أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمين أحمد ثابت - السياسي .. قصة قصيرة















المزيد.....

السياسي .. قصة قصيرة


أمين أحمد ثابت

الحوار المتمدن-العدد: 2927 - 2010 / 2 / 25 - 01:14
المحور: الادب والفن
    


خلف قضبان النافذة المطلة على تلال الرمل الصحراوي، المحيطة بالسجن الأثري، المرقم حديثاً- ينكشف وجهه المتسامح.. البسيط أعوام مضت، ولا يعلم كم من الوقت سيأتي على بقائه هنا- السجن دون محاكمة، وإطلاق السراح لا يتم الا لمن قبل ان يكون مخبراً.. سرياً، او حسب مزاج "الباشا" - لكنه لم يعد يفرق بين زنزانته والخارج عنها- انه شيوعي.. هذا ما تناقله كل من كان قد عاش ويعيش داخل ذات السجن- التهمة التي تتناهى لسمع وبصر من كانوا يتواجدون لحظات التحقيق كجماعات- منها المعلق على قدميه الى الاعلى. آخرون معصوبة أعينهم.. ويجلدوا بِعِصِيّ مغلظة الرأس.. مسننة، واخرى بعصى كهربية- كم قاسى كثيراً، رغم شدة التعذيب الذي كان يمارَس علينا، لم يكن الواحد منا يحس بشيء بعد الدقائق الأولى من الضرب المتوحش- لماذا كل هذه الكراهية؟ الا يخافون ولو للحظة ان يكونوا في وضعنا؟ رغم ذلك بعد كل جلسة تعذيب وجلوس حتى تلتئم الجروح ويتم انتهاء التحقيق معنا، لم نكن نشعر بالانتقام ممن يعذبونا بوحشية، انهم العبد المأمور، يترحم الواحد عليهم، فغسيل ادمغتهم وتعبئتهم بأن كل معتقل سياسي هو كافر، وخائن عميل للوطن- حتى لو كان المسجون أب واحد منهم- الوطنية اكبر من الوالدين، ومن عذب بقسوة اكثر.. يُعَدْ اكثر وطنية، ومن انتزع اعترافات اكثر- حتى ممن لم يكن سياسياً ولكن أُخذ بالاشتباه، يُكرَّم لغيرته على البلاد- كنا نتمزق حزناً ونحن مسلوخي الجلد من شدة الجلد، عندما كنا نسمع صراخه وتأوهاته- كان يخضع لروتين خاص لاساليب انتزاع الاعتراف، نسمع صوتاً من التألم لم يتماثل معه صوت أي واحد منا- كنا معصوبي العيون، واذا بصرخات صاعقة ثم ينطفئ كجثة هامدة- انها الكهرباء، قلع الاظافر، نزع اللحم- مضى وقت طويل، وما زال في زنزانته المطلة على الكثبان الرملية المتداعية على امتداد البصر.

- لماذا تأخرت عن موعدنا؟!..

بيد مرتجفة أزال بقايا بيت العنكبوت المعشش قريباً من بين أصابع النافذة الحديدية. وآزن وقفته على صندوق الخشب القديم، المستخدم للجلوس- كان احد الاثاث المجرودة من ادارة السجن لهذه الغرفة الزنزانة العارية، سواه وبعض اغطية عتيقة شديدة الاتساخ، تختفي في داخلها البراغيث طوال العام، والتي تنشط ليلاً لتتغذى على هذه الهائمات البشرية المسماة بالأجساد الآدمية.

- ما باله يبدو اليوم حزيناً؟
برهة من الصمت- نظراته تتقطر بفقدان التوازن خارج قضبان النافذة، عسى ينكشف ولو جزء يسيراً عن ذلك الوجه الذي ينتظره منذ وقت ليس بيسير، ولو حتى ظلال شبحي له- ابتعدي قليلاً أيتها السحب الداكنة- كان الوجود مغلفاً بستار قاتم من العتمة.
***
في الزنزانة هذه لم يعد المرء يفكر كم مضى من العمر- ومنذ اعتقاله وزوال عدة شهور التحقيق، يقف بشكل يومي على حالته هذه، الليل عشيق، والريح غالباً رسول غرام.. يتسلل بين ثنايا القضبان اليه.. يهامسه- نفس التوقيت اليومي، يبادر بترديد كلماته المتناثرة في مدى ذرات الغبار المزوبع لحظتها:

لما الزمن .. يقيم الحواجز
.. الفاصلة بين القلوب.
.. بشر وسحاب ظالم
يقيما العتمة الآسنة
دورة للفصول.
وفي روحي شوق لك.
.. هيا تمرد
ان كنت عالقاً في اسوداد البشر
عليك امتطاء الطبيعة.

