أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سعدي يوسف - يوميّــاتٌ عراقـيّــةٌ















المزيد.....

يوميّــاتٌ عراقـيّــةٌ


سعدي يوسف

الحوار المتمدن-العدد: 838 - 2004 / 5 / 18 - 04:31
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


كتبـها : باترِك كوكبورن
ترجـمَها: سعدي يوسف

" قد كنتُ قدّمتُ ، من قبلُ ، مادّتين لـ "بــاترِك كـــوكبــــورن Patrick Cockburn ، إحداهما عن شارع المتنبي ببغداد ، والأخرى عن رحلةٍ خطرةٍ للرجل في المجاهل العراقية . والآنَ أقدمُ له مادةً ثالثةً كتبها ببغداد في السابع من شهر أيّـار هذا ، ونشرها في " مجلة لندن للكتاب " London Review of Books في عددها الأخير10 Volume26-Number بتاريخ 20/5/2004 ،
المادة طويلةٌ لكنني جهدتُ كي أقدِّمها إلى القـاريء المعنيّ بمعرفة صورتنا الملتقطة من زاويةٍ ما . إنْ استدعت هذه المادة تعاليقَ فأرجو أن توجَّـه إلى الكاتب لا إلى المترجِـم " .
سـعدي يوسـف

الصور الفوتوغرافية التي نُشرت لـتُظهر ما يمكن أن يتعرض له السجناءُ العراقيون على أيدي سجّانيهم ، سمحتْ للعالم الخارجي برؤية ما كان العراقيون عرفوه منذ أمـدٍ : الإحتلال في منتهى الوحشية . في بغداد كانت القصص تروى منذ شهور عن التعذيب المنهجي في السجون . أمّـا في الولايات المتحدة فقد كان تأثير الصور أعظم ، بسبب نجاح الإدارة السابق في التحكُّـم بالأنباء القادمة من العراق . في تشرين أول الماضي كتبتُ مادةً عن جنودٍ أميركيين يجرفون مزارع النخيل قرب " بلد " ، شماليّ بغداد ، عقاباً للمزارعين المحليين إثرَ كمينٍ . بعد نشر المادة تلقّيتُ سيلاً من رسائل البريد الألكتروني الأميركية الغاضبة ، تنفي أن يكون الجنودُ الأميركيون فعلوا أمراً كهذا .
*
القادة المدنيون والعسكريون ] الأميركان [ في العراق يعيشون في عالمٍ خياليّ غريب . هذا العالم يُعرَض يومياً في القاعة الكهفية في مركز المؤتمر الإسلامي القديم ببغداد ، حيث يعقد الناطقون باسم التحالف مؤتمراتٍ صحافية يومية . الطرف المدني يمثله دان سينور من سلطة التحالف المؤقتة ( س . ا . م ) ، وهو شخصٌ معروق الوجه ، اسود البزّة ، تمَّ استيراده مؤخراً من المكتب الصحافي للبيت الأبيض . إنه لا يُخفي حقيقة أن عمله هو تقديم صورةٍ عن العراق تساعدُ في إعادة انتخاب الرئيس بوش . وعندما يمارس هواية الركض في الجيب الأميركي ذي الحراسة الكثيفة في ما يسمى المنطقة الخضراء ، فإنه يرتدي فانيلةً كُتبَ عليها : بوش و شيني 2004
سينور غير مهتمّ بالمقاومة العراقية ؛ فهي لا تعني لديه أكثر من عصابةٍ صغيرةٍ من إرهابيي القاعدة وأتباع صدّام الأشداء الذين يحاولون ، عبثاً ، منعَ ولادة عراقٍ جديد .
*
الأكثرُ بلاهةً هو الجنرال مارك كيميت ، نائب مدير عمليات التحالف ، المتّـسِـم بعينين ذواتَي عزمٍ فولاذيّ.
