أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - مثيولوجيا الجسد في الطقس المسرحي البصري















المزيد.....


مثيولوجيا الجسد في الطقس المسرحي البصري


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 176 - 2002 / 6 / 30 - 09:26
المحور: الادب والفن
    


 


يعتبر التعامل مع الجسد وتحولات الاشياء في العرض المسرحي الذي بدأ في بداية القرن الماضي، كمفردة بصرية ديناميكية لخلق الصورة المعبرة في فضاء الطقس، فن بصري معاصر. لذا فإن الكثير من الدراسات والعروض والتيارات والتجارب المسرحية الاوروبية اكدت ومازالت على تحقيق الجانب البصري في اداء الممثل او الرؤيا الاخراجية او سينوجرافيا الفضاء المسرحي، كلغة جديدة في الاخراج المسرحي، بدءاً من تجارب انتونين آرتو وجوردن كريج وراينهاردت، ومايرهولد وادلف آبيا ومخرجي مسرح الطليعة الفرنسيين وانتهاء بتجارب بيتر بروك وجوزيف شاينا وروبرت ولسن وليباج وكانتور وبينا باوش ويوجين باربا واريان منوشكين والياباني تاداشي سوزوكي وكل ما يرتبط بتجارب مسرح الصورة الاوروبي وبعض تجارب المسرح البصري العربي.

ولهذا فإن دعوتنا لتحقيق البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي البصري، تخلق عرضاً مسرحياً يستند على النص البصري، وديناميكية الاشياء والجسد المتوهج في الفضاء بذاكرته الذاتية والمطلقة، والرؤيا الاخراجية البصرية التي تعتمد التأثير بالصورة البصرية والحركة الديناميكية والوسائل البصرية الاخرى. والبعد الرابع هو رؤيا بصرية في الفضاء المسرحي من خلال المرادفات التطبيقية والعملية الاخراجية والرؤيوية، يعني الكشف عن سر الحاضر والمستقبل اللذين يقلقاننا، اما الماضي فيخدم ذاكرة جسد الممثل المثيولوجية والذي بالضرورة يرتبط بالحاضر، لذا فان الممثل الفنان هو القدر على كشف اسرار فنه بواسطة الذاكرة التعبيرية لجسده والرؤيا الاخراجية البصرية من اجل عدوى الجمهور والاشياء المعبرة في الفضاء والعناصر الفنية الاخرى التي تحقق الطقس البصرية من اجل عدوى الجمهور والاشياء المعبرة في الفضاء والعناصر الفنية الاخرى التي تحقق الطقس البصري ضمن مفهوم البعد الرابع.

وبما ان المسرح تاريخياً قد وجد المخرج ـ الدراماتورج فإن الضرورة الان تحتم ان يوجد المؤلف للنص البصري. ولهذا فإن البعد الرابع هنا يهتم باعادة خلق الفضاء المسرحي بصرياً ومخاطبة الجمهور بلغة الصورة والرموز والاحالات والتأويل واللغة البصرية بعيداً عن اللغة الادبية. فالنص ضمن مفهومنا هذا يكتب للمشاهدة وليس للقراءة، وهذا يعني ان يمتلك المؤلف رؤيا بصرية من خلالها يفهم ايقاع الصورة والحدث على خشبة المسرح وليس على الورق. ان النص هنا لا يقتصر على الكلمة كدلالة ولغة سمعية فقط وانما ان تكون هنالك مساحة اكبر للوسائل البصرية، ومن خلالها يتحقق الخطاب المسرحي. وبمعنى ان يكف المؤلف عن الاستمرار في تحقيق فعل الكتابة الادبية التقليدية فقط، ليتحول الى كاتب للنص البصري ومع المخرج يخلقان العرض البصري. وبالتأكيد ان مثل هذا النص المسرحي سيكون ضد الادب.

