أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق - نجيب الخنيزي - الانتخابات المقبلة ومتطلبات إعادة بناء الدولة العراقية















المزيد.....


الانتخابات المقبلة ومتطلبات إعادة بناء الدولة العراقية


نجيب الخنيزي

الحوار المتمدن-العدد: 2835 - 2009 / 11 / 20 - 22:11
المحور: ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق
    


تأسيس الدولة العراقية الحديثة يعود إلى فترة الانتداب البريطاني وتم عبر ضم ثلاث ولايات هي بغداد والبصرة والموصل التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية قبل احتلال القوات البريطانية لها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ووضع العراق تحت انتداب عصبة الأمم المتحدة والإدارة البريطانية في (1918).
وفي عام (1920) تفجرت ثورة العشرين الشهيرة ضد القوات البريطانية والتي اندلعت في مناطق الوسط والجنوب تحت قيادة زعماء العشائر العربية ودعم بعض المرجعيات الدينية (الشيعية) البارزة إلى جانب الدور الهام الذي لعبته شخصيات سياسية بارزة في الجمعيات السرية القديمة وبعض كبار الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني ولاحقا في الجيش العربي تحت قيادة الشريف حسين والذين جمعهم العداء للسيطرة العثمانية ثم البريطانية، كما امتدت الثورة إلى المناطق الكردية في الشمال. كان الهدف الرئيسي لتلك القوى المتباينة المنخرطة في الثورة هو المطالبة باستقلال العراق. أدى تصاعد الانتفاضة والثورة التي استمرت قرابة ستة أشهر وعمت غالبية المناطق العراقية وتوحدت فيها جميع الطوائف والمكونات، وما تكبدته قوات الاحتلال البريطانية من خسائر كبيرة إلى إجبار بريطانيا على الرضوخ وعقد مؤتمر القاهرة (1921) الذي حضره وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل لمناقشة موضوع الانتفاضات والثورات العربية التي تزامنت آنذاك كثورة 1919 في مصر وثورة العشرين في العراق والثورة السورية الكبرى، وتقرر منح هذه الدول استقلالا ذاتيا محدودا ومنحها استقلالا شكليا مع ربطها بمعاهدات انتداب مع بريطانيا وفرنسا لفرض استمرار هيمنتهما. وهو ما مهد الطريق لقيام دولة ملكية في العراق وتشكيل مجلس تأسيسي. كان من مهامه تنصيب ملك على عرش العراق وقد اختير فيصل بن الشريف حسين من قبل المجلس التأسيسي ليكون ملكا على العراق في 23 أغسطس 1921م بعد إجراء استفتاء شعبي كانت نتيجته 96 في المائة تأييدا لهذا الاختيار. وفي 19 أكتوبر 1922م صدر مرسوم ملكي ينص على إجازة المجلس التأسيسي في تشكيل هياكل الدولة (وزارات ومؤسسات) وصياغة دستور المملكة، وقانون انتخاب مجلس النواب، والمعاهدة العراقية البريطانية. كما سمح الملك فيصل بإنشاء الأحزاب السياسية على النمط الحديث وفي عام 1924 انضمت العراق إلى عضوية الأمم المتحدة.. وفي عام 1930 أبرمت معاهدة جديدة مع بريطانيا، أقرت بموجبها بريطانيا استقلال العراق عن التاج البريطاني وإنهاء حالة الانتداب، وضمنت الاتفاقية أيضا تمتع بريطانيا بمزايا عسكرية في مجال تسهيل مرور القوات البريطانية في أوقات العمليات الحربية، وفي المجالات الاقتصادية وخصوصا قطاع النفط الذي كان خاضعا لشركات النفط البريطانية وفقا لامتيازات مجحفة.. وفي سبتمبر العام 1933، توفي الملك فيصل في سويسرا، إثر أزمة قلبية. الملك فيصل الأول الذي يعتبر بحق مؤسس الدولة العراقية الحديثة، أمتاز بثقافته العالية (كان يجيد العربية والتركية والإنجليزية والفرنسية) وبحكمته ومرونته وقدرته العميقة على تشخيص الواقع العراقي المعقد والممزق بالانقسامات الطائفية والمذهبية والأثنية العميقة بين المكونات العراقية وقد تطرق إلى ذلك بصراحة في مذكرته المنشورة حين ذكر : «إن البلاد العراقية هي جملة من الفئات والأقوام والطوائف التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية والقومية والدينية فهي والحالة هذه مبعثرة القوى منقسمة على بعضها وباختصار أقول وقلبي يملؤه الأسي إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد بل توجد كتلات بشرية خالية من أية فكرة وطنية، هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي».. هذا التشخيص العميق والمبكر للواقع العراقي من قبل مؤسس الدولة العراقية الحديثة نجده يتجدد وعلى نحو أكثر شمولية وعلمية في كتابات ومؤلفات عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي. بعد وفاة الملك فيصل الأول خلفه نجله الملك غازي (1912 ــ 1939) الذي عرف عنه انفتاحه وتوجهاته الوطنية والقومية ومناهضته للهيمنة البريطانية على العراق.. وفي عهده شهد العراق والعالم العربي أول انقلاب عسكري في عام 1936 قاده الفريق بكر صدقي، ولم يكن الانقلاب يستهدف في الظاهر تغيير النظام الملكي، غير أنه فرض تغيير الوزارة الممالئة لبريطانيا التي كانت برئاسة ياسين الهاشمي، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان وتولى بكر صدقي الذي كان الحاكم الفعلي رئاسة أركان الجيش، غير أنه سرعان ما جرى اغتياله بعد مرور عام على انقلابه.. وفي عام 1939 توفي الملك غازي في حادث سير ذكر أنه كان من تدبير الأجهزة البريطانية التي أغضبها تقارب الملك مع ألمانيا (في عهد هتلر) وذلك عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939ــ 1944) والتي كانت تدغدغ أحلام العرب في تطلعاتهم الاستقلالية وأنشأت محطة عربية (صوت العرب) في برلين لتحريض العرب على مواجهة الحلفاء والتي كان من أبرز العاملين فيها العراقي يونس البحري.
الانتخابات المقبلة ومتطلبات إعادة بناء الدولة العراقية (2)