وهو مغرمٌ بأن يرشّ على أجوبته بهاراً من مطبخ عائلته ، آل كيميت . في أحد الأيام شكا له صحافيٌّ عراقيٌّ من أن الهليكوبترات الأميركية تُـفزِعُ أطفال بغداد حين تهدرُ وهي تحلِّقُ خفيضةً ، سريعةً ، على الســطوح . كان
جواب كيميت أنه أمضى معظم حياته ، بعد البلوغ " إمّـا قرب قاعدةٍ عسكريةٍ ، أو فيها ، وأنه تزوج امرأةً تعلِّـمُ في المدارس " ، وأنك في تلك القواعد " غالباً ما تسمع إطلاق نيران الدبابات . غالباً ما تسمع المدافع تهدر"
وأضاف الجنرال متفاخراً " لكن السيدة كيميت نجحت في إبقاء تلامذتها هادئين بالرغم من هدير المدافع المستمر ، بأن جعلتهم يفهمون أن هذا الهدير والزئير ليس ســوى أصوات الحرية " .
وحثَّ كيميت ، الصحافيّ ، على الذهاب إلى المنزل( منزل الصحافيّ ) ، كي يشرح لأطفاله أنهم لم يصبحوا قادرين على العيش أحراراً ، إلاّ بفضل هدير المدافع هذا ، وهو صوت الحرية .
واقعُ الأمر أن الهليكوبترات كانت تحلِّـقُ شديدةَ الإنخفاض والسرعة ، في الشهور الستة الأخيرة ، من أجل أن يكون إسقاطُها أصعبَ على المقاوِمين .
لقد أُسقطتْ هليكوبتراتٌ عدّةٌ حول الفلوجة بصواريخ أرض- جوّ ، حسّـاسةٌ للحرارة ، محمولة على الكتف .
عراقيون قلائلُ يشاركون آل كيميت رأيهم الظريفَ عن القوة الجوية الأميركية . فبعد يومٍ من سماعي رأي الجنرال زرتُ موساك ، وهو محاسبٌ مسيحيّ ، يعمل ، عادةً ، في محطة كهرباء الدورة ذات المداخن الأربع العالية التي تسيطر على خط الأفق جنوبيّ بغداد . كان في بيته ، لأن المولِّـدات العملاقة أُطفِئتْ ، والمهندسين الألمان من شركة سييمنس الذين كان عليهم نصبُ مولِّـداتٍ جديدةٍ … هربوا من بغداد خوفَ الإختطاف . جدران حيّ الإسكان ، حيث الطبقة الوسطى الأدنى ، وحيث يسكن موساك ، كانت مغطاةً بشعاراتٍ تؤيد المقاومة . شرح لي موساك الأمر قائلاً : " قبل بضعة أسابيع ، أطلقَ رجلٌ غير معروفٍ نار رشاشته الكالاشنيكوف على هليكوبتر .
الهليكوبتر ردّت على ذلك بإطلاق صاروخَينِ ، أصابا خيمةً كان فيها مجلسُ فاتحةٍ لإحدى العوائل ، مما تسبّبَ في مقتل شخصين ، وجرح خمسة عشــر " . بعد ذلك ازداد تأييدُ حيّ الإسكان للمتمردين .
لم يتّضح إلاّ الشهرَ الماضي ، بعد أن اجتاحت الإنتفاضاتُ العراقَ ، أن العسكر الأميركان أقاموا كاملَ استراتيجيّـتهم ، على تصديقهم دعاوتَـهم ذاتَها.
لقد أقنعَ الآمرون الأميركانُ أنفسَـهم أن وخز الـدبابيس لهجمات المقاومة آتٍ من مؤيدين للنظام السابق ، ومن مقاتلين أجانب غامضين ( وبالرطانة العسكرية الأميركيةFRLs or FFs : ) . وصاروا يتباهون بالحديث عن الشرطة العراقية الجديدة ، والوحدات العسكرية وشبه العسكرية ، التي درّبوها . هذه القوات المقرر لها أن تبلغ في عديدها مائتي ألفٍ ، ستحلّ ، تدريجاً ، محلّ القوات الأميركية .