اما الجانب الفكري في هذا المسرح فيعالج الواقع والحياة بحركتها الديناميكية التي تتداخل فيها الازمنة الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل للوصول الى الزمن الابداعي الرابع. اضافة الى فرض مفهوم العلاقة السرية التفاعلية التي تحدد وظيفة الجمهور المتفاعل فيمتلك تأويله التفاعلي لانه المتفاعل النموذجي في الزمن الابداعي لفضاء الطقس المسرحي البصري، لهذا فهو ليس جمهوراً ولا متلقياً وانما هو متفاعل، ويتفاعل هذا المتفاعل مع السؤال المصيري المستقبلي الذي يعالجه الطقس المسرحي البصري. ومثل هذا الجمهور لا يتفاعل مع الدلالات السمعية فقط، وانما مع تلك الاحداث والصور والاشياء والافكار التي تؤثر على السمع والبصر والبصيرة.

ومفهومنا هذا غير منقطع الوشائج والخبرات المشتركة مع تجارب مخرجي ومنظري المسرح التجريبي الاوروبي (الحداثي وما بعد الحداثي) التي تمس رؤيتنا هذه وتلتقي معها. فالنص الذي ابدعه كتاب الطليعة مثل بيكيت، يونسكو، جان جينيه مثلاً، هو النص الذي نعتبره قريباً من رؤيتنا المسرحية حول النص الرؤيوي ـ البصري .. ولهذا فإن مثيولوجية الجسد والمسرح البصري والبعد الرابع تشترك مع كل رؤيا تعتمد لغتها التعبيرية على الوسائل البصرية ودلالاتها السميولوجية وكذلك ترتبط بمسرح الصورة في الكثير من المبادئ.

الصورة البصرية وحلم الانسان الابدي ويمكن ملاحظة المبادئ الاساسية التي يقوم عليها مسرح الصورة الاوروبي بما فيها تجارب مسرح الدول الاسكندنافية والذي بدأ في فترة الستينيات ومازالت الكثير من هذه التجارب اليوم تكتشف الامكانيات الجديدة في اللغة المسرحية للوصول الى اساليب عمل غير مكررة. حيث يمكن وبسهولة تأشير بعض المسارح التي مازالت تقدم تجاربها المسرحية المتميزة والمبنية على الطاقة التعبيرية للجسد والصورة في الفضاء الابداعي، بالرغم من اختلاف اتجاهاتهم والتسميات التي يطلقونها على تجاربهم المسرحية، كمسرح Oden Theatre ومخرجه يوجين باربا، ومسرح KANTABLA 2 ومخرجه Nullo Facchini ومسرح Kom de Bagfra ومخرجه Beter Halmgo. ومسرح Hotel Pro Forma والمخرجة Kresten Dolholm ومسرح Ten Box ومخرجه Kim Eden. ولكن Billedstofteater (مسرح الصورة الدنماركي) الذي تأسس عام 1976 من قبل Per Flink Base و Kresten Dolholm لعب دوراً اساسياِ في تثبيت الكثير من اسس مسرح الصورة في الدول الاسكندنافية.

ويكتب الناقد الدنمركي Morten Skriverأن المبدأ الاساسي الذي يقوم عليه مسرح الصورة هو وضع عدة عناصر واشكال مختلفة اساساً بصورة متعاقبة او دمج دلالاتها او تناقضها لانتاج معنى جديد. وتتميز حركة هذه العناصر والاشكال بايقاعها البطيء، مما يجعل هذه العروض تحفر في الذاكرة.

ويعتمد هذا المسرح على الممثلين غير المحترفين في بعض العروض للوصول الى العفوية في الحركة والصورة. ويستخدم فضاء المكان اللامسرحي، كالمتحف، المسبح، الشارع، المكتبات العامة، قاعات المعارض التشكيلية واماكن العروض التقليدية مع تغيرها وتحويلها الى اماكن غير تقليدية من خلال التوسع واطلاق ذاكرة المكان وايقاع الاشياء والكتل في الفضاء واغناء البعد الفلسفي الماورائي لحركة الجسد، ويعمد الى استخدام فضاء المدينة ويكفيه للعرض ايضاً.

ففي عرض TOHUNDREDE تم جزء من الحدث في البحر حيث بدأ الممثلون مسيرتهم الطقوسية ـ يصاحبهم الجمهور وهو جزء من سيناريو العرض ودخلوا جميعا بكامل ملابسهم في البحر وكأنهم قوم وسحرة قدموا من كوكب اخر ليتطهروا في مياه بحار عالمنا.

