أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - توهج الذاكرة عندما يسرق زمن الفنان















المزيد.....

توهج الذاكرة عندما يسرق زمن الفنان


فاضل سوداني

الحوار المتمدن-العدد: 364 - 2003 / 1 / 10 - 02:44
المحور: الادب والفن
    


                                                                                 
                                                                                            

( لم أعد أمد ذراعي خفية لأقيس المدى
    بينك وبيني  )  سرجون بولص

لا يتناسب زمن المثقف غير المتكيف وبالذات الفنان المبدع مع  زمن البرابرة ، لأنه زمن يتعامل مع الجمال وعدم التباس الموقف السياسي والاجتماعي  في الحياة . وما  حدث في العراق كان ومازال  استثناء
تاريخيا ، لذا فان النظام  عمد   إلى  سرقة زمن  الفنان أولا قبل ان يسرق زمن الناس الإبداعي ليحولهم
الى منفذين في آلة الحروب أللامجدية ، ومن ثم سرقة ثروات العراق  بما فيها إبداع علماؤه و شعراؤه وفنانيه،  وسلب عراقيتهم بسن القوانين الاستثنائية متناسيا عدم فعاليتها  أمام المشاعر النبيلة والدافئة  في الروح العراقية المتوهجة تواصلا مع التراث الثقافي والفني الإنساني   . وتدلل هذه القوانين  والممنوعات على أن الفنان المبدع غير المتكيف ، الملتزم بقضية شعبه ، يخيف اؤلئك الذين احتلوا العراق . فأصالة وصدق الإبداع الفني العراقي  يخلق نوع من الحصانة الداخلية  لدى  الجمهور تساعده  على التواصل  سرا مع مبدعيه بحيث يتحول نتاجهم إلى منشور سري . 

لذا فان تكريم الفنان العراقي في المنفى وتقيم  تاريخه الفني ، بعيدا عن سلطة الجهلة ،  تصبح مهمة جوهرية في الوقت الحاضر . ويعتبر تكريم فنان وموسيقار مبدع  مثل كوكب حمزة ذات  أهمية  كبيرة من قبل العراقيين في كوبنهاكن  ( بدعوة من البيت العراقي  ) ، بسبب قيام النظام بمنع الناس من سماع أغانيه منذ نهاية السبعينات ، لانه  فنان  امتلك القدرة على  التعبير موسيقيا عن النشيج السري والحزن العراقي الخاص  ، وعن ذلك الفرح العراقي الذي يستشعره الإنسان عندما تتفتح روحه في صباح ندي  آمن . و كونه انبثق في بداية السبعينات من الألفية الثانية  ، كشعاع موسيقي  ليلحن أغنية عراقية شعبية معبرة ، هدفها مساعدة  العراقي على  تحمل  وحشية أنظمة  الاستثناء ورفضه لها  في ذات الوقت  . وإنسانية أغانيه هذه  دفعته إلى  تحمل  التهجّول في المنافي ومعانات  شظف العيش أكثر من ربع قرن وحتى هذه اللحظة . ولأن كوكب حمزة امتلك  موقفا من الحياة عموما عبر عنه من خلال أغانيه  الشعبية ، ويتمثل هذا في :
• نقاء ونبل الموقف السياسي والاجتماعي  والالتزام بقضية الإنسان العراقي والإنسان عموما .
• تمايز موسيقاه  بكونها تعمق  شفافية روح الإنسان  ، وتهذب الحس والذوق الجمالي لديه بعيدا عن
     التطريب المرتكز على اللحن  الساذج  الذي يميز الكثير من الأغاني التي كانت تبث من  الإذاعة آنذاك.
•  الحرص على البحث الايقاعي في هارمونية  المفردة الموسيقية لخلق موسيقى واغنية شعبية عراقية.

ويكمن تفرد كوكب حمزه فنيا أيضا  في غنى روحه الموسيقية ، والمصدر الحقيقي لهذا هو تنوع  التراث الغنائي في مدن الجنوب العراقي ، مدن الأساطير والتعاويذ والسحر ، مدن مازالت عبقة برائحة الاهوار وأخرى بمسك مراقدها المقدسة . مدن على امتداد شواطئها  نسمع حنين صوت داخل حسن  ، وبين سعف نخيلها وضياع  المشاحيف  وتوهانها في غابات  القصب والبردي تنقل الريح الأنين الأبدي  لسلمان المنكوب كأنه صدى لحشرجات صوت  الإله العراقي  المذبوح  تموز البابلي  . إضافة إلى  أغاني الخشابة والتراث البصري المتوزع بين الإيقاع الأفريقي  العنيف  والرقص الهندي السريع ، وغناء بحارة السفن المحملة بالمسك والكافور والعابرة  يم المحيطات المجهولة  يتحول عادة إلى  همس حزين على شواطئ البصرة حتى عودتها المفاجئة. وكذلك الإيقاع السريع والمركب لموسيقى الهيوه الراقصة ( والمهمة الفنية التي تقع على كوكب حمزه وزملائه الفنانين الذين  يمكن أن يجعلوا منها  عالمية التقبل والاستيعاب ).

