أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - عمار يا مصر ... 2















المزيد.....

عمار يا مصر ... 2


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 2909 - 2010 / 2 / 6 - 17:39
المحور: الادب والفن
    


لم تدم حيرتي بمعرفة الوجهة التي ذهبت اليها بقية العوائل .. فلقد اخبرني أحدهم بانهم سمح لهم بالذهاب لزيارة مقام سيدنا الحسين والسيده زينب .. وكانت زيارتهم تلك على مسؤولية المجموعه المسئولة عن تنظيم الرحله ،.. ولكوني لم أشأ أن اتسبب بأية مشكلة من شأنها أن تحدث الضرر لهم وبأي شكل من الاشكال ، فقد آثرت البقاء بالقرب من مقر توقف الحافلات .. ولم يمنعني ذلك من التجوال في المنطقة القريبه ..

اصحاب المحلات التي زرناها ، جميع اصحابها شملونا بترحاب غير اعتيادي .. وكذلك جميع من صادفتهم في طريقي ممن قدر لي التحدث معم .. وكنت ميال لأن اتبادل اطراف الحديث مع من استطيع الوصول اليه .. احدهم وهو سائق تاكسي إحتضنني ونحن نشرب الشاي من عربة كان صاحبها يعده وبطريقة تشبه الطريقة العراقيه .. وقام باهدائي ورقتي نقد عراقيتين من الفئة الصغيره ، ذكر لي بانه يحتفظ بهما منذ ان عاد من العراق بعد نشوب الحرب وتردي الاوضاع هناك .. محل للجزاره ،، دخلت اليه مع كوني لم اقصد الشراء .. غير أنني بدأت ملاطفة صاحبه بالاستفسار منه عن أشياء مختلفة وبدون تنظيم مسبق .. في حين راحت زوجتي وبدافع التعود بالسؤال عن ثمن كيلو اللحم ، ولم يفتها بأن تعقد مقارنة بين الاسعار في مصر معها في العراق ، وقد أضاعت علي بذلك الكثير مما اردت معرفته من الرجل عن احوال المجتمع وظروف الحياة في البلاد .

ثمة سيارة مكشوفه من نوع بيك آب مرت وعلى ظهرها مجموعة من الشباب ، ومعهم إمرأة واحده وعدد من الاطفال ، وهم يصفقون مبتهجين بمناسبة ما .. لا اعرف السبب الذي يدعوني للشعور بان للمصريين فنهم الخاص حتى بطريقة احتفالاتهم بمناسباتهم الخاصه ، أو أن تلك الطرق تحمل من النكهة المتفرده ، ما لاتحمله أية سبل اخرى في بقية البلدان العربيه .. فلقد شعرت بان حركة ايدي المحتفلين ممن شاهدتهم في تلك اللحظه ، وكأنهم يمطرون الفرح كله على الفضاء المحيط بهم .. وبالمقابل ، أحسست بضخامة ما القاه الدهر من حزن على ظهورنا نحن العراقيين .. إنه حزن لا يدركه غير الذين عاشوه ، وتفاعلوا مع مفرداته التفصيلية .. حزن تجسد في تلكم الاجساد العارية لنساء فقدن فلذات اكبادهن في الحروب ، فخرجن يشيعن ما وصلهن من جثامينهم ، ليعبرن عن حزنهن بتمزيق ما يسترهن من ثياب .. إنها مشاهد تقطر بأسى العالم كله ، تلك التي حفرتها وقائع كنت اواجهها في كل يوم ، وانا اتحرك محاولا اللحاق ببقية النهار ، لأحضى بفتات ما استطيع توفيره لأطفالي ... من يقول بان أهوال ما ناله العراقيون له مثيل ؟؟ .. كيف يمكن ان يتصور عقل بشري إمكانية أن تصطف فرق الاعدام على ضفة نهر يفصل بين العراق وايران ، لرشق المنسحبين من ارض المعركة قسرا وبحكم قوانين التفوق العسكري لدا العدو ، لتخترق رصاصات بلادهم اجسادهم المتهالكة ، بدل احتوائهم وانقاذهم من الغرق ؟؟ .. كيف يمكن ان يتقبل العقل البشري السوي ، أن يرصف المراهقون من الصبية على قارعة الطرق العامة ، وهم موثقين بصلائب الموت ، ويقوم شذاذ الآفاق من مرضى النفوس بالتسلي بقتلهم وفي وضح النهار ، والبعض من هؤلاء الضحايا يفلحون احيانا بقلع أوتادهم ، ويفرون من مكانهم وهم معصوبي العيون ، فيلاحقهم حملة البنادق وسط زفة من هتافات الجماهير المسحوقه ، ليسقطوا تباعا على ارض وطنهم وبين اهليهم ؟!! ...

واستمرت جولتي الحرة في تلك الحارة من شبرا في القاهره .. ووجدتني ألف وأدور في ذات المكان ، بحثا عن أية فرصة تجعلني أحس باحساس السائح وليس الهارب .. فاحساس الهروب كان لصيقا بنا نحن الذين ولدنا في بلاد الرافدين .. هروب .. هروب على طول الخط .. كلمة فرار تشكل لعنة السماء سلطها تاريخنا على اجسادنا وسقوف بيوتنا ومخادع نومنا .. فنحن نشعر بحاجتنا للهروب على الدوام من شيء يلاحقنا باستمرار .. ظهورنا مكشوفة لسياط من يهوى جلدنا من ابناء جلدتنا ، وله حرية اختيار السوط وطريقة الجلد .. حكوماتنا جميعها أماتتنا ومن ثم ماتت هي مضرجة بالدم .. جميع زعمائنا ماتوا مقتولين وبطريقة تفردت فيها سبل القتل ... ولا زلنا نندب قتلانا وجلهم قضوا بإرادتنا ووسط هتافاتنا وزحفنا اليومي ، ونحن نرفع صور سلاطيننا الاحياء ، لنبصق عليهم وهم اموات ..

وشعرت بضيق شديد كوني لم استطع ركوب تاكسي لنقلي مع اسرتي الى قلب المدينة ، لقضاء ليلة بأمان في القاهره .. كان حينها بامكاني أن أزور معالم هذه المدينة الضخمة لاتشبع بروحها القلقه دوما .. واستطيع الاقتراب من غرائبها والاحتكاك المباشر مع صخب شوارعها واحيائها الشعبية على وجه الخصوص . وعدت مرغما للانضمام الى تجمع لا زال منعقد حول عربة بيع الشاي القريبة من محطة الحافلات .. وفورا اصبحت موضعا لاهتمام الموجودين .. وبدأت ذكريات من كانوا سابقا في العراق تترى تباعا على مسامعي ، وليس من أحد منهم قادر على إبقائي حتى الغروب ..
- ايه ياعم .. انما كانت ايام لينا هناك لا يمكن تتنسي ابدا .. تصور ؟؟ اقسم بالله .. ما كناش نحتاج لأي حاجه .
- بالنسبه لي انا شخصيا كنت باشتغل حلاق في مدينة البصره .. وبقيت هناك اربع سنين .
- الله يجازي اللي كان السبب .
ولم اكن أدري حينها كيف يفكر هؤلاء .. ترى من هو السبب في ضنهم ؟ .. هل يستطيعون ان يفصحوا حقا بما في نفوسهم ؟ .. أم أنهم ضحية الاسفاف في حمل مشاعر الارتباط بمن يحمل سوطا ليلهب ظهورهم كيفما يشاء ، ومتى ما يشاء ، كما هو الحال بالنسبة لنا نحن عشاق الألم ؟ ..

كان صوت المؤذن يعلن موعد صلاة العصر ، عندما بدأ من كان معي في الرحلة يتجمعون تباعا في المكان ..البعض منهم يحمل اكياسا بداخلها ما قام بشرائه من اسواق المدينة .. أغلبهم سارعوا لزيارة سيدنا الحسين والسيده زينب .. فهم جميعا بامس الحاجة لطلب الحماية من أولياء الله أينما عثروا عليهم .. لم يشبع رغبتهم تلك ، بان العراق قد تزاحمت عليها قبور الصالحين ، ممن كانت سيوف العراقيين قد مزقت اجسادهم في الماضي .. فراحوا يبحثون عن بقاياهم في ارض الله الواسعة علهم يشفعون لهم في طلب الاستقرار وبلوغ النهايات السعيده ... أحدهم طاب له أن يعلم الوجهة التي كنت قد زرتها من القاهره .. فأجبته بانني لم أتحرك من مكاني ، واحسست بانه قد امتعض لسخفي بعدم استغلال فرصة كهذه ..

عندما اكتمل عدد المسافرين .. ظهر افراد الشرطة المرافقين لنا ، بعد ان كانوا مختفين تماما لقضاء وقتهم في مكان ما .. قرأ أحدهم الاسماء ليتأكد من سلامة الموقف .. وصعدنا كل الى مقعده .. لتبدأ الرحلة من جديد .. ونحن نودع قلب مصر النابض .. المرجل الذي تموج في داخله الملايين من البشر .. وشعرت حينها بأنني استمع الى ضجيج القاهرة برمته .. وكأن سماء المكان قد حامت حوله انفاس سكان المدينة جميعهم .. شعرت وكأن مصر بمساحتها المكتملة قد طويت لتعرض أمامي مرة واحده .. فأنا الآن في قطار الصعيد اتدافع مع ركابه لأحوز على مكان بينهم .. وفي رحاب دلتا النيل أغرف من خيرات زروع الفلاحين البسطاء .. وعلى مشارف حي عابدين وحدائق القبة وبالقرب من باب الشعريه .. لقد طرقت سمعي حينها اصوات منيره المهديه وسيد درويش وام كلثوم .. والحان صالح عبد الحي وعبد الحي حلمي ، وشخصت أمامي مسارح شهدت روائع عمالقة التمثيل ممن صنعوا للفن العربي سطوته أيام كان للفن سطوه ..

وخلال ساعات قليله .. بدأت القاهرة تتلاشى من حولي ، دون ان تكلف نفسها بتوديعي ، أو قبولي مودعا لها ولو على مضض ..

غادرت مصر .. وغمرني ضباب الضياع من جديد .. وسط مدن اخرى لم أكن أعرفها من قبل .



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عمار يا مصر
- نذور السلطان .. 5
- ما لا يدركه الرجال .
- نذور السلطان ... 4
- نذور السلطان ..3
- نذور السلطان ..2
- نذور السلطان
- الإمساك بأمجاد الماضي ، وحده لا يكفي .
- رساله مفتوحه إلى السيده بيان صالح
- رسالة مفتوحه إلى السيده بيان صالح .
- إرفعوا أيديكم عن المسيحيين في مصر والعراق !
- أفكار من أعماق الذات
- حقوق النساء ، وإستحالة الحضور مع الواقع العربي الراهن .
- إبحار في مشاعر أنثويه
- عام جديد .. وأمنيات شخصيه .
- حينما راح جذع النخلة يئن لفراق النبي
- معامل الطابوق في العراق تجسيد حي لعذاب البرزخ .
- تردي حالة البيئه في دول الشرق الاوسط وشمال افرقيا .. إلى أين ...
- متى يصار الى دعوة أفذاذ العراق وتكريمهم في بلدهم كما يستحقون ...
- قول في العيد الثامن لتأسيس الحوار المتمدن


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - عمار يا مصر ... 2