- أحبك
فلا تعلق في بحيرة.. السحب الراكدة.

لا تنقطع تداعياته حتى بزوغ الفجر، حيث الشمس تباشر في ارسال اشعتها الباردة التي تسبقها معلنة مجيئها في يوم جديد، لترتخي في بدايته على قمم التلال الرملية المترامية دون انتظام على امتداد البصر- كان اقربها يبتعد كثيراً عن السجن الحجري- الخارج عن انسجام البيئة المحيطة- المغروس على طول رأس حافة اسواره قطعاً لزجاج ذات الاطراف المسننة والحادة.. القاطعة..

- يا له من إنسان غريب!

أي حالة يعبر عنها.. هذا العشق الغريب. حتى بعد وقت ليس ببعيد في غرفة التعذيب، عندما كان يمارس علينا اللهو، كنا نستغيث، نصرخ.. نبكي ونشتم، نستجير بذكر امهاتهم ان يرحمونا- اما هو،.. كان غريباً، دمه كان يتضرح به وجهه وجسده بلون السواد، كان محروقاً، وجلده متورماً من كل مكان، وفي اماكن اخرى كان لحمه يتقعر غائراً الى داخل تجويف جسده- غريباً هو، حبات من الأرز الرديء المنقوع بالماء، وبعض الارغفة اليابسة التي مر عليها زمن طويل في مخزن السجن. كانت رائحة براز الفئران والصراصر تفوح عنها- رغم ذلك لم تكن تطفئ جوع الواحد منا- كيف يأتيه العشق، لا يضيق، لم يتكلم عن الخروج، حتى عندما نتحادث، كنا نحاول ان يفيدنا من علمه- والا لماذا مُيِّز في التعذيب الخاص.. الاكثر وحشية- لكنه لم ينفتح فمه بكلمة واحدة الا متى جاء زمن عشقه اليومي، نصيخ السمع
-آه ما اعذب قوله- ليته يتحدث معنا ولو لمرة واحدة.. كهذه!!..

همست في اذن زميل نزيل من نزلاء هذه الزنزانة.. ليدقق النظر فيه- يا الله كيف اشرقت اسارير وجهه الصغير المستدق الحواف، كطفل يغشيه الفرح، بمجرد ما اصطدم شعاع القمر بوجهه، وتسلل جزء خافت منه الى الغرفة من بين فراغات الاذرع الحديدية للنافذة.

أي تألق مبهم هذا الذي يعتريه. تلك الهالة المشعة التي تحيط برأسه، نشعر بها:- كيف تملأه شفافية، كما لو انه يستعد للطفو في الفراغ، لا تعيقه الحواجز.. لاستتمام اللقاء- وترتعد فرائصنا من هول تلك اللوحة اليومية.

- اتعتقد.. به مس شيطاني؟!
- الا يكون ساحر! (ثانٍ)
- حرام عليك.

ربما يكون احد المختارين. فالله وان انهى عهد النبوة.. الا انه يستخير من عباده اسراراً من اسراره كـ.. خلفاء للانبياء.
(ثالث)

