أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الأسدي - تلال القادم/رواية فانتازيا الفصل الرابع















المزيد.....



تلال القادم/رواية فانتازيا الفصل الرابع


رياض الأسدي

الحوار المتمدن-العدد: 2856 - 2009 / 12 / 12 - 13:12
المحور: الادب والفن
    


لا أعرف بالضبط إن كنت الوحيد الخارج من أداجوبا الآن، أم ثمة أناس آخرون خرجوا معي؟ من الصعب التأكد من ذلك بالنسبة لي في الأقل. ربما في وقت قادم تلوح لي بعض المعلومات ولسوف أخبركم بها فورا. ما فائدة أن يبقوا معي هكذا بلا رتاج؟ حيرة التجربة وحيرة النتائج وحيرة المكان الذي ظهرت منه؛ هذه الألغاز المطلسمة المصنوعة لا تؤرقني وحدي فقد بقيت عالقة بذيل التجربة كلها: في الأصل، كانت أداجوبا 2 مؤسسة سرية للبحوث البيولوجية المستقبلية تحت رمز ((B.G وكانت تابعة لشركة (تحت الإنشاء الخيرية الشمالية العالمية) ثم دفنت تحت الأرض في مكان سرّي، من اجل تدوين أحداث تاريخية معينة، ولمناطق محددة على الأرض؛ يعتقد أنها من الباراسيكلوجيا. ولكن كما يبدو لم يحسب لها حساب الدقة العلمية الكافية لفهمها بما يتناسب وطبيعة المهمة الموكلة إليها؛ وإلى مسافة عميقة من الجوف كانت أداجوبا تعمل بالقدرة العبثية أحيانا. من الصعب أننا نتصور أنها كانت على درجة كاملة من الكفاءة: إنها مغامرة لا أكثر. ولكي لا تؤثر على أداجوبا عوامل الضربات النووية المتوقعة، كان لابد من الغوص بها إلى مسافات ذات درجة حرارة عالية. وكان يمكن لأداجوبا، تلك الآلة الضخمة ذات المجسات الكثيرة، أن تتحمل درجات الانصهار في جوف الأرض، صنعت خصيصا للتحمل وان تعمل في ظروف قاهرة أيضا. لكنها في الوقت نفسه لا تستطع مقاومة تلف الكثير من برامجها الداخلية، فليس ثمة ضمانة أكيدة للعاملين فيها إلى حدّ بعيد. يمكننا أن نصفها بالمغامرة غير المحسوبة صراحة بسبب غموض ما يمكن أن يحدث لها. كما أنها لم تكن بهذا الحجم حينما ولجت آخر مرة قبل الغوص الأرضي؟ هل فقدت أجزاء منها أو انصهرت بعض مكوناتها؟ هذا ما لا يمكن التأكد منه.
وحينما أذن لأداجوبا بممارسة عملها الأوتوماتيكي الذي يدار كومبيوتريا في حالة الظهور؛ في الساعة الثالثة صباحا من يوم تموزي فقد تاريخ السنة ولم يتبق غير الشهر وحده، وفي عقد غير دقيق من الزمن، مغبر، تصعب معرفة السنة فيه مهما أدير محرك البحث، وعلى وفق برنامج مسبق ومعد بلا دقة- ربما أتلفت جميع بيانات بدء التجربة- وبدت الأشياء تحاط بضباب أصفر في الرؤية القريبة ذي رائحة أقرب إلى الديتول القديم على طول وعرض عشرات الكيلومترات المربعة.
كان من الصعب قياس المساحة التي جرى بها حادث الظهور العلني لأداجوبا 2 لأول مرة، منذ أن غاصت بما تحمل.. كما إن الحسابات الزمنية لظهورها لم تكن مفهومة أبدا. وتعد أداجوبا –على العموم- مغامرة فاشلة في تقدير كثير ممن عملوا فيها وخططوا لها، علماء وتقنيين وفلكيين ومشعبذين، لكني آثرت العمل بها كمتطوع لرغبتي في كسر حاجز الزمن فقط: شاهدت ذلك في فيلم كوميدي بالأسود والأبيض في نادي تراث السينما. ولم تكن أداجوبا طبعا مخصصة لكسر حاجز الزمن بأية حال لكني أوهمت نفسي بذلك الحلم الويلزي: ليكن لا شيء يستحق المماطلة. فأعدّت الآلة عموما من أناس غير جادين تعتورهم رؤى دينية خلاصية بحتة قبل أن يكونوا باحثين علميين. والنماذج البشرية التي وضعت في داخلها كانت رقمية أكثر من كونها بيولوجية.. لا أعرف حقيقة ماذا كانت عليه من وضعيتهم الخاصة فقد أتلفت كلّ المعلومات تقريبا ولا يخيل لي أبدا ما كنت فيه وكيف بدأت إلا بعض معلومات الطفولة التي تتقافز إلى الذهن مثل غزالات هاربات، حتى ظهرت أداجوبا على سطح الأرض في ذلك اليوم المجهول؛ كما إني من الصعب التأكد من كوني الوحيد الذي أظهرتني تلك الآلة الغريبة، فلم أزود بأية معلومات حول ذلك. لكن المنتظرين من الواقفين الذين مُسّوا بصيحات: اخرج. اخرج. أخرج! كانوا هم الأقرب إلى توقع ظهورها ؛ فقد كانوا يمتلكون علامات وإشارات خاصة بهم، تمكنهم من توقع الخروج من جوف الأرض في ذلك اليوم بالذات: حسابات فلكية قديمة مصحوبة بطلاسم محلية غريبة. بعضهم كان يحمل لافتات صغيرة من صفيح صدئ كتب عليها بالفحم: هاللو بي جي!