مدهشةً كانت السرعةُ التي انهارت فيها الخططُ الأميركية بصدد العراق ، لكن السبب واضحٌ :
العسكر الأميركان ، و بول بريمر نائب الملك الأميركي The US viceroy، ورئيس س.ا.م ، تسبّـبا في وقتٍ واحدٍ ، في إثارة مواجهاتٍ مع المجموعتين الرئيستين في العراق ، الشيعة والسنّة العرب ، الذين يشكِّـلون معاً ، ثمانين بالمائة من السكّـان .
في أواخر شهر آذار ، قرر بريمر التضييقَ على رجل الدين الشيعي الراديكالي مقتدى الصدر بإغلاق صحيفته ذات الإنتشار المحدود ، الــحــوزة ، والقبض على مساعده الرئيس في النجف . معظم الشيعة يرونه أهوجَ عنيفاً؛ بريمر جعله شهيداً . واجتمعت الديانة والوطنية . هكذا انفجرت في وجه بريمر محاولتُــه تهميشَ الصدر،
واستولى مسلّـحو جيش المهدي الذين يرتدون السواد على أجزاء كبيرة من جنوبيّ العراق ، بضمن ذلك النجف والكوت .
وبعد أيامٍ قليلةٍ أثارَ الجيشُ الأميركيُّ أزمةً أخرى ، مع السنّــة هذه المـرّة .
ثأراً لقتل أربعة رجال أمنٍ أميركيين والتمثيل بجثثهم ، في الفلوجة ، الحادي والثلاثين من آذار ، طوّقت ثلاث كتائب من جنود البحرية ( المارينز ) المدينةَ وشــرعت تقصفها . اعتبرَ العراقيون ذلك نوعاً من العقاب الجمعي. وخلال أيامٍ قليلة نجح المارينز في تحويل أهالي الفلوجة من عنودين مخاطِـرين في رأي معظم الناس ، إلى
رموزٍ للوطنية العراقية الحديثة .
وبدلاً من أن ينحصر التمردُ في حدود الفلوجة ، فإن حصار المدينة شجّــع على اندلاع انتفاضاتٍ أخرى في البلدات والقرى السنية على امتداد الفرات .
وحينما بدأت السيطرة الأميركية على العراق تنحســرُ ، كانت استجابة الرسميين رفضَ تصديقِ ما يحدث .
فقط ، بين حينٍ وآخر ، كانت تظهر علاماتُ فزَعٍ .
موقع س.ا.م على الإنترنت ، مثلاً ، مملوءٌ عادةً بمعلوماتٍ غزيرةٍ عن مشاريع إعادة الإعمار وتحسين الطاقةِ الكهربائية ، كما أن فيه أنباءً عن الأمن ، الهاجسِ الرئيسِ لرجال الأعمال الأجانب ، المشاهدين الأساسيين
لهذا الموقع . مع اشتداد الأزمة ، قرر الـ س.ا.م أن الأخبار هي أسوأ من أن تُـبَثَّ . وأعلنتْ رسالةٌ موجزة على الموقع ، بلا مواربةٍ : لأسبابٍ أمنيّــةٍ لا توجد تقارير أمنيّـة .
كان الجنود الأميركيون يُـقتَـلون ، لأنّ آمِريهم لم يستطيعوا تصديقَ أن التمرد كان ينتشــر.
