|
بيـــن مَــوتَـينِ سلافو جيجيك يكتب عن أبو غْرَيب
سعدي يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 851 - 2004 / 6 / 1 - 06:39
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
ترجمة وإعداد : ســعدي يوسـف
ألا يزال أحدٌ يتذكر علـيّـاً المضحك Comical Ali، وزيرَ إعلام صدّام ، محمد سعيد الصحاف ، الذي ظل في مؤتمراته الصحافية اليومية متمسكاً تمسُّكَ البطلِ ، ، بالخطّ الإعلامي العراقي ، في مواجهة أشد الحقائق جلاءً ؟ ( كان لا يزال يدّعي أن ما يعرضه التلفزيون عن الدبابات الأميركية في شوارع بغداد ليس سوى حيلةٍ من حيل هوليوود ، بينما كانت الدبابات على مبعدة مئات الياردات فقط عن مكتبه. ) لكن كلامه لم يكن دائماً بلا معنى على أي حالٍ . فعندما قيل له إن الجيش الأميركي يسيطر فعلاً على مناطق من بغداد ، ردَّ قائلاً : " إنهم لا يسيطرون على أي شـيءٍ – بل انهم لا يسيطرون على أنفسهم ! " ، تذكرتُ هذا حين وردت ، قبل أسابيع ، الأنباءُ الرهيبة عما يدور في سجن أبو غرَيب . مفهومٌ أن جورج دبليو بوش كان مهتمّـاً بأن نفهم أن صور السجناء العراقيين المعذَّبين والـمـهانين من جانب الجنود الأميركيين لا تعكس ما تؤمن به أميركا وتقاتل في سبيله : قيم الديمقراطية ، والحرية ، وكرامة الفرد . وأن تحوُّلَ القضية إلى فضيحة عامةٍ ، هو علامة إيجابية ، بطريقةٍ ما : في نظام " شموليّ " حقيقيّ ، يجري التكتم على الأمر. ( في الوقت نفسه ، فإن عدم عثور القوات الأميركية على أسلحة دمارٍ شاملٍ في العراق ، هو علامةٌ إيجابية : فالدولةُ الشمولية الحقيقية كانت ستتصرف مثل شرطيّ شــرير يدسّ المخدرات ثم " يكتشف " الدليل على الجريمة .) الصور نُشرت في نهاية نيسان ، لكن الصليب الأحمر الدولي ، ولشــهورٍ ، كان يرسل إلى السلطات الأميركية والبريطانية تقارير عن إساءة المعاملة في سجون العراق ، وكانت هذه التقارير تهمَــل . لم يكن الأمر أن السلطات كانت لا تتلقى إشاراتٍ عمّا يجري : هذه السلطات ، وبكل بساطةٍ ، لم تعترف بالجريمة إلاّ بعد أن وُوجِهتْ بنشرها في وسائل الإعلام ، وبسبب ذلك . ردّ الفعل الأول من جانب قيادة الجيش الأميركي كان ردّاً أقلُّ ما يقال فيه إنه مفاجيءٌ : أعلنوا أن الجنود لم يكونوا قد عُـلِّـموا جيداً اتفاقية جنيف بصدد معاملة أسرى الحرب . يبدو ، هذه الأيام ، أن الجنود عُـلِّـموا كيف لا يهينون السجناء ولا يعذبونهم . التغايُرُ بين ما جرى مؤخراً في أبو غرَيب ، وما كان عليه الحال في تعذيب السجناء زمن صدّام حسين ، هو تغايرٌ صارخٌ . فبدلاً من تسبيب الألم المباشر الوحشيّ ، ركّــزَ الجنودُ الأميركيون على الإذلال السايكولوجي . وبدلاً من السرية زمن صدام سجّلَ الجنودُ الأميركيون ما ألحقوه من مهانةٍ ، بما في ذلك وجوههم الباسمة بغباءٍ وهم واقفون للتصوير خلف الأجسام المتلوية العارية للسجناء . عندما رأيت للوهلة الأولى ، الصورةَ الشنيعةَ لسجينٍ وُضِع رأسه في كيسٍ أسود ، وقد ثُبِّتتْ أسلاك كهرباء على أطرافه ، وهو واقفٌ على صندوقٍ في وضعٍ عجيبٍ ، كان ردُّ فعلي