ان الآفاق الفكرية لمسرح الصورة تطمح في ان تغترف من ثقافات اخرى مازالت توحي بالحكمة والفلسفة والغنى الروحي. ومن هذا المنطلق يعتبر هذا المسرح مسكون بذاكرة وطقوس هذه الشعوب وخاصة الشرقية منها للوصول الى معادل فكري ومشهدي ـ بصري ـ تطبيقي في تركيب الحدث او الصورة، ولكن الشيء الجوهري هو ابراز البعد الميتافيزيقي واللامرئي في حلم الانسان الابدي. غير ان الموت في عروض مثل هذا المسرح يرفرف دائماً كطائر اسطوري فوق رؤوس الممثلين والجمهور ومكونات المشهد، ومن الممكن ان ينقض في اية لحظة ليمارس وجوده العبثي.

ومن خلال عناوين المسرحيات والسيناريوهات والصور البصرية، يمكن للمرء ان يستنتج بانها عروض رؤيوية تعالج الواقع بديناميكيته غير المرئية، فتدلل على المنهج الفكري والفني والفلسفي لمبدعيها.. مثل: مسرحية هذا اليوم، سبعة، دخل الغرباء المدينة، الموكب الازرق، اغنية التحول، نسيت ان اتحدث، لعب، مئتان، وانا وذاتي، انت وانتم، يرقصون لوحدهم، البحر، صورة الثلج الابيض، اورفيوس، وغيرها من العناوين المركبة من كلمات متناقضة المعاني.

فناء ذات الممثل في اللانهائية عند تحليلنا لمسرحية هذا اليوم وهي احد تجارب مسرح Kom de Bagfra للمخرج Beter Halmgo يمكن ان نكتشف الهاجس الوجودي الحقيقي الذي يقلق الفنان في علاقته بالاشياء المحيطة التي تكون وجودها المكثف، وكذلك علاقته بالعالم. ولكن العرض ورؤية التناول هي التي تساعدنا على ان نراها من جديد عند ذلك فقط تثير هذه الاشياء الغرابة لدينا. وهنا يمتزج الواقع بالحلم والكابوس، فيدخلنا جو العرض (الذي نحن بصدد تناوله الان) منذ البداية في متاهة الحياة التي تمتلك زمنها وقانونها الابداعي، وخاصة عندما تشكل الانارة الخابية موجودات الفضاء امامنا بضبابية ولا يمكن ان نتبينها الا بصعوبة، تصاحبها تلك الموسيقى التي توحي بضرب عنيف لمطارق حديدية، وبهذا فانها تمتلك وجودها ليس السمعي فحسب. او انها تتحول الى موسيقى حية من خلال ضرب درع حديدي كبير يشغل منتصف خلفية المسرح.

ومع الصفائح الحديدية التي يحملها الممثلون، وهم يتحركون بعشوائية، تتراءى تكوينات حركية وكتل تشغل فضاء المسرح الذي يقطعه الضوء المنعكس من الصفائح، ومن خلال الايقاع الموسيقي والحركي المتسارع يبدأ الممثلون بضرب الارض بتلك الصفائح او يستخدمونها كأجنحة للطيران، ويدورون بدون هدف ليشكلوا معركة حقيقية. انها معركة الصراع البشري اللا مجدي والفلتان في لحظات غياب العقل.

وكل هذا يوحي بانه جلد للذات وغضب عارم يصدر من هذه الشخصيات الغريبة التي تتسارع لحمل آلات بلاستيكية تشبه (خرطوم الماء) يستخدمونها كالاسلحة للتعبير بسخرية هائلة عن تنوع اشكال الدمار في عالمنا. وبعد هذا الضجيج يصمت كل شيء فجأة حينما يتحرر الممثلون من كل ما يحملونه بما فيه الصفائح الحديدية التي يرمونها كالقاذورات في فتحات تشبه القبور المصنوعة من الصفائح فيغيب الممثلون في ظلامها ايضاً. وعندما تنكشف الرؤيا من جديد نرى في الجانب الاخر اشكال بلاستيكية معلقة توحي وكأنها حيوانات هلامية تشبه خلايا النحل تهتز ببطء في فضاء العرض، لكن الممثلين ينسابون منها وكأنهم يولدون بعسر. وعندما يتنفسون الحياة، يسقطوا مباشرة في جحيم فضائنا او ينغمسون بطين عالمنا اللزج وقد اوحى لي هذا المشهد بالجو العام لعروض المخرج البولوني جوزيف شاينا. (انظر مسرح جوزيف شاينا لكاتب التحليل في الحياة المسرحية السورية).