كان الجيش لا يزال يرسل قوافلَ من صهاريج وقودٍ عبر الطريق السريع بين بغداد والفلوجة ، بينما كان الأنصارُ
Guerrillas استولوا على الطريق . وإذ مرّت على التمرد خمسة أيامٍ ، وبينما أنا أحاول بلوغَ الفلوجة ، أو أن أكون _ في الأقل_ على مقربةٍ منها ، وقعتُ في كمينٍ بأبو غرَيب ، وهي بلدةٌ من مساكنَ مبعثرةٍ ، ومعاملَ مهجورةٍ ، وبساتينِ نخيلٍ تُقدمُ ساتراً جيداً للأنصار .
لم نعرف أن الحرب اقتربت كثيراً من بغداد إلاّ حين رأينا أربع دبابات ، توجِّـه مدافعها إلينا ، وتغلق الطريق الواقع خلف مطار بغداد . في كل مكان من أبو غرَيب ، ترى على الحوائط شعاراتٍ طريةَ الدهان ضد الأميركان.
إحدى هذه الكتابات تقــول :" سـندقُّ على أبواب الجـنـة بجماجم الأميركان " ، بينما تقول أخرى : "سنّـة شيعة = الجهاد ضد الإحتلال" .
على مبعدةٍ ، كان بإمكاننا رؤية ثلاثة أعمدة من الدخان الأسود الزيتي تَـصّـاعَـدُ في السماء . قال لنا أهالي البلدة إن قافلةً أميركيةً هوجمتْ قبل ساعاتٍ قليلة . قررنا أن نتبع قافلة مساعدات متجهة إلى الفلوجة ؛ شبّـانٌ يلوِّحون بأعلامٍ عراقيةٍ من مؤخرات السيارات. الطريق الرئيسُ مغلقٌ ، لهذا سلكنا مسالك ضيقةً خلال قرىً متهالكة متربة يصفِّقُ أهلُها لدى مرورنا . كانت مساعدة الفلوجة شعبيةً كما يبدو . كنا نلفّ وندور في الريف ،
في ما حسبناه لانهايةً ، إلى أن وجدنا أنفسنا ، فجأةً ، عند الطريق الرئيس . ما إن بلغناه حتى مرت قافلة صهاريج بترول أخرى يرافقها جنودٌ أميركيون في عجلات هامفي . هوجمت القافلة على الفور . حين سمعنا نباح الرشاشات
وهسيس الآر_ بي _ جي فوق رؤوسنا ، حُـدنا عن الطريق إلى أرضٍ خلاءٍ ، وانبطحنا ، ضاغطين وجوهنا على الرمل . سـوّاقٌ عراقيون آخرون استتروا قربنا . صاح بهم باسل القيسي ، سائقُـنا : انزعوا كوفياتكم وإلاّ ظنكم الأميركان مجاهدين ، وقتلوكم …
حدثَ توقُّفٌ لإطلاق النار ، فعُـدنا إلى السيارة ، ومضينا في طريقٍ ضيقٍ بعيداً عن القتال . تحرّكنا ببطءٍ ، فقد أوصيتُ السائقَ بألاّ يثير غباراً يجلبُ الإنتباه إلينا . بلغْـنا قنطرةً على قناةٍ ، وإذا بعدة مجاهدين يهرعون إلينا حاملين رشاشةً ثقيلةً ذات مسندٍ ثلاثيّ وقاذفات آر_بي_ جي . توقّفوا عند القنطرة ينصتون إلى إطلاق النيران الذي اندلع ثانيةً ، ويبدو أنهم لا يعرفون مكان منطلَـقه . صاح أحدهم : ماذا يحدث؟ باسل الذي لم يشأ إثارة شكوكهم بالإبتعاد عجِـلاً ، أوقفَ السيارةَ ، وقال : " كنا في طريقنا إلى الفلوجة نحاول إيصال مساعدةٍ ، لكن
أولئك الخنازير فتحوا النار علينا " .
القافلة التي رأيناها تتعرض للهجوم ، كانت ، كما أظنُّ ، الرابعةَ التي تقع في كمينٍ ، على هذا القسم من الطريق ، خلال أربع وعشرين ساعة .