 وبالتأكيد فان كل  هذا لابد أن يشكل الحس الموسيقي الشعبي لديه ليخلق مفردة موسيقية وأغنية شعبية تؤثر في المدينة الحضرية قبل غيرها . إن لحن كوكب حمزة الموسيقي ليس له تأثير في وطنه وحسب وانما يمتد إلى خارجه ، لأن  موسيقاه  تلتقي من خلال افقها الإنساني وإيقاعها الهارموني المركب ، بالموسيقى الأفريقية وموسيقى الراي واغاني وموسيقى ثيودوراكس و فيكتور جارا او تلتقي بشجنها  مع الموسيقى الهندية الأصيلة
قبل أن تشوهها الأفلام التجارية الرديئة.اما عراقيا فانها متفردة عن جميع انواع الغناء العراقي الريفي اوالمديني. 

ويمكن ان يلمس المستمع في أغاني وموسيقى الفنان بعدا سمفونيا  ومفردة موسيقية خاصة  تجعل من مختلف سامعيه ، حتى اللذين  لا ينطقون  العربية يتذوقونها . والسبب هو أن هذه المفردة الموسيقية مشحونة بمشاعر فنان  أصيل وصادق مع نفسه وعالمه المحيط . وهذه الأصالة والصدق الفني هما اللذان يجعلانها  تلتقي مع مشاعر الإنسان في العالم الآخر . وعلينا ألا نخاف من ذكر مفردة  العالمية عند الحديث عن غنى الغناء العراقي ، لأن كل فن صادق وأصيل في شعبيته ويمتلك القدرة على تعميم المشكلة المحلية  بما فيها صدق المشاعر واتساع افقها لعموم البشر،  يكون فنا عالمي المنحى  ، كما هو الحال مع أغاني الراي المغاربية ، والموسيقى والغناء اليوناني ،  وأغاني الغجر العالمية،  والفلامنكو الاسباني ، وموسيقى الزنوج . وما أغاني كوكب حمزة مثل  يا طيور الطايره ،  بنادم  ، شوك الحمام ، محطات ، هوى الناس ، البنفسج ، ومضيعني بالضباب  وغيرها ، إلا موسيقى شعبية أصيلة تدخل في أعماق الناس وتستوقفهم في الطريق وتحفزهم على التفكير الجدي بتهذيب مشاعرهم وجعلها اكثر دفئا والتصاقا بالجمال والخير .

والفنان كوكب حمزة بحسه الشعبي وتذوقه الشعري  امتلك حسا دراميا حتم عليه التعامل مع نوع خاص من الشعر الذي  تتميز  مفردته بغنى في  التأويل واتساع  التأثير في مختلف  حواس الإنسان . وقد توفر له شعراء يمتلكون إحساسا خاصا بالملحمية والتراجيديا العراقية  وشمولية الرؤيا ، مثل الشاعر زهير الدجيلي ورياض النعماني وأبوسرحان( الذي قتل في الحرب الاهلية اللبنانية بسبب عدم وجود من يدفع الفدية عنه ليفك أسره  .
 وعندما يمتزج  الوعي الشعري ـالدرامي وإحساس الفجيعة العراقية ، بهارمونية الإيقاع الموسيقى لكوكب حمزة ، تصبح أغانيه كأنها صدى لمشاعر إنسان تائه ، ضاع  عمره  بين المحطات  ، إنسان ملهوف  يبحث عن أهله دون جدوى فيشعر بالمرارة ، لكنه إنسان ملحاح في أسئلته  ، ليس فقط من اجل أن يجد طريقه الى  الذين اضاعوه وضيعهم  ، وإنما في أسئلته  المصيرية الأخرى  التي تصل حد السؤال الوجودي المقلق  ، كما هو الحال في أغنية مضيعني بالضباب لرياض النعماني  وبنادم  لأبي سرحان واغنية  محطات. ولابد  لهذا الإنسان التائه  أن يجد طريقه أحيانا ، ولكنه في أحيان كثيرة  سيعيش مع قلقه الدائم .

