عبدالحميد البرنس
الحوار المتمدن-العدد: 2888 - 2010 / 1 / 14 - 09:20
المحور:
الادب والفن
في اليوم الأول، أجلسني الدكتور ريسان الكوفي على مكتبي في ما يشبه الطقس الاحتفالي. حدد لي مهامي بالبحث في تاريخ الحركة الشيوعية في العراق. هكذا بدأت تدريجيا أتعرف على فهد، مؤسس الحزب الفعلي، ذلك القائل لحظة اعدامه "الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق"، وعزيز الحاج علي حيدر، ذلك الذي برر حبه للحياة في كتابه "ذاكرة النخيل- صفحات من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، اعتقله صدام حسين و"قيادته المركزية" أواخر الستينات، رأى أن من العبث أن يغادر العالم على نحو درامي كما فعل أسلافه الحمقى من قبل، أفضى بكل ما عنده، ثم تمت مكافأته ممثلا للعراق في مكتب اليونسكو.
"وإن يخن الإنسان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون"؟.
الشعارات تفقد موقع صدارتها منذ مدة. بعد ذلك الاستسلام الكامل، لم يترك عزيز الحاج مناسبة تمر إلا وبرر موقفه، استخدم كل معارفه، لم يتورع حتى من اللجؤ إلى سلاح النكات، "يُحكي أن شيوعيا عراقيا، أيام المد الثوري، ظل يمشي في شوارع بغداد، رافعا فوق رأسه مظلة، مع أن الجو صحو وجميل. وحين سئل "لماذا تفعل ذلك"؟، أجابهم قائلا (إنها تُمطر الآن في موسكو، يا رفاق)".
ذلك عالم سلام عادل وحنّا بطاطو وأحزان كثيرة لا مبرر لها. قررتُ بيني وبين نفسي أن أخلص له في عملي. كان قد جاء إلى الجامعة الأمريكية أستاذا زائرا من احدى الجامعات الكندية. قال لي وهو يتفقد ملابسي البائسة إنه سيهبني منحة للدراسة في كندا. قال خذ هذا المبلغ لتعتني بهيئتك العامة أكثر. كدت أبكي. كان أمرا يقع خارج طموحاتي السابقة تماما. كان المنفيون الغرباء في القاهرة تجذبهم أشياء صغيرة مثل رائحة شواء تتسلل من مطعم في الجوار، ظهر ساق أنثى تهم بالركوب إلى متن مركبة عامة، وهذا الرجل بدا منذ الوهلة الأولي كما لو أنه يضع في يدي مفاتيح الكون برمته. بعد سنوات، سأدرك بشيء من المرارة أنه ظل يستخدم معي سلاحا لنعومته لم يخطر من قبل على ذهني مطلقا: "الوعود".
كان عليَّ أن أطرق فترة شائكة من تاريخ الحركة اليسارية في العراق أيام عبدالكريم قاسم، فترة حبلى بآمال تمخضت عن أحداث جسام، ما إن فتحت باب مكتبي الفخم ذلك الصباح حتى زكمت أنفي رائحة قوية كادت أن تصيبني بإغماءة، كانت أشبه برائحة جثة تُركت في العراء ذات موسم صيفيّ لمدى يومين أويزيد، فجأة ندت عني ضحكة صاخبة مجلجلة، أعرف تلك الجثة جيِّدا، أكاد ألمح الدود يصدر صليلا وهو يتوالد من امعائها النتنة في جلبة، إنها جثة فقري، فاقتي، سعي منذ أن تفتحت عيناي وراء ضرورات العيش وأبجدياته الصغيرة. ليس عليَّ بعد هذا أن أمسح الشوارع الجانبية بحثا عن أعقاب سجائر لا أدري أي فم مريض أو معافى لفظها هنا أوهناك. كانت لدي أحلام كثيرة مؤجلة لضيق ذات اليد. لقد حلمت طويلا أن أجلس إلى دجاجة مشوية لا يشاركني فيها أحد. أجلس إليها لحظة خصوصية كاملة. أمرر يدي على ساقيها المشرعتين. أدغدغ صدرها قليلا. أضع أصابعي على بطنها كما يفعل العاشقون فترتجف على بوابة اللقاء. أجرِّدها من زيِّها المدهون ببطء متعمد. لكن الحلم حين صارت الدجاجات يحضرن إلى شقتي تباعا بدا أكثر جمالا وجاذبية من درجات تحققاته. كان لا بد لي قبل أن أتتطلع إلى الأمام أن أقتل فقري العتيق بشوق بارد ورباطة جأش، أواري جثته في متع الحياة الكثيرة، ثم أقف على قبره الحجري المصمت قائلا "لست نادما، يا رفيق سنوات العمر الماضية، لقد قاتلتَ ضدي ببسالة فائقة، لكن اليأس أبدا لم يتسلل إلى عزيمتي ورغبتي اللا نهائية في تدميرك وسحقك ثم سحلك بلا هوادة، نم في قبرك الجحيمي الآن كما يحلو لك النوم، لكني لن أسمح ببعثك مرة أخرى، البتة".