عدة جنودٍ أميركيين قُـتِـلوا في القتال السابق ، كما أســرَ المقاومون جنوداً آخرين .
ليومين أو ثلاثةٍ ، كان القادة العسكريون الأميركان لا يزالون يعتقدون أنهم يواجهون عدداً محدوداً من الـFRLs
و الـFFs ، غير مصدِّقين أن انتفاضاتٍ متزامنةً كانت تندلع في البلدات كلها ، وصولاً إلى الحدود السورية . تصاعدت الإصابات . وقُتِـلَ اثنا عشر من مشاة البحرية في معركةٍ شرسة بالرمادي ، التي لا يفصلها عن الفلوجة سوى النهر . وقُتلَ خمسةٌ آخرون في بلدة القائم ، على مبعدة أميالٍ قليلةٍ من الحدود السورية .
ثمت أنباءٌ أخرى مثبِّـطةٌ للقادة الأميركيين . إحدى كتائب الجيش العراقي الجديد رفضت التوجُّـه إلى الفلوجة :
قال الجنود إنهم غير مستعدين لمقاتلة إخوتهم العراقيين . الكتيبة السادسة والثلاثون من قوة الدفاع المدني العراقية التي يبلغ عديدُها أربعين ألفاً ، وهي وحدةٌ خاصةٌ مكوّنة من ميليشيات الأحزاب المعارضة ، قاتلت جيداً أول الأمر .
وادّعت الأحزاب أن هذا دليلٌ على أن رجالهم فقط هم المؤهلون ليكونوا نواة الجيش الجديد . لكن ، بعد أحد عشر يوماً على خط النار ، تمرّدت هذه الكتيبة أيضاً ، وظلَّ الأكراد ، وحدهم ، مستعدين لمواصلة القتال .
لم يكن التمرد والفرار على هذا القدْر من المباغتة . رجال الشرطة العراقيون أخبروني دائماً أن عملهم هو القبض على المجرمين لا على المقاوِمين . والجنود الذين درّبهم الأميركيون يتقاضى واحدُهم مبلغ ستين دولاراً في الشهر ،
أي نصف ما يتقاضاه كنّـاسٌ في بغداد .
خلال الأزمة ، التقيت بخمسةٍ من الزوار الشيعة في طريقهم إلى كربلاء ، سيراً على الأقدام . كانوا يرتدون السواد ويحملون رايةً خضراء عليها شعاراتٌ دينيةٌ . أبدَوا مشاعرَ مألوفةً معادية للأمريكيين : المفاجأةُ كانت حين أخبروني أنهم جميعاً جنودٌ في قوات الدفاع المدني العراقية .
لماذا فشل الدورُ الأميركي في العراق هكذا؟
لِـمَ كان على المارينز الأميركيين أن يستدعوا جنرالاً من الحرس الجمهوري لصدّام حسين يتولّى مسؤولية الأمن في الفلوجة ، بينما حُلَّ الحرس الجمهوري ، باحتقارٍ بالغٍ ، من جانب بريمر في أيّـار العام الماضي ؟
لِـمَ كانت هذه الطريقة الوحيدة لإنهاء حصارٍ دامَ ثلاثة أسابيع ؟
استفتاء أجرته الـ CNNبالإشتراك مع صحيفة USA Today في شهر آذار أظهرَ أن 56 بالمائة من العراقيين يريدون الجلاء الفوري لقوات التحالف _ وكان هذا قبل الإنتفاضات .
العراق يحكمه العسكر الأميركيون أساساً .
وقد نُحِّـيَتْ وزارة الخارجية قبل الحرب . العسكريون ذوو البدلة ، ومدنيو الـ س.ا.م ، يقدمون تقاريرهم منفصلةً إلى البنتاغون . والجيش الأميركي يخطط وينفذ سياساته بمعزلٍ عن بريمــر .
