أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - صلاح الداودي - في ما بعد المحدث















المزيد.....

في ما بعد المحدث


صلاح الداودي

الحوار المتمدن-العدد: 2964 - 2010 / 4 / 3 - 20:33
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


الكاتب: طوني ناغري
الكتاب: الفن و الجمهور، تسع رسائل حول الفن. ايبال،باريس،2005

رسالة إلى كارلو
في ما بعد المحدث (Le postmoderne)

05 ديسمبر 1988

عزيزي كارلو،

أنت بحق لم يتملكك الخوف من المجرد ولا المخاطرة بكل شيء بما في ذلك الواقع. كنت أولنا إلى الجنون منذ أواسط السبعينيات، لأنك كنت تفهم إلى أين كنا نمضي ـ باتجاه نفي تجربتنا أصلا إلى قلب إيطيقانا، إلى الجنون في خضم رفض هذا الانزلاق. ولكنك كنت في نفس الوقت تستبطن هذا المجرد الذي يؤلمك مستعدا للنظر إليه كوسط حيوي ضروري. وعندما كنت تخرج من بيت الاستراحة لتراني، كنت تقول لي: إن توازننا هو سعادتنا في أماكن أخرى خارج إعادة التملك الوحشية للوجود، هذه التي سدت نفسيتنا وقصّفت أرواحنا. لقد ترك الذكاء والأخلاق الوجود، فهذا الوجود ممسوس ـ وكنت تقترح: فلنختر المجرد، ولنضع حدا لهذا العذاب غير القابل للتحمل. ما بعد المحدث هو استراحة الحواس. لقد كنت تصفي حساباتك مع الماركسية بينما كان آخرون يفعلون ذلك بفكرة ملتهبة وشرسة تخص الإنتاج الثقافي: كنت ترفض فكرة العدو حتى تلجأ إلى التجريد المهدئ للواقع، عالم لم تعد توجد فيه طبيعة ولا قيمة استعمالية، عالم تكون فيه كل العلامات دلائل على تدفق هيراقليطي عنيف لا يتوقف وفريد على الدوام، ولنفس السبب مطابق لذاته. هل كنت على حق؟ عندما سجنت برفقة جيل كامل، كنت من بين القلائل الذين أعلنوا على الفور بأن عصرا قد انتهى ـ قلت ذلك وكررته بلا رأفة وبنفس القناعة الراسخة ومع ذلك...

لم أقرأ شيئا كثيرا مما كتب بودريار: التبادل الرمزي و الموت من أجل نقد الاقتصاد السياسي للعلامة في ظل الأغلبية الصامتة، نسيان فوكو ـ وعلى الجملة، بودريار الناقد لنقود (critiques) الاقتصاد السياسي والمثبت للانبجاس التراجيدي لحضارتنا. "لا شيء سيتوصل إلى عرقلة سيرورة الانبجاس، والشيء الوحيد الذي يبقى هو انبجاس عنيف وكارثي أو انبجاس هادئ... لا بد فيه من عدم الإفراط في التوهم. إن مصيرها الزوال والفشل. إذ ليس ثمة انتقال متوازن من الأنساق المنبجسة إلى الأنساق المتفجرة، وإنه من المحتمل جدا أن يكون انتقالنا باتجاه الانبجاس ذاته عنيفا وكارثيا". ثم إن وجهة النظر تغيرت. وظل الانبجاس وحده ملكا هادئا ومنوما ومتوازنا وشالا.إن الثمانينيات هي سنوات الهدوء الكبير والمسطح. ولكن كارلو، ذلك هو ما فهمته منذ البداية ـ فبالنسبة إليك, كان الأمر إذن يتعلق أيضا بالمضي إلى الأمام. وكانت المجادلة ضد القيمة الاستعمالية تهمك لأنها كانت تضعك دون تبكيت ودون تظاهر في ميدان تجريد كل القيم. اللاّاقتدار. الانبجاس الذي يساوي العجز. و هنا كان المرور الكبير إلى التجريد قد أصبح مرورا إلى العجز. تقريظا للعجز. ومهما قال بودريار، لم يكن لذلك قيمة إلا إذا كانت الفكرة الهادية للاستدلال تفتح على أفق يكون فيه الخلاء قدرا. هو ذاك المرور الكبير وقد أصبح مكشوفا للعموم، بديهيا حتى للعميان والحاخام ! ولكن لماذا على التجريد الضروري أن يكون واهنا؟