كان لا بد من خروج اداجوبا دفعة واحدة على سطح الأرض، كما هو مرسوم لها في مصانع مؤسسة تحت الإنشاء. ومن المهم أن نعرف المستوى الكبير الذي بلغته التقانة للرافعات الهيدروليكية العملاقة التي دفعت بها إلى مستوى سطح القشرة الأرضية التي بدأت تتشقق بقوة في ذلك اليوم الغائم من تموز، وفي تلك الظهيرة الحارة. فأطلقت في البداية أصوات تحذيرية تشبه أبواق سفن مغادرة، وعلا صفير حاد مختلف أرجاء الفضاء القريب، كان المكان يعجّ بالمشاهدين من النظارة للحدث الجلل.
تشمخ في القديم
اداجوبا
أمنا القادمة
اداجوبا
دائرة أرضية من نور قادم
أداجوبا
دبّي دبّي دبّي!
شيء أسمه الرجاء!
وما أن تمت عملية الخروج بنجاح كما كان متوقعا، حتى بدأ اقتراب جمع من الناس من تلك الآلة الضخمة، بحذر واضح، وسط عاصفة من غبار كوني يشبه عالم ما بعد الضربة النووية. لكنهم على العموم لم يرفعوا كلمة حذر بعد وقت خروج أداجوبا، ولم يكن ثمة شيء يدعو للخوف بعد أن رفعت كلمة خوف من قاموس الجماعة المتحلقة حول تلك الآلة الأرضية الضخمة. ها قد بدأت أداجوبا عملها أخيرا بلا صعوبات جوفية. ثم عادت على الغوص من جديد. ويمكن لجماعة مؤسسة تحت الإنشاء (قوثم) أن تفخر بذلك أخيرا، رغم الصعوبات الجمة التي رافقت التجربة كما حسب ساكنو مقاطعة الجنة السوداء الجنوبية التي كان ظهور أداجوبا فيها، وممن تحلقوا حول تلك الظاهرة الميكانيكية غير المفاجئة التي تشبه كمثرى ضخمة عائمة تطلق بخارا ساما؛ أن ثمة اهتزازا ما على مقياس رختر قد وقع وقت الخروج ولم تسجل درجته بالطبع، فلم ترصده أجهزة مراقبة الزلازل المعطلة منذ زمن يصعب حسابه. وبعد أن انهار ما تبقى من جسور قريبة، وسقطت بعض الطرق السريعة القريبة المنكوشة مما تبقى من أخر ضربة نووية، وحدث ما يكفي من شقوق عميقة على سطح الأرض من جديد ابتلعت عددا من المارة بالقرب من سياج محطة المترو المهجورة والمطار الدولي وملعب المسابقات الاولمبية؛ هدأ كلّ شيء تماما. وكانت الأرض قد سويت مرة أخرى تحت صيحات هوووووره هووووره هووووره! ثم تداولت كلمة على نطاق واسع: هاوية هاوية هاوية! ربما كانت الكلمة الوحيدة المعروفة لمدة طويلة من عهد البرذون الكبير هنا.
انتشر غبار كثيف من جديد ممزوجا برائحة تفاح عفن هذه المرة، مما بعث على التقيؤ لكثيرين. كان قيئا أسود مثل سائل سيارات مستعمل لمدة طويلة. أما الأطفال فقد أبعدوا مؤقتا عن موقع الظهور المتوقع تلافيا لحالات اختناق مفاجئة. ولم يهتم السكان المتحلقون حول أداجوبا كثيرا لذلك الخروج، يبدو أنهم قد شاهدوا عددا من المعجزات الأرضية السابقة في حياتهم، وهذه ليست المرة الأولى التي يشاهدون شيئا معجزا من عمل مؤسسة تحت الإنشاء التي يجهلون تماما كلّ شيء عنها. لكنها المرة الأولى التي يظهر فيها كائن أوتوماتيكي من تحت الأرض بهذا الحجم، وهذه القوة، والإمكانية على تحمل درجات الحرارة العالية وهي تحمل رائدا من جوف الأرض. ثم صاح الجميع: أمة تحت الأرض! لم يهتم النظارة كثيرا للمعلومات المترشحة عن اداجوبا. وكان بعضهم يجلس بعيدا ويبتسم ابتسامة غامضة يصعب تفسيرها. كما أنهم رفعوا أخيرا كلمة معجزة من قاموسهم البسيط للتحادث بينهم، ووضعوا بدلا عنها كلمة موزه صفراء طيبة الطعم لكثرة ما حدث لهم خلال مدة الزمن الأخيرة التي تصعب معرفتها. ثم عجّ الجميع بالعويل والصراخ على حين غرة. فلم يشاهدوا ثمة ما هو غريب على الأرض منذ وقت طويل على هذا النحو اللافت. مع ذلك هم لم يرفعوا كلمة "غريب" من قاموسهم إذ من الصعوبة إيجاد معنى أخر يناسبها.
- غريب!
- جدا.
- شف شف!
- خرجت أخيرا!
- في يوم أشميتا.
- في يوم التوقف عن العمل
- أداجوبا!
- ربما. من يدري.
- لننتظر..
- مكتوب مكتوب!
- كتاب قرصان الكاريبي!
- هاللويا كولومبس!