وفي القسم الثاني من العرض نرى في الظلام رايات من القماش الابيض تخفق في الفضاء المضطرب، كأنها اشرعة يسحبها الممثلون على ايقاع الموسيقى العنيف المنبعث من ضرب الصنوج او الآلات الصوتية الاخرى، تضيئها انارة تبرق خاطفاً توحي بعالم جحيمي ملون، وكل هذا كأنه آهة الروح الاخيرة، وفي ذات الوقت يشكل ضجيج الحياة التي يعشيها جمهور العرض.

ومما يزيد هذه الصورة غرابة هو انبثاق انسان احدب طويل غريب وجامد القسمات يسير ببطء فيثير الضجر. يتجه نحو زاوية من المسرح وقف فيها شاب وحيد مرتبك النظرات احياناً، او يبدو وكأنه ينتظر قدر ما في احيان اخرى وسط الموسيقى التي تضرب رؤوس المتفرجين كأنها اللعنة. وفجأة تهطل سماء المسرح مطراً حقيقياً يمزق ملابس الشاب الورقية، مما يؤكد على سهولة تعرية الذات الهشة عندما تعيش في عالم غير متماسك.. ان هذه الصورة اكدت على الفكر الاخراجي غير المتوقع في مسرح الصورة.

وعندما ينعكس ظل الاحدب في الخلفية يبدأ شيء يشبه المخاض، ليخرج انسان عار من حدبته. وقد بدا لي وكأنه يهوذا النادم. او كأنه شيطان انبثق من العدم او العالم الاسفل ملتاث غاضب يهتز بعنف فوق اكتاف الاحدب. ويزداد ايقاع جنونه فينتزع امعاءه التي تتكون من الحبال والخيوط وقطع القماش الملون حتى يفرغ معدة الاحدب. (هذا هو التشابه الثاني مع عرض دانتي للمخرج جوزيف شاينا).

ومن جانب اخر تتوالى الافكار والدلالات والتأويل والصور الاخراجية التي تشكلها الحركات الميكانيكية للمخلوقات الثلاث اللزجة التي تشبه الدعاميص والتي خرجت للتو من خلاياها البلاستيكية، تتحرك كلاً شنات المائية بايقاع موسيقي ضاج، وتمر امام الشاب الذي مازال ينتظر مفكراً ومشدوهاً وملابسه مازالت تتمزق تحت المطر وببطء تجد هذه المخلوقات طريق خروجها.

اما يهوذا الملتاث الهائج فيتعلق بحبل قد تدلى من اعلى المسرح، ويصعد به قمة الحائط العالي الذي غطى الخلفية متصارعاً مع ذاته او قدره حتى يختفي في هوة هناك في الاعلى محاولاً تمزيق جسده، يعذبه الضوء الجحيمي الاحمر ليحترق بنوره وذاته تتشوف الى الفناء فنسمع صخب موسيقى اللانهاية.

ان طموح الفكر الاخراجي والقيمة الفلسفية لعروض مسرح Kom De Bagfra والمخرج Beter Halmgo (وكذلك مجمل عروض مسرح الصورة الدنماركي) هو معالجة مشكلة الانسان في الواقع اليومي، وسأمه من روتينية الحياة وتأكيد آلية الانسان والبعد الميكانيكي في الحياتي واليومي في الواقع الاوروبي.. ولكن المعالجة الفنية والغنى الروحي والفكري للفنان المبدع، يمنح الواقع بعداً ميتافيزيقيا ابداعياً عندما يأخذ مداه في العرض المسرحي.