ها نحن في قلب الثمانينيات. ها قد أصبحت الـ"طبيعة الثانية" التي توصّلنا إليها ـ عالم التجريد المحض ما بعد المحدث ـ شيئا واهنا. عظيم هو عجز المعنى الذي هو خاصيتها. إن البحث غير ممكن إلا داخل الدائرة المغلقة. لقد أصبحت المضامين الفريدة للإثباتات الأنطولوجية أو الألسنيّة غير مهمة. لقد سحق التجريد الابتكار ـ إلى حدود مجرد إمكانية ـ إلى الحد الصفر. أكيد أن أحداثا فريدة كانت تواصل الحدوث ـ غير أنها لم تكن قابلة للوصف، ولكن أيضا هل كانت حيازتها على الأقل ممكنة؟ إذا كانت الطبيعة قد اتجهت نحو المجرد وأصبحت اللغة دائرية، إذا كانت القيمة الاستطيقية قد أبطلت في المفارقة ومددت القيمة التبادلية إلى درجة أن تصير غير قابلة للفهم، لكانت السوق قد أصبحت إذن مسرح الحياة الوحيد والحصري وكانت الذات الجماعية المضادة قد اضمحلت نهائيا. وأصبح التجريد سوقا بلا لبس ـ لربّما كان ذلك في تكلف أنه من الأكيد في كونية التبادل، في الخاصية غير القابلة للفهم وفي لا تواصلية الذوات. لم يعد ثمة وجود للحقيقة ولم يعد ثمة وجود للتحديد. فالتفكير ـ وأكثر من ذلك فرشات الرسام أو حاسبة الكاتب ـ يعالج هذا الوجود اللاّمبالي بسطحية لا تتجرأ على ذكر ما يتعلق بالبطلان: سيكون ذلك مفهوما قويا جدا بينما تلعب العدمية هنا وتلامس الواقع بخفة ويكون التفكير ضعيفا.
حذار من الإيديولوجيات, حذار من الانتاج ـ .(Cave Canem! ) إن هذا الوضع عصي على أن يؤخذ في مأرب ولربما كنا لا نتوصل إلا إلى التعرف على آثار، ولكن حذار من أن لا يكون الأمر متعلقا بعلامات الذاكرة وأن يكون فقط حافات الخلاء: إنه لا يمكن للوح الخشبة أن يكون مغطى بغير الطلاسم والبصمات المتلاشية والنقوش الأثرية المبهمة وعلامات عالم محدود وعالم آخر متزامن لم يكن ليبدأ أبدا. لقد أصبحت السوق ملكا وملكة، أب وأم وأخ القيم التي تقتدر على تعيين نفسها وحسب ـ وبخاصة تلك التي ليس لها من باعث سوى كونها متضمنة ومنتجة من طرف السوق. قال لي عارف جيد بسوق فن الرسم: "أستطيع أن أتنبأ بيقين بما سيحدث في السنوات الخمس المقبلة !" نبي فراغ ـ كاهن لا يصدق.

نحن نستريح في هذا الهذيان الوهن، كارلو. ويظل لدينا ذوق سليم أيضا. غير أن آخرين لا يروق لهم هذا الفراغ ـ إنهم يتمادحون... عدميّون اغتباطيون. وأما نحن فلا, الراحة تليق بنا أكثر وأن نكون تلذذنا في غياهب سجن أو في تحرير مجلة ما، فهذا لا يغير شيئا مهما. في الواقع، حدث شيء ما في هذه الوضعية البائسة: أقامت تجربتنا ورغبتنا الدليل الواضح على الطابع المطلق للنهاية ،وبعدت روحنا هنا عن السوق انطلاقا من هذا الاكتشاف الخارق والشرس وحدث من جديد ـ ملحميا- وانطلاقا من العدم الخاص بالوجود، قلب حركة مد وجزر التجريد ـ أعلنت قيمة الايطوبيا والحركة الايطيقية والميثولوجيا العقلانية وعدم اختزالية الديزيطوبيا (بطلان الايطوبيا) (Désutopie).

ولكن لنرجئ هذا الأمر، لنواصل في الوقت الراهن النظر حولنا في معيار "سعادة" سنوات الثمانين. إننا نلتجئ إلى الخيال في لعبة خالية من المعنى. إن الصلات البليغة ليست ممنوعة وإنما مكبوتة. ليس اللاّاقتدار عجز أثر شيء ما أدعي أنه مقتدر، وإنما الخاصية الأولية و الجذرية للإنتاج. لقد ابتلعت السوق وسلطتها كل القدرات إلى حد انتزاع إمكانية أن تصير فريدة وأن تكون لها قيمة في نظر أحدهم أو أن تصلح لشيء ما وأن تنتج. لقد سحبت الإبداعية، فالعجز هو مادة الحديث في حد ذاتها، التواصل، الفعل، العجز لا العدم. وتنتج الآلة الكبيرة التي تدير السوق لا شيء الذاتية. فالسوق تدمر الإبداعية وتنزع الاقتدار. ولكن حتى هذا لا يكفي لحسم كوارث وانبجاس نهائي: ويواصل مضمار لعبة الخيول الخشبية الذي فقد صوابه، الدوران من دون قياس ومن دون أمل، من دون اتجاه ومن دون نسق : إنها شاشة تلفزة يتحكم فيها أشرس المتنقلين بين ألف قناة. لا يتعلق الأمر فقط بأن الصورة دمرت، وإنما أيضا بملكة الخيال. لم يعد ثمة ذاكرة ممكنة لأن الرغبة استبعدت كل مشاريع التفرد. وأينما ينذر غياب الذاكرة نفسه تصبح الخيانة كما التزوير تحديدا غياب الذاكرة نفسه. فهل تشتغل الآلة إذن بابتلاع كل الوقائع؟ تلك حقيقتها. فهي صالحة،حتى ولو كانت عمياء، لامبالية ودون عدل. إنها محقة لأنها الواقع الوحيد، وإن نفيها لمستحيل. تحيا سنوات الثمانين ! يتسلق الدولار وينزل دون سبب مستساغ. تصعد البورصات وتنهار حسب معايير يجهلها حتى الله. وحدها تنعم السوق الشفانيّة. تحيا سنوات الثمانين ! أو، كما يقول ليوباردي (Leopardi), يحيا القرن العشرون !