- هاللويا مورجان!
- هاللويا اميريكو!
وعندما انتهت العاصفة الأرضية الهوجاء المائلة للاحمرار والمصفرة قليلا، من كلّ اتجاه تقريبا، بات بالإمكان رؤية بعض الطيور في السماء القريبة – هاللو!- وهي تحوم على غير هدى من خلل باب المؤسسة الحديد الرئيس الخاص الذي فتح بقوة وسط صرير متواصل وعلى ظهره طبع حرفاB.G) : ) بخطوط صغيرة ناتئة تكاد لا ترى، ومؤسسة تحت الإنشاء بدهان أصفر فاقع يؤذي العينين. وجدت أن لا يمكن أن يكون طلاء عاديا يتحمل كلّ هذه الدرجات العالية من الحرارة الجوفية. ثم ردد النظارة بصوت عال: بييي جييي هاللويا فعرفت لأول مرة بان ثمة حياة ما، بقيت قائمة على سطح الأرض، بشكل ما، كما توقع (الأخوان المتوجّسون) في معهد الدراسات البيولوجية السري التابع للمؤسسة.
- كم هو الوقت الآن؟
- ......
- في أي يوم نحن يا سادة هل تعرفون؟
- ........!
- كان يوما عصيبا. أليس كذلك؟
الجميع: هوووووووو!
العصف والخوف والانتظار الطويل في ملجأ سرّي تحت الأرض خرّب قسما كبيرا من ذاكرتي، لكن ما بقي مكتوبا على الصدر بلغة مسمارية يمكن ملاحظته محفورا بعمق واضح، ويمكن أن يتقلب بلمسة واحدة إلى اليمين. رغم إني لم أعد على سبيل المثال أتذكر اسم جدي الرابع، ولا المدة التي تصرمت منذ دخولي إلى تلك الكوة الأرضية الاختبارية، أداجوبا، ولا حتى السبب الأكيد من وجودي منفيا في هذا المكان الذي يذكّر بأفلام خيال علمي فاشلة. أما حينما وجدت حولي كل هؤلاء الأشخاص بانتظاري مثل رائد أرضي لهم وهم يحملقون بي على هذا النحو الفريد، ازدادت حيرتي جدا؛ فقد بدت الوجوه المحيطة بي مثل جماعات ولدت معي، أو انشقت الأرض عنها في لحظة معينة من المغايرة للطبيعة: لحى طويلة متشعثة، وشفاه متشققة، وعيون فقدت بريقها البشري؛ كأنما هي أضواء سيارات قديمة شاحبة لم تعرف العمل منذ عقود طويلة. أجساد هزيلة إلى حدّ كبير تذكّر بمجاعات أفريقيا الدورية في تاريخي السابق حيث يوجد مليار ومائة ألف جائع . فسألتهم:
- هل قامت القيامة؟!
- ليس بعد.
- من انتم؟؟!
- لا ندري . أنت بييي جييي!؟
- لست متأكدا من أشياء كثيرة بعد. ماذا عن المجاعة؟ لم يجدوا حلا..
- لا. طبعا. ونحن كذلك؛ هذا أفضل لنا هنا! كنا بانتظارك. ماذا تعني بكلمة متأكد؟
- آه إنها حتما ممحوة من قاموسكم يمكن يمكن يمكن: تفاحة بلا لون!
- تفاحة الأب القديم هوووووووو!
- أأنتم كنتم بانتظاري؟! أين نحن بالضبط؟
- هاللويا! لا ندري.
- هل وقعت الواقعة الرجمة الأخيرة؟ وهل تعرفون ما الذي حدث فعلا؟ أنتم كنتم على السطح، أليس كذلك؟
- لسنا متمكنين.. أنت أعلم بكلّ شيء منا: تفاحة حمراء خائسة!
- ها؟! لماذا تجتمعون حولي إذا؟؟
- لأنك الأعلم؛ هكذا هي التعليمات لدينا: هووووووووووووووووووووو!
- أية تعليمات؟! لا أفهم.
- نحن لا أحد يتذكر.. لسنا متمكنين؛ لكنها التعليمات في يوم أشميتا: الخروج!
- غير مهم. الآن. إطلاقا.
- هووووووووو!
- هوووووو!! أية حيرة.
ثمّ هزّ الجميع رؤوسهم المشعثة بالقبول أخيرا. مجموعات متناثرة من الرجال والنساء المتحلقات وراءهم، وهم يحيطون بالملجأ الأكادوبي الكبير الذي خرجت منه من كلّ جانب. كانوا يبدون وكأنهم من سكان كوكب آخر بتلك الثياب المهلهلة المختلفة؛ أو هم كومبارس يعملون في فيلم فلاش جوردن قديم: بنطلونات متهرئة قصيرة، وسترات ممزقة مائلة للسواد، وقبعات بأشكال هندسية غريبة. كان البعض يضع خوذا مضادة للعصف النووي. جميعهم حفاة تقريبا. ما عداي، فقد كنت انتعل حذاء جلد تمساح طبيعي. ربما وجدوا هذه الملابس التي نقلها العصف النووي من أماكن بعيدة: هذا ما أتوقعه ولم أسألهم.
- هل انتم متأكدون إنكم لستم كومبارس في فيلم؟
- ماذا تقصد بكومبارس وفيلم؟
- أوه.. حسنا: هل كنتم في ملاجئ تحت الأرض مثلي؟
- كنا في حفر.. حفر.. حفر.. هل تفهم؟!
- ملاجئ ملاجئ يعني!
