أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال الجزولي - ولا يزالون مختلفين!















المزيد.....

ولا يزالون مختلفين!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 863 - 2004 / 6 / 13 - 08:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


(1)
(1/1) لم نكن نرجم بالغيب حين كتبنا خلال الأسبوع الأخير من مايو المنصرم متشككين فى صدقيَّة البيان الصادر عن هيئة علماء السودان بعنوان (مبادرة هيئة العلماء لتحقيق السلام وتثبيت الشريعة بالسودان) ، والمنشـور على الصفحات الأولى لصحف الخرطـوم بتاريخ 17/5/04 ، وبخاصة الجزئيَّة التى يوحى فيها بأنه نتاج مشاورات أجرتها الهيئة ، قبل إصداره ، مع عدد من الاتجاهات والكيانات الاسلاميَّة فى البلاد ، من بينها (كيان الانصار) ، مِمَّا أفضى إلى رأى (موحَّد) حول المسألة الرئيسة التى يطرحها ، وهى:
أ/ أنه لا مجال للتراجع عن تطبيق الشريعة فى الولايات الشمالية ، حيث لا خيار لأى مسلم سوى الاحتكام إليها ، وإذا حكم الحاكم بغيرها كان كافراً أو فاسقاً أو ظالماً ، فى إيماءة واضحة إلى الآيات الكريمات الثلاث (44 ، 45 ، 47) من سورة المائدة: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ـ الظالمون ـ الفاسقون" ،
ب/ وأن الخرطوم هى عاصمة الدولة الاسلاميَّة ، وهى أرض الاسلام والمسلمين ، وأن مجرد الحديث عن علمانيتها قول مرفوض تسقط ولاية من يقول به ،
ج/ وأن تطبيق قانونين فى منطقة جغرافيَّة واحدة لا يقول به جاهل ، ناهيك عن عالم ، وهو مرفوض شرعاً بل وفى القوانين الوضعيَّة ،
د/ وأن الهيئة نظرت فى التطبيق الشخصى للحدود على غير المسلمين فرفضته ، لكنها تركت للقاضى أن يختار من أقوال الفقهاء ما يقع عليه الترجيح للمصلحة الشرعية عند الحكم ،
هـ/ وأن الهيئة حملت ، من ثمَّ ، هذا الرأى (الموحَّد) إلى وفدى مفاوضات السلام فى نيفاشا (كمبادرة) يسَّرت حلحلة الخلاف حول تطبيق الشريعة فى العاصمة القوميَّة ، حيث اقتنعت الحركة ، فتنازلت عن مطالبها بشأن علمانيَّة الدولة ، وعلمانيَّة العاصمة ، وثنائيَّة القانون ، وطلبت فقط ضمانات على حفظ حقوق الأقليَّات غير المسلمة.
(1/2) ولما كان مبلغ علمنا أن رأى كيان الأنصار مستقر على (التطبيق الشخصى) ، وأنهم طرحوا رأيهم هذا فى الاجتماع الذى تمت دعوتهم إليه بمنزل د. محمد عثمان صالح ، الأمين العام لهيئة العلماء ، بغرض التداول فى أمر تطبيق الشريعة على غير المسلمين (من محادثتين هاتفيَّتين صباح 22/5/04 ، مع الشيخ عبد المحمود أبو الأمين العام لهيئة شئون الانصار ، ومع د. محمود مصطفى المكى ، عضو الأمانة العامة للكيان وأستاذ القانون الدولى بجامعة أم درمان الاسلاميَّة) ، فقد بدا لنا مستغرباً أن يزعم البيان موافقتهم على أنه ".. لا يمكن تطبيق قانونين فى منطقة جغرافيَّة واحدة" ، دع موافقتهم على وصف خيار (التطبيق الشخصى) بأنه ".. لا يقول به جاهل ناهيك عن عالم"!
(1/3) وإلى ذلك فقد انتقدنا تصوير هيئة العلماء استدعاء الأستاذ على عثمان لها إلى نيفاشا ، بناءً على طلب د. قرنق ، فى إيماءة علاقات عامة واضحة ، بعد أن شاهد شيخ الهديَّة فى التلفزيون (الصحافة 17/5/04) ، بأنه كان (مبادرة) من جانبها! وانتقدنا ، كذلك ، ما أقدمت عليه هيئة العلماء من تحوير خطير لرأى الامام الشافعى القائم فى ترك (الخيار) للحاكم فى أن يطبق الشريعة على غير المسلمين ، إن هم طلبوا ذلك ، أو لا يطبقها ، حيث قامت بنقله من مستوى عمل المشرِّع إلى مستوى عمل (القاضى الفرد) ، تاركة لكل (قاض!) على حدة "أن يختار من أقوال الفقهاء ما يقع عليه الترجيح للمصلحة الشرعية عند الحكم"! كما انتقدنا أخيراً تخليط هيئة العلماء الواضح بين مفاهيم (الدولة) و(الاقليم) و(العاصمة) فى إعلانه ألا تراجُع عن الشريعة فى (الشمال!) ، حيث لا خيار لأى (مسلم) سوى الاحتكام إليها ، وإذا (حكم الحاكم!) بغيرها كان (كافراً أو فاسقاً أو ظالماً) ، وأن (الخرطوم) هى (عاصمة الدولة الاسلاميَّة!) وهى (أرض الاسلام والمسلمين!) ، وأن مجرد الحديث عن (علمانيتها) قول مرفوض (تسقط!) ولاية من يقول به ، كما وأن الكلام عن تطبيق قانونين فى منطقة جغرافيَّة واحدة لا يمكن أن يصدر عن جاهل ناهيك عن عالم! وأوضحنا أن (السودان) كله ، وليس (الشمال) وحده ، هو (الدولة) الموحَّدة بحدود عام 1956م ، وأن (الجنوب) مجرَّد (إقليم) فى هذه (الدولة) وليس (دولة أخرى مستقلة) ، ومن ثمَّ فإن الفتاوى التى تطلقها هيئة العلماء إنما تنطبق ، أول ما تنطبق ، على بروتوكول مشاكوس (20/7/04) الذى نصَّ على تطبيق الشريعة فى الشمال والقانون الوضعى فى الجنوب ، فأجاز بذلك تطبيق (قانونين) فى (منطقة جغرافيَّة واحدة) هى السودان ، والحكم (بغير الشريعة) فى جزء من (الدولة الاسلاميَّة) التى هى السودان ، وأن ذلك كله تمَّ تحت سمع وبصر (هيئة علماء السودان) ، وبموافقتها!

(2)
(2/1) نعم ، لم نكن نرجم بالغيب ، أو نغامر بالتعويل على محض مصادر شفاهيَّة. فها هو مجلس الحل والعقد لهيئة شئون الأنصار قد أصدر بياناً مستقيماً وضافياً بتاريخ 6/6/04 ، نشر بصحيفة الأيام بتاريخ 7/6/04 ، تبرَّأ فيه من أطروحة العلماء ، ووصف إيحاءهم بأن كيان الانصار كان طرفاً فى بيانهم بأنه "يحتمل التدليس" ، و"يجانب الحق" ، و"يناقض أطروحات الكيان المعروفة"! ومضت البيان موضحاً أن مندوبين عن هيئة شئون الأنصار لبوا دعوة العلماء للتفاكر حول القوانين الجنائيَّة التى يتم تطبيقها فى العاصمة القوميَّة فى إطار سودان موحَّد ، حيث ناقش الاجتماع ورقة قدمها أحد الباحثين (لعله مولانا محمد ابراهيم محمد ، قاضى المحكمة العليا وعضو هيئة العلماء ـ الكاتب) إستعرض فيها خمسة آراء فقهيَّة. وانطلاقاً من (نظريَّة المقاصد) فى الفقه الاسلامى مال النقاش إلى رأى الامام الشافعى الذى سمَّته الورقة (مذهب الخيار) المستند إلى قوله تعالى: "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً" (42 ؛ المائدة). وبما أن موقف الأنصار الثابت قائم على مبدأ (شخصيَّة القوانين) ، بمعنى أن تطبيق الحدود قاصر على المسلمين ، لكون غيرهم ليسوا مخاطبين بأحكام الاسلام الحديَّة خاصة ، فقد تطابقت الورقة التى قدَّمها وفدهم إلى الاجتماع مع رأى الامام الشافعى أو (مذهب الخيار) الذى يعنى "خيار الحاكم فى سن القوانين لتطبق على أسس شرعيَّة ، لا خيار القاضى فى الترجيح حسب ما جاء فى بيان العلماء" ، وقد انفض الاجتماع على هذا الرأى.
(2/2) وأشار بيان هيئة الأنصار إلى ما جاء فى بيان هيئة العلماء من رفض (للتطبيق الشخصى) على غير المسلمين مع ترك الأمر (للقاضى) كى يختار من أقوال الفقهاء ما يقع عليه الترجيح للمصلحة الشرعيَّة ، بالاضافة إلى أنه لا يمكن تطبيق قانونين فى منطقة جغرافيَّة واحدة. وعلقت هيئة الأنصار على هاتين الفقرتين بقولها:
أ/ إذا كانت هيئة العلماء تقصد أنها حاورت الجماعات والكيانات ، ثم استخلصت هذه الخلاصات فهو حقها ، بشرط أن تبيِّن طرق الترجيح التى اتخذتها بين الآراء المتباينة ، فاللقاء الذى شارك فيه أعضاء هيئة شئون الأنصار لم يتم التوصل فيه إلا إلى الاتفاق على مذهب الامام الشافعى فى عدم تطبيق الحدود على غير المسلمين. أما إظهار رأيها الخاص كأنه مجمع عليه ، والهجوم على أىِّ اجتهاد مخالف ، فهو أمر غير مقبول. لا بد أن تكون منابر الحوار شوريَّة فى آليات اتخاذ القرار ، وواضحة فى تبيان تلك الآليات ، وبعيدة عن صياغات القرارات التى تحتمل التدليس على الآخرين!
ب/ رفض التطبيق الشخصى للحدود على غير المسلمين لا يستند إلى مرجعيَّة إسلاميَّة مطلقة، بل هو اجتهاد تحكمه (مصلحة) الجماعة الاسلاميََّّّّة فى سياق الظروف المحيطة. أما ترك الأمر للقاضى كى يطبق حدَّاً من الحدود على غير المسلم أو لا يطبقه ، فإن مثل هذا الرأى يؤدى إلى فوضى فى النظام القضائى. فينبغى أن يحتكم القضاة إلى نص تشريعى واحد يلتزمون به جميعاً ، لكونهم يتفاوتون فى مذاهبهم وأيديولوجياتهم واتجاهاتهم.
ج/ وأما القول بعدم إمكانيَّة تطبيق قانونين فى منطقة جغرافيَّة واحدة فهو قول يجانبه الصواب ويكذبه الواقع. ففى النظم القانونيَّة العالميَّة ، بما فى ذلك عهد (الانقاذ) ، يتم تطبيق عدد من القوانين داخل إقليم الدولة الواحدة. وأبلغ مثال قوانين الأحوال الشخصيَّة التى تطبق على المسلمين والأخرى التى تطبق على غير المسلمين. بل إننا نجد قوانين أجنبيَّة تطبق داخل حدود الدولة بجانب قانونها الوطنى. وحتى القانون الجنائى الذى يطبق إقليمياً ، فإن وضع السودان وتجربته الفريدة قد فرضا إلزاميَّته ، وهو مبدأ قانونىٌّ حديث ، غربىُّ المرجعيَّة.
(2/3) ولئن أبدت هيئة الانصار استعدادها الدائم للحوار وللمشاركة فى تكوين آليات توحيد أهل القبلة حول مواقف جماعيَّة تسهم فى التصدى لقضايا المسلمين داخل وخارج البلاد ، فقد حرصت أيضاً على التنبيه إلى أنه قد يستحيل الاجماع فى كثير من الأمور الفقهيَّة التى هى فى طبيعتها خلافيَّة وفى طبع الناس الاختلاف حولها.

(3)
(3/1) يثير هذا الاختلاف بين هيئة شئون الانصار وهيئة علماء السودان حول هذه القضية جملة مسائل قديمة متجدِّدة ، نبرز منها هنا ثلاثاً:
أ/ مسألة (المصلحة) التى عُنى بها بيان الأنصار بينما غابت من بيان العلماء. فهى ، بالحق ، من أهم وجوه النظر الفقهى لدى الصحابة الأجلاء والخلفاء الراشدين. ومن أسطع نماذجها مراكمات عمر (رض) الاجتهادية فى أعقد المعالجات أثراً ، وأكثرها خطراً ، وهو الذى قال فيه النبى (ص) عن ابن عمر: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه". فمن ذلك ، مثلاً ، عدم توزيعه الأرض المفتوحة على المقاتلة ، والابقاء عليها فى أيدى أصحابها مع فرض خراجها عليهم ، برغم وضوح الآية الكريمة: "واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .." إلى آخر الآية (41 ؛ الأنفال). لقد غلب الفاروق وجه (المصلحة) فى (مقصد النص) ، توخياً للعدل تجاه الذرية والأرامل ، وتجاه الأجيال القادمة من المسلمين ، علاوة على احتياج الثغور لما تسَدُّ به ، ففرض الخراج (أنظر: كتاب الخراج لأبى يوسف ، ص 14). ومن ذلك أيضاً إلغاؤه سهم (المؤلفة قلوبهم) المنصوص عليه ضمن الآية الكريمة (60 ؛ التوبة) ، وفتواه بعدم جواز قطع يد السارق فى عام الرمادة ، وغير ذلك كثير. ولئن رأى البعض فى هذا المنهج التماساً لوجه آخر فى (فهم) النص و(تأويله) ، بأكثر من كونه (تعطيلاً) له (د. محمد عابد الجابرى ؛ الدين والدولة وتطبيق الشريعة ، ط 1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت 1996م ، ص 45) ، فإن ما ينبغى أن يكون مناط الاقتداء هو المنهج نفسه ، لا عنوانه.
ب/ مسألة (التعدُّد) المشروع حتى فى مجال الفتوى التى لا تعدو كونها اجتهاداً بشريَّاً ، والتى شدَّد عليها بيان الأنصار فى خاتمته ، بينما لم يُعرها بيان العلماء أدنى اهتمام ، كونه ، فى غمرة انشغاله بمظاهرة السلطة أسقط من حسابه كلَّ نظر مغاير قد يكون له فى الخير أو (المصلحة) محتمل. ويكتسى (التعدُّد) مشروعيَّته من اختلاف الفهوم والآراء ، مما قد يفضى إلى التدافع الذى هو بعض سنن الله فى خلقه ، أى القوانين الثابتة التى يسير عليها نظام الكون "ولن تجد لسنة الله تبديلا" (62 ؛ الأحزاب) ، "ولو شاء ربك لَجعل الناس أمة واحدة ولا يزالُون مختلفين" (118 ؛ هود). ويقول ابن كثير فى التفسير: "أى ولا يزال الخلف بين الناس فى أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم". ومع ذلك فإن هيئة العلماء ما تنفكُّ تشهر سيف الفظاظة والقول الغليظ فى وجه كلِّ من يرى ما لا ترى: "فتطبيق قانونين فى منطقة جغرافيَّة واحدة لا يقول به جاهل ، ناهيك عن عالم"! وهى وحدها التى تملك حق تقرير أن هذا "مرفوض شرعاً" وأن ذاك "مقبول ديناً"! وإن المرء ليأسى حين يذكر أن مثل هذه القطعيَّات الصنميَّة لم يتورَّع الخوارج عن إثارتها ، قبل خمسة عشر قرناً ، فى وجه الكرار نفسه كرَّم الله وجهه ، وهو ، من قبل ومن بعد ، باب مدينة العلم بحديث الرسول (ص)!
ج/ مسألة (المواطنة) ، أكثر مفاهيم حركتنا الفكريَّة والسياسيَّة خطورة ، والتى يحتفى بها بيان الأنصار ، بينما يزرى بها بيان العلماء. لقد احتفت (بالمواطنة) حتى دولة الرسول (ص) ، فما أن استقر به وبالمهاجرين المقام فى المدينة ، بحسب إبن هشام ، من ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة ، وفرغ من بناء مسجده ومساكنه ، واستجمع له إسلام هذا الحى من الأنصار ، حتى عَمَد إلى التبشير بأسس تلك الحياة الجديدة ، القائمة فى هداية (المعاملات) القرآنية ، وأولها (الإنفاق) ، وتوقى (شح) النفس ، و(إيثار) الآخر عليها ولو كان بها (خصاصة) ، وما إلى ذلك من القيم والمعانى التى أسست للمضمون الاجتماعى لدولة المدينة. وليس صدفة أن وقف يحذر الناس فى أول خطبة له هناك: ".. أيها الناس. فقدموا لأنفسكم. تعلمُنَّ والله ليُصْعَقنَّ أحدكم ، ثم ليُدَعَنَّ غنمة ليس لها راع ، ثم ليقولنَّ له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولى فبلغك ، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ .. فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيِّبة .." (تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون ، المجمع العلمى العربى الاسلامى ببيروت ، ص 138 ـ 139). فجعل قيمة (الكلمة الطيِّبة) فى عُلوِّ قيمة (الانفاق). ثم ما لبث أن أصدر (الصحيفة) ، أو دستور المدينة ، محدِّداً إطار الدولة الوليدة بما يصلح ، سياسياً ، (لعقد التنوع) الدينى والثقافى والقبلى شديد الخصوصية والتفرُّد فى مجتمع يثرب الجـديد. فميّز ، بادئ ذى بدء ، بين أمتين: (أمة الدين) الأصغر و(أمة السياسة) الأكبر ، ثم جعل (الصحيفة) وثيقة (دستورية) فريدة لتوحيد (أمة السياسة) ، بما فيها من مؤمنين وغيرهم ، على أساس (المواطـنة) وليس (الدين). فجـرى ، بموجـب تلك الوثيقة العبقرية ، تعريف ".. المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم ، وجاهد معهم ، (بأنهم) أمة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم الأولى ، كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة .. وبنو الحارث .. وبنو جشم .. وبنو النجار .. الخ". ثم انتقلت الوثيقة إلى تعريف (أمة السياسة) بنصها على ".. أن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم وأثم .. وأن ليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف ، وأن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف ، وأن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف .. وأن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم ، وأنه لم يأثم إمرؤ بحليفه ، وأن النصر للمظلوم .. وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة .. وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها ، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب .." (النص الكامل ضمن المصدر ، ص 140 ـ 143). فليس صحيحاً ، إذن ، الاعتقاد بأن (الصحيفة) كانت (دستوراً دينياً) لـ (المؤمنين) من المهاجرين والأنصار ، بل الصحيح أنها كانت (دستوراً سياسياً) قصد منه النبى الكريم أن ".. ينظم شئون الحرب والسلم والمال فى حياتها .. وتحدثت مواده عن تنظيم العلاقات بين (الأمم) ، الجماعات .. التى غدت مكونة لـ (أمة) واحدة بالمعنى السياسى .." (د. محمد عمارة ، الاسلام والسلطة الدينية ، ص 109).

(4)
من غير المتوقع ، للأسف ، أن تنفطم هيئات وجماعات ولجان (علماء السودان) ، فى المستقبل المنظور على الأقل ، من هذا النمط من الأداء الفقهوفكرى. فقد ظلت تشكل دائماً بعض أهم روافع حركة الاسلام السياسى السلطوى فى السودان ، ولذا فسوف تظل تعبِّر لوقت طويل عن حلم هذه (الحركة) الذى لا يهدأ بمشروعها الثيوقراطىِّ القائم فى بنية (الاقصاء والاحلال) العدميَّة ، ورفض التحاكم لأيَّة مرجعية سوى منطق (التمكين السلطانىِّ) المتجه نحو اختزال الوطن بأسره فى صورة (الحركة) ، حتى لو اضطر لقصقصة (أطرافه) كلها حتى يجئ على مقاسها!



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ولو بعد دهر!
- شَريعَلْمَانيَّةُ الدَّوْلَةْ!
- -الشَّرَاكَةُ-: لَعْنَةُ مُفَاوَضَاتِ السَّلامِ السُّودانيَّ ...
- حَقْلُ الأَلغَامْ!
- القَوْسُ المُوَشَّى
- مَتاعِبُ التُّرَابِى
- إتفاق الميرغنى ـ طه حول تكريس إقتصاد السوق الحر ورفع يد الدو ...
- إيقاف (الصحافة) أجهض مبدأ قوميتها وأضر بقضية السلام
- أَيَصِيرُ الشَّعِيرُ قَمْحاً؟
- أَرْنَبٌ .. وقُمْرِيَّتانْ؟!
- العُلَمَاءُ وسِجَالُ التَّكْفير
- الإطَاحِيَّة !
- مزاجُ الجماهير!
- عَاصِمَةُ مَنْ؟!
- زِيارَةُ السَّاعاتِ الثَّلاث!
- المَصْيَدَة!
- عِبْرَةُ ما جَرَى!
- خُطَّةُ عَبدِ الجَبَّار!
- دارْفُورْ: وصْفَةُ البصِيْرةْ أُمْ حَمَدْ


المزيد.....




- مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية
- -لم توفر بيئة آمنة للطلاب اليهود-.. دعوى قضائية على جامعة كو ...
- البنك الاسلامي للتنمية وافق على اقتراح ايران حول التمويلات ب ...
- استباحة كاملة دون مكاسب جوهرية.. هكذا مرّ عيد الفصح على المس ...
- قائد الثورة الاسلامية سيستقبل حشدا من المعلمين 
- تونس تحصل على 1.2 مليار دولار قرضاً من المؤسسة الدولية الإسل ...
- مين مستعد للضحك واللعب.. تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 20 ...
- «استقبلها وفرح ولادك»…تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ك ...
- لوموند تتابع رحلة متطرفين يهود يحلمون بإعادة استيطان غزة
- إبادة جماعية على الطريقة اليهودية


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال الجزولي - ولا يزالون مختلفين!