في ردِّ فعلٍ إزاء الفزع من هجمات المقاومة ، أعلن الـ س.ا.م مؤخراً إغلاقَ الطرق السريعة خارج بغداد أمام
السيارات المدنية . وكانت لهجة الإعلان تنطوي على التهديد : " في حال استخدام المدنيين الجزء المغلق من الطريق السريع فإنهم سيواجَهون بقوّةٍ قاتلةٍ " . هكذا كان تحذير الـ س.ا.م ، أي أن المدنيين سوف يُطلَق عليهم الرصاص. خلال ساعات أعلنَ الجيش الأميركي أنه لا يعرف عن الأمر شيئاً ، وأنه لن ينفذ ذلك . وكان على بريمر أن يتخلى عن الفكرة .
إن هذا لأكثرُ من الفُرقة التقليدية بين المدنيين والعسكريين . بريمر ، الذي أظهرَ ، بمثابرةٍ ، سـوءَ تقديرٍ وحُكمٍ خلال العام الماضي ، ظلَّ يحصرُ صنعَ القرار بدائرةٍ ضيقةٍ . وأعضاء كبار الشأن في الـ س. ا.م يقولون إنهم لا يعرفون أكثر مما يقرأون في الصحف . لكن قراراتٍ هامة مثل حلّ الجيش العراقي يتّخذها في واشنطن ، بول وولفوفيتز وشــركاه .
الهدف الأعلى للبيت الأبيض هو الحصول على أنباء من العراق مناسبة للحملة الرئاسية . الجشع الهائج للشركات التي تقدم عروضها لـ س.ا.م ، وحُمّى الخصخصة لدى المحافظين الجدد قادت إلى إخفاقاتٍ مدمِّـرةٍ . المثال على ذلك أن عقد إقامة محطة تلفزيونية تسند الولايات المتحدة ، رسا على الـ SAIC، وهي شركة مفضلة لدى البنتاغون ، لكنها لا تتمتع بخبرة في التلفزيون . وبالنتيجة صار معظم العراقيين يتلقّـون الأنباء من فضائيتي الجزيرة
والعربية ، اللتين تعاديانِ الإحتلال الأميركي .
المارينز هم من حاصروا الفلوجة ، محوِّلينَ المدينةَ إلى رمزٍ وطنيّ ، لكن بـريـمر هو من بدأَ المواجهةَ مع مقتدى الصدر ، فاشلاً في إدراكِ مدى الإحباطِ الذي يشعر به الملايينُ الخمسة عشر أو الستة عشر من الشيعة العراقيين ، أغلبيةُ السكّــان، إزاءَ الإحتلال . هم يعتقدون أن الولايات المتحدة تريد إبعادهم عن الحكم ، بتأجيل الإنتخابات ، واستخدامِ الأكراد للإبقاء على تحكُّـمهم في البلاد .
جيش المهديّ ، ميليشيا الصدر ، ليس جذاباً . لقد صادفتُ جمعاً منه وأنا في طريقي إلى النجف ، حيث التجأ الصدر. كانوا يحرسون حاجزاً خارج الكوفة تماماً . كنتُ أعتمرُ كوفيّـةً منقّطةً بالأحمر والأبيض ، وأجلسُ حذراً
في الحوض الخلفيّ لأن الأجانب كانوا يُقتَـلون ، ويُطلَق عليهم الرصاص في المنطقة . جيش المهدي ما كان يريدني أرتدي الكوفية . أشياء عدّةٌ يكرهونها فـيَّ . كانوا مرتابين جداً إزاء هاتف الستلايت والموبايل والكامرا . للوهلة الأولى حاولوا دفعي في سيارةٍ أخرى ، ثم قرروا أن يستخدموا سيارتنا . ثلاثة مسلّحين مع رشاشاتهم وأشرطة الرصاص تغطي صدورهم ، حشروا أنفسهم في السيارة . تبعْـنا سيارةً أخرى ، ملأى أيضاً بالمسلحين،
نحو مرقد الإمام علي ، ذي القبّـة الخضراء ، في وسط الكوفة _ حيث مقرُّهم .