- حفر حفر!
- هذه الصحراء ممتلئة بكم، أليس كذلك؟
- ممتلئة لدينها!
- لدينها!!
- طبعا.
- ولم يخبرني الأخوان المتوجسون شيئا عنكم. يا لي من متطوع تافه ؟!
- بييي جييي! غريب!
- بييي..جييي.. اخبروني شيئا عنكم في الأقل.
- كلها، تقريبا، تحتوي، على أمثالنا. لدينها!. ولكن عن أي إخوان تتحدث أنت؟
- الأخوان المتوجسون!، جماعتي، هناك؛ في يوم ما؛ وضعوني هنا: بييي جييي في اداجوبا. هل سبق لأحد منكم أن التقاهم من قبل؟
- هل تهذي؟ لا أحد غيرنا على هذه الشنين، وأنت دليلنا الآن.
- دليلكم في شنين!
- دليلنا!!
- لكن الإخوان لم يذكروا لي ثمة شيء من ذلك.
- هووووووووووو!
- مرة اخرى؟
- هووووووووووووووووووووووووووو!
- أسمعوا هل يوجد مخفر للشرطة قريب؟
- شرطة! ماذا تقصد؟
- الدولة الدولة!
- بي جي!
- شيوعيون، انتم؟
- هوووووووو‍! أداجوبا العظيمة؟
- اللعنة: يعرفون أسم المحطة الأرضية أيضا
- مكتوب مكتوب!
- هوووووووووو!!
لا أتذكر على وجه الضبط الجهة التي عينتني في أن أكون دليلا لأحد ما في صحراء غريبة. قالوا لي ستخرج وحدك من جدار متوحد في صحراء لا نهاية لهان أخيرا، وبعد مسير أربعين عاما سترى أرض شنين. التيه الأعظم. هل كانت كذبة بيضاء من اجل التجربة؟ لكن خروجك من اداجوبا سيتم بنجاح بإذن الله - آه.. اداجوبا! أخيرا ماذا يمكن أن تحملي بعد ذلك؟- وستكون الخضرة تاريخا بليدا على الأرض. والغيوم تزرق ماء حامضيا ممجوجا. ستتعلم من التيه الأربعين ما لم يتعلمه رجل أخر. ومن الصعب التأكد في كونها غيوم أرضية. لكنني لم أجد كلمة مناسبة لها – آسف - أنحت أنت كلمة لها. تخونني الحروف غالبا. كم أنا ضعيف. والطلاسم تحاصرني. والمعارف تهرب من كفيّ. أينما حللت لا أجد ما ارتوي به. عطشان منذ عصر الكرب وسفن البلاء التي حلّت بي. كنت الثاني والسبعين الذي شهد العطش الأكبر هناك. لماذا لم نسق ماء منذ قرون؟ أنت ههههي! لا تفقه كثيرا مما نقول.. لكنك ستتعلم ما لم نعلمك إياه. دوزنة ما ترى عن بعد. وترى في نفسك طلسما. ربما لن تجد مخلوقات مفيدة لمعارفك؛ وهذا كلّ ما في الأمر. تعلم وحدك. أحافير لا نهاية لها. وربما لن تلتقي بشيء مهم حتى مسافات بعيدة. أصبر على ما ابتليت به. لا تستطيع ذلك؟ كم أنت واهن وبليد؟ لم يعطوني ولا إشارة واحدة عنهم. لا يمكنني أن أنسى ذلك. كما إني لا أتذكر ثمة من ذكر لي وجود أشخاص ما معي في هذه الصحراء الاختبائية. هل هي خدعة ما تعرضت لها من جماعة علماء التحولات البيولوجية؟ لا يمكن أن يخدعني الإخوان بهذه الطريقة على أية حال: أنا متطوعهم المدلل. كانوا يقتربون مني حثيثا. خشيت على نفسي منهم لأول مرة.
ربما يكون (الأخوان المتوجسون) منظمة إنسانية، أو جماعة دينية معزولة، أو هيئة دولية.. من الصعب تحديدهم الآن. رغم إني عملت معهم مدة طويلة من الزمن لا أستطيع تحديدها. أشياء كثيرة محيت من ذاكرتي ووضعت في سلة مهملات كومبيوتر. يصعب الاستعادة دائما. عذرا. فكلّ ما أتذكره عنهم: أولئك الرجال الذين اجتمعوا بي أياما طويلة، ووضعوني في هذا المكان النائي، ثمّ زودوني بما يقيم أودي مدة من الزمن غير محددة.. مع سلسلة من التعليمات الصارمة، وقالوا آخر مرة حسبما يترآى لي: هنا، فقط، يمكنك أداء المهمة كاملة.. حينما تشعر باهتزاز الأرض؛ اذكر أسم الله الواحد في العلى.. لا تركن إلى الخوف أبدا، لأن ما يحدث سوف يقع على جميع الخلق من بشر وحيوان ونبات.. يُحدث هذا الشعور كثيرا من القبول في النفس.. أخطاءُ أشخاص قليلين يتحملها كلّ البشر تقريبا؛ وكلّ ما سيكون هو مجرد تجارب على الأرض.. فإن نجوت: أستعمل هذه الخريطة، وهذه البوصلة، واقرأ في كراس التعليمات جيدا.. ستجد شنين حتما.. وأحرص على هذا الدسك الذي يحمل جميع أسماء الذين ولدوا معك.. من قبل ومن بعد..لا تدعه يسقط من يدك أو يسرقه منك احد.