أن هذا جزءٌ من أداءٍ فـنِّـيٍّ . إن ثياب السجناء تقترحُ مشهداً مسرحياً ،لوحةً حيّةً، لا يمكن إلا أن تستدعي " مسرح القسوة " ، و فوتوغراف روبرت مابلثورب ، ومَشاهدَ من أفلام ديفيد لينش . هكذا نصل إلى لُبِّ الأمر . كل من له معرفة بطريقة الحياة الأميركية سوف يميِّـزُ ، عبرَ الصور الفوتوغرافية ، الجانبَ السفليّ الفاحش للثقافة الشعبية الأميركية. بإمكانك أن تجد صوراً مماثلةً في الصحافة الأميركية حين تخرج طقوسُ الإبتداء Initiation rites عن طورها ، في وحدةٍ عسكريةٍ أو القسم الداخلي لمدرسةٍ عاليةٍ ، فيموت الجنود والطلبة أو يُجرحون وهم يؤدّون فعلاً صاعقاً ، أو يتخذون وضعاً مهيناً ، أو يتعرضون للإذلال الجنسيّ . هذه ، إذاً ، ليست ، ببساطةٍ ، قضيةَ غطرسةٍ أميركيةٍ إزاءَ شعبٍ من العالم الثالث . كان السجناء العراقيون ، في واقع الأمر ، في طقس ابتداءٍ مع الثقافة الأميركية : إنهم يذاقون الـفُحشَ المضادَّ للقيم العامة ، قيمِ كرامةِ الفرد ، والديمقراطية والحرية . لا غرابةَ ، إذاً ، أن يعترف دونالد رامسفيلد ، في السادس من أيار ، بأن هذه الصور الفوتوغرافية ليست إلا " أعلى جبل الثلج " ، وأن أشياء أقوى ستأتي ، منها فيديوات اغتصاب وقتل . في مطلع 2003 ، وافقت الحكومة الأميركية ، في مذكرةٍ سريةٍ ، على جملة إجراءاتٍ يخضع بموجبها سجناء " الحرب على الإرهاب " لضغطٍ جسديّ ونفسيّ ، بُغيةَ الحصول على " تعاونهم " . إن " تجاوزات" أبو غرَيب، كانت في الواقع ، وراء تصريح دونالد رامسفيلد ، قبل شهورٍ ، القائل بأن اتفاقية جنيف قد " عفا عليها الدهر" . في نقاشٍ أخيرٍ أجرته محطة الـ NBC حول سجناء خليج غوانتانامو ، وردَ رأيٌ في التبرير الأخلاقي – القانوني لوضعهم ، يقول بأنهم " أولئك الذين أخطأتهم القنابل " . وما داموا هدفاً مشروعاً للقنابل الأميركية في أفغانستان ، ونجوا بالمصادفة ، فلا أحد بمقدوره أن يوجه اللوم حول ما قد يحصل لهم بعد ذلك ، كسجناء : مهما كان حالُهم ، فهو أفضلُ من الموت . هذا التسبيب يضع السجناء في حال الأحياء الموتى . لقد أُلغِـيَ حقُّهم في الحياة باعتبارهم كانوا أهدافاً مشروعةً للقصف القاتل ، وهكذا يصبحون أمثلةً لمن سمّاهم جيورجيو أغامبين الإنسان التلَف Homo sacer ، وهو من يمكن قتله بلا محاسبةٍ من جانب القانون ، إذ لا قيمة لحياته . ( هنالك شبهٌ عابرٌ بين هذه الحالة والإشكالية القانونية لفيلم 1999 Double Jeopardy: إنْ أنت حُكِـمتَ لقتلكَ رجلاً ، واكتشفتَ بعد قضاء عقوبتك في السجن ، أن ذلك الرجل لا يزال حياً ، فبإمكانك قتله بلا محاسبةٍ ، لأنك لا يمكن أن تكون مذنباً مرتينِ في أمرٍ واحدٍ . ) ومثل ما اعتُبِـرَ سجناء غوانتانامو Homo sacer ، في البرزخ " بين موتـين " ، لكنهم لا يزالون أحياء بايولوجيّـاً ، فإن للسلطات الأميركية أيضاً ، التي تعاملهم بهذه الطريقة ، وضعاً قانونياً غير محدد. هم يعتبرون أنفسهم سلطة قانونية ، لكن أفعالهم لم تعد تحت تغطية القانون وطائلته : هم يتصرفون في فضاءٍ خالٍ ، لكنه بالرغم من ذلك ، هو من اختصاص القانون . وما افتضح أخيراً من أبو غرَيب ، أظهرَ بوضوحٍ ، نتائجَ وضع السجناء في البرزخ " بين موتَـين " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ * سلافو جيجيك Slavoj Zizek ، فيلسوفٌ ماديّ ديالكتيكيّ ، ومتخصصٌ بالتحليل النفسي ّ ، باحثٌ مرموقٌ في قســـم الفلسفة بجامعة ليوبليانا . ** نشرت المادة في العدد 11 ، المجلد 26 ، المقرر صدوره في الثالث من حزيران 2004 ، من مجلة " لندن للكتاب " : London Review of Books *** النصّ العربي يضمُّ الجسمَ الأكبر للمادة ، مستثنياً لأسبابٍ تتعلّق بالقاريء ، نهايةَ المادة وهي ليست بالطويلة على أي حال. **** مصطلح الـ Homo sacerفي روما القديمة كان يعني التضحية بقربانٍ بشريٍّ ، بدون أن تتخذَ العمليةُ طابعاً طقسيّاً معلَناً . أي أن المرء يُقتَلُ باعتباره مؤهَّلاً للقتلِ ، القتلِ غيرِ الـمُعلَنِ ، أي غيرِ الخاضعِ لأيّ منظومة قِـيَـمٍ ، مهما كانت. اليومَ ، جعل جيورجيو أغامبين من المصطلح الروماني القديم ، نظريةً في السياسة المعاصرة ، تقاسُ بموجبها المنظومة السياسية لبلدٍ ما . بمعنى أن اعتبار الأفراد قابلين لأن يكونوا Homo sacer هو دليلٌ قاطعٌ على لا أخلاقية سلطةٍ ما في بلدٍ ما . عربياً ، لم أجد مصطلحاً مقابلاً ، بسببٍ من طبيعة المسار التاريخي ، ولهذا آثرتُ تعبيرَ الإنسان التلَف ، وهو من صياغتي . ربما كان مفيداً أن أذكرَ أن كثيراً من المؤتمرات والفعاليات الفلسفية ، يدور ، هذه الأيام ، حول نظرية الـ Homo sacer. سعدي يوسف لندن 29/5/2004
#سعدي_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الليلةَ ، أُقَـــلِّـــدُ بازولــيني
-
لا تقتلوا الشهرستاني !
-
الأشــياءُ تتــحـرّك
-
يوميّــاتٌ عراقـيّــةٌ
-
الجندب الحديديّ
-
مُـعـذَّبو الســماء
-
أحــدُ أصدقــائي
-
إيضــاح
-
من هواجسِ رجُلٍ ، ســنة2000 ق.م
-
هل تحبِّـينَ ألفِـيس بريســلي ؟
-
أوّل أيّــار عالياً على الأسلاك
-
غارةٌ جويّـة
-
اســـتحضــارُ أرواحٍ
-
مَـشارفُ الرُّبْـعِ الخالـي
-
عراقيّــون أحــرارٌ
-
الجبــل الأزرق
-
America, America
-
الإســتباحــــةُ
-
طائرُ النار : من باليرمو إلى كاراكاس
-
تكوين 34 - في ميلاد الضوء الشيوعي -
المزيد.....
-
فعل فاضح لطباخ بأطباق الطعام يثير صدمة بأمريكا.. وهاتفه يكشف
...
-
كلفته 35 مليار دولار.. حاكم دبي يكشف عن تصميم مبنى المسافرين
...
-
السعودية.. 6 وزراء عرب يبحثون في الرياض -الحرب الإسرائيلية ف
...
-
هل يهدد حراك الجامعات الأمريكية علاقات إسرائيل مع واشنطن في
...
-
السودان يدعو مجلس الأمن لعقد جلسة طارئة الاثنين لبحث -عدوان
...
-
شاهد: قصف روسي لميكولايف بطائرات مسيرة يُلحق أضرارا بفندقين
...
-
عباس: أخشى أن تتجه إسرائيل بعد غزة إلى الضفة الغربية لترحيل
...
-
بيسكوف: الذعر ينتاب الجيش الأوكراني وعلينا المواصلة بنفس الو
...
-
تركيا.. إصابة شخص بشجار مسلح في مركز تجاري
-
وزير الخارجية البحريني يزور دمشق اليوم للمرة الأولى منذ اندل
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|