والتيار المسرحي الاخر هو مسرح ما بعد الحداثة الاوروبي والذي يشكل تجربة مهمة في المسرح المرئي. وقد افاضت جاكلين مارتن في الكتابة عن اهم مميزات هذا الاتجاه المسرحي المعاصر في كتابها «Voice in Modern Theatre» والذي يشترك مع مسرح الصورة في الكثير من اساسيات العرض المسرحي بالرغم من انه يرفض كل القواعد والاشكال السابقة واستقلالية الفنون المختلفة.

فاذا كان العمل الحداثي Modernist كما جاء في كتاب Nick Caye ما بعد الحداثية والفنون الادائية ترجمة د. نهاد صليحة هو عمل يسعى واعياً الى تحديد هويته. اي عمل يناهش النتاج الفني للماضي القريب ويتجاوزه سعياً الى تأسيس قواعده الخاصة واكتشاف شروطه الفنية المتفردة التي تؤسس شرعيته) فإن مسرح ما بعد الحداثة يعتبر تجاوز، التجاوز كما في New Formalism والتجارب الشكلية لكل من ريتشارد فورمان، ومايكل كيربي، وروبرت ولسن.

العلاقة الهذيانية بين الجسد والاشياء ان الممثل باستخدامه المطلق لاسرار جسده التعبيرية وعلاقته بالفضاء المادي المحيط به يعتبر حالة مثيرة واستثنائية اثناء تحقيقه للفعل والرؤيا في العرض. ولهذا فهنالك علاقة بين الكتلة، والمادة ـ الجسد والشيء تنتج معنى دلالياً للتعبير عن الحدث والفكرة من خلال الرؤى والايقاع الموسيقي المميز لحركة الجسد في علاقته بالمادة. وهذا يفرض لغة تعبيرية هي لغة الجسد في الفضاء والزمن الابداعي ويفرض ايضاً علاقة واشعاعات ابداعية سرية بين الممثل وبين المادة او الشيء وكذلك تفرض معاني ودلالات فكرية ومعرفية على الجمهور.

ان هذيان الجسد التعبيري بذاكرته الذاتية والمطلقة يؤدي الى هذيان الاشياء المحيطة، فيعددها ويحدث نوعاً من التحول في وجود الاشياء التي يتعامل معها الممثل. وعندما تدخل هذه الاشياء في العملية الفنية او في المملكة التعبيرية للمخرج وللممثل فانها تفقد وظائفها الحياتية الواقعية وتتغير ماهيتها وديناميكية وجودها. وتحققت ذاكرة الاشياء وديناميكية مثيولوجيا جسد الممثل ايضاً في مسرحيتي الرحلة الضوئية ـ تأليفاً واخراجاً ـ على مسرح Terra Nova Teatre في كوبنهاجن، وهي طقس رؤيوي عن وجد الفنان فان كوخ حيث تحول حوض الاستحمام منذ البداية الى تابوت وقبر عندما يشاهد الجمهور فإن كوخ ميتاً فيه، ومن خلال طقوس تقديم زهور عباد الشمس وطقوس اللطم الجسدي يقوم فان كوخ من موته ليبدأ تقديم اسرار وجده امام مرضى المصحة النفسية التي سجن فيها وامام الجمهور، انها القيامة التي تكشف عن السر، وتعلن عن خلود الفنان. فمن خلال طقوس الحضور المكثف التي تقوم بها المرأة المليئة بالاسرار لمساعدته على انجاز رحلته الضوئية المصيرية ـ حتى يستطيع تحويل اللون الاصفر الى نور ـ، بهدف ان يصبح ملكها في النهاية، تعبث بمصيره ما تشاء. لكن بهذا الذات امتلك فان كوخ خطوته الضوئية للعبور نحو المستحيل او اللمبو او الفردوس الابداعي.