ما إن توقّفنا خارج الجامع حتى استراح المسلحون قليلاً. قدّم أحدهم سجارةً لي ، فأخذتُها ، بالرغم من أني كنتُ أقلعتُ عن التدخين . معظمهم جاء من أكواخ مدينة الصدر ببغداد . تحدثوا حول الدفاع عن العراق ضد أميركا وإسرائيل ، وحول ســرقة بترول العراق . شعاراتهم كانت وطنيةً أكثر منها دينيةً . دُهشوا بصورةٍ خاصةٍ لنسخةٍ من النيويوركر وجدوها في صندوق السيارة . أحد المسلحين أشار بغضبٍ إلى الأشرطة والنجوم الصغيرة في إعلانٍ ما .
أخيراً جـيءَ بهاتفي الموبايل وجواز سفري ، وإنْ لم يُـؤتَ بهاتف الستلايت الذي رأيتُـه يختفي في جيب أحد المسلحين . لم تكن اللحظة مناسبةً للمطالبة به .
انتفاضاتُ نيسان قد تكون نقطة تحولٍ للولايات المتحدة في العراق.لقد اعتمدت القوةَ المسلحةَ، واحتقرت حلفاءَ محليين، لكن قوّتها المسلّحة لم تترجَـمْ في نفوذٍ سياسيّ . لم تجرؤ على اقتحام الفلوجة والنجف ، مع أن عديد المدافعين عنهما أقلُّ من ألفَـينِ ذوي سلاحٍ خفيفٍ .
للولايات المتحدة أصدقاء قلائلُ في العراق ، لكن حتى هؤلاء الأصـدقاء يشعرون الآنَ بأن الإحتلال هو في الجَـزْرِ .
لندن 17/5/2004



#سعدي_يوسف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجندب الحديديّ
- مُـعـذَّبو الســماء
- أحــدُ أصدقــائي
- إيضــاح
- من هواجسِ رجُلٍ ، ســنة2000 ق.م
- هل تحبِّـينَ ألفِـيس بريســلي ؟
- أوّل أيّــار عالياً على الأسلاك
- غارةٌ جويّـة
- اســـتحضــارُ أرواحٍ
- مَـشارفُ الرُّبْـعِ الخالـي
- عراقيّــون أحــرارٌ
- الجبــل الأزرق
- America, America
- الإســتباحــــةُ
- طائرُ النار : من باليرمو إلى كاراكاس
- تكوين 34 - في ميلاد الضوء الشيوعي -
- مَــنازل
- رائحــة
- الناسك
- نارُ الحطّـابين


المزيد.....




- -يعلم ما يقوله-.. إيلون ماسك يعلق على -تصريح قوي- لوزير خارج ...
- ما الذي سيحدث بعد حظر الولايات المتحدة تطبيق -تيك توك-؟
- السودان يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن للبحث في -عدوان الإم ...
- -عار عليكم-.. بايدن يحضر عشاء مراسلي البيت الأبيض وسط احتجاج ...
- حماس تبحث مع فصائل فلسطينية مستجدات الحرب على غزة
- بيع ساعة جيب أغنى رجل في سفينة تايتانيك بمبلغ قياسي (صورة)
- ظاهرة غير مألوفة بعد المنخفض الجوي المطير تصدم مواطنا عمانيا ...
- بالصور.. رغد صدام حسين تبدأ نشر مذكرات والدها الخاصة في -الم ...
- -إصابة بشكل مباشر-.. -حزب الله- يعرض مشاهد من استهداف مقر قي ...
- واشنطن تعرب عن قلقها من إقرار قانون مكافحة البغاء والشذوذ ال ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سعدي يوسف - يوميّــاتٌ عراقـيّــةٌ