت الصمت  والايقاع الديناميكي الساكن . اضافة الى انها اتجهت أخيرأ نحو المزج بين المسرح والاوبرا فتحول العرض البصري لديها الى اشارات حركية وايقاعية وصوتية اوبرالية .

 وكان هذا واضحا لدرجة كبيرة في عرض مأساة اورفيوس  ( نص إيب ميشيل ، ودراماتورجيا  كلاوس لونه  ) الذي قدم كعرض    Performance   بأستخدام ديناميكية الصورة البصرية والاوبرا في المسرح الملكي ـ كوبنهاكن ، للتعبير عن قضية الانسان باعتباره قربانا في هذا الوجود الملتبس . 

وبني العرض كسينغرافيا على شكل مدرجات تحتل خشبة المسرح بكاملها ، فنرى الفضاء الحركي وجميع

الممثلين  ـ المغنين موجودين  على هذه المدرجات . والتداخل بين الحركة واللون والضوء يشكل جوهر الفضاء الديناميكي الخالي ، إلا من  تلك المجاميع البشرية التي تغني مأساة أورفيوس ، ومحترقة بذلك النور الغريب الذي يتقاذفهم بامواجه وذبذباته بالرغم من حركتهم الموضعية على المدرجات . ويتشكل الجانب الجمالي والحركي من خلال التناوب بين حركة المجموعة وبين الممثل الفرد او التشكيل الجمالي من ألوان مختلفة كالاحمر والاصفر والاخضر والفيروزي  ليشكل مشهدا  يثير الغرابة .

ان التكنيك التقني  للضوء  واختلاف درجات اللون يشكل جوهر العمل حيث الأبيض والأسود يتداخل على درجات محددة ، و مع ألوان ملابس الممثلين يخلق لنا ذلك الكونتراست الذي يوحي بالقلق الداخلي للمجموعة أو الممثل لفرد . فمن خلال البعد التعبير ي الذي تخلقه الأمواج الضوئية المتداخلة أيضا لألوان اخرى تبدو وكأنها الضباب الملون  الذي يضيع بداخله الممثلين الذين  يخطفون في هذا الفضاء كظلال أو أشباح أو بشر ملعون يتقاذفون لدرجة يوحي  بتلك الأحلام  أو التنبؤات  التي سطرها دانته الجيري في الكوميديا الالهية . انها عاصفة من الالوان والاسرار تواجهنا وسط ظلام العرض والروح كلهيب  نيران  على وجه بحر مضطرب .

ان العرض مبني على مشاهد  منفصلة عن بعضها ، فليس هنالك  بناء دراميا تقليديا يعتمد السبب والنتيجة ، لذلك فان الفضاء  وما يحتويه من مكونات  وحركة ولون تتغير بحسب التأويل الفلسفي   والسميولوجي للايحاء عن اسئلة الانسان المصيرية .

 

مثيولوجيا ذاكرة الاشياء

ان الممثل بإستخدامه المطلق لاسرار جسده التعبيرية وعلاقته بالفضاء المادي المحيط به يمنح  غير المرئي الكامن في الشئ شكلا مرئيا ووظيفة  بصرية اخرى مشبعة بالدلالات والرموز البصرية  ـ والسميولوجية.. وهذا يفرض لغة تعبيرية جسدية  في الفضاء الضاج بالزمن الابداعي ،  ويفرض ايضا علاقة واشعاعات ابداعية سرية  بين ميتافيزيقيا ذاكرة جسد  الممثل البصرية وبين مثيولوجية  ذاكرة الاشياء .

فالكراسي في مسرحية يوجين يونسكو  مثلا خلقت هذيانها  الوجودي وذاكرتها المثيولوجي عندما تعامل  الممثل معها بشكل و معنى مختلفين  أدى الى ان تحقق وجودها في فضاء العرض ، بحيث بدت وكأنها تنتظر مع مالكيها  اللذان من  الممكن ان يكونا   اكثرنا تعقلا منا  . وعندما   أتى البشر غير المرئيين للاستماع الى وصية  الزوجيين التي  يعلنان  فيها كيفية  انقاذ  العالم   ، فان الكراسي وحدها  تحولت الى جمهور للمستمعيين . وبهذا فانها خلقت ذاكرتها وجودها المكثف ، وحضورها الصرف على خشبة

المسرح . وكذلك فانها امتلكت كينونة  آخرى  توحي بالوجود البشري  فتحولت من وجود ساكن الى ذاكرة مثيولوجية ديناميكية عندما تعامل معها الممثل بدلالات اخرى . وفي ذات الوقت أوحت بغياب الناس  أى ( الآخر ) غيابا ملحاً . انه الخواء والعدم الحقيقيين   وهذا مايؤكد عليه يونسكو ذاته

( ليس موضوع المسرحية  رسالة العجوزين الى الانسانية   ، ولافشلهما في الحياة ، ولاهذا البؤس المعنوي الذي يحسه الشيوخ العجزة . بل هو الكراسي الفارغة التي ترمز الى غياب النا س والامبراطور  والمادة وتهافت الحقيقة والفراغ المطلق . وموضوع المسرحية هو العدم) /جنفيف سيرو في تاريخ المسرح الحديث/  وقد عالج يونسكو الحضور المكثف للبشر والاشياء في جميع مسرحياته . وطرح  كذلك مشكلة موت اللغة بين الانسان والآخر منذ مسرحيته الاولى ( المغنية الصلعاء ) فالكراسي لاتعبر عن انهيار العالم والقيم او الفكر فقط وانما عن انهيار اللغة الفنية أيضا كما يؤكد مارسيا إلياد بانه (بدأ في الرسم وامتد الى الشعر ، ومن ثم الرواية واخيرا مس المسرح مع يونسكو) 

 ان الهذيان الابداعي للجسد التعبيري بذاكرته المطلقة  يؤدي الى هذيان الاشياء المحيطة ، فيعديها عندما يتعامل معها الممثل ويحدث نوع من التحول في وجودها . وحالما  تدخل هذه الاشياء في العملية الفنية او في المملكة التعبيرية للمخرج و الممثل فانها تفقد وظائفها الحياتية الواقعية وتتغير ماهيتها وديناميكية وجودها.