ومن جانب اخر فان المرأة الاخرى. المرأة الملاك عندما تقوم بعملية تطهيره حتى تتوسع رؤياه في رحلته الضوئية ليرى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والارض، فانها تعمد الى تطهيره بالضوء وبزهور عباد الشمس المنقوع بالماء المقدس.. الماء الزلال، الماء، جوهر الحياة الذي يحيل ظلام البصيرة الى رؤيا. وبمعنى اخر ان الحوض فقد وظيفته الواقعية عندما تعامل الممثل معه تعاملاً مختلفاً انتج معنى جديداً، وكذلك الحال مع زهور عباد الشمس. وايضاً فإن شخصيات مثل صديقه جوجان واخوه ثيو كانو تماثيل حجرية لها توترها ووجودها في فضاء العرض. ولكن تعامل الممثل (فان كوخ) معها منحها حياة وحيوية في ذاكرة ووعي الجمهور بمساعدة ذاكرة الاشياء وجسد الممثل. اما المرايا التي استخدمت في زمنها الميتافيزيقي الابداعي، فانها لم تعكس وجه الانسان، وانما دواخله وذاته ايضاً، انها عكست تلك الهوة بين الانسان ومرآته الداخلية.

فان كوخ: فترة حقا انت تشبهني، لم الحظ هذا من قبل.

هو: الوجوه تتشابه عندما تحلم ملامح موتها. انت انسان غريب في عالم وحشي. ولأنك اكثر حساسية من الاخرين سيكون عذابك عظيماً.

فان كوخ: اذن كانت رحلتي عبثاً؟ هو: كلا.. كن كالقديسين. خذ.. خذ هذه الزهور لكي تساعدك على الرؤيا. (يناوله زهور عباد الشمس) وعندما تعود من المكان الذي اتيت، استيقظ مبكراً ليلة سقوط القمر عند بوابات البحر، واستحم بزبد امواجه وادهن جسدك وعينيك بهذه الزهور، حينذاك سترى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والارض. تذكر ليلة سقوط القمر.. عندما يتحول الى ظلام، ظلام، ظلام. (وهو يختفي) ايها الانسان الحر دائماً ستحب البحر «البحر، البحر، البحر. داتا.. دايا.. داميانا) (من مسرحية الرحلة الضوئية).

وبالرغم من وجود بعض التجارب المسرحية العربية لمسرح الصورة والتي تحاول ان تنحى منحا بصرياً، الا ان الكثير منها يعد تقليداً مباشراً للمسرح الاوروبي. لذا يحتاج مسرح الصورة العربي الى ان يكتشف اساليبه التعبيرية النابعة من نصوصه المسرحية البصرية ومن الرؤى الاخراجية التي تتعامل مع الواقع بعيداً عن وجوده الساكن الذي يفرضه الزمن الواقعي وانما ضرورة التعمق في ماورائية هذا الواقع ووجوده في ديناميكية الزمن الابداعي الميتافيزيقي وهذا الزمن بالذات هو الذي يشكل شمولية ذات الفنان الواعية والمبدعة لخلق صورة العرض المسرحي.

اضافة الى ان الملاحم والاساطير وقصص المثيولوجيا العربية والشرقية بالرغم من كونها تراثاً حكائياً للكلمة فيه المكانة الاولى الا انه ايضاً تراث للصورة البصرية المعبرة والفانتازيا الخارقة والمبنية على خارج الزمن او الزمن الاسطوري، وكل هذا يمكن ان يشكل الرؤى الجوهرية لمسرح الصورة العربي، ولكن تجارب فاضل الجعايبي ومحمد ادريس والجبالي ومعظم تجارب المخرجين التونسيين، وكذلك الفنانة سهام ناصر من لبنان والفنان حميد محمد جواد ومسرحية المتوهة بالفلسفة والسؤال الوجودي، ود. صلاح القصب من العراق وغيرهم تعد تجارب لها علاقة مباشرة بمسرح الصورة البصري.

وخلاصة القول ان المخرج في الطقس البصري يتعامل مع الممثل كجسد له قدرات وذاكرة مثيولوجية وتاريخية تعبيرية تنتج لغة بصرية للتواصل مع الجمهور. وجسد الممثل بذاكرته المثيولوجية واسراره التعبيرية التي تشكل علاقته السرية بمكونات الفضاء الابداعي يعتبر احد المصادر الحقيقية للخلق في الرؤيا البصرية المسرحية للبعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي.



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية العلاقة بين المسرح والمدينة العربية
- شيزوفرينيا الذات في فلسفة سورن كيركغارد
- العنف وهستيريا الروح المعاصرة في النص الشكسبيري
- ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري
- التعازي ……… طقس درامي شعبي


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - مثيولوجيا الجسد في الطقس المسرحي البصري