أسئلة كثيرة محيرة- نادراً كنا نسرق منه تحدثاً مختزلاً معنا. كان كلامه مبهماً، وتطفح عليه مناخات رومانسية.. شديدة التعبد- لكن ذلك الصدق في نبرات صوته بأسرنا بأن ما يقوله موجود ونعيش فيه.. فنؤمن به،.. نؤمن انه مجنوناً في نفس الوقت- أي ارق صنعه هذا الرفيق فينا، فالصداع لم يعد يغادر رأسي- كل ليلة- يكاد يفجر خلايا دماغي، فأذهب بصعوبة للنوم.. متوعكاً!!..
***
كان اليوم اشد صقيعاً.. عما قبل، فالبرد يتسرب متسربلاً ظلمة غرفة السجن العارية- بعد اختفاء وجه القمر مجدداً- بين لسع البرودة وطفح البراغيث تُعَذِّبْ الاجساد المحتاجة لبعض من النوم- كان نسيج الأغطية الصوفية قد عجنت بتراب سنوات من عمر الزنزانة- والرياح كانت تزمجر بشدة في تلك الليلة، صفيرها كان صداه ينبني في محيط الغرفة الخالية- الا من بؤساء. وبقايا اسمال للاقامة- كان صراخاً مرعباً- لكن أذناه تكشفا متعة خالصة لذاك الضجيج- يبدو انه له فعلاً سحرياً عليه، عيناه تزداد تسمراً في الأفق البعيد- أتراه قادراً على اختراق كتل المياه الصخرية.. السوداء.. المغطية السماء!!..
***
وتعبر ساعات بعد الحادية عشر مساءً وهو على وقفته المسلوبة تلك- ترى كيف الحياة الآن خارج السجن، يبدو ان الامور تغيرت، منذ وقت ونازلو السجن الجدد القادمون.. ليس منهم من هو سياسياً او..، وحتى لو سمعنا عن بعض نادر منهم كما يقولون انهم مسجونين سياسيين نجدهم قد سجنوا لأمر غير السياسة. يقولون انه لُفِّقت لهم تهماً.. باطلة- ها هي هالة الاشعاع تعاوده- قبض على قضبان النافذة بجنون- لاول مرة اراها صدئة جداً.. بوضوح هذه المرة- تمدد وقوفاً على اطراف قدميه، فظهرت عضلات ساقه متشنجة- كانت تبدو مهترئة رغم شدة توترها.

- كيف يحتمل انغراس القضبان هكذا على محيط وجهه!..
- هيا أدخلني..هيا..

يتحشرج صوته.. استلذاذا.. فاقشعرت أجسادنا.. رعباً!!

أي لوثة عقلية.. هذه، قالها البدوي أكبرنا سناً- "صَيَاد.. صَيَاد"(*)، وانزوى مرتعداً في الركن البعيد المظلم من الزنزانة، الركن الذي وجدناه حاجبا للرؤية، فتعارفنا عليه ان يكون مكاناً لقضاء حاجتنا في الزجاجات البلاستيكية وبعض العلب الصدئة، التي كنا نجمعها من قمامات استهلاك عمال السجن.. العسكريين- بعد غلق الزنزانة .. ليلاً.

-هيا. (صرخة مدوية)

… آه الآن نمتلك حريتنا. نعم.. الآن

ينزل متهالكاً عن صندوق الخشب، ويهدأ كل شيء.. عدا أصوات الحشرات الليلية، وبعض تأففات من هنا وهناك من لدغ البراغيث – لحظات من الوقت نجد سرادق السجن تحمل صوتاً من بعيد- صوتاً نعرفه يومياً بعد مرور ليل طويل لا نغمض فيه أعيننا- انه صوت السجان المقلق.. موعد الصلاة.



(*) صَيَاد: بفتح الياء، وهي في اللهجة اليمنية العامية تعني (جنيّة) ، وهي من قصص الخرافة الشعبية بحيث تتجلى بنصف أعلى بهيئة امرأة جميلة أو يكون نصفها الأسفل ذات أربع من ذوي الحافر.



#أمين_أحمد_ثابت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تسريب
- حلم الورد المتعب قصة قصيرة
- احلام الفراشة قصة قصيرة
- وعد قصة قصيرة
- المعذبة قصة قصيرة
- غرباء – نحن – في بلد الجنرال ( قصة قصيرة )
- المدنية .. وحلم الفلاح قصة قصيرة
- مؤتمر لندن - مكشاف عورة العقل السياسي اليمني ( الجزء الاول )
- صنعاء .. أتا ... والرقص البحري نثر شعري
- الشتاء . . البلاد نثر شعري
- تعب المدار نثر شعري
- زمن . . بلا نوعية قصة قصيرة
- ليس للجنوب ان ينتظر الشمال
- جامعة تعز . . مسار للانهيار
- الراقص قصة قصيرة
- حوارية .. اصدقاء في التجرد قصية نثرية
- جيش.. وعكفة ...... صحوة لذكريات الطفولة والمراهقة
- ليس للجنوب أن ينتظر الشمال
- الحداثة والمعاصرة العربية يبن الوجود الممكن.. والوجود الزائف ...
- الحداثة والمعاصرة العربية بين الوجود الممكن.. والوجود الزائف ...


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمين أحمد ثابت - السياسي .. قصة قصيرة