نجيب الخنيزي
الحوار المتمدن-العدد: 2853 - 2009 / 12 / 9 - 13:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الخطاب الديني التقليدي/ المحافظ السائد، يتمثل في ما هو صادر من قبل المؤسسة الدينية الرسمية، عبر منتسبيها ورموزها وممثليها من قضاة، علماء، أئمة وخطباء مساجد، ودعاة وغيرهم من رجال الدين الذين يتلقون مرتباتهم ومخصصاتهم من الوزارات والهيئات الدينية المختصة في الدول العربية والإسلامية. وهناك الخطاب الديني التقليدي المتمترس في الحوزات العلمية ، وبين كبار المراجع ( الشيعة ) الذي يجري تمويلهم أمامن قبل الدولة كما هو حاصل ( جزئيا ) في إيران ، أو من خلال " الخمس " المدفوع من قبل الناس.
في السعودية - على سبيل المثال - هناك وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وزارة العدل، وزارة الحج. وإلى جانبها توجد هيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للقضاء والجامعات والمعاهد الإسلامية التي تخرج الآلاف سنوياً. كما نستطيع أن نضيف إليها رابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب المسلم رغم شخصيتهما الاعتبارية «المستقلة شكلياً» وما يتبعها من مرافق ومناشط دينية ودعوية تابعة لها تعمل وتنشط في داخل السعودية وفي العالمين العربي والإسلامي وعلى الصعيد العالمي ككل.
كما يوجد ما يماثل أو يشابه ذلك من مؤسسات في إيران الإسلامية ، حيث السلطة المطلقة " للولي الفقيه "، إلى جانب وجود المرجعيات والحوزات والمؤسسات والمراكز والهيئات الشيعية ومنها المنبر الحسيني ومواكب العزاء و العتبات والمزارات المقدسة .
هذا الخطاب الديني التقليدي/ المحافظ ( السني والشيعي ) وبشقيه الرسمي والأهلي وبغض النظر عن تمظهراته المذهبية والفقهية، أو شخوص رجالاته ، يتسم عموماً في مضامينه وأطروحاته بالجمود، الحشو، التكرار، والإقصاء للآخر وإدعاء امتلاك الحقيقة المطلقة من منطلق «الفرقة الناجية»، وتحاشي الخوض في الشأن ) الدنيوي) العام، والإصرار على مواصلة الطرق على قضايا هامشية بعيدة عن الحياة والعصر ومجافية للعقل من خلال اصطناع ثنائيات متقابلة عقيمة ، كالنقل والعقل، القديم والجديد، الخاص والعام، الأصالة والمعاصرة، المحلي والوافد، الأيديولوجيا والعلم، أو النبش الممل لموضوعات سقيمة، والإصرار على استحضار وتأجيج وترهين صراعات سياسية ومذهبية قديمة لها جذورها (السياسية والاجتماعية والأيدلوجية)، المرتبطة ببيئتها الموضوعية - التاريخية المتعينة آنذاك. كما يتسم هذا الخطاب بأنه وثيق الصلة بمصالح الحكومات، أو يعبر عن مصالح وامتيازات خاصة لمجاميع دينية معينة. الجديد والخطير أننا بتنا نشاهد ونلمس على مدى العقود الثلاثة الماضية صعود وتنامي وتصدر جماعات الإسلام السياسي (الراديكالي) التي أستفادت من خلو الساحة ، و حال الفراغ الناجم من تصفية وإقصاء وتحجيم التيارات السياسية والفكرية الأخرى من قبل النظم الإستبدادية / التسلطية الحاكمة على مدى العقود الماضية ، إلى جانب تداعيات إنهيار نموذج " إشتراكية " رأسمالية الدولة البيروقراطية في الإتحاد السوفيتي السابق وبقية دول المعسكر " الإشتراكي " والتراجع والإنحسار ( المؤقت ) لجاذبية الأفكار والأحزاب الإشتراكية والعلمانية والتقدمية على الصعيد العالمي ، وتصدر وهيمنة وإستفراد الرأسمالية " الليبرالية الجديدة " المتوحشة والتي عبرت عنها " الريغانية " و " التاتشرية " منذ مطلع الثمانينات ، إلى جانب الفشل الذريع لغالبية النظم العربية والإسلامية في تحقيق شعاراتها وإستهدافاتها المعلنة في الإستقلال والحرية والعدالة والتنمية بكافة أبعادها السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية ، مما ولد حال من الإحباط واليأس لدى الغالبية الساحقة من الناس في المجتمعات العربية ، ما أتاح المجال أمام جماعات الإسلام السياسي لتصدر الساحة الجماهيرية عبر رفع شعارات «الإسلام هو الحل» و«الحاكمية لله» و طرح مقولات " الولاء والبراء "، «دار الحرب ودار الإسلام»، «جهاد الدفع»، و«جهاد الطلب»، وذلك بهدف تعزيز نفوذها في المجتمع وكمطية للوصول إلى السلطة بالقوة ، وفي بعض الحالات لا تتوانى في أن تنخرط (حيث يكون متاحاً لها) وتشارك لأسباب تكتيكية في الانتخابات العامة للمجالس النيابية والبلدية، مع أنها في الأصل تعتبرها بدعة مستوردة من بلاد الكفر ، وبالتالي لا تؤمن بها ابتداء ، وليس أدل على ذلك تصريح عباس مدني في أعقاب فوز جبهة الإتقاذ في إنتخابات الجزائر في عام 1991 ألتي أجهضتها المؤسسة العسكرية الحاكمة بقسوة غير مبررة بأنها ستكون الأخيرة .