- لست الوحيد لست الوحيد الآتي من رحم أداجوبا!
- لست الوحيد!
- هل سبق لكم أن رأيتم أشخاصا مثلي؟
- لا.
- لست الوحيد إذا!
- أنت دليلنا!
- إلى ماذا؟
- إلى شنين!
- هل تعرفونها أيضا؟!
- نعرفها!
- كيف؟؟
- مكتوب مكتوب!
- أين؟؟
- معك.
سوف تنجو في أقل تقدير، مثلما خططنا ما لم تحدث أخطاء على مستوى الإستراتيجية، لأن الملجأ الخاص بك حصينا بما فيه الكفاية أيها الأخ المتوجّس.. واداجوبا أعدت على نحو لا تقبل الأخطاء مطلقا. والله أعلم. وهذا كلّ ما يمكن أن نزودك به في الوقت الحاضر. حظا سعيدا. وداعا. نرجو لك حياة أقلّ ألما بعد أن تنجو من هذه الورطة أيها المتطوع. المسافة من الملجأ إلى أقرب نقطة حضرية حوالي (15) كيلومترا على وفق مقياس رسم الخريطة. يمكن السير بخطّ مستقيم في الصحراء الخلاء الآن. كان الأشخاص الغرباء يتكاثرون من وقت لآخر.. يمكن مراقبة - الآن- ناجين من مسافات بعيدة أيضا. الجميع بالانتظار تقريبا. من الصعب تحديد المدة التي مكثت فيها في الملجأ الصحراوي. كما انه من المستحيل تذكّر جميع التعليمات الشفهية التي علمها لي (الأخوة المتوجسون). وما أن بادرت بالسير حتى لحق بي الجيش القبلي الغريب. توقعت ذلك. فلم ألتفت إلى الوراء أبدا. وشعرت بالخوف لأول مرة. فبدت خطواتي ثقيلة وطويلة إلى حدّ ما. من المثير في النفس أن تخطو ويخطو خلفك رجال ونساء وأطفال يحملون قطع حديد خردة او معاول بلا ماسكات أو كبات سيارات محطمة وحتى أعلام فقدت لونها.. كانت الصحراء تحتوي ما يكفي من الأشياء للالتقاط.
- هل كان العصف قويا إلى هذه الدرجة حتى نقل كلّ هذه الأشياء؟
- ربما.
- عصف مروّع كان.
- مروّع.. كان.
- لماذا تلحقون بي؟!
- ألست دليلنا بييي جييي؟
- من قال لكم ذلك؟
- هوووووو!
- من: هووو هذا؟
- هووووووووو!
- أأنتم ممن يعرفون ما جرى لكم؟
- لا نعرف شيئا.
- ماذا تريدون مني إذن؟!
- نلحق بك.
- إلى متى؟؟
- لا ندري: مكتوب مكتوب.
- أين مكتوب؟؟
وأزاح بعضهم الأسمال عن صدره فرأيت الكتابات بارزة عليها؛ كعقد لآليء غير منتظمة؛ عندئذ تيقنت أن ليس في الأمر خطأ أو مزحة ما. وكانت الشمس تختفي خلف غيوم حمر مثل قرص مدمى جديد. ربما لم يعد ثمة شمس حقيقية؛ وهذا كلّ ما تبقى لنا في هذا المكان. والهواء ذو رائحة مليئة بالبارود المحترق. في أية ساعة نحن؟ يا للبحث عن الزمن الفارغ: يمكن الرؤية عن بعد بقايا سيارات محترقة ونثار طابوق جيري أسود كالحا على شكل موزات محترقة سخامية على طول الطريق. لا يتعدى مجال الرؤية عشرة أمتار تقريبا. وحينما رأيته حسب ما تشير له الخريطة، كان يعدّ بمثابة كشف أولي مهم. منجاة بالنسبة لي. أما هم فقد كانوا غير مهتمين. ربما يعرون المكان جيدا قبلي. لن اسألهم. لم يعد ثمة أهمية لأي سؤال.
كان يقع على طرف صحراء وهو يشبه عن بعد لطخة سوداء - بلا قصد - وسط لوحة رمال صفر. إنه الهدف المطلوب نفسه تماما، حسب البوصلة والخريطة وكتاب التعليمات: كان مربعا متوحدا من جدران طابوق إسمنتي رديء لم تجرِ عليه عمليات ملاط و سقف من صفيح وضعت عليه قطعة نايلون كبيرة ثبتت بقطع إسمنتية أصغر حجما. كانت الريح العاتية قد استطاعت تمزيق جانب من قطعة النايلون الأبيض على الجانب الأيسر لتحدث خفقا متواصلا في الأعلى..لكنه على أية حال لم يكن مكانا مهجورا منذ زمن بعيد.. صحت:
- السلام عليكم!
- شالوم!
- هآآآي هل ثمة احد في الداخل؟
وصاح الجميع خلفي:هووووو! هووووو!