إثر وفاة الملك غازي دشن الطور الثاني للملكية في العراق حيث خلفه ابنه فيصل الثاني ونظرا لصغر سنه ( أربع سنوات) عين خاله الأمير عبد الإله وصيا على العرش فيما كان نوري السعيد هو الذي يدير الدولة العراقية. استمرت هيمنة الثنائي عبد الإله ــ نوري السعيد المرتبطين على نحو وثيق بالمصالح البريطانية على مقاليد السلطة في العراق من الناحية الفعلية حتى بعد تولي فيصل الثاني الحكم رسميا
(1952) وهو في سن السادسة عشرة من العمر، وإلى حين اندلاع ثورة 14يوليو (تموز) 1958 التي قادها الجيش تحت قيادة عبد الكريم قاسم، وأبيدت خلالها العائلة المالكة برمتها والتي تعد بحق جريمة بشعة بكل المقاييس نظرا لغياب الضمانات القانونية وإجراءات المحاكمة العادلة وتمت محاسبة البريء بجريرة المذنب، والتي شملت قتل نساء وأطفال العائلة الحاكمة بالإضافة إلى الملك الشاب (22عاما) الذي ليس له صلة مباشرة بالانتهاكات والفساد والمظالم الفظيعة التي عانى منها الشعب العراقي طويلا على يد الثنائي عبد الإله ــ نوري السعيد. ولكن هذا هو مسار الثورات حين تتحكم بها الغوغائية والهيجان «الثوري» المنفلت العقال كما جرى في الثورتين الفرنسية (1789) والروسية 1917).
( شهد العراق وخصوصا في الحقبة الملكية الأولى (1922-1939) بدايات جنينية لبناء دولة حديثة تستند نظريا إلى المبادئ الدستورية والفصل بين السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية) الثلاث، دون أن يعني ذلك عدم وجود انتهاكات واختراقات جدية لها على أرض الواقع، كما شهدت الحواضر التي أزداد سكانها بشكل لافت كالعاصمة بغداد
ومدن البصرة والموصل حياة اقتصادية وسياسية وثقافية نشطة نتيجة لبناء وتوسع جهاز الدولة البيراقراطي (وزارات ومؤسسات حكومية) وتشكل قطاع الاقتصاد والتعليم الحديث. وقد أدى اكتشاف النفط بكميات تجارية ضخمة والتحولات التي طالت مواقع بعض كبار ملاك الحيازات والملكيات (الإقطاعية) الضخمة باتجاه تنويع عملهم ليشمل مجالات الصناعة والتجارة والخدمات، إلى جانب تطور وسائط النقل والاتصالات ( طرق، موانئ، سكك الحديد، برق، بريد هاتف) ، كل ذلك سارع في تخلخل البناء الاجتماعي/ الاقتصادي/ الثقافي القديم والراكد على مدى قرون وذلك لصالح تطور المبادلات السلعية، والعلاقات الإنتاجية/ الاجتماعية الحديثة (الرأسمالية) وبالتالي لتشكل اجتماعي/ طبقي جديد تمثل في طبقة البرجوازية، طبقة العمال الأجراء، والطبقة الوسطى وشرائح البرجوازية الصغيرة، مع ما يصاحبها من وعي حديث انعكس في ظهور الأحزاب السياسية والصحافة والاتحادات العمالية والمهنية والاجتماعية ( مؤسسات المجتمع المدني) العابرة للطوائف والعشائروالإثنيات والمناطق. غير إن مسار التحديث في العراق ظل متأرجحا، وكان بمثابة جزر معزولة، حيث واجه معوقات جدية وخطيرة حدت من تطوره وتبلوره في صيغة الدولة ــ الأمة. المجتمع العراقي لم يتسن له تجاوز بنيته التقليدية في العمق، وظل أسيرا لما علق به من تشويه وتناقض وانفصام انعكس على شخصية الفرد والمجتمع العراقي، والذي يمكن أن نعزوه إلى استمرار تأثير البنى الاجتماعية القديمة (العشائر والطوائف) ذات الطابع الأبوي ــ الذكوري مع ما يصاحبها من قيم وأنماط سلوك ووعي ثقافي متدن، أسطوري وغيبي، والتي ظلت محافظة على قوتها في الريف، ولدى العشائر التي تضم غالبية السكان في العراق، والذي أمتد ليشمل قسما كبيرا من سكان المدن المنحدرين منها. تلك الأوضاع أسهم في تكريسها لدوافع مصلحية وذاتية قوى الهيمنة الخارجية (البريطانية) ورجال البلاط والزعامات العشائرية (شبه الإقطاعية) والدينية، كما تفاقمت تلك الأوضاع نتيجة توالي الانقلابات العسكرية وخصوصا منذ الانقلاب البعثي الدموي العام 1963وما تلاها من انقلابات والتي بلغت ذروتها في انقلاب 1968 الذي دشن على مدى 35 عاما نظام حكم استبدادي ذا منحى عشائري ــ طائفي، رغم يافطته العلمانية / الحزبية المزيفة، حيث عمل كل ما في وسعه على تعميم القمع والإرهاب الذي شمل الجميع من الطوائف والقوميات والتكوينات السياسية كافة بما في ذلك الدائرة الضيقة للنظام. بهذا النهج الفاشي نجح في مصادرة الدولة والسياسة والاقتصاد والمجتمع، وهو ما شكل الأرضية لعودة الولاءات والانتماءات الفرعية التقليدية التي أعيد تشكلها بقوة وعلى نحو غير معهود منذ نشوء الدولة العراقية المعاصرة وذلك في رحم الديكتاتورية، كملجأ وبديل عن غياب الدولة الوطنية العادلة. وما أن سقط النظام على يد قوات الاحتلال الأمريكي وتم رفع الغطاء حتى تبين مدى حجم الجريمة البشعة التي ارتكبت بحق الشعب العراقي الذي بات يعيش حالة التشظي والتذرر والاحتراب الدموي والعبثي بين مكوناته المختلفة. والمؤلم إن غالبية الزعامات العراقية والقوى الدولية والإقليمية باتت تستثمر وتوظف هذا الانقسام وفقا لمصالحها الخاصة حتى لو كان ذلك على حساب دماء وعذابات الشعب العراقي بكافة مكوناته.

