|
حكايات ذاكرة.. قصة قصيرة
أحمد الجنديل
الحوار المتمدن-العدد: 2816 - 2009 / 10 / 31 - 20:24
المحور:
الادب والفن
في تمام الساعة السادسة صباحا، بدأتْ لعلعة الرصاص في أكثر المناطق المحيطة بدار الشيخ خميس المهران ــ هذا ما قاله أبي ــ . كانت الأصوات عنيفة عندما نهضتُ من فراشي خائفا ، وما أن وقعَ نظري على أبي وصديقه ( نديم العودة ) حتى هدأ روعي وبدأ الخوفُ يتلاشى شيئا فشيئا ، مثلما يهربُ الضباب عندما تهاجمه أشعة الشمس . كنـّا في تلك الليلة ضيوفا على صديق أبي ، فبعدما أخـَذنا عصر اليوم الفائت في رحلة قصيرة لبستانه الكبير ، شاهدتُ من خلالها بيت الأبقار ، والمرأة العجوز وهي تحلب إحداهن بمهارة فائقة ، وقد جلست وبين أ رجلها واضعة إناء كبيرا تجمع فيه الحليب المتدفق من ثدي البقرة الواقفة باستسلام وخضوع ، وسمعتُ نباح الكلاب الغاضبة التي يملكها صديق أبي ، وقد تملكني الخوف عندما نظرتُ إلى الكلب الأسود الضخم وهو يطلق نباحه ، ويصّوب نظراته نحونا ، ممّا جعلَ صديق أبي يضعُ يدَه الخشنة الناشفة على رأسي الصغير ، وهو يضحكُ قائلا : ــــ لا تخف ، إنها كلاب لا تعتدي على أحد . ابتسمتُ رغما عني بعدما استجمتُ شجاعتي لكي لا أسبب لوالدي حرجا ، وعند العودة إلى غرفة الضيوف ، كنتُ سعيدا لأني لم أكن خائفا إلى الحد الذي يخجلني أمام صديق أبي . أصوات الرصاص تزدادُ اقترابا منـّا ، وهناك صراخ متنافر لـ ( هوسات ) احتدمَ فيها الغضب دون أن أفهم معنى لها ، أحسستُ أنّ الأرض التي كنتُ راقدا عليها تهتزّ بفعل ضربات الأقدام عليها . سمعتُ نداء أبي : انهضْ يا رعد ، فقد تأخرنا قليلا . أزحتُ الغطاءَ ، ونهضتُ متثاقلا بفعل بقايا النعاس اللاصق في جفوني ، وفي الخارج شاهدتُ عشرات الرجال المدججين بالسلاح ، بعضهم يستر وجهه بكوفية ، والبعض الآخر لا يبالي بتأثير البرد عليه ، كانت صدورهم ووجوههم مكشوفة في وجه الريح . كانت الغرفة التي قضينا ليلتنا فيها مخصصة للضيوف ، وقد بُنيت لوحدها ، تفصلها عن بقية الدار التي تسكنها عائلة ( نديم العودة ) عدة أمتار ، وقد وضع بابها باتجاه البستان المليء بهامات النخيل الباسقة ، وهناك بعض الأشواك والأدغال المتناثرة هنا وهناك ، تحتلّ حواشي السواقي الجافة ، وعندما ترمي نظرك بعيدا ، تبدو لك أحراش البردي وهي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال ، تحركـّها النسمات الباردة التي حملها هذا الصباح . بعد الانتهاء من غسل يدي ووجهي بقطعة من الصابون الرخيص ، التقطتُ منشفة صغيرة جففتُ بها يديّ دون وجهي لفرط اتساخها . تأملتُ البستان ، كانت أشجارُ النخيل تصّطف بانتظام مرفوعة الرؤوس ، كحشد من الجنود وزّع على فصائل منتظمة في خطوط متوازية ، وعبر الدروب الترابية الضيّقة المتعرجة ، شاهدتُ الرجال يصوّبون بنادقهم إلى الأعلى ، ويرمون الفضاء ، وهم مسرعون . عند دخولي إلى غرفة الضيوف ، وجدتُ الفطور جاهزا ، صينية كبيرة رتـّب عليها ، إبريق الشاي ، وصحن مليء بكرات من الزبد الأصفر ، وآخر من البيض المقلي ، مع دورق يتصاعدُ من فوهته