هذا الخطاب الأصولوي/ الإسلامي يثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام والشكوك والمخاوف الجدية والمشروعة بشأن حقيقة موقفه من قضايا محورية وأساسية مثل المواطنة المتساوية بين الجميع (أفراد ومكونات دينية، مذهبية، وإثنية ( وقيام دولة القانون والمؤسسات، وفيما يتعلق بقيم ومعايير إنسانية مثل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، أصبحت كونية الطابع، وملزمة للجميع من خلال المواثيق والعهود الدولية التي وقعت عليها غالبية الدول العربية والإسلامية، رغم تنصلها في الغالب عن تمثلها في التطبيق العملي. يستند هذا الخطاب إلى الصعيد الأيديولوجي إلى تفسير وتصور أسطوري (ميثلوجي) أو فكر سلفي متزمت ومنغلق، يجتزئ الآيات القرآنية، ويخرجها من سياقاتها الدلالية ، متجاوزاً الواقعة التاريخية وأسباب النزول، ومتجاهلاً الفرق بين الناسخ والمنسوخ، والآيات المحكمات والآيات المتشابهات في القرآن . والأمر ذاته ينطبق على التعامل مع مرويات السيرة والأحاديث النبوية، حيث لا يتوانى في استحضار الضعيف والمرسل منها، من حيث الإسناد ومدى مطابقتها لمنطوق القرآن الكريم الذي هو الأصل الديني الثابت، علماً أن بداية تدوين الحديث يعود إلى بداية النصف الثاني من القرن الهجري الثاني وحتى نهايته، أي بعد مدة طويلة من وفاة الرسول محمد (ص) الذي رفض بقوة تدوين السنة ونقل الرواة الأحاديث عنه في حياته، وقال «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار». وذكر في موضع آخر «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» . والمعروف أن الخليفة عمر، وفقا لما جاء في بعض كتب التاريخ والحديث ومنها الصحيحان، أمر بجمع وحرق كل ما جمع من الأحاديث المنسوبة للنبي، ومنع الصحابة من نقلها حرصاً منه لعدم تعرضها للتزيف والأهواء والتوظيف النفعي، وهو ما أنتهجه بعض الوضاعين من الرواة فيما بعد، إبان الحكمين الأموي والعباسي، حيث برزت وترسخت ظاهرة وضاع الحديث وفقهاء السلاطين، كما أن أول تدوين لتفسير القرآن يرجع إلى ابن جرير الطبري ( 310 هـ). والمعروف أن جزءاً كبيراً من الأحاديث المنقولة، وبعض التفاسير خالطتها كثير من اساطيرالإسرائيليات والخزعبلات والأمور المجافية للعقلانية وللمضمون الديني الأخلاقي الرفيع للقرآن الكريم. وقد حذر من ذلك حبر الأمة الصحابي الجليل وابن عم النبي عليه السلام عبدالله بن عباس حين قال «لقد أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل وأنه سوف يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيم نزل فيكون لهم فيه رأي ثم يختلفون في الآراء ثم يقتتلون فيما اختلفوا عليه». وكأنه يستقري المستقبل فيما نجم من فتن وحروب أهلية وثورات وتمردات المستضعفين ضد الظلم والاستغلال، كما تمثل في الممارسات الإقصائية والعنيفة وردود الفعل العصبوية ما بين الفرق والمذاهب المتناحرة على مدى التاريخ الإسلامي، وما نشاهده في السنوات الأخيرة في المنطقة العربية / الإسلامية من إحتقان وعنف و إرهاب ومذابح وقتل متبادل وفقاً للهوية الدينية، المذهبية، والإثنية . تلك الأوضاع المأساوية السائدة ، تتطلب إعادة غربلة و تجديد الخطاب الديني وتقعيده على أرض الواقع ( الدنيوي ) وبما يستجيب مع متطلبات ومستلزمات بناء الدولة العصرية الحديثة ، دولة القانون والمؤسسات الدستورية ، القائمة على الفصل بين السلطات ( التنفيذية والتشريعية والقضائية ) الثلاث ، والتداول السلمي للسلطة ، المستندة إلى مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات للجميع و ترسيخ أسس العدالة و التعددية والمشاركة السياسية والحريات العامة للشعب . هذه المهام ليست مسؤلية جهة محددة ، بل هي مسؤلية مشتركة للجميع ، ملقاة على عاتق الدولة والمجتمع والنخب والتيارات المختلفة بغض النظر عن منحدراتهم ومكوناتهم الإجتماعية ، الدينية ، الطائفية ، الإثنية ، والعرقية أو مشاربهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية .
#نجيب_الخنيزي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