أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - حكايات ذاكرة.. قصة قصيرة















المزيد.....

حكايات ذاكرة.. قصة قصيرة


أحمد الجنديل

الحوار المتمدن-العدد: 2816 - 2009 / 10 / 31 - 20:24
المحور: الادب والفن
    



في تمام الساعة السادسة صباحا، بدأتْ لعلعة الرصاص في أكثر المناطق المحيطة بدار الشيخ خميس المهران ــ هذا ما قاله أبي ــ .
كانت الأصوات عنيفة عندما نهضتُ من فراشي خائفا ، وما أن وقعَ نظري على أبي وصديقه ( نديم العودة ) حتى هدأ روعي وبدأ الخوفُ يتلاشى شيئا فشيئا ، مثلما يهربُ الضباب عندما تهاجمه أشعة الشمس .
كنـّا في تلك الليلة ضيوفا على صديق أبي ، فبعدما أخـَذنا عصر اليوم الفائت في رحلة قصيرة لبستانه الكبير ، شاهدتُ من خلالها بيت الأبقار ، والمرأة العجوز وهي تحلب إحداهن بمهارة فائقة ، وقد جلست وبين أ رجلها واضعة إناء كبيرا تجمع فيه الحليب المتدفق من ثدي البقرة الواقفة باستسلام وخضوع ، وسمعتُ نباح الكلاب الغاضبة التي يملكها صديق أبي ، وقد تملكني الخوف عندما نظرتُ إلى الكلب الأسود الضخم وهو يطلق نباحه ، ويصّوب نظراته نحونا ، ممّا جعلَ صديق أبي يضعُ يدَه الخشنة الناشفة على رأسي الصغير ، وهو يضحكُ قائلا :
ــــ لا تخف ، إنها كلاب لا تعتدي على أحد .
ابتسمتُ رغما عني بعدما استجمتُ شجاعتي لكي لا أسبب لوالدي حرجا ، وعند العودة إلى غرفة الضيوف ، كنتُ سعيدا لأني لم أكن خائفا إلى الحد الذي يخجلني أمام صديق أبي .
أصوات الرصاص تزدادُ اقترابا منـّا ، وهناك صراخ متنافر لـ ( هوسات ) احتدمَ فيها الغضب دون أن أفهم معنى لها ، أحسستُ أنّ الأرض التي كنتُ راقدا عليها تهتزّ بفعل ضربات الأقدام عليها . سمعتُ نداء أبي : انهضْ يا رعد ، فقد تأخرنا قليلا .
أزحتُ الغطاءَ ، ونهضتُ متثاقلا بفعل بقايا النعاس اللاصق في جفوني ، وفي الخارج شاهدتُ عشرات الرجال المدججين بالسلاح ، بعضهم يستر وجهه بكوفية ، والبعض الآخر لا يبالي بتأثير البرد عليه ، كانت صدورهم ووجوههم مكشوفة في وجه الريح .
كانت الغرفة التي قضينا ليلتنا فيها مخصصة للضيوف ، وقد بُنيت لوحدها ، تفصلها عن بقية الدار التي تسكنها عائلة ( نديم العودة ) عدة أمتار ، وقد وضع بابها باتجاه البستان المليء بهامات النخيل الباسقة ، وهناك بعض الأشواك والأدغال المتناثرة هنا وهناك ، تحتلّ حواشي السواقي الجافة ، وعندما ترمي نظرك بعيدا ، تبدو لك أحراش البردي وهي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال ، تحركـّها النسمات الباردة التي حملها هذا الصباح . بعد الانتهاء من غسل يدي ووجهي بقطعة من الصابون الرخيص ، التقطتُ منشفة صغيرة جففتُ بها يديّ دون وجهي لفرط اتساخها . تأملتُ البستان ، كانت أشجارُ النخيل تصّطف بانتظام مرفوعة الرؤوس ، كحشد من الجنود وزّع على فصائل منتظمة في خطوط متوازية ، وعبر الدروب الترابية الضيّقة المتعرجة ، شاهدتُ الرجال يصوّبون بنادقهم إلى الأعلى ، ويرمون الفضاء ، وهم مسرعون .
عند دخولي إلى غرفة الضيوف ، وجدتُ الفطور جاهزا ، صينية كبيرة رتـّب عليها ، إبريق الشاي ، وصحن مليء بكرات من الزبد الأصفر ، وآخر من البيض المقلي ، مع دورق يتصاعدُ من فوهته الواسعة البخار ، كنتُ جائعا ، لكني لا أستطيع المباشرة بالأكل ، منتظرا الإشارة من أبي ، وعندما جلس قبالتنا ( نديم العودة ) شرعنا جميعا في تناول الفطور .
كان صديق أبي ، طويل القامة كرمح مستقيم لولا انحناءة واضحة في كتفيه ، يملكُ أنفا طويلا ينسجمُ مع طول وجهه البرونزي ، فمه كفم سمكة خارجة لتوّها من الماء ، جبينه واضح العلو ، ما يثيرك فيه عيناه الواسعتان الشرستان ، كان يتناول فطوره بدماثة تبعث على الوقار .
ــــ وأين ذهبَت جثة سعيد ؟ ( قال أبي بتثاؤب ) .
ــــ أعتقدُ أنهم أحرقوها ، بعد أن سكبوا عليها صفيحة من النفط .( أجاب بنبرة جافة ) .
ــــ يا للمسكين !! ( قال أبي ببرود ) .
ــــ من كان يظنّ أن سعيد يجرأ على قتل الشيخ خميس المهران ؟ ( تساءل أبي بعد صمت )
ــــ كنـّا نظن ّذلك . ( أجاب صديق أبي بصوت خفيض ، بعد أن رشف من الكوب الذي بيده ) وتابع يقول :
ــــ كان عمله مشينا ، لا يليق به وهو بهذا العمر ، وهذا الموقع .( جاء صوته رخوا )
ــــ هذا صحيح .( هزّ أبي رأسه موافقا )
ــــ لقد استباح أخته ( ساجدة ) في جنح الظلام ، واغتصبها بعلم الجميع ، ولمـّا أنهى وطره منها ، أرسلها إلى بيت أبيها ، بعد أن وضع لرجوعها حكاية يعرفها الجميع أنه كاذب فيها .( كان صوته حزينا ) .
ـــــ إنه عمل سافل . ( قال أبي مقاطعا ، وبدأ يصغي طالبا إكمال الحديث ) .
ــــ لم يكتف بذلك ، أرسل إلى أبيها أحد أزلامه ، ليحرضه على قتلها غسلا للعار ، وبعد يوم ، أرسل شخصا آخر يخبر والدها على وقوف الشيخ إلى جانبه ، وعندما قام الأب بقتل ابنته بثلاث رصاصات من بندقية قديمة في ليلة من ليالي محرم من العام الفائت ، لم يحرّك الشيخ ساكنا ، وعند مجيء الشرطة ، اقتيد الأب المسكين إلى السجن وسط تجمع أفراد العشيرة في يوم الحادث .
ــــ يا لحقارة الرجال . ( قال أبي بأسف ) .
ــــ لقد حكم عليه بالسجن عشر سنوات ( رفع الإبريق وملأ كوبي بالحليب ) ثمّ تابع :
ــــ لكنه لم يبق أكثر من ستة أشهر ، أصيب بمرض خطير مات على أثره ، ولم يبق سوى سعيد .
ــــ أيّ فعل دنيء هذا ؟ ( قال أبي بغضب )
ــــ انه لم يكتف بكلّ ما عمله ، بل امتدت يده إلى سعيد ! ( قال نديم العودة بمرارة )
ــــ كيف ؟ ( سأل أبي بتعجب )
ــــ عندما بقي وحيدا ، استباحه كما فعل بأخته ساجدة ، ثمّ تركه للذئاب . ( قالها بأسف وضيق بالغين )
ــــ ياله من خنزير قذر . ( قال أبي بحقد )
ساد صمت ثقيل ، قطعه صديق أبي : بدأ يرسله إلى حفلات الأعراس التي تقام ، حتى أصبح معروفا لدى الجميع ، وأطلقوا عليه اسم زنانة بدلا من سعيد .
ــــ يا للوغد النذل . ( قال أبي حانقا )
أطبق صمت آخر أكثر ثقلا من سابقه ، بدت من خلاله رغبة أبي بالمغادرة ، لولا دخول رجل غريب علينا ، أسرعَ في مصافحة نديم العودة ، ثمّ انتقل إلى أبي فحيّاه بحرارة دون أن يعرفه
( هكذا كانت ملامح وجهه تقول ) واقترب منـّي تسبقه رائحتة العفنة التي يبعثها جسده رغم برودة الطقس . كان غليظ البنية ، ذا رأس كبير ، وجهه مزدحم بالندب ، وإحدى عينيه تبدو منطفئة ، وينتعل حذاء من المطاط ، وأثناء رفع يده ووضعها على ظهري ، لاحظتُ أنّ ثوبه ممزق بشكل فاضح ، استطعتُ معه أن أشاهد شعر إبطه وأشمّ عفونته .
جلس في الجانب المقابل لأبي ، بينما أسرع ( نديم العودة ) إلى رفع ما تبقى من الفطور وخرج به ، ثمّ عاد مسرعا يحمل إبريقا من الشاي الساخن ، وهو يرحب بالرجل بتثاقل ، جعل أبي يبتسم عندما التقت عيناه بعيني صديقه ، تناول الزائر قدح الشاي ، كان يشربه بصوت مسموع ، وعند الانتهاء منه ، وضعه جانبا وجلس القرفصاء .
ــــ هل كنتَ معهم في الليلة الماضية ؟ ( قال نديم العودة بغير اكتراث )
ــــ يا ليتني لم أكن ، كانت حادثة مروّعة . ( ردّ الزائر بصوت مخذول ) بعدها استطرد :
ــــ لقد قتل هذا الزنيم شهامة القرية وشرفها .( قالها بصوت متهدج ، وانخرط بالبكاء )
ــــ ساجت ، حدثنا كيف حصل الحادث دون بكاء ؟ ( قالها بلهجة الآمر )
رفع ساجت رأسه ، لم يكن أثر للبكاء في عينيه ، لكنّ أنفه بدأ يرشح من البرد ، راح ينقل نظره بين أبي وصديقه ، لم يجد ما يثيرهما ، قرأ في وجهيهما غير ما أبداه من مشاعر ،.
ــــ لقد كان حادثا فظيعا ، البعض يرمي باللوم على الشيخ الفقيد ، والبعض الآخر يتهم زنانة بهذا الفعل الشنيع . ( قالها بصوت مهزوم ) .
ــــ أردنا أن نعرف ما الذي حدث ؟ فلا تكن ثرثارا . ( قالها نديم العودة بنبرة خشنة وعميقة )
ساجت أدرك ما يعني صديق أبي بالضبط ، اعتدل في جلسته ، وطاف بعينيه في الوجوه ، بعدها بدأ بالحديث :
ــــ أقيمت حفلة الليلة الماضية بمناسبة زواج عمران بن الحاج فهد ، وقد حضرها الجميع ، وامتلأ المكان بالشباب ، وصعدت بعض النسوة فوق سطوح المنازل المطلّة على السرادق المنصوب لهذه المناسبة ، وهنّ يزغردن بين الحين والآخر ، وكان زنانة يرتدي بذلة الرقص الحمراء ، وقد تكحلت عيناه ، وبدت شفتاه بلون عصير الطماطم الناضجة ، وبدأ أصحاب الدفوف والطبول بالنقر عليها ، بينما راح زنانة يرقص ، والجميع يصفق ويردد ألاغاني ، في حين انغمس بعض الشباب في شرب الخمر ، فكانت الكؤوس تدار عليهم ، ورائحة الخمر بدأت تشبع أجواء السرادق الكبير ممزوجة برائحة الدخان . وفي غمرة البهجة التي كانت تلفّ الجميع ، وصل الشيخ خميس المهران ، أفردوا له مكانا على الجانب الأيمن من وسط السرادق ، وجلبوا له الوسائد ، وضعوها على جانبيه وخلفه ، واستمرت الدفوف بالنقر والطبول بالقرع ، وزنانة يرقص بحماس ، كان جسده يتحرك بمرونة عجيبة وهو يدور حول الجميع ، وعندما يصل إلى الشيخ يزداد حماسا ، تحول إلى لعبة ميكانيكية أثارت الدهشة في نفوس الحاضرين ، بدأ كلّ ما فيه يرتعش ، رأسه ، رقبته ، صدره ، بطنه ، ساقاه ، وصل الارتعاش إلى أصابعه ، اختطف كأسا من أحد الحاضرين ، أتى عليه بحركة مذهلة ، رفع أحد الجالسين كأسا آخر ، التقطه كما يفعل البهلوان ، بدأ الضرب على الدفوف يأخذ إيقاعا سريعا ينسجم مع الحركات السريعة ، وبدأ زنانة يدور حول الجميع ، يقف أمام الشيخ ثمّ يواصل الرقص ، قدماه تنتقلان بسرعة ، لم تستطع أن تعرف أي منها تسبق الأخرى ، وبدأ العرق ينضح من وجهه وينزل إلى الأسفل بلون أسود ، جارفا كحل عينيه ، لعابه سال من زاوية فمه ، وبدأ يضرب الأرض بقوّة ، والجميع يصرخ ( زنانة ... زنانة ) . التقط خنجرا من أحد الجالسين ، قذفه في الهواء وسحبه بطريقة لم يعرفها أحد ، أطبق بأسنانه على الخنجر ، التهبت الأكف بالتصفيق ، وكلمّا ارتفعت أصوات الإعجاب به ، ازدادت قدمه ضربا بالأرض ، أحد الدفوف انبعج من شدّة الضرب عليه ، دار سريعا ، كان مثل طائر جريح ، تحول الرقص إلى طقوس سحرية ، لم يكن هناك وعيا منفردا ، الجميع تعرضوا لاستلاب المشاعر ، بدأ يسطو على إحساسهم ، سرق وعيهم المباشر ، وضربات قدميه تزداد عنفا ، والأصوات تتصاعد بحماس : ( زنانة ... زنانة ...زنانة ) وفي غمرة ما هم فيه ، اقترب من الشيخ ، دار دورة كاملة ، تبعتها دورات أخرى ، لم نستطع مشاهدة وجهه فيها ، وبسرعة أكبر من رؤيتنا لها هجم على الشيخ ، طعنه في رقبته طعنة أخرجت نصل الخنجر الذي يحمله إلى الجهة المقابلة ، ثمّ أعقبها بضربة أخرى في صدره ، وثالثة في بطنه ، ومع صرخة ارتجّت لها أجواء السرادق سددّ ضربة أخيرة إلى رقبة الشيخ ، جعلت رأسه يتهاوى إلى الخلف ، لم يتحرك أحد ، فلحظات الهجوم الأولى سلبت القدرة من الجميع ، لكنّ الاستمرار في الطعن ، جعل أحد الجالسين بقرب الشيخ أن يبادره بضربة على رأسه ، بعدها جاء الفعل من أحد أزلام الشيخ ، أسرع إلى إفراغ ثلاث رصاصات من مسدسه في رأسه ، انتفض لها جسد زنانة ، كانت رجفة حادة وسريعة ، وسقط رأس زنانة على رقبة الشيخ القتيل .
الفوضى عمّت المكان ، بعضهم ركض إلى بيته خائفا ، وفريق تجمع حول الجثتين ، أحدهم رفع جثة زنانة ورماها بعيدا ، وآخر نزع رشاشة الكلاشنكوف المركونة على كتفه ، وتحت تأثير المشاركة في الحدث ، أفرغ ثلاثين طلقة في جسد زنانة ، بينما أسرع البعض إلى نقل جثة الشيخ إلى بيته والدماء تسيل من جروحه كخروف مذبوح .
تفرق الحشد الكبير الذي كان يغمره الفرح ، ومن بقي منهم واجهوا الحاج فهد وهو يصرخ فيهم :
ــــ اخرجوا أيها الأوغاد ، فلم يعد فرح بعد الآن ، لقد ألغي موعد الزواج .
وعند خروجهم جميعا ، لم يبق في السرادق غير دم الشيخ خميس المهران يعانق دم زنانة ، وجثته الملقاة جانبا ، وغير رائحة الموت التي سيطرت على السرادق الموحش .
بعد ساعة من الحادث ، عاد ثلاثة من أزلام الشيخ ، دخلوا السرادق ، وسحبوا جثة زنانة إلى الخارج ، سكبوا عليها صفيحة من النفط وأحرقوها ، ثمّ عادوا إلى بيت الشيخ ، تسبقهم أصوات الرصاص التي كانت تطلقها بنادقهم وهي تمزّق سكون الليل .
انتبه ساجت إلى علبة السجائر التي أمامه ، أخذ واحدة منها ، وبعد أن أوقدها ، راح يخرج دخانها من منخريه ، معلنا خاتمة ما وقع في الليلة الماضية .
ــــ ومتى يتّم تشييع المرحوم ؟ ( سأل صديق أبي بفتور )
ــــ لم يتم التشييع ما لم تحضر جميع وفود القبائل ، سيكون تشييع مهيب ( أجاب بشيء من المباهاة ) . واستدرك بعدها متسائلا :
ـــــ ألم تذهب للمشاركة في التشييع ؟ ( صوته وصل إلينا خبيثا )
ــــ لديّ ضيوف ، ولا أستطيع المشاركة . ( أجاب نديم العودة ببرود )
ــــ عندما يسألني أحد عنك ، سأخبره أنك مريض . ( قالها بنبرة متملقة ) .
ــــ لا تكن منافقا ، من يسألك عني ، قل له لا أستطيع الحضور . ( أجاب صديق أبي بغضب أخافني ) .
ــــ لا أحد يسأل عنك في هذه الفوضى العارمة . ( قال ساجت بخضوع ) .
ــــ هذا ما أعرفه . ( قال نديم العودة بتثاقل ) .
اختطف ساجت علبة السجائر التي أمامه ، وضعها في جيب سترته ، وعيناه تتلصصان علينا ، ثمّ نهض مودّعا أبي ونديم العودة ، وخرج .
أبي يقول لي بعينيه أن أنهض ، بعد أن تهيأ هو الآخر للنهوض ، لكنّ صديقه طلب منه البقاء بعض الوقت .
ــــ أعتقد إننا تأخرنا كثيرا ، كانت ليلة رائعة معك ، لا يسعني إلا أن أشكرك على ضيافتك .( قالها أبي بنغمة ودودة مزدانة بالعرفان ) .
تقدم نحو الباب الخارجي ، تبعه نديم العودة وكنتُ آخرهم ، ولمّا استقبلتنا هامات النخيل في البستان الكبير ، كنتُ أسير في الوسط ، حتى وصلنا إلى الطريق الترابي المقابل لنهر الفرات عانق أبي صديقه ، وتصافحا بقوّة ، طبع نديم العودة قبلة على خدي ، أحسستُ بخشونتها ، وبقي واقفا ، بينما سار أبي بخطوات عريضة ماسكا بيدي ، وملامحه لا أستطيع أن أقرأ فيها سوى مسحة من الحزن .
الطريق الترابي يقع بين منخفضين ، تحتل جانبه الأيمن ، البساتين المكتظة بأشجار النخيل وبعض أشجار الفاكهة ، بينما تنبسط على الجانب الأيسر ، الحقول المزروعة بأنواع الخضروات ، إضافة إلى مساحات مزروعة بالبرسيم ، وهذا الجانب ينحصر بين حافات النهر ، حيث أشجار الصفصاف والحور وشجيرات الدفلى ونباتات صغيرة تمتد عروقها عبر الأرض الطينية المغمورة بالمياه ، وبين منحدر الطريق التي تنتشر على أديمه الأشواك المتشابكة والأدغال الكثيفة .
كان أبي سالكا أطراف الطريق ، عندما تعترضنا مجاميع من الرجال ، هرعوا للمشاركة في تشييع الشيخ خميس المهران ، مخلفين وراءهم زوبعة من الغبار الخانق ، وعندما يفرغ الطريق ، يسحبني أبي إلى وسطه ، ونستمر في المشي بخطوات سريعة ، لكي لا نواجه مجموعة أخرى من الرجال .
ــــ هل يدخلُ الشيخ خميس المهران الجنّة يا أبي ؟ ( نطقتُ متلعثما ) .
ــــ لا أدري . ( أجاب أبي دون اكتراث ) .
ــــ وهل الخنازير تدخل الجنّة ؟ ( سألتُ أبي عن قصد ) .
ــــ لا أعتقدُ ذلك . ( أجاب أبي ضاحكا ) .
ــــ ولكنّ الشيخ الذي قتلوه البارحة خنزير قذر . ( سألت متشجعا ) .
ــــ أظنّ ذلك . ( أجاب أبي وقد ضغط على يدي ) .
ــــ ولماذا كلّ هذا الاهتمام لمقتل خنزير قذر ؟ ( سالتُ متوجسا وأنا أرمي ببصري نحو وجه أبي ) .
ضحك أبي ، وأراد أن يتحدث لولا وصول مجموعة من الرجال تهرول على إيقاع أهزوجة ،وبعد أن انقشعت سحابة الغبار التي خلفوها ، سحبني أبي إلى منتصف الطريق .
ــــ أنتَ صغير يا رعد ، وعندما تكبر ، سوف تعرف الكثير من أسرار الحياة . ( قالها أبي بحنان ، بعد أن تحررت يدي من يده ) .
ــــ ولكن يا أبي لماذا أحرقوا زنانة ؟ ( قلتها بخوف من إثارة أبي ) .
ــــ كفْ عن هذه الأسئلة يا رعد . ( كان الغضب واضحا في صوته ) .
ــــ نعم يا أبي . ( قلتها باستسلام ) .
اقتربنا من الجسر الحديدي الضيّق الذي يربط شطري المدينة ، اجتزناه بخطوات حذرة ، بعدما أصبحت يدي أسيرة بين يد أبي .
ــــ أبي ... ...
ــــ قلتُ لك أن تكفّ عن هذه الأسئلة . ( قال أبي بصوت زاجر ) .
ــــ نعم يا أبي .( قلتها بصوت مرتجف ) .
ازداد الضغط على يدي ، عندما بدأنا ننحدر إلى الجهة الأخرى من الجسر ، وعند وصولنا إلى الشارع الإسفلتي العريض ، بدا لنا الحمّام الوحيد في المدينة ، من خلال البخار المتصاعد من سطحه ، والذي لا يفصله عن بيتنا سوى زقاق ضيّق .
انتصب في ذاكرتي زنانة الذي اعتاد على دخول الحمّام صباح كلّ يوم ، حاملا معه صرّة صغيرة تحتوي على مرآته وملقطه الذي يستخدمه في تشذيب شعر حاجبيه ، ومكحلة نحاسية ، وكمية من قشور الجوز التي يمضغها باستمرار لتمنح شفتيه الاحمرار .
في داخلي لهفة كبيرة لمعرفة مصير زنانة ، في الجنّة أو في النار ، أصبحنا عند مفترق الطريق المؤدي إلى بيتنا ، تحفزت شجاعتي ، واستنهضت إرادتي :
ــــ أبي هل ....؟
ــــ ماذا تريد ؟ أما قلتُ لك .. ( صوت أبي جاء غاضبا قوّيا متوعدا ، جعلني أقاطعه دون تفكير .
ــــ أريدُ شوكولاته يا أبي .
سحبني إلى الدكان المجاور لبيتنا ، ابتاع لي أنواعا من الشكولاته ، فضّ غلاف واحدة منها ، وأمرني بالذهاب إلى البيت ، وبقي واقفا يراقبني ، وقبل أن أدلف إلى الزقاق المؤدي إلى بيتنا ، ودّعته بإشارة من يدي ، قابلني بإشارة من يده ، أدخلني فيها الزقاق ، ولم يعد بوسعي أن أراه .




#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأقلام والخيول
- الوصيّة ... قصة قصيرة
- السفينة .. قصة قصيرة
- الجناة ومزبلة التاريخ
- أمريكا وحقوق الانسان
- بلد العجائب والغرائب
- بلا وطنية ولا حياء
- أنا وفكتور هيجو وجبار أبو الكبة
- الانتهازي الخطير .. قصة قصيرة
- ايقاعات راقصة لعازف حزين
- الهجرة الى مواسم الرعب .... قصص قصيرة
- كم أنت رائعة ياناهده 0000!!!؟
- الثلوج تلتهم النيران ... قصص قصيرة
- الدفاع عن حقوق المرأة ...... ( بلقيس حسن انموذجا )
- العراق بين شرعية الاحتلال واحتلال الشرعية
- التنوع في الكتابة ( جاسم عاصي انموذجا )
- أنهار الخوف .. قصص قصيرة
- تداعيات البعد الواحد ... قصة قصيرة
- العلاقات العربية الأمريكية مسارات الرفض والقبول
- ليلة الزفاف الدامي


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - حكايات ذاكرة.. قصة قصيرة