أما في ما يخصني، فإنني أجهل بأيّ معيار يكون الفن أو لا يكون جزءا من هذا، و لا علم لي كذلك بما إذا كان يمكن للفن أن يكون منعزلا.وعلى أية حال، ينساب الرفض الثقافي، حسب إحساسي، بشراسة نحو الموت، النقص الجذري في المعنى، الفراغ و اللامبالاة المطلقة. إن ذلك في العمق مشهد هائل من اللامبالاة المطلقة، وإن العالم الذي أراه يحي (Yahvé) إلى يونس (Jonas) على حافة الإبداع مسكون بالوحوش التي هي رمز الفراغ والعدم و الاضطراب والإبهام، ظهور للمهيب (الجليل)؟ الذي يخلط الفن والطبيعة.والجميل هو الكمية الرياضية (mathématique) اللامحددة، فهل تشكل هذه اللامبالاة وهذه الحركة المتواصلة والشرسة للسوق عرضا مهيبا؟ وهل يمكن للعجز أن يكون كذلك ؟



P.S., عزيزي كارلو, هل تتذكر الاستدلال القديم لماركس؟ "حالما تفترق الأشياء وتنفصل عن هذا الوسيط (النقود، السوق) تفتقد قيمتها ولا يتبقى إذا لها قيمة إلا كممثلة لهذه الوسائط فقط ." إذا كان الأمر يبدو في الأصل على خلاف ذلك: إذا كانت (النقود، السوق) هي التي قد كان لها قيمة وفي صورة إذا ما كانت تمثلها وحسب، فهذا القلب للعلاقة ضروري. والوسيط هو إذن الماهية التائهة،(المغتربة عن الملكية الخاصة، الملكية منزوعة الخصوصية، المستلبة ; "إنها الوساطة وقد أصبحت غريبة عن الإنتاج البشري بفعل الإنتاج البشري،الممارسة المستلبة لنوع الإنسان... لا سيّما إذن أن الإنسان مفصول عن هذا الوسيط ، يصبح أكثر فقرا ويصبح هذا الوسيط أكثر ثراء". قلّما يوجد قول لا يمكن أن نعود إليه بطريقة أكثر نقدية: وسيط، نزع ملكية،اغتراب، ماهية، نوع بشري، الخ... وصولا إلى قواعد قراءة هذا النص في حد ذاتها وهي ممتصة من تفاهة ما بعد المحدث. ورغم ذلك ـ لا أدري إن كنت أنت أيضا تشعر بذلك -كارلو ـ ثمة في هذا الأمر من الحقيقة ما يجعلها حقيقة بليدة لأنطولوجيا مادية، كلاسيكية.


تعريب :

صلاح الداودي



#صلاح_الداودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شريط حبْ1
- في المسرح الكبير
- حقّ الشعر1
- نصف اللّيمونة البيضاء؛ ونصفها
- كالرّواية
- لحم الهويّة: رسالة إلى إسرائيلي من أصل كوني
- البكاء الحر من أجل الحب (تنضيد 2)
- البكاء العام1 على الحبْ (تنضيد)
- البكاء العلني على الحبْ
- -ك-
- سائق الأرض 1
- مَنْ أمّكْ؟
- ضمير الجوع والغائب
- الطّريق هو الصباح
- ولكنّه بَلدِي
- ولكنّه بَلدِي
- السّلام عليكْ
- واو (1) الزمان ونثر الوجود
- كُونْتْرُباسْ
- باء الحبّ


المزيد.....




- الرئيس الصيني يستقبل المستشار الألماني في بكين
- آبل تمتثل للضغوطات وتلغي مصطلح -برعاية الدولة- في إشعار أمني ...
- ترتيب فقدان الحواس عند الاحتضار
- باحث صيني عوقب لتجاربه الجينية على الأطفال يفتتح 3 مختبرات ج ...
- روسيا.. تدريب الذكاء الاصطناعي للكشف عن تضيق الشرايين الدماغ ...
- Meta تختبر الذكاء الاصطناعي في -إنستغرام-
- أخرجوا القوات الأمريكية من العراق وسوريا!
- لماذا سرّب بايدن مكالمة نتنياهو؟
- الولايات المتحدة غير مستعدة لمشاركة إسرائيل في هجوم واسع الن ...
- -لن تكون هناك حاجة لاقتحام أوديسا وخاركوف- تغيير جذري في الع ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - صلاح الداودي - في ما بعد المحدث