لم يكن عمود الكهرباء المعوج ذي علاقة مباشرة بالبيت. ربما هو من مخلفات شركة نفط كانت تعمل في التنقيب عن آبار ذات ناتج تجاري، ورحلت عن المنطقة بسبب نضوبها، أو عدم اكتشاف كميات تجارية مناسبة. يحدث هذا الأمر كثيرا في أعمال التنقيب. كان ثمة عمال حفر هنا حتما. ارتدى بعضهم بدلات عمل قديمة متهرئة وخوذ كالحة. يعكس الوضع المزمن المليء بالغرابة مدى الزمن الذي قضيته في الملجأ. ستتعلم من غرابتك أخيرا. لا تتعب نفسك بمزيد من الأسئلة. ستتكشف لك العلاقات رويدا رويدا. أصبر. فالصبر كما تعلم مفتاح اداجوبا. يمكن قياس ذلك من العلامات التي لما تزل مكتوبة على العمود باللون الأصفر الفاقع الممسوح. تأمل جيدا أيها المتطوع: آخر ما تبقى بعد الضربة الكبرى. آه.. من المستحيل معرفة الزمن الذي استغرقته أو أستغرقناه جميعا هذه المرة. الحروف ممسوحة تماما بسبب ريح العصف الأخير. هل زمني هو زمن هؤلاء الملتحقين بي؟ لماذا أسأل؟ مرة أخرى لأكن عصاميا معرفيا كما علمني البي جي تماما.
لا احد يعلم على وجه الضبط صمود ذلك العمود وحده بعد الاهتزاز الكبير وسط صحراء زاحفة على المكان، وقوة الريح تبدو مثل لسان لاعق للأشياء. ليست ريحا عادية مما أعرف سابقا. من الصعب وصفها. بيد إن من الممكن تذكر زفير هوة نارية او رجل قطار بخار قديم. العمود والدراجة والبرميل كانت أكثر الأشياء غرابة في أعين الرجال والنساء الواصلين توا من جوف الصحراء معي، الذين افترشوا الأرض قبالة البيت، في حين تطوّى آخرون كأعجاز نخل عن بعد بانتظار ما يكون.
- خدعة كلّ ما كان!
- أداجوبا!
- حتى اداجوبا!!
- هوووووووو!
- كم هو عددكم بالضبط؟
- أنت اعلم بذلك.
- أنا أيضا!؟ هل تقصدون إني "كلّ شيء" بالنسبة لكم الآن؟
- كلّ ما كان وما سيكون.
- لماذا تحملقون بي وبالأشياء هنا؟
- لأننا لم نر مثلها من قبل.
- كيف؟!
- يمكنك وحدك أن تقدم لنا تفسيرا.
- هل أنتم جادون؟!
- وهل تظن أن في الأمر مزحة بي جي؟
بالإمكان ملاحظة الوجوم المطبق للأطفال الذين لاذوا بجنبات أمهاتهم دون أن يحدثوا أي ضجيج مألوف: وجوه صفر وشعور شعثاء وعيون غائرة. من الصعب أن نحسبهم أطفالا عاديين. ولم يحادث احد آخر. نساء غريبات، أمهات من طرز خاصة، لم اسمع لهن صوتا واضحا طوال الوقت. وجلس الجميع في صمت كأنهم بانتظار شيء ما قد يأتي من السماء، او يأتي من جوف الأرض، أو تحمله ريح.. سيان. بالقرب من المنزل الصحراوي ثمة برميل رمادي صدئ مازال يحتوي بعض الماء الممزوج بالرمل في قعره. يمكن قياس الزمن من خلاله : إنه بضعة أيام فقط. شرب منه الجميع حتى كاد أن ينضب.. قال احدهم وهو طويل القامة نسبيا لكنه يشبههم كثيرا، ويبدو ذو كلمة مسموعة بينهم: "الماء قليل. بللوا أفواهكم فقط.. ولنرى ما هذا المكان جيدا" لكن بعض النساء سقين أطفالهن رغم التحذير.. كان ينظر إلى كلّ شيء بعين حذرة دون أن يعير لي اهتماما واضحا بعد ذلك منذ وصولنا إلى البيت؛ وصولنا إلى هذا المكان قد قلل من أهميتي في القيادة وسط الصحراء.
لم يتمّ وضع غطاء على البرميل.. يوجد الغطاء على جانب منه مرميا كأنه شيء مرفوض.. كما يوجد في الجانب الآخر دراجة نارية من نوع "هوندا" كان يستخدمها شرطة المرور للحاق بالسائقين المخالفين. لم تكن الدراجة مهملة بعد ملاحظة نفاد الهواء من إطارها الأمامي فقط، ووجود بعض الوقود في خزانها. تأملها طويل القامة بغرابة وقال:
- وما هذه؟!
- دراجة نارية.
- وما الدراجة النارية لديكم؟
- مثل حصان .. حديدي..
- هل تمزح؟
- هل تعتقد إن هذا هو وقت مزاح ؟
- هل تصهل هذه الدراجة كحصان مثلا..؟
- تصهل.. تطلق صوتا.. ديد ديد!
- كيف؟ علمني!
ضغطت على زر التصويت فأطلقت صوتا ممطوطا أفزع الجميع.. تأكدت الآن إن الضربة التي حدثت كانت قصيرة الزمن ربما أفقدت الذاكرة أيضا. ضربة بيولوجية. رغم ذلك لكني لم أستطع تفسير وجود هؤلاء القوم خلفي.. قال أحدهم:
- خلقها الله؟
- خلقها أبن آدم.
- ....!
- إنسان، يعني.
- أستغفر الله..تعرف آدم أنت؟
- طبعا..
- أشكّ في ذلك.