متطلبات إعادة بناء الدولة العراقية الحديثة ( 3 )

نستطيع القول بأن سيرورة بناء الدولة الحديثة والمجتمع الموحد في العراق، رغم حداثة تكوينهما والتناقضات والمعوقات الموضوعية والذاتية المختلفة التي اعترضتهما، كان من الممكن أن ينجم عنها هوية جمعية و وطنية مشتركة، وذلك تحت تأثير التبدلات البنيوية (على محدوديتها) التي طالت البناء السياسي والاجتماعي، وما رافقها من بدايات وعي جنيني حديث، شكلت قطعا وتجاوزا للبنية التقليدية الراكدة على مدى قرون.
الارتداد والتراجع على هذا الصعيد، لا يمكن فصله عن عهود الاستبداد والديكتاتورية التي مر بها العراق، وخصوصا على مدى العقود الخمسة الماضية التي شهد فيها العراق انقلابات عسكرية متتالية.
ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 التي قادها عبد الكريم قاسم دشنت مرحلة جديدة في تاريخ العراق الحديث، وقد حظيت في البداية بتأييد ودعم الشعب وتياراته السياسية الفاعلة، حيث تحقق خلالها بعض المنجزات المهمة، مثل إلغاء القواعد العسكرية البريطانية، والخروج من حلف بغداد، وإلغاء الاتفاقيات غير المتكافئة مع شركات النفط الأجنبية، عبر صدور قانون رقم ( 80 ) لسنة 1961، وكذلك مشروع قانون تأسيس شركة النفط الوطنية، والإعلان عن قيام منظمة أوبك (سبتمبر 1960) في بغداد، والتي ضمت أهم الدول المنتجة للنفط في العالم وهي السعودية (في عهد وزير البترول السابق عبد الله الطريقي) وإيران والكويت وفنزويلا والعراق، إضافة إلى صدور قوانين الإصلاح الزراعي (الذي شمل مصادرة أراضي كبار الملاك والإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين)، والأحوال الشخصية الذي دعم حقوق المرأة، والعمل والعمال وغيرها من القوانين والإجراءات التي عملت على إحداث تغييرات مهمة في البنية الاجتماعية والاقتصادية، ومن بينها ظهور مرافق إنتاجية جديدة وزيادة نسبة التعليم والتحضر، ونشوء مدن وأحياء عصرية جديدة مثلت مركز استقطاب لمئات الآلاف من الفلاحين وأفراد العشائر التي انتقلوا إليها.
الانتماء المختلط لعبد الكريم قاسم ( والده سني ووالدته شيعية) جعله عابرا للطوائف وبالتالي محل التفاف واسع من قبل غالبية أفراد الشعب.. غير أن الطابع الفردي للحكم وشخصنة السلطة وانعدام الفصل بين السلطات وإضعاف سلطة القانون وغياب المشاركة والمراقبة الشعبية وتقليص ومصادرة دور الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني،كل ذلك جعل النظام مكشوفا ومعزولا عن قاعدته الشعبية، مما سهل نجاح انقلاب فبراير (شباط) 1963 الدموي، الذي أقر أحد قادته فيما بعد وهو نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية علي صالح السعدي بضلوع قوى خارجية بقوله: «جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي».
من المؤشرات الدالة على تراجع الانقسامات والانتماءات الطائفية والعشائرية في فترتي العهد الملكي وبدايات العهد الجمهوري هو تزايد حالات الاندماج الوطني عن طريق الزواج والمصاهرة بين العشائر والطوائف والأثنيات المختلفة وتصدر مكونات وتصنيفات (وطنية) حديثة عابرة للانتماءات الفرعية، ولها دلالاتها السياسية والإيديولوجية والفكرية والاجتماعية والنفسية، مثل مصطلحات ومسميات وطني، قومي يساري، وتقدمي، في مقابل برجوازي، إقطاعي، رجعي، عشائري، طائف.. هذا المنحى الجديد كان على حساب تراجع دور ومكانة الانتماءات الفرعية ورموزها ومؤسساتها ومرجعياتها التقليدية، التي جرى اختراقها وأخذ نفوذها بالتراجع والضعف وبخاصة في المدن الكبرى.
كان يمكن لهذه الظاهرة الجديدة أن ترسخ في موازاة نضج البناء السياسي / القانوني للدولة، المستندة إلى مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وتطور فاعلية ودور مؤسسات المجتمع المدني.. غير أن توالي الانقلابات العسكرية وخصوصا انقلاب 1968، أفرز نظام حكم استبدادي، ديكتاتوري، شمولي، عمل كل ما في وسعه لمصادرة الدولة والمجتمع ومؤسساته المدنية المستقلة، وفرض هيمنته وسيطرته عبر تعميم القمع والإرهاب الذي قل نظيره في التاريخ، وليس أدل على ذلك كاستخدامه الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا ضد شعبه والذي تكشف من خلال القبور الجماعية التي ضمت عشرات الآلاف من رفات العراقيين، كما أن الكثيرين منهم دفنوا وهم أحياء.
لقد طال القمع الجميع بدون استثناء رغم المعاناة الشديدة التي طالت بعض المكونات (شيعة وأكراد) أكثر من غيرها.
وإلى جانب القمع الممنهج لجأ النظام الديكتاتوري / الاستحواذي / الريعي إلى تسخير العوائد المالية الضخمة من النفط التي باتت بحوزته، لتوطيد مواقعه على صعيد الدولة وأجهزتها البيروقراطية المدنية والعسكرية والأمنية من جهة، وتوسيع قاعدته الاجتماعية عبر الامتيازات (العمل التعليم الترقي الوظيفي) الممنوحة لمنتسبي الحزب الحاكم، ورشوة وشراء ولاءات وذمم قوى ومجاميع وشخصيات سياسية ودينية وثقافية مختلفة، والتي ضمت خليطا من شرائح برجوازية بيروقراطية وطفيلية فاسدة ومستفيدة من النظام، يضاف إليها قوى ومجاميع عشائرية وطائفية ومناطقية تقليدية عمل النظام على تقويتها وتحويلها إلى رافد و أداة طيعة تحت سيطرته من جهة أخرى.
الأمر الذي رسخ تموضع النظام الحاكم فوق المجتمع، الذي باتت مكوناته عرضة للتذرر والتشظى والتكور على الذات من منطلق الدفاع عن وجودها ومصالحها الخاصة.
وهو ما لمسه وشاهده العالم في السقوط السريع للنظام الحاكم في إبريل (نيسان) 2004 أمام قوات الغزو والاحتلال الأمريكي، رغم وجود ملايين من الأعضاء المنتمين إلى الأجهزة الحزبية والعسكرية والأمنية المنتشرة بكثافة في طول البلاد وعرضها.
متطلبات إعادة بناء الدولة العراقية الحديثة 4 ــ 4

بعض التحليلات المتعلقة بالشأن العراقي تذهب إلى تحميل الاحتلال الأمريكي للعراق الدور الأكبر في ترسيخ الانقسامات الطائفية والدينية والأثنية في العراق. تلك التحليلات صحيحة جزئيا من زاوية أن حزمة الإجراءات التي اتخذتها قوات الاحتلال منذ سقوط النظام السابق ساهمت في عملية انهيار ما تبقى من رموز ومقومات الدولة العراقية، ومن بينها تفكيك وحل الأجهزة المدنية والعسكرية، وعدم التدخل إزاء عمليات النهب والتدمير الواسعة التي طالت كافة المرافق الحكومية والتي شملت وزارات ومؤسسات خدمية وتعليمية وثقافية بما في ذلك المتحف الوطني العراقي. المرفق الوحيد الذي حرصت قوات الاحتلال على حمايته هو مبنى وزارة النفط وهو ما يعكس حقيقة الاستهدافات الأمريكية من غزوها للعراق. كما نشير إلى تكريس حال الانقسام الطائفي والإثني عبر تشكيل مجلس الحكم الانتقالي وفقا لنظام المحاصصة الطائفية والتي بموجبها أصبح حميد مجيد موسى الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي وهو حزب علماني عريق وعابر للطوائف والإثنيات ضمن الحصة (الكوتا) الشيعية. غير أن هناك من يطرح بأن قوات الاحتلال لم تفعل سوى إزالة الغطاء عن القدر المغلية، وبأن البنيان الموحد للدولة و المجتمع قد تفكك وجرى مصادرته عمليا على مدى عقود من حكم الفرد وطغمته الحاكمة السابقة، وبأن وجودهما الشكلي السابق كان بفعل الماكينة القمعية والأمنية بالدرجة الأولى، وما أن تم رفع الغطاء عن القدر الكاتم حتى تكشف مدى حجم الانقسامات والتناقضات والصراعات الدفينة في أحشاء المجتمع العراقي وهو ما تجسد في الاستقطاب الطائفي والإثني الحاد والمواجهات الدامية التي تفجرت بين المكونات العراقية كافة. بالطبع لا نستطيع إغفال دور العامل الخارجي المتمثل في الاحتلال والممارسات التخريبية والدموية المدمرة لتنظيم القاعدة والمليشيات المماثلة وتدخلات الدول الإقليمية المجاورة والتي لها أجندات ومصالح مختلفة في عدم استقرار الوضع الداخلي في العراق. حدة الانقسامات الطائفية والإثنية تكشفت على نحو فاقع في الانتخابات النيابية والمحلية المتتالية التي شهدها العراق منذ سقوط النظام السابق والمستندة وفقا للقوائم والتكتلات الطائفية والإثنية المقفلة. وقد سعت جميع التكوينات والزعامات السياسية إلى استغلال تلك الحالة وفقا لمصالحها الذاتية الضيقة، وذلك على حساب الغالبية الساحقة من الشعب المغلوب على أمره والذي يتعرض يوميا إلى القتل والإذلال على يد قوات الاحتلال ومليشيات القمع والإرهاب الدموي. التطور الإيجابي الجديد الحاصل تمثل في أن الشعب العراقي المطحون بالفقر والبطالة والفساد وانعدام الأمن وتردي الخدمات وبعد أكثر من ست سنوات على سقوط النظام السابق بات فاقد الثقة إلى حد كبير بنظام المحاصصة الطائفية التي يستفيد منها حفنة صغيرة من الزعامات السياسية والطائفية والعشائرية الطفيلية والفاسدة. ست سنوات مضت لم يستطع الشعب العراقي بكل نخبه ومكوناته التقليدية والحديثة من إعادة بناء الدولة العراقية العصرية الموحدة والمستندة إلى الشرعية الدستورية والقانونية الحقيقية التي من شأنها ترسيخ الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية بين الجميع. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل بمقدور النخب والتيارات السياسية والاجتماعية العراقية المختلفة وخصوصا المؤسسة الحاكمة والمسؤولة مباشرة عن الأزمة الحادة التي يمر بها العراق على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والأمنية من اجتراح توجه ونهج جديد بمجرد إعلان توبتها الوطنية وتنصلها عن نظام المحاصصة الطائفية السائد بعد أن وصل إلى طريق مسدود؟ الطريف هنا أن غالبية التيارات السياسية العراقية بما في ذلك التكوينات الطائفية القحة باتت تتنصل من نظام المحاصصة الطائفية وكأنه طفل لقيط ليس له أب أو أم، مع أنهما معروفان جيدا. ولتأكيد تلك التشكيلات الطائفية والإثنية (شيعة وسنة وأكراد) على توجهها «الوطني» العام لجأت وعلى نحو خجول إلى تطعيم كتلها وقوائمها الطائفية والإثنية بعناصر وشخصيات سياسية وعشائرية وتكوينات باهتة من خارجها. لا نستطيع إغفال بعض التطورات الإيجابية على هذا الصعيد وخصوصا أطروحات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وكتلته التي يشكل حزب الدعوة عمادها الرئيس، حيث بات يركز على البعد الوطني ونبذ نظام المحاصصة الطائفية، غير أن ذلك يتطلب خطوات ملموسة على الأرض، ليس على صعيد توسيع قائمته «ائتلاف دولة القانون» لتضم أطرافا سياسية أخرى عابرة للطوائف فقط، وإنما من خلال برنامج وطني شامل للإنقاذ والمصالحة الوطنية وإعادة البناء والأعمار وذلك من خلال حزمة من الإصلاحات البنيوية العميقة. حتى الآن ليس هناك مؤشرات على إحراز تقدم فعلي على صعيد صياغة برنامج واقعي يكون محل إجماع وطني وركيزة لتعاون كافة الأطراف المعنية بإنجاح العملية السياسية، وقيام العراق ككيان وطني ديموقراطي مستقل. ما يجري في العراق من تدهور أمني خطير ومن تجاذبات سياسية وطائفية وإثنية يعود في الأساس إلى غياب أو ضعف المشاريع الوطنية العابرة للطوائف، وذات التوجه لتعزيز الوحدة الوطنية، وبناء دولة القانون والمؤسسات وتطبيق مبادئ المواطنة والعدالة الاجتماعية، ووضع حد لنهج المحاصصة في الحكم وفي مؤسسات الدولة، ومواجهة توظيف الدين والمذهب لأغراض سياسية، ونبذ أشكال التعصب الديني والمذهبي والقومي والعشائري والمناطقي.
ما يحتاجه العراق لتجاوز التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق وتداعيات الغزو والاحتلال الأجنبي هو العمل على خلق المستلزمات المادية لاستعادة وحدة الشعب والمجتمع والدولة من خلال إصلاحات عميقة تطال الهياكل والبنى الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والتي من شأنها إعادة بناء الدولة العراقية الحديثة، وتعزيز الوحدة الوطنية، وترسيخ مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات بين جميع مكونات الشعب العراقي، وخلق الشروط المادية للديموقراطية لتشكل المجتمع المدني ومؤسساته ومنظماته الوطنية المستقلة، وبناء القاعدة الاقتصادية (الصناعية والزراعية) الحديثة وتنويع مصادر الدخل ومواجهة المشكلات المزمنة المتمثلة في الفقر والبطالة والفساد وإنعدام الأمن وتردي الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وسكن وكهرباء ومياه.



#نجيب_الخنيزي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحمد الشملان.. مثال المثقف العضوي
- الهوية والتنوع والمواطنة
- تقرير التنمية الإنسانية العربية.. واقع مر وأفق مسدود
- اليمن إلى أين؟
- اليوم العالمي للديمقراطية


المزيد.....




- مصدر لـCNN: مدير CIA يعتزم زيارة إسرائيل مع استمرار مفاوضات ...
- بيروت.. الطلاب ينددون بالحرب على غزة
- أبو ظبي تحتضمن قمة AIM للاستثمار
- رويترز: مدير المخابرات الأميركية سيتوجه لإسرائيل للقاء نتاني ...
- البيت الأبيض: معبر كرم أبو سالم سيفتح يوم الأربعاء
- البيت الأبيض يعلن أنه أوعز لدبلوماسييه في موسكو بعدم حضور حف ...
- شاهد.. شي جين بينغ برفقة ماكرون يستمتع بالرقصات الفولكلورية ...
- بوتين رئيسا لولاية جديدة.. محاذير للغرب نحو عالم جديد
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لاقتحام دباباته لمعبر رفح
- بالفيديو.. الجيش الكويتي يتخلص من قنبلة تزن 454 كلغ تعود لحق ...


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف: الانتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق - نجيب الخنيزي - الانتخابات المقبلة ومتطلبات إعادة بناء الدولة العراقية