رجعتْ "ليليان" بمقعدها المتحرك إلى الوراء في تثاؤب. كانت قد أنهت كتابة بعض الملاحظات على دفتر التقرير اليومي. بعد قليل، شبكت أصابعها وراء عنقها ناظرة إلى شاشات المراقبة بلا مبالاة. كانت تلك من اللحظات القليلة النادرة التي نعمل فيها معا. قالت "لا شيء مهم يحدث الآن". قلت في سري مثل هذا السؤال لا يُسأل في كندا. بدأت أتأملها من طرف خفي. بدا لي أن شعرها لا يزال يحتفظ بجاذبية شعر فتاة في العشرين حتى وهي تقف على بعد خطوات قليلة من سن التقاعد. كان الملل قد اجتاحها إلى الدرجة التي بدا معها وجودها مثل شيء ثقيل باعث على الغثيان. خلال الساعة الأولى من عمر الوردية كانت قد أخبرتني بكل ما هو جديد عن ابنتها وحفيدتها ولم يغب عنها أن تحدثني بشيء من الحزن عن خسارتها الكبيرة أثناء لعب القمار في عطلة نهاية الأسبوع الماضية. أخيرا، خرج من جوفي السؤال "كم مرة مارست "عزيزتي ليليان" الجنس في حياتها"؟.
Imagine there s no Heaven
It s easy if you try
No hell below us
Above us only sky
Imagine all the people
Living for today
Imagine there s no countries
It isn t hard to do
Nothing to kill or die for
And no religion too
Imagine all the people
Living life in peace
You may say that I m a dreamer
But I m not the only one
I hope someday you ll join us
And the world will be as one
Imagine no possessions
I wonder if you can
No need for greed or hunger
A brotherhood of man
Imagine all the people
Sharing all the world
You may say that I m a dreamer
But I m not the only one
I hope someday you ll join us
And the world will live as one
هكذا، عادت الحياة تدب في أوصال العجوز فجأة.
"فريق البيتلز اكبر من المسيح"، وهي تفتح أمامي خزائن أسرارها على ذلك النحو، وأنا أراها تصغر في الحكي أربعين عاما، خطرت على ذهني تلك العبارة التي أطلقها "جون لينون" عام 1966، وكنت قد قرأت قبل أيام قليلة مقالا جاء فيه "لم يكن (لينون) و(مكارتني) عندما كانا يجتمعان في حجرة مكارتني الضيقة لعزف الموسيقى ووضع كلمات الاغاني يعيان انهما يؤسسان لتاريخ الفن الغربي عموماً, وان الفكر العفوي الذي كان يكظمه الفتية الاربعة هو امتداد لموجة الحداثة التي اجتاحت التشكيل والادب الغربي".
كنت شابة صغيرة. مات والديَّ في تحطم طائرة مروحية خاصة على شواطيء خليج "هدسون" على الحدود بين محافظتي أونتاريو ومنيتوبا. تركا لي ملايين الدولارات وفراغا عظيما أخذ يكبر كلما تقدم الوقت. "أوه هاميد، لا أحد يعلم كم مرة مارس خلالها الحب". شيئا فشيئا تحول غرامي بفرقة "البيتلز" إلى شيء ملأ مني منافذ الروح والجسد. كان هبة إلاهية أن تتنفس مع أربعتهم هواء العالم نفسه. حين أقدم "ديفيد شابمان" مساء الثامن من ديسمبر عام 1980 على اغتيال "جون لينون" وجدتني غارقة مرة أخرى داخل ذات الفراغ العظيم. المعتوه قال إنه ظل يسمع أصواتا في رأسه تأمره بقتله. قال "كان الأمر أشبه بقطار ينطلق بأقصى سرعته، لا سبيل لوقفه". لقد أحسست باليتم مرة أخرى. "يا هاميد، أية قوة غامضة تدفع الناس أحيانا إلى قتل أجمل الأشياء في حياتهم"؟.
كنت أصغي بكياني كله. العجوز ترتعش حد إثارة مخاوفي من أن يغمى عليها في أية لحظة. بعد كل هذه السنوات، لا تزال تذرف دمعا، و"الدمع، لو تعلمين، "عزيزتي ليليان"، فقط لو تعلمين ما يفعله الدمع بالمنفي الغريب"؟. الدمع الدمع، أيبعثه الحنين، الغبطة، الفقد، الوداع، اللقاء، الحزن، الفرح، أم اليأس والأمل؟. أية قوة هائلة ينطوي عليها ذلك السائل المائي؟. لقد وضع الله في حناجرنا الغناء، في قلوبنا الخفقان، في رؤوسنا الفكر، في أقدامنا المشي، في ملتقى ساقينا الرغبة، لكنه جعل الدمع أكثر هباته وضوحا ولوعة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