وتحققت ذاكرة الاشياء وديناميكية مثيولوجيتها  ايضا في مسرحيتي الرحلة الضوئيةـ تأليفا واخراجا ـ على مسرح   Terra Nova  Teatre  في كوبنهاغن  ، وهي طقس رؤيوي عن  وجد  الفنا ن الهولندي  فان كوخ حيث تحول حوض الاستحمام منذ البداية الى تابوت وقبر عندما يشاهد الجمهور فان كوخ ميتا فيه ، ومن خلال طقوس تقديم زهور عباد الشمس وطقوس اللطم الجسدي   يقوم فان كوخ من موته ليبدأ تقديم اسرار وجده امام مرضى المصحة النفسية التي سجن فيها  وامام جمهورالمسرح ، انها القيامة التي تكشف عن السر ، وتعلن عن خلود الفنان   . فمن خلال  طقوس الحضور المكثف  لذاكرة جسد  المرأة المليئة بالأسرار لمساعدته على انحاز رحتله  الضوئية المصيرية ـ  حتى يستطيع تحويل اللون الأصفر إلى نور يضئ روحه وظلامية الاخرين   ـ (بهدف ان يصبح ملكها  في  النهاية ، وتعبث بمصيره ماتشاء   . لكن بهذا  بالذات  أمتلك فان كوخ  خطوته الضوئية للعبور نحو المستحيل  او الفردوس الابداعي و تحقيق ميتافيزيقية ذاكرة جسده.

 

وفي المقابل  فان المرأة  الاخرى .. المرأة الملاك عندما تقوم بعملية تطهيره حتى تتوسع رؤياه في رحلته الضوئية ليرى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والارض  ، فإنها تعمد الى  تطهيره بالضوء و بزهور عباد الشمس المنقوع  بالماء المقدس  الماء الزلال .. الماء، جوهر الحياة  الذي يحيل ظلام البصيرة الى رؤيا . وبمعنى آخر  ان الحوض َفَقَد وظيفته الواقعية عندما تعامل الممثل معه تعاملا مختلفا انتج معنى جديدا ، وكذلك الحال مع  زهور عباد الشمس التي تحولت الى أشياء مقدسة ذات ذاكرة مثيولوجية  . وايضا فان  شخصيات مثل صديقه  غوغان واخوه  ثيو  كانو تماثيل حجرية لها  توترها  و وجودها في فضاء العرض .  ولكن تعامل الممثل ( فان كوخ ) معها منحها حياة وحيوية في ذاكرة ووعي الجمهور بمساعدة ذاكرة الاشياء وذاكرة جسد الممثل المطلقة  . اما المرايا التي استخدمت في زمنها المثيولوجي  الابداعي  ، فانها  لم تعكس وجه الانسان او قناعه  ، وانما دواخله وذاته ايضا ، انها عكست تلك الهوة بين الانسان ومرآته الداخلية انها عكست إلتباس الانسان في وجود غامض .

 ((  فان كوخ   :  ( فترة ) حقا انت تشبهني . لم أُلاحظ هذا من قبل .

   هو         : الوجوه تتشابه عندما تحمل ملامح  موتها . انت  انسان غريب في عالم وحشي . ولأنك

                 أكثر حساسية من الاخرين سيكون عذابك عظيما .

   فان كوخ  : اذن كانت رحلتي عبثا ؟

هو           : كلا    كن كالقديسين . خذ .. خذ  هذه الزهور لكي تساعدك على الرؤيا .( يناوله زهور عباد الشمس ) وعندما تعود من المكان الذي أتيت ، أستيقظ مبكرا ليلة سقوط القمر في البحر ، واستحم بزبد أمواجه  وادهن جسدك وعينيك بهذه الزهور،حينذاك سترى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والارض .تذكر ليلة سقوط القمر ..عندما يتحول الى ظلام .. ظلام .. ظلام .( وهو يختفي) ايها الانسان الحر دائما ستحب البحر..البحر مرآتك .. البحر ..البحر .داتا .. دايا .. داميانا )) من مسرحيةالرحلة الضوئية

 

وخلاصة القول ان   الضرورة الابداعية  تحتم  التعمق في ماورائية   الواقع ويتم هذا من خلال   ديناميكية الزمن الابداعي الميتافيزيقي ، لان هذا الزمن بالذات هو الذي يشكل  الرؤيا الشمولية لذات الفنان الواعية والمبدعة من أجل خلق صورة العرض البصري المسرحي.فمن الضروري أن يتعامل المخرج والممثل في الطقس المسرحي الذي ندعو له  مع الجسد كذاكرة بصرية مطلقة ، وكلغة بصرية  للتواصل مع الجمهور . ومن خلال العلاقه السرية الابداعية  بمكونات  الفضاء الاخرى  وبالذات بالاشياء  وذاكرتها  المثيولوجية   يتشكل  أحد أهم المصادر الحقيقية للخلق  في الرؤيا  المسرحية  للبعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس البصري المسرحي .

 

                                                           

                                                                      كوبنهاكن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 Dr.Fadel Soudani . Brøndby Nordvej 82 .6. 4 -2605 BRØNDBY   DENMARK.

Tlf. Fax (45) 36757371  mobail  (45) 20954745. E : Soudani _ @ maktoob . com



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التعازي ……… طقس درامي شعبي


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري