أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال الجزولى - أَرْنَبٌ .. وقُمْرِيَّتانْ؟!















المزيد.....

أَرْنَبٌ .. وقُمْرِيَّتانْ؟!


كمال الجزولى

الحوار المتمدن-العدد: 570 - 2003 / 8 / 21 - 05:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(1)
      روى لورد ديننج ، فى واحدة من مقارباته الفقهيَّة الثاقبة لإشكالية التمايُز بين مفهومى (القانون) و(العدالة) ، أن كبير أساقفة كنتربرى خاطب قضاة بعض المحاكم فى إنجلترا ، خلال إحدى زياراته لها ، قائلاً: "أنا لا أزعم أننى أفهم الكثير فى القانون ، ولكننى ، بالقطع ، أستطيع أن أدعى أننى أعرف الكثير عن العدالة"!
      سطعت ، فجأة ، فى ذاكرتى كلمة الأسقف هذه ، برواية رجل القانون الانجليزى الشهير، وأنا أطالع الخبر الذى أوردته الصحف السودانية ، آخر الأسبوع الماضى ، عن متهم أدانته محكمة جنايات الخرطوم شمال فى جريمة اصطياد (أرنب برىٍّ وقمريَّتيْن) بغير رخصة) ،  وقضت من ثمَّ بتغريمه نصف مليون جنيه مع مصادرة الأرنب والطائرين (الأيام، 7/8/03).

(2)
      حسناً! يلزمنا ، ابتداءً ، الاقرار ، من جهة ، بأن حماية الحياة البريَّة تقع ضمن مسئوليات الدولة ، وأنها قد سنت ، حتى الآن ، من القوانين ، وعيَّنت من الأجهزة الشرطية ، ما يكفل هذه الحماية بالحدِّ المعقول ، بل إن المجتمع المدنى قد خصَّص إحدى منظماته المرموقة ـ جمعية حماية البيئة ـ لتأكيد هذه الحماية ، وضمانها ، ونشر ثقافتها. كما يلزمنا أيضاً الاقرار ، من الجهة الأخرى ، بألا تثريب على هذه المحكمة ، أو أيَّة محكمة ، فى أن تمارس عملها المهنى ـ الفنى فى تطبيق ما تجد بين يديها من قوانين رتبها المشرِّع لمعالجة الوقائع المعروضة أمامها. ومن نافلة القول أنه ليس لها أن تمتنع عن نظر قضية عُرضت أمامها ، كبرت أم صغرت ، فليس هذا شأنها.
      وإذا كنا ننتمى إلى مدرسة ترى ، بوجه عام ، أن عمل المحاكم فى تطبيق (القانون) ينبغى أن يستهدف إقامة (العدل) ، بدءاً ومُنتهى ، وإلا تحوَّل إلى ممارسة شكلية خالية من القيمة المعيارية ، فإن الحالة التى نحن بصددها هنا ، على وجه التحديد ، قد لا تمثل نموذجاً مناسباً لاختبار مدى سداد هذا النظر فى مضمون الممارسة القضائية.
      وإذن ، فلا عمل المُشرِّع فى سنِّ (القوانين) ، ولا عمل القضاء فى تطبيقها ، هو مدار تعليقنا هنا على واقعة الأرنب والطائرين ، بل مداره هو مدى الالتزام (بالعدل) فى أداء المؤسسة الحاكمة نفسها ، مِمَّا يلى جهازها التنفيذى (الحكومة) ، تحديداً ، بما فى ذلك تحريك الاجراءات الجنائية لصون (الحق العام) ، وهو عمل تتولاه عنها النيابة العامة التى يقوم على رأسها وزير متخصِّص يُعتبر من أوجب واجباته التأكد من بسط سيادة حكم القانون على المجتمع كله دون تمييز بين كبير وصغير ، أو قوىٍّ وضعيف ، أو حاكم ومحكوم.

(3)
      ومع أن أهم وجه للتمايز بين مفهومى (القانون) و(العدل) قائم فى كون (القانون) كمؤسسة إجتماعية ، أى كشكل تاريخى مشروط بأسلوب الانتاج فى المجتمع المعين ، وبطابع العلاقات بين مختلف طبقاته وفئاته وشرائحه ، يمثل أداة ضبط سلطانية تتنزل على الناس دونما اعتبار ، فى الغالب ، لإرادتهم ، ويتوقف قبول المحكومين به واحترامهم له على القدر الذى تنضبط لديهم به معادلة (الحق والواجب) ، بينما (العدل) نزوع أصيل تشيعه الفطرة السليمة فى العقل والضمير الإنسانيين ، إلا أن هذين المفهومين يتماهيان مع ذلك ، إلى أقصى حد ، فى الذهنيَّة الشعبيَّة العامة المشغولة بمطلوباتها المباشرة لدى مؤسسة الحكم التنفيذية ، بحيث يصبح الوفاء ، أو عدم الوفاء ، باستحقاقات هذا التماهى هو معيار الصلاح أو الفساد ، العدل أو الظلم ، لدى هذه الذهنية المنفعلة ، أصلاً ، بهذه الفطرة السليمة التى هى خصيصة ملازمة لبنى آدم ، كلِّ بنى آدم ، منذ ابتداء الخلق والتكوين وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، فما بالك بمنظومة المبادئ والمُثل والقيم العقدية التى اكتملت ، فوق ذلك ، للمسلمين من بنى آدم بالرسالة الخاتمة؟!

(4)
      إن المرء ليستطيع أن يجزم صادقاً بأن قراءة ذلك الخبر ، فى ذلك الصباح ، لم تصِب  الناس بالدهشة والحيرة ، فحسب ، بل والصدمة أيضاً. فثمة جرائم أعظم أثراً ، وأفدح خطراً، ثار الكلام حولها ردحاً من الزمن ، وتعهَّدت السلطة بالتحقيق فيها وتقديم مرتكبيها للمحاكمة ، ثم ما لبث غبار النسيان أن أهيل عليها ، افتراضاً لذاكرة جمعية خربة ، وهذا أوَّل الوهن! فإن لم يكن ثمَّة تثريب على القضاء أن يفصل ، مهنياً ، فى قضية (أرنب وقمْريَّتيْن) ، فلا تثريب على الناس أيضاً أن يتساءلوا ، بحق ، عن مصير قضايا كاستيراد محاليل (كور) الفاسدة ، والتجاوزات فى شركة الخرطوم للانشاءات ، ومشروع واحة الخرطوم ، والانهيار المدوِّى لبنك نيما ، وأموال صندوق دعم الولايات التى أودعت فيه للاستثمار ، بينما لا تزال النقابات تجأر بالشكوى من عدم صرف مرتبات المعلمين والموظفين والعمال فى بعض الولايات (بحر الجبل نموذجاً) منذ قرابة العشر سنوات ، وإلى ذلك العطاءات الجديدة المطروحة للاستثمار فى طريق الانقاذ الغربى قبل أن تتضح الرؤية فى أمر التسوية التى أبرمت مع المرحوم آدم يعقوب وشركة آركورى ، وما أثير فى لجنة الحسبة بالمجلس الوطنى ، منذ حوالى الثلاثة أعوام ، حول عمليات الخصخصة فى كثير من مرافق القطاع العام ، وما تم بشأن التقرير الذى قدمته ، بناءً على طلبها ، اللجنة الفنية للتصرف فى هذه الممتلكات ، حيث تكشف أن إجمالى عائد بيعها للقطاع الخاص الأجنبى والمحلى لم يتجاوز ، حتى عام 2000م ، مبلغ خمسمائة سبعة وخمسين مليون دينار فقط ، فى حين أن المؤسسة العامة للأقطان التى بيعت لبنك المزارع كانت تدر وحدها على الخزينة العامة أرباحاً سنويَّة تفوق ثلاثة أضعاف هذا المبلغ! كما وأن للناس أن يتساءلوا ، عموماً ، عمَّا اتخذ من اجراءات بإزاء جرائم الاعتداء على المال العام فى الوحدات الحكوميَّة المختلفة ، مما ظلت تكشف عنه تقارير المراجع العام فى حدود ما تيسَّرت له مراجعته ، وقد بلغ ، وفق آخر تقرير للعام المالى الماضى ، مبلغ واحد وثمانين مليار جنيه ، يشكل نصيب الجهاز المصرفى منها نسبة تسعة وخمسين بالمائة ، مع العلم بأن التقرير قد تم وضعه بناء على بيانات خمسين بالمائة فقط من الوحدات التى تمت مراجعتها ، ما يعنى أن المبلغ المعتدى عليه قد يفوق المائة وستين مليار جنيه بالتمام والكمال!

(5)
      هكذا ، وعلى الرغم من تسليمنا بأهمية حماية البيئة ، إلا أن المجتمع الذى يسلخ السنوات الطوال يلوك ويجتر ويتداول أخبار الفساد فى جهاز الدولة والقطاع المصرفى بهذه الكثافة التى فاحت رائحتها حتى أزكمت الأنوف ، والاعتداء الفظ على المال العام مِمَّن يفترض أنهم قد ائتمنوا عليه ، ويبقى ، مع ذلك ، صابراً يتطلع ، دون كلل ، لرؤية (العدل) متحققاً ، يوماً ما ، بفتح البلاغات ، وإجراء التحريات ، وحصر المتهمين ، وتحويلهم ، بعد ذلك ، للقضاء الجالس فى منصَّته المستقلة كى يقول كلمته الفصل فيهم ، إذ ليس من شأنه القيام بالاجراءات السابقة على ذلك ، ثم لا يصبح هذا المجتمع ، بعد كل هذا الصبر والانتظار، إلا على خبر يتيم عن قضية صيد غير قانونى (لأرنب وقمريَّتيْن) بناءً على شكوى من شرطة الحياة البريَّة ، فإن ميزان (العدل) يرتجُّ ، بلا شكٍّ ، ارتجاجاً عنيفاً فى ذهنه ووجدانه الجمعيَّيْن ، بحيث لا يعود ثمة حق لدى القائمين بالأمر فى مطالبته بالاستمرار فى الثقة بجدارتهم ، وهو الذى يستهدى مستعربوه المسلمون ، بالأخص ، علاوة على الفطرة السليمة ، بالحديث الشريف: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".

(6)
      لقد أهرق حبر كثير فى تفسير سلطة الحق عند على بن أى طالب ، مثلاً ، بسداد تعويله على مفهوم (العدل) فى أفقه الاجتماعى ، لا الفردى ، وقد تزامن توليه الأمر مع ظهور فئة راكمت ثرواتها من ظهر بيت المال ، إما عن استقواءً بسلطة ، أو تنطع بسابقة ، أو توسُّل بقرابة ، فصعد المنبر ، فى اليوم التالى من بيعته ، متوعِّداً بأن ذلك أجمعه "مردود فى بيت المال .. ولو وجدته فرِّق فى البلدان لرددته ، فإن فى العدل سعة ، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق .. ألا يقولن رجال منكم غداً ـ وقد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار ، وفجروا الأنهار ، وركبوا الخيل ، واتخذوا الوصائف المرققة ـ إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه .. : حرمنا ابن أبى طالب حقوقنا .. ألا وأيُّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على سواه بصحبته فإن الفضل غداً عند الله ، وثوابه وأجره على الله". وكتب إلى مالك الأشتر النخعى حين ولاه على مصر: "واعلم أن الرعيَّة طبقات .. لكل على الوالى حق بقدر ما يصلحه ، وليس يخرج الوالى من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله ، وتوطين نفسه على لزوم الحق ، والصبر عليه فيما خفَّ عليه أو ثقل". ويمكن لمن أراد استفاضة أن يراجع (نهج البلاغة).

(7)
      أما بعد ، فلتقبضوا على (الأفيال) و(الغيلان) و(الضوارى) من نهَّابى مال الشعب وأقوات الفقراء ، وأدوية الأطفال ، وتقدِّموهم للقضاء ، قبل أن تشغلوا أنفسكم بمطاردة صائدى (الأرانب) و(القمارى) .. يرحمكم الله!
                                             (إنتهى)                                                  

 



#كمال_الجزولى (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العُلَمَاءُ وسِجَالُ التَّكْفير
- الإطَاحِيَّة !
- مزاجُ الجماهير!
- عَاصِمَةُ مَنْ؟!
- زِيارَةُ السَّاعاتِ الثَّلاث!
- المَصْيَدَة!
- عِبْرَةُ ما جَرَى!
- خُطَّةُ عَبدِ الجَبَّار!
- دارْفُورْ: وصْفَةُ البصِيْرةْ أُمْ حَمَدْ


المزيد.....




- ترامب عن -مفاوضات التعريفات الجمركية-: أنا أحدد الصفقات وليس ...
- حتى لا يُفسد البشر غريزته البرية.. دمية تقوم بدور الأم لهذا ...
- شاهد قوة الانفجار لحظة سقوط صاروخ أطلق من اليمن بالقرب من مط ...
- ANI: مخزون الجيش الباكستاني من الأسلحة لن يكفي إلى لأربعة أي ...
- السلطات البريطانية تلقي القبض على سبعة إيرانيين في عمليتين م ...
- سوريا تعلن قرب توقيع اتفاق لتوريد الكهرباء والغاز من تركيا
- رحلة حياة طويلة.. قصص المعمرين الأكبر في التاريخ
- الرئيس المنغولي يشارك في احتفالات الذكرى الثمانين للنصر في م ...
- بوليانسكي يتحدث عن تقدم في تمويل البعثات الدبلوماسية الروسية ...
- تونس.. -الفوج الخالد- في مدينة الحمامات


المزيد.....

- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال الجزولى - أَرْنَبٌ .. وقُمْرِيَّتانْ؟!