 وانحياز الفنان كوكب حمزة  لمثل هذا الشعر هو نتيجة طبيعية لاختناقه من غربته  الداخلية أولا ،  منذ  كان في وطنه .  لذا فانه أكثر الملحنين العراقيين شعورا بالغربة والقلق الدائم الذي لا يسمح له أن يستقر على حال سواء في تنوع ألحانه أم في حياته . ففي أغاني مثل بنادم  ، محطات ، هوى الناس ، شوك الحمام ، ويا طيور الطايره وغيرها هنالك تكثيف موسيقي للتعبير عن الحزن والإحساس بالغربة العراقية ، والتأكيد على  ان شغاف الروح تنسل كالهواء بين الاصابع   ، والفرادة العراقية للتأسي على ذلك الفارس الذي سيأتي في يوم ما ، أو رفيق  الأحلام ، أو ذلك  الصديق المنقذ ( الطين الحرّي )  ، أو الحبيب الذي لم يحّن طيفه بعد والذي يشعرنا  فراقه  بوحشة الطريق،  كما في أغنية  "شوك الحمام " لأبي سرحان : ( ذبلن وعود العشك /بشفافك وماتن / وطيور حبنا رحلت /وي طيفك وتاهن /كل المهاجر رجع / وطيفك بعد ماحن ). ومن خلال هذا القصيد  المتماسك يعبر كوكب حمزة عن الغربة العراقية التي تبدو أبدية . ومن جانب آخر  ليس سهلا أن يكون ، هوى الناس ، قداح وشموس وعصافير ، ولكن فنان مثل كوكب حمزة  بشفافيته وصدقه وخياله اللحني  قادر على التعبير عن كل هذا موسيقيا.

إن تنوع الإيقاع والغنى الروحي لاغاني الفنان تعمقت نتيجة لتأثرها بالتراث العاشورائي والتعزية الحسينية ، فعندما نتمعن في أغانيه شعرا ولحنا  نكتشفها وكأنها تعاويذ الحبيبة في لحظة  تمنياتها وانسياب أحلامها  وقت الغروب، أو تبدو   كدعاوى الأمهات العراقيات المباركات  وتمنياتهن  في تحقيق المراد بعودة الغائب والمهاجر إلى دكة بيته . وصدى إيقاع الزنجيل والتطبير واللطم العراقي الأبدي وهفهفت  شعر العذارى أثناء ردحهن في ليلة عرس القاسم  في عاشوراء ، يمكن أن نستشعرها ونستحضرها  عندما نسمع أغنية مثل بنادم أو محطات ، وبالرغم من محليتها إلا أن هنالك إحساسا بصداها الذي يعبر العالم الآخر . ولهذا فان بعض الأغاني من أجل التعبير عن قلق الإنسان العراقي ومحنته الدائمة تبدو كأنها  أحاسيس  موسيقية  عنيفة تغزو أعمق  مشاعره في روح الانسان  .

 ومثل هذا الإيقاع والبعد التراثي وغنى التأويل في الكلمة واللحن أعطى  لأغاني  الفنان ومنذ الأولى منها مساهمة في  تغير أسلوب سماع الأغنية العراقية لدى العراقيين ، لأنها  فرضت مفردة  موسيقية وقصيد شعبي متميز ، تمثل هذا بفرض الإيقاع الهارموني المركب  والمتعدد النغمات لتنوع الآلات الموسيقية ، أي أنها فرضت ما يسمى بلغة الموسيقى بالإيقاع البوليفوني .
في الماضي من الزمن الرديء وفي غفلته حاولوا سرقة الزمن الإبداعي للفنان العراقي  ، وهم يحاولون ألان سرقة منفانا ، ولكننا نستطيع أن نحوله إلى تاريخ  ابداعي  فقط من خلال  نقاء الموقف السياسي  والاجتماعي غير المتكيف مع النظام ، والعمل الابداعي  المتواصل في شتى مناحي الثقافة  الذي يتميز به الوعي والعقل العراقي المتفرد  .

 

 



#فاضل_سوداني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف المتكيف وأبخرة الثقافة الموبوءة
- الفضاء السميولوجي لعمل الممثل
- الوعي البائس للمثقف المتكيف
- مثيولوجيا الجسد في الطقس المسرحي البصري
- جدلية العلاقة بين المسرح والمدينة العربية
- شيزوفرينيا الذات في فلسفة سورن كيركغارد
- العنف وهستيريا الروح المعاصرة في النص الشكسبيري
- ميتافيزيقا الذاكرة الجسدية المطلقة في الطقس المسرحي البصري
- التعازي ……… طقس درامي شعبي


المزيد.....




- اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا ...
- عبد الرحمن بن معمر يرحل عن تاريخ غني بالصحافة والثقافة
- -كذب أبيض- المغربي يفوز بجائزة مالمو للسينما العربية
- الوثائقي المغربي -كذب أبيض- يتوج بجائزة مهرجان مالمو للسينما ...
- لا تشمل الآثار العربية.. المتاحف الفرنسية تبحث إعادة قطع أثر ...
- بوغدانوف للبرهان: -مجلس السيادة السوداني- هو السلطة الشرعية ...
- مارسيل خليفة في بيت الفلسفة.. أوبرا لـ-جدارية درويش-
- أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة
- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاضل سوداني - توهج الذاكرة عندما يسرق زمن الفنان