- لماذا؟
كانت الأرض معروشة على غير عادتها من الجانبين. ثمة بقعة خضراء من حشيش وشجيرات سدر ترآت لنا بما يطمئن النفس بعد رحلة مضنية. حسنا لم تتضرر بعض النباتات على أية حال. ويوجد بعض الذباب؛ وهو ما يبعث الأمل في النفس. أحببت الذباب كثيرا. وبدت أشياء تخرج من جلد الرمال بغتة في اخضرار شبه مواز لشريط صحراء لا نهاية لها. وهم على العموم رجال يرتدون ملابس مهلهلة رثة، غير ملونة، تكاد أن تتخذ لون الرماد الغامق. وهم يمسكون بأياديهم قضبان حديد أو عصوات من أشجار محترقة. ربما كانت منذ زمن بعيد هنا.
وكان من الصعوبة عدّهم.. يشمخون في القديم. كانوا متناثرين في الخلاء البعيد. وثمة من لايزال يسير والريح تعصف بصوت غريب أقرب إلى بكاء أطفال جماعي. ثم نام الجميع دون أن يعيروا لمصيرهم اهتماما ما. كنت الوحيد الذي يقف مبهورا عن بعد. أما طويل القامة فقد بقي مقرفصا وهو يسند ظهره إلى الجدار القريب من الباب المخلوع والمنبوذ بعيدا. لا شيء داخل البيت غير بقايا لفائف شعر نسائي وخرق صغيرة وعلب صدئة. قال بصوت محشرج:
- يا سيد.. هل كنت تسكن هنا من قبل؟
- لست ادري.
- فلماذا جئت بنا إذا؟
- هذا مرسوم في الخريطة، هل ترى؟ وكتاب التعليمات، ومؤشر البوصلة هذا. هل تعرف؟
- لا أفهم.
- هذا أفضل! لماذا تتبعوني إذا؟
- كارتون موز مسموم!!
- أيضا.
- أيضا!
يتسلق فتيان البنيان، بعد الهرج؛ أعمارهم بين الخامسة عشرة والعشرين. عراة حفاة. على جلودهم وشوم ملونة: أفاع وطيور جارحة وشارات لجماعات خاصة. عنيفون. يقتلون على الظنة والشبهة. ويحملون أزرار لإطلاق صواريخ عابرة للقارات: يمكن لكلّ مجموعة أن تطلق صواريخها على حدة. زمن بلا ضوابط يتحكم فيه بغاة صغار. البغاة الكبار أقلّ ضررا. ولحظة يفعل ذلك بعض أولئك الذين لما ينبت الزغب على وجوههم ستحدث الكارثة الكبرى. فيكثر الهرج وتشيع الفاحشة بين الناس على نحو اكبر. يقل الطعام و يهمي ضؤ الشمس، وتموت معظم النباتات. تنفق جميع الحيوانات اللبونة تقريبا ما عدا بعض البشر المختارين المتحصنين. لا أحسبكم ترون ذلك في وقت قريب، لكنه سيحدث، حتما، في يوم ما. نحن لا ندعي معرفة الغيب. لكنه ما يودع في السر.سرّنا جميعا؛ نحن " الإخوان المتوجسون" آخر المؤمنين بالقادم. أهلا بك بيننا أيها الأخ المتطوع. لن يدرك ذلك أولادكم ولا أحفادكم، ولا حتى أحفاد أحفادكم.. مكتوب ذلك في كتاب المصحف الخاص بكم.. ولا حتى أحفاد أحفادكم سيهتمون بما سيكون: قلة من "المتطوعة" الصحراويين سيدركون ما يكون، اجل، هم آخر الوقت: يوم يقتل الرجل رجلا فلا يعرف لم قتله؟ ولا يعرف المقتول لم قتل؟ ويوم يتسلق الصبيان البنيان.. أعاذكم الله من تلك الفتن: وهي فتنة نائمة يلعن الله من يوقظ رأسها. كنت أسير في أول زمان الفتن، حاملا عصاي، وكتاب التعليمات، ومزودة خبز يابس وتميرات على ظهري. أسير محني الظهر في أخر الزمان، وحدي، والعالم محمرّا يميل إلى الاصفرار دائما؛ كأن هبة عارمة من السماء أحالت كل شيء إلى هباء. وكانوا يتبعونني من أجل ماء قليل وطعام أقل. من انتم؟؟
لم تعد الخريطة مهمة، ولا البوصلة، ولا كتاب التعليمات. حفظت كلّ شيء من جديد عن العالم. لكني لست ادري كم من الأتباع بلعتهم الصحراء خلفي.. لم اسأل أحدا أبدا.. وأنا أسير وسط خرائب مدن سخامية فارغة وموحشة. الرحلة البائسة من جديد. في الأصل، كانت أمنية العيش طويلا إلى ما بعد المائة عام بالنسبة لي، ثم، وبعد أن استمر بنا الزمن، ولله الحمد والمنة، أصبحت المئات ثقلا حقيقيا؛ وما لبث أن أصبح الألف الأول واقعا مليئا بالحيوان والميتات والأهوال.. آه.. ما أبشع أن نعمر طويلا لنرَ ما بعد الهرج كلّه. لم يكن الإخوان المتوجسون يدركون النهايات. اكتم، أيها الأخ ما تعرف، ولا تعلّم أحدا؛ ليس ثمة ما هو أسوأ من فض السرّ.. ما رأيت.. وما سترى.. أكتم!.. وتعلم: أن البوح بالأسرار ممنوع، والوقوع في مزالق اللسان كثيرة. والموت؛ هذا السيد البعيد عنك، الآن؛ محض زائر بالنسبة لنا على الأقل؛ وإلا ما الذي يعنيه حقا أن ترى كل هذا الزمن الطويل؛ وكلّ أولئك التابعين لك؟ غريب. أليس كذلك؟! أغرب أغرب.
سأمسح غريب من قاموسي لم يعد لها أهمية بعد هذا. أما ما يكون بعد ذلك لمن يريد فضّ السرّ، فهو الخطر الماثل والزوال القاتل؛ وهو قابع فيك، يعذبك - نعرف ذلك عنك منذ البداية- ومنذ ان تطوعت للعيش في ذلك الملجأ المعزول وسط الصحراء. متطوع غر. ثمّ قررت البقاء بعد التعرض للضربة. اجل. في هذه الماكينة السوداء التي تعلّمها جميعكم، بلا استثناء؛ ما أن تنهمر الطلقات من فوهات النار حتى تبدأ رحلات غياب لكثيرين.. من قتل من؟ ولم؟ من نجا ممن؟ وكيف؟ ولماذا كان كل ذلك؟ غير مهم الآن. هرج هرج!. كلّ ما كان كل ما سيكون.. المهم الرؤية الآن في الأقل. هل فهمت مهمتك؟ بطاقات تعريف حديدية مصبوغة بلون رصاصي لماع والأسماء المحظور عليها مع فصيلة الدم. أوه.. ستواجه مشكلات كثيرة، لا حصر لها إن نجوت.. لكننا وضعنا كلّ شيء لتنجو .. فقط. لن يعودوا يمنحون الموتى أقراص هوية، طبعا، في السنين القادمات.. لن يكون الموت مشكلة كبرى.. طبعا طبعا!.. ولن تكون ثمة مقابر.. غالبا. عليك أن تقتفي الأثر..
كان البيت يختفي خلفي مثل نقطة متلاشية وسط اصفرار مثل ذكرى قابلة للنسيان بسرعة.
من الصعب معرفة المكان الذي انطلقت منه، ولا الجوف الذي كانت تقبع فيه طوال الحقب الماضيات. اداجوبا كانت من أكثر العارفين بموعد الخروج ومكان إنشائها. الملك الشمالي جاء من أقصى الإمبراطورية ليتعلم منها نهايته. ولا احد يعلم ما الذي قالت له آداجوبا ساعتها، لكنه بعد خروجه منها أعلنها زوجة مفضلة له. وبارك سين الزواج من عل. صيادو الذئاب بواسطة النسور، أولئك الساكنون الصحراوات البيض في أقصى الأرض؛ يعلمون أكثر من غيرهم ماذا يعني عواء الذئاب في تلك المنطقة البعيدة. مكتوبة الأسماء على الفروج دائما. أسمك مطبوع منذ ألف عام على فرجي. يكون ذلك للزناة وغير الزناة. سترى إني بنت باكر منذ ألف عام. وستطأ بعدها أرضا عصية فتكون سيدها: تسبي النساء والذراري وتقتل ما تشاء من الرجال لا قلاع تثبت قبالة جندك ولا حصون. لكنهم سيظهرون مرة أخرى. ليس في زمانك. لا تقلق.
شنين: أسم هذه الأرض.
وعليك الرحيل إلى الصحراء.
من اجل الرؤى وحدها.
مكتوب ذلك
في التعليمات
دقق جيدا قبل أية خطوة
نحن إخوانك المتوجسون
بيييي جيييي
تذكر ذلك.
ألقيت بالبوصلة أولا. ثم بالخريطة وسط دهشة الجيش القبلي. وعويت بصوت مسموع لأول مرة قبالة صحراء لا نهاية لها. تأمل البعض منهم ما ألقيت جيدا. صاحوا بصوت واحد:
- هووووو!
- مرة أخرى: اكره أن يلحق بي احد.
- بيي جيي
- كانت خدعة! كانت لعبة أليس كذلك؟!
- هوووو!!
- لا أظن أن ثمة أحدا سيلحق بي بعد ذلك.
- وداعا!
- وداعا. هوووووو
- ما اسمك؟
- وانتم هل لديكم أسماء؟
- طبعا.
- غير مهم.
- هوووووو!
كنت أخطو بتثاقل وحدي.
لاشيء غير الخطو إلى الأمام في النهاية
لاشيء مطلقا.



#رياض_الأسدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تلال القادم/ رواية فانتازيا: الفصل الثالث
- عدميات
- صلاح شلوان:عالم الميناتور في ميسان
- تلال القادم/ رواية فانتازيا: الفصل الثاني
- الواقعية القذرة العربية.. آتية؟
- تلال القادم/ رواية فانتازيا: الفصل الاول
- مراجعات غير مطمئنة لعالم محمد خضير( محنة الوراق)
- لم يتبقَّ لدى نوح من ينقذه
- بانوراما ليل سعدي الحلي
- عجز مكتسب: قفص حديد امن البصرة
- على ماذا يراهن المالكي في الانتخابات القادمة؟
- زخرف: ملحمة ظهور محمود البريكان مؤخرا
- الأدب السرياني العراقي دليل مضاف على وحدة الثقافة العراقية ا ...
- تعليم الببغاء صوت إطلاق الرصاص
- عراق ما بعد الأربعاء الدامي.. ( المشروع الوطني العراقي) امكا ...
- اثنا عشرية آدم
- العراقيون في الداخل/ يستغيثون لتدخل العالم: scandl الأربعاء ...
- (خرنقعيون): لن تنفعهم كريما الوطنية
- الإسلاميون العراقيون: (جبل التوبة) وماذا بعد؟
- لا يصلح العطار ما افسده الاميركان!


المزيد.....




- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الأسدي - تلال القادم/رواية فانتازيا الفصل الرابع