الواسعة البخار ، كنتُ جائعا ، لكني لا أستطيع المباشرة بالأكل ، منتظرا الإشارة من أبي ، وعندما جلس قبالتنا ( نديم العودة ) شرعنا جميعا في تناول الفطور . كان صديق أبي ، طويل القامة كرمح مستقيم لولا انحناءة واضحة في كتفيه ، يملكُ أنفا طويلا ينسجمُ مع طول وجهه البرونزي ، فمه كفم سمكة خارجة لتوّها من الماء ، جبينه واضح العلو ، ما يثيرك فيه عيناه الواسعتان الشرستان ، كان يتناول فطوره بدماثة تبعث على الوقار . ــــ وأين ذهبَت جثة سعيد ؟ ( قال أبي بتثاؤب ) . ــــ أعتقدُ أنهم أحرقوها ، بعد أن سكبوا عليها صفيحة من النفط .( أجاب بنبرة جافة ) . ــــ يا للمسكين !! ( قال أبي ببرود ) . ــــ من كان يظنّ أن سعيد يجرأ على قتل الشيخ خميس المهران ؟ ( تساءل أبي بعد صمت ) ــــ كنـّا نظن ّذلك . ( أجاب صديق أبي بصوت خفيض ، بعد أن رشف من الكوب الذي بيده ) وتابع يقول : ــــ كان عمله مشينا ، لا يليق به وهو بهذا العمر ، وهذا الموقع .( جاء صوته رخوا ) ــــ هذا صحيح .( هزّ أبي رأسه موافقا ) ــــ لقد استباح أخته ( ساجدة ) في جنح الظلام ، واغتصبها بعلم الجميع ، ولمـّا أنهى وطره منها ، أرسلها إلى بيت أبيها ، بعد أن وضع لرجوعها حكاية يعرفها الجميع أنه كاذب فيها .( كان صوته حزينا ) . ـــــ إنه عمل سافل . ( قال أبي مقاطعا ، وبدأ يصغي طالبا إكمال الحديث ) . ــــ لم يكتف بذلك ، أرسل إلى أبيها أحد أزلامه ، ليحرضه على قتلها غسلا للعار ، وبعد يوم ، أرسل شخصا آخر يخبر والدها على وقوف الشيخ إلى جانبه ، وعندما قام الأب بقتل ابنته بثلاث رصاصات من بندقية قديمة في ليلة من ليالي محرم من العام الفائت ، لم يحرّك الشيخ ساكنا ، وعند مجيء الشرطة ، اقتيد الأب المسكين إلى السجن وسط تجمع أفراد العشيرة في يوم الحادث . ــــ يا لحقارة الرجال . ( قال أبي بأسف ) . ــــ لقد حكم عليه بالسجن عشر سنوات ( رفع الإبريق وملأ كوبي بالحليب ) ثمّ تابع : ــــ لكنه لم يبق أكثر من ستة أشهر ، أصيب بمرض خطير مات على أثره ، ولم يبق سوى سعيد . ــــ أيّ فعل دنيء هذا ؟ ( قال أبي بغضب ) ــــ انه لم يكتف بكلّ ما عمله ، بل امتدت يده إلى سعيد ! ( قال نديم العودة بمرارة ) ــــ كيف ؟ ( سأل أبي بتعجب ) ــــ عندما بقي وحيدا ، استباحه كما فعل بأخته ساجدة ، ثمّ تركه للذئاب . ( قالها بأسف وضيق بالغين ) ــــ ياله من خنزير قذر . ( قال أبي بحقد ) ساد صمت ثقيل ، قطعه صديق أبي : بدأ يرسله إلى حفلات الأعراس التي تقام ، حتى أصبح معروفا لدى الجميع ، وأطلقوا عليه اسم زنانة بدلا من سعيد . ــــ يا للوغد النذل . ( قال أبي حانقا ) أطبق صمت آخر أكثر ثقلا من سابقه ، بدت من خلاله رغبة أبي بالمغادرة ، لولا دخول رجل غريب علينا ، أسرعَ في مصافحة نديم العودة ، ثمّ انتقل إلى أبي فحيّاه بحرارة دون أن يعرفه ( هكذا كانت ملامح وجهه تقول ) واقترب منـّي تسبقه رائحتة العفنة التي يبعثها جسده رغم برودة الطقس . كان غليظ البنية ، ذا رأس كبير ، وجهه مزدحم بالندب ، وإحدى عينيه تبدو منطفئة ، وينتعل حذاء من المطاط ، وأثناء رفع يده ووضعها على ظهري ، لاحظتُ أنّ ثوبه ممزق بشكل فاضح ، استطعتُ معه أن أشاهد شعر إبطه وأشمّ عفونته . جلس في الجانب المقابل لأبي ، بينما أسرع ( نديم العودة ) إلى رفع ما تبقى من الفطور وخرج به ، ثمّ عاد مسرعا يحمل إبريقا من الشاي الساخن ، وهو يرحب بالرجل بتثاقل ، جعل أبي يبتسم عندما التقت عيناه بعيني صديقه ، تناول الزائر قدح الشاي ، كان يشربه بصوت مسموع ، وعند الانتهاء منه ، وضعه جانبا وجلس القرفصاء . ــــ هل كنتَ معهم في الليلة الماضية ؟ ( قال نديم العودة بغير اكتراث ) ــــ يا ليتني لم أكن ، كانت حادثة مروّعة . ( ردّ الزائر بصوت مخذول ) بعدها استطرد : ــــ لقد قتل هذا الزنيم شهامة القرية وشرفها .( قالها بصوت متهدج ، وانخرط بالبكاء ) ــــ ساجت ، حدثنا كيف حصل الحادث دون بكاء ؟ ( قالها بلهجة الآمر ) رفع ساجت رأسه ، لم يكن أثر للبكاء في عينيه ، لكنّ أنفه بدأ يرشح من البرد ، راح ينقل نظره بين أبي وصديقه ، لم يجد ما يثيرهما ، قرأ في وجهيهما غير ما أبداه من مشاعر ،. ــــ لقد كان حادثا فظيعا ، البعض يرمي باللوم على الشيخ الفقيد ، والبعض الآخر يتهم زنانة بهذا الفعل الشنيع . ( قالها بصوت مهزوم ) . ــــ أردنا أن نعرف ما الذي حدث ؟ فلا تكن ثرثارا . ( قالها نديم العودة بنبرة خشنة وعميقة ) ساجت أدرك ما يعني صديق أبي بالضبط ، اعتدل في جلسته ، وطاف بعينيه في الوجوه ، بعدها بدأ بالحديث : ــــ أقيمت حفلة الليلة الماضية بمناسبة زواج عمران بن الحاج فهد ، وقد حضرها الجميع ، وامتلأ المكان بالشباب ، وصعدت بعض النسوة فوق سطوح المنازل المطلّة على السرادق المنصوب لهذه المناسبة ، وهنّ يزغردن بين الحين والآخر ، وكان زنانة يرتدي بذلة الرقص الحمراء ، وقد تكحلت عيناه ، وبدت شفتاه بلون عصير الطماطم الناضجة ، وبدأ أصحاب الدفوف والطبول بالنقر عليها ، بينما راح زنانة يرقص ، والجميع يصفق ويردد ألاغاني ، في حين انغمس بعض الشباب في شرب الخمر ، فكانت الكؤوس تدار عليهم ، ورائحة الخمر بدأت تشبع أجواء السرادق الكبير ممزوجة برائحة الدخان . وفي غمرة البهجة التي كانت تلفّ الجميع ، وصل الشيخ خميس المهران ، أفردوا له مكانا على الجانب الأيمن من وسط السرادق ، وجلبوا له الوسائد ، وضعوها على جانبيه وخلفه ، واستمرت الدفوف بالنقر والطبول بالقرع ، وزنانة يرقص بحماس ، كان جسده يتحرك بمرونة عجيبة وهو يدور حول الجميع ، وعندما يصل إلى الشيخ يزداد حماسا ، تحول إلى لعبة ميكانيكية أثارت الدهشة في نفوس الحاضرين ، بدأ كلّ ما فيه يرتعش ، رأسه ، رقبته ، صدره ، بطنه ، ساقاه ، وصل الارتعاش إلى أصابعه ، اختطف كأسا من أحد الحاضرين ، أتى عليه بحركة مذهلة ، رفع أحد الجالسين كأسا آخر ، التقطه كما يفعل البهلوان ، بدأ الضرب على الدفوف يأخذ إيقاعا سريعا ينسجم مع الحركات السريعة ، وبدأ زنانة يدور حول الجميع ، يقف أمام الشيخ ثمّ يواصل الرقص ، قدماه تنتقلان بسرعة ، لم تستطع أن تعرف أي منها تسبق الأخرى ، وبدأ العرق ينضح من وجهه وينزل إلى الأسفل بلون أسود ، جارفا كحل عينيه ، لعابه سال من زاوية فمه ، وبدأ يضرب الأرض بقوّة ، والجميع يصرخ ( زنانة ... زنانة ) . التقط خنجرا من أحد الجالسين ، قذفه في الهواء وسحبه بطريقة لم يعرفها أحد ، أطبق بأسنانه على الخنجر ، التهبت الأكف بالتصفيق ، وكلمّا ارتفعت أصوات الإعجاب به ، ازدادت قدمه ضربا بالأرض ، أحد الدفوف انبعج من شدّة الضرب عليه ، دار سريعا ، كان مثل طائر جريح ، تحول الرقص إلى طقوس سحرية ، لم يكن هناك وعيا منفردا ، الجميع تعرضوا لاستلاب المشاعر ، بدأ يسطو على إحساسهم ، سرق وعيهم المباشر ، وضربات قدميه تزداد عنفا ، والأصوات تتصاعد بحماس : ( زنانة ... زنانة ...زنانة ) وفي غمرة ما هم فيه ، اقترب من الشيخ ، دار دورة كاملة ، تبعتها دورات أخرى ، لم نستطع مشاهدة وجهه فيها ، وبسرعة أكبر من رؤيتنا لها هجم على الشيخ ، طعنه في رقبته طعنة أخرجت نصل الخنجر الذي يحمله إلى الجهة المقابلة ، ثمّ أعقبها بضربة أخرى في صدره ، وثالثة في بطنه ، ومع صرخة ارتجّت لها أجواء السرادق سددّ ضربة أخيرة إلى رقبة الشيخ ، جعلت رأسه يتهاوى إلى الخلف ، لم يتحرك أحد ، فلحظات الهجوم الأولى سلبت القدرة من الجميع ، لكنّ الاستمرار في الطعن ، جعل أحد الجالسين بقرب الشيخ أن يبادره بضربة على رأسه ، بعدها جاء الفعل من أحد أزلام الشيخ ، أسرع إلى إفراغ ثلاث رصاصات من مسدسه في رأسه ، انتفض لها جسد زنانة ، كانت رجفة حادة وسريعة ، وسقط رأس زنانة على رقبة الشيخ القتيل . الفوضى عمّت المكان ، بعضهم ركض إلى بيته خائفا ، وفريق تجمع حول الجثتين ، أحدهم رفع جثة زنانة ورماها بعيدا ، وآخر نزع رشاشة الكلاشنكوف المركونة على كتفه ، وتحت تأثير المشاركة في الحدث ، أفرغ ثلاثين طلقة في جسد زنانة ، بينما أسرع البعض إلى نقل جثة الشيخ إلى بيته والدماء تسيل من جروحه كخروف مذبوح . تفرق الحشد الكبير الذي كان يغمره الفرح ، ومن بقي منهم واجهوا الحاج فهد وهو يصرخ فيهم : ــــ اخرجوا أيها الأوغاد ، فلم يعد فرح بعد الآن ، لقد ألغي موعد الزواج . وعند خروجهم جميعا ، لم يبق في السرادق غير دم الشيخ خميس المهران يعانق دم زنانة ، وجثته الملقاة جانبا ، وغير رائحة الموت التي سيطرت على السرادق الموحش . بعد ساعة من الحادث ، عاد ثلاثة من أزلام الشيخ ، دخلوا السرادق ، وسحبوا جثة زنانة إلى الخارج ، سكبوا عليها صفيحة من النفط وأحرقوها ، ثمّ عادوا إلى بيت الشيخ ، تسبقهم أصوات الرصاص التي كانت تطلقها بنادقهم وهي تمزّق سكون الليل . انتبه ساجت إلى علبة السجائر التي أمامه ، أخذ واحدة منها ، وبعد أن أوقدها ، راح يخرج دخانها من منخريه ، معلنا خاتمة ما وقع في الليلة الماضية . ــــ ومتى يتّم تشييع المرحوم ؟ ( سأل صديق أبي بفتور ) ــــ لم يتم التشييع ما لم تحضر جميع وفود القبائل ، سيكون تشييع مهيب ( أجاب بشيء من المباهاة ) . واستدرك بعدها متسائلا : ـــــ ألم تذهب للمشاركة في التشييع ؟ ( صوته وصل إلينا خبيثا ) ــــ لديّ ضيوف ، ولا أستطيع المشاركة . ( أجاب نديم العودة ببرود ) ــــ عندما يسألني أحد عنك ، سأخبره أنك مريض . ( قالها بنبرة متملقة ) . ــــ لا تكن منافقا ، من يسألك عني ، قل له لا أستطيع الحضور . ( أجاب صديق أبي بغضب أخافني ) . ــــ لا أحد يسأل عنك في هذه الفوضى العارمة . ( قال ساجت بخضوع ) . ــــ هذا ما أعرفه . ( قال نديم العودة بتثاقل ) . اختطف ساجت علبة السجائر التي أمامه ، وضعها في جيب سترته ، وعيناه تتلصصان علينا ، ثمّ نهض مودّعا أبي ونديم العودة ، وخرج . أبي يقول لي بعينيه أن أنهض ، بعد أن تهيأ هو الآخر للنهوض ، لكنّ صديقه طلب منه البقاء بعض الوقت . ــــ أعتقد إننا تأخرنا كثيرا ، كانت ليلة رائعة معك ، لا يسعني إلا أن أشكرك على ضيافتك .( قالها أبي بنغمة ودودة مزدانة بالعرفان ) . تقدم نحو الباب الخارجي ، تبعه نديم العودة وكنتُ آخرهم ، ولمّا استقبلتنا هامات النخيل في البستان الكبير ، كنتُ أسير في الوسط ، حتى وصلنا إلى الطريق الترابي المقابل لنهر الفرات عانق أبي صديقه ، وتصافحا بقوّة ، طبع نديم العودة قبلة على خدي ، أحسستُ بخشونتها ، وبقي واقفا ، بينما سار أبي بخطوات عريضة ماسكا بيدي ، وملامحه لا أستطيع أن أقرأ فيها سوى مسحة من الحزن . الطريق الترابي يقع بين منخفضين ، تحتل جانبه الأيمن ، البساتين المكتظة بأشجار النخيل وبعض أشجار الفاكهة ، بينما تنبسط على الجانب الأيسر ، الحقول المزروعة بأنواع الخضروات ، إضافة إلى مساحات مزروعة بالبرسيم ، وهذا الجانب ينحصر بين حافات النهر ، حيث أشجار الصفصاف والحور وشجيرات الدفلى ونباتات صغيرة تمتد عروقها عبر الأرض الطينية المغمورة بالمياه ، وبين منحدر الطريق التي تنتشر على أديمه الأشواك المتشابكة والأدغال الكثيفة . كان أبي سالكا أطراف الطريق ، عندما تعترضنا مجاميع من الرجال ، هرعوا للمشاركة في تشييع الشيخ خميس المهران ، مخلفين وراءهم زوبعة من الغبار الخانق ، وعندما يفرغ الطريق ، يسحبني أبي إلى وسطه ، ونستمر في المشي بخطوات سريعة ، لكي لا نواجه مجموعة أخرى من الرجال . ــــ هل يدخلُ الشيخ خميس المهران الجنّة يا أبي ؟ ( نطقتُ متلعثما ) . ــــ لا أدري . ( أجاب أبي دون اكتراث ) . ــــ وهل الخنازير تدخل الجنّة ؟ ( سألتُ أبي عن قصد ) . ــــ لا أعتقدُ ذلك . ( أجاب أبي ضاحكا ) . ــــ ولكنّ الشيخ الذي قتلوه البارحة خنزير قذر . ( سألت متشجعا ) . ــــ أظنّ ذلك . ( أجاب أبي وقد ضغط على يدي ) . ــــ ولماذا كلّ هذا الاهتمام لمقتل خنزير قذر ؟ ( سالتُ متوجسا وأنا أرمي ببصري نحو وجه أبي ) . ضحك أبي ، وأراد أن يتحدث لولا وصول مجموعة من الرجال تهرول على إيقاع أهزوجة ،وبعد أن انقشعت سحابة الغبار التي خلفوها ، سحبني أبي إلى منتصف الطريق . ــــ أنتَ صغير يا رعد ، وعندما تكبر ، سوف تعرف الكثير من أسرار الحياة . ( قالها أبي بحنان ، بعد أن تحررت يدي من يده ) . ــــ ولكن يا أبي لماذا أحرقوا زنانة ؟ ( قلتها بخوف من إثارة أبي ) . ــــ كفْ عن هذه الأسئلة يا رعد . ( كان الغضب واضحا في صوته ) . ــــ نعم يا أبي . ( قلتها باستسلام ) . اقتربنا من الجسر الحديدي الضيّق الذي يربط شطري المدينة ، اجتزناه بخطوات حذرة ، بعدما أصبحت يدي أسيرة بين يد أبي . ــــ أبي ... ... ــــ قلتُ لك أن تكفّ عن هذه الأسئلة . ( قال أبي بصوت زاجر ) . ــــ نعم يا أبي .( قلتها بصوت مرتجف ) . ازداد الضغط على يدي ، عندما بدأنا ننحدر إلى الجهة الأخرى من الجسر ، وعند وصولنا إلى الشارع الإسفلتي العريض ، بدا لنا الحمّام الوحيد في المدينة ، من خلال البخار المتصاعد من سطحه ، والذي لا يفصله عن بيتنا سوى زقاق ضيّق . انتصب في ذاكرتي زنانة الذي اعتاد على دخول الحمّام صباح كلّ يوم ، حاملا معه صرّة صغيرة تحتوي على مرآته وملقطه الذي يستخدمه في تشذيب شعر حاجبيه ، ومكحلة نحاسية ، وكمية من قشور الجوز التي يمضغها باستمرار لتمنح شفتيه الاحمرار . في داخلي لهفة كبيرة لمعرفة مصير زنانة ، في الجنّة أو في النار ، أصبحنا عند مفترق الطريق المؤدي إلى بيتنا ، تحفزت شجاعتي ، واستنهضت إرادتي : ــــ أبي هل ....؟ ــــ ماذا تريد ؟ أما قلتُ لك .. ( صوت أبي جاء غاضبا قوّيا متوعدا ، جعلني أقاطعه دون تفكير . ــــ أريدُ شوكولاته يا أبي . سحبني إلى الدكان المجاور لبيتنا ، ابتاع لي أنواعا من الشكولاته ، فضّ غلاف واحدة منها ، وأمرني بالذهاب إلى البيت ، وبقي واقفا يراقبني ، وقبل أن أدلف إلى الزقاق المؤدي إلى بيتنا ، ودّعته بإشارة من يدي ، قابلني بإشارة من يده ، أدخلني فيها الزقاق ، ولم يعد بوسعي أن أراه .
#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأقلام والخيول
-
الوصيّة ... قصة قصيرة
-
السفينة .. قصة قصيرة
-
الجناة ومزبلة التاريخ
-
أمريكا وحقوق الانسان
-
بلد العجائب والغرائب
-
بلا وطنية ولا حياء
-
أنا وفكتور هيجو وجبار أبو الكبة
-
الانتهازي الخطير .. قصة قصيرة
-
ايقاعات راقصة لعازف حزين
-
الهجرة الى مواسم الرعب .... قصص قصيرة
-
كم أنت رائعة ياناهده 0000!!!؟
-
الثلوج تلتهم النيران ... قصص قصيرة
-
الدفاع عن حقوق المرأة ...... ( بلقيس حسن انموذجا )
-
العراق بين شرعية الاحتلال واحتلال الشرعية
-
التنوع في الكتابة ( جاسم عاصي انموذجا )
-
أنهار الخوف .. قصص قصيرة
-
تداعيات البعد الواحد ... قصة قصيرة
-
العلاقات العربية الأمريكية مسارات الرفض والقبول
-
ليلة الزفاف الدامي
المزيد.....
-
كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم
...
-
عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة
...
-
مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب
-
محاربون وعلماء وسلاطين في معرض المماليك بمتحف اللوفر
-
إخترنا لك نص(كبِدُ الحقيقة )بقلم د:سهير إدريس.مصر.
-
شاركت في -باب الحارة- و-هولاكو-.. الموت يغيب فنانة سورية شهي
...
-
هل تنجو الجامعات الأميركية من تجميد التمويل الحكومي الضخم؟
-
كوكب الشرق والمغرب.. حكاية عشق لا تنتهي
-
مهرجان الفيلم العربي في برلين: ماض استعماري يشغل بال صناع ال
...
-
شاركت في -باب الحارة- و-ليالي روكسي-.. وفاة